يقول الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272].
يقول الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
يقول الله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].
يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15].
{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} وليس على سبيل التكرار، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول: ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه، وأنه عائد إليه جزاؤه، والثاني: ذكر أن ذلك الجزاء الناشئ عن الخير يوفَّاه كاملاً من غير نقص ولا بخس، والثالث: ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير، ومقداره، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو: العلم.
بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها؛ وخيريتها ثابتة من ثلاث الناحية الأولى: أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها، والتأليف الروحي بينها وبين الناس؛ وهذا ما ذكره سبحانه بقوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها، ويقوى صلاتها الاجتماعية، ويرهف الوجدان، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها، وقوضت بناءها؛ فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدم، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبًا، وافترست كل ما في طريقها؛ وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس، ودفاع عن الوجود، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) لأنه حماية لها. فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق، أيا كان من يعطيه، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرًا؛ ولذا قال: (مِنْ خَيْرٍ) فـ " من " الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير، وفي كل خير يعود على النفس. والناحية الثانية: ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة، ولو كانت لعاص أو كافر؛ ذلك لأنه لَا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه، ورضا الله سبحانه وحده غاية ترجى، وخير عظيم يطلب، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية؛ فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه، أي طلبه بشدة. وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) لَا يدل على طلب رضا الله فقط، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه؛ لأن كلمة (وَجْهِ اللَّهِ) تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى، وإقباله على ربه، وإقبال ربه عليه؛ وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة، ولو كان المعطَى كافرًا عاصيًا ولقد قال بعض الصوفية في معنى (ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي يطلب المتصدق وجه الباقي، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة، وهي ناحية الله تعالى؛ ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين: وجهًا يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسي، وهو الوجه الفاني، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي، وهو رضا الله تعالى. هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه. أما الناحية الثالثة: فهي التي بينها قوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها؛ والمعنى: أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا، وفي الآخرة؛ أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء، وخير ذلك للجميع. وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة، وكأنه وفاء لها مولَّد منها؛ ولذا سماه بها، فقال: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكمْ) أي يعود إليكم ذات الخير، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو. ثم ختم سبحانه الآية بقوله: (وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي لَا تنقصون أي جزاء لعمل قدمتموه لَا تبغون به إلا وجه الله تعالى، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء، وإلى الله المصير.
أي: وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن في الأمة. وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.
إن المؤمن الصادق لينفق ماله، وهو على يقين أن الله تبارك وتعالى سيعوضه عما أنفقه من ماله في هذه الدنيا بركة ونماء وخلفا، وإذا ما غلبه شح نفسه وأمسك يده عن العطاء والبذل فسيبتليه ربه بماله نقصانا وضياعا وتلفا، وهذا ما صوره الحديث الشريف أوضح تصوير: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفاً".
الخير في هذه الآية المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، نحو قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] وقوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله فهو المال.
يعني ما تنفقوا من مال، فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار، أو على المسلمين. وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلاً من أهل الذمة، يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شاباً، ثم ضيعناك بعدما كبرت وضعفت، فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال.
أي: ما تقدمونه من مال في وجوه البر - أيها المؤمنون - فإن نفعه سيعود عليكم بالسعادة في الدنيا، وبالثواب الجزيل في الآخرة، فكونوا أسخياء في الإِحسان إلى الفقراء، وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي {يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء}.
نعم هو لنا في الدنيا إذ لا ينكر أحد ما للإنفاق من الأثر البين في جذب القلوب وسلّم السخائم والأحقاد ونشر الأمن والطمأنينة ومنع السرقة وقطع الأفكار السامة والمبادئ الهدامة، وأما في الآخرة فجزاؤه يوفى إلينا.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ الخير هنا: المال. أي: وما تنفقوا من مال فهو لأنفسكم. لا ينتفع به غيركم. فلا تلاحظوا إلا الله في إنفاقكم. ولا تروا لأنفسكم على الناس فضلا بإنفاقكم عليهم.
شرط وجزاء، والخير هاهنا المال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ شرط كالأوّل لذلك حذف النون منها [في الموضعين]. يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه، كأن معناه: يؤدّى إليكم، فكذلك أدخل (إلى).
تلك قضية تعالج الشُح منطقياً، وكل معطٍ من الخلق عطاؤه عائد إليه هو، ولا يوجد معطٍ عطاؤه لا يعود عليه إلا الله، هو وحده الذي لا يعود عطاؤه لخلقه عليه.
أي: فهو لأنفسكم، لا يعود نفعه ولا جدواه إلاَّ عليكم، فلا تمنوا به، ولا تؤذوا الفقراء، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر، فإن ثوابه إنما هو لكم.
أي: وليس لله عز وجل؛ فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به؛ بل لأنفسكم تقدمونه؛ وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم.