قال إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله تعالى: (وليملل الذي عليه الحق) [البقرة: 282] يدل أن القول قول من عليه الشيء.
إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله. ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرَّب الأجل، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته. والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة؛ رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن. فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر. ثم ليكونَ إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي.
لم يقل: الذي له الحق، بل الذي يملل على الكاتب هو الذي عليه الحق؛ لأن كونه يملي على الكاتب فهو إقرار منه، فإن كان الذي عليه الحق ضعيفاً أو سفيهاً أو لا يستطيع أن يملي الكاتب فيملي وليه. فهذا إقرار من الولي عن موليه في هذا الدين، فالإقرار سيد الأدلة. وهنا أنت تقرأ كتابك وترى عملك بنفسك، إقامة للعدل ومقتضى تحريم الله الظلم على نفسه.
ولماذا لا يملي الدائن؟ لأن المدين عادة في مركز الضعف، فلعل الدائن عندما تأتي لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد، وقد يخجل المدين أن يتكلم ويصمت؛ لأنه في مركز الضعف. ويختار الله الذي في مركز الضعف ليملي صيغة الديْن، يملي على راحته، ويضمن ألا يُؤخذ بسيف الحاجة في أي موضع من المواضع.
لأنه يملي ما عليه، ويقر بذلك في نفسه، ومن حكمة التشريع: أن الذي يملي على الكاتب هو المدين؛ لأن إملاءه عليه اعتراف بالدين، لا أن يملي عليه الدائن؛ لأنه قد يملي بما يريد، وإقرار الشخص لا يسري إلا على نفسه، فلا يحق للدائن أن يملي على الكاتب.
الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.
أي: ولْيبين المديون الذي عليه الحق قدر ما عليه من الدَّين وجنسه ونوعه؛ لأنه المشهود عليه، فلا بد من أن يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الدين.
الذي عليه الحق هو المديون، وهو الذي يملي؛ لأنه بعيد من أن يفرض أو يزيد على نفسه ما ليس واجباً عليها، وليملل بمعنى: وليملي.
أَمَرَ اللَّه تعالى الَّذي علَيْه الحقُّ بالإِملال لأنَّ الشهادة، إِنما تكونُ بحَسَب إِقراره، وإِذا كتبت الوثيقة، وأقر بها، فهي كإمْلاله.
يعني أن المطلوب الذي عليه الحق يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه من الحق فيذكر قدره وجنسه وصفة الأجل ونحو ذلك.