أي: ومن يكتم الشهادة بالحق، فإنه آثم قلبه. وإسناد الإثم إلى القلب؛ لأن الكلام فيمن كتم ما يعلمه، وهو بذلك يكون قاصدًا إخفاء الحق. وذلك من عمل القلب، فلذا أسند الإثم إليه. وإذا أثم القلب أَثِمَ صاحبُه؛ لأن العبرة بأفعال القلوب. ولذا رفعت المؤاخذة عمن يفعل المعصية ناسيًا، لأنه لا قصد له فيها. كما أن الآية تشير إلى أن أثر المعصية بالكتمان يبقى في قلبه، إذ يستتبع فيه ظلمة. ففي سنن الترمذي (5/ 291)، 3334 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وجاء في صحيح البخاري، (1/ 20) 52 – عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وصحيح مسلم، (5/ 50)، 4178.
الحيف في الشهادة من أشنع الكذب. ففي صحيح البخاري، (3/ 172)، 2654 - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ. وصحيح مسلم، (1/ 64)، 269؛ لأن شهادة الزور تؤدي إلى الفساد الاجتماعي والاقتصادي، ولقد انتشرت شهادة الزور في الواقع المعاصر، حتى أصبحت تجارة أمام المحاكم، يأتي الظالم برجلين من عملاء الزور، ويقول لهما: اشهدا بكذا، وأنا أعطيكما كذا وكذا، ويذهب الرجلان ويقفان أمام القاضي ويقسمان بأنهما سيقولان الحق، ثم يشهدان زورًا، ومن نماذج شهادة الزور في عصرنا: شهادات توثيق الميلاد، أو الخبرة المزورة، وشهادات التوصية للعمل أو الترقية المزورة، والتزوير في الانتخابات وفواتير البيع والشراء المزورة.
كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها، والكتم من معاصي القلب، لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به. وهو من التعبير بالبعض عن الكل، ففي صحيح البخاري، (1/ 20) 52 – عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وصحيح مسلم، (5/ 50)، 4178. وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد، ألا ترى أنك تقول: أبصرته عيني؟ وسمعته أذني؟ ووعاه قلبي؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم، ومكان اقترافه، وعنه يترجم اللسان. ولئلا يظنّ أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
أي: وعليكم أيها المؤمنون ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله تعالى بسبب ارتكابه لما نهى عنه. وقد أسند سبحانه الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، لأن الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر، ففي صحيح البخاري، (1/ 20) 52 – عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وصحيح مسلم، (5/ 50)، 4178.
أي: مَن يخفيها أصلاً، أو وصفاً، فقد وقع قلبه في الإثم؛ وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفيّ؛ فالإنسان قد يكتمها، ولا يُعْلَم بها؛ فالأمر هنا راجع إلى القلب؛ ولأن القلب عليه مدار الصلاح، ففي صحيح البخاري، (1/ 20) 52 – عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وصحيح مسلم، (5/ 50)، 4178.
أي: إِذا دعيتم إِلى أداء شهادة فلا تكتموها فإِن كتمانها إثم كبير، يجعل القلب آثماً وصاحبه فاجراً، وخُصّ القلب بالذكر لأنه سلطان الأعضاء، ففي صحيح البخاري، (1/ 20) 52 – عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" وصحيح مسلم، (5/ 50)، 4178.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: من الكبائر كتمان الشهادة، فإن قام بها مَن فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين؛ لأن المقصود بها حفظ الحقوق، وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه؛ لأنه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه. وقال ابن عباس: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل: أخبر بها عند الأمير: أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي. وقال ابن عباس: يريد: قد أثم قلبه وفجر.
أداء الشهادة على وجهها إذا احتيج إلى ذلك واجب؛ لأنها وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق، وكتمها ذنب عظيم، وإثم كبير لما فيه من ضياع الحقوق وإلحاق الضرر بالآخرين، ولما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن كتمان الشهادة حرام، فكذلك الإتيان بها على غير وجهها الصحيح أو التزوير فيها لأي سبب من الأسباب فهو حرام أيضا، بل ومن الكبائر للذنوب، قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور متفق على صحته. وبهذا يعلم أن كتمان الشهادة حرام، وشهادة الزور حرام أيضا، بل ومن الكبائر، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فليتق الله أولئك الذين تجري بينهم تلك العادات السيئة، ويعتبرونها من العادات الحسنة، وعليهم أن يلتزموا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحذروا ما خالف ذلك، وأن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، مما سلف منهم من المخالفة لشرع الله، وأن يرفعوا ما تنازعوا فيه إلى المحاكم الشرعية والقضاة في بلدهم، ليحكموا فيهم بحكم الله، ويلزموهم بما تقتضيه شريعة الإسلام، ولا يعدلوا عنه إلى غيره.
خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله. وإسناد الفعل إلى الجارحة التي تعمله أبلغ، وهو صريح في مؤاخذة الشخص بأعمال قلبه.
لا يأب الشهود إذا ما دعوا للشهادة فإن كتمانها معصية وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ إذ بالشهادة العادلة تتضح الحقوق ويمنع الظلم والجور، والأحسن أن يكون النهى شاملا لأدائها وتحملها.
إن القلب يا عباد الله مصدر الفساد والصلاح فإذا أثم القلب فماذا يبقى بعد ذلك فلا تكتموها ففي كتمانها شرٌ على بني الإنسانية التي أمرتم بجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم.
أي: وعليكم أيها المؤمنون ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقباً من الله تعالى بسبب ارتكابه لما نهى عنه.