اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً، وبأن له غفراناً ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أما إنه وصف نفسه بكونه غافراً فقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر: 3]، وأما كونه غفوراً فقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، وأما كونه غفاراً فقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، وأما الغفران فقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285]، وأما المغفرة فقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ} [الرعد: 6]، وأما صيغة الماضي فقوله: في حق داود عليه السلام {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25]، وأما صيغة المستقبل فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، و116]، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وقوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقوله في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1 - 3].
اعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة؛ أما آدم عليه السلام فقال: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وأما نوح عليه السلام فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وأما إبراهيم عليه السلام فقال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وطلبها لأبيه: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، وأما موسى عليه السلام فقال: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وأما داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وأما سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، وأما عيسى عليه السلام فقال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وأما عن خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى له: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وأما الأمة فقد أمرهم الله تعالى أن يدعوه فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم، وأنهم لا بد أن تميل بهم غلبات الطباع ودواعي البشرية إلى بعض التقصير فى واجبات الإيمان، وأنه لا يلم شَعْثَ ذلك إلا مغفرة اللّه تعالى لهم، سألوه غفرانه الذى هو غاية سعادتهم، ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من اللّه تعالى فقالوا: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}.
أي: استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال، وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة، وبهذا يمّحى أثر الذنب من النفس في الدنيا، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية.
عَنْ ابْن حيان، فِي قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (علمهم الله كيف يدعونه، فهذا دعاء دعا بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستجاب الله بِهِ، والمؤمنون دعوا فاستجاب لَهُمْ).
أي: اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما، وأنت ربنا الذي خلقنا وربَّانا ونمانا، والعليم بأحوالنا.
أي: اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك ذنوبنا المتقدمة او مالا يخلُو عنه البشرُ من التقصير في مراعاة حقوقِك.
أي: اغفر لنا غفرانك، الذي هو من فضل رحمتك ونعمك فأنت ربنا وخالقنا والعليم بأحوالنا وبضعفنا.
طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة.