الديمقراطية والإسلام |
الحمد لله إذ اختار لهذه الأمة أقوم المناهج، وأسلس السبل، وهداها صراطه المستقيم لتسعد في الدنيا بالسير فيه، وتسعد في الآخرة بجنة الله ورضوانه. والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأكرم الناس خلقاً، وأعظمهم سياسة وحكماً، وخيرهم تابعاً، ملك فحكم بالعدل والمرحمة، ألف الله له القلوب. وصلاة الله ورضوانه على خلفائه الراشدين الذين ساروا بالإسلام أجمل سيرة، فما استأثروا دون الأمة برأي، فأحبهم القريب والبعيد. وبعد: فإني أرى أن الأصل في المسألة، موقف المسلم من الآخر، كيف نتعامل نحن المسلمين مع الآخرين من أصحاب الملل والنِحل، الذين يعيشون بين ظهرانينا منذ قرون؟ وما يقال عن الشورى في الإسلام؛ وسيلة من وسائل الحكم، يختلف اختلافاً جذرياً عن مجالس الشورى في هذه الأيام؛ إذ إن أعضاء هذه المجالس في الغالب يريدون الاستفادة من مواقعهم لمصالحهم الشخصية؛ مثل: النفوذ، والمال، والشهرة، ويقدمون الوعود الواهية الزائفة لكسب أصوات الناخبين. والمسألة ليست مسألة شكل الحكم، بقدر ما هي في الحاكم ذاته، وأعضاء مجلس الحكم، فالعيب بنفوس الناس الراغبين في الوصول إلى السلطة، وليس في شكل السلطة، ملكية أو جمهورية. فإذا كانوا على مستوى من النـزاهة والأخلاق قدموا الخير لشعبهم، وأمتهم ووطنهم، بأي أسلوب أو شكل من أشكال الحكم. وإذا كانوا على قدر المسؤولية الإيمانية، والاعتزاز بالاعتصام بحبل الله المتين، واتباع سنة الرسول الكريم r، فهم قادرون على الحوار مع الآخر أياً كان هذا الآخر، }وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين{. فليس بقبيح لو اجتمع قوم من غير المسلمين ليتشاوروا أدين الإسلام حق أم لا؟. بل يجب عليهم أن يتشاوروا ويذكر بعضهم بعضاً بذلك كما وعظهم الله عز وجل بهذا عندما قال تعالى: }قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير بين يدي عذاب شديد{. فنحن لا نستنكر اجتماع غير المسلمين للتشاور في شأن دين الإسلام،ما دام ذلك في إطار البحث العلمي الرصين، والقواعد العامة في الحوار وتبادل الآراء، وليس بالقهر والإكراه أو التسلط أو مصادرة الأفكار. فهذا رسول الله r يعلمنا من خلال ما كان يوصي القادة الذين يرسلهم قائلاً: [وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنْـزلهم على حكم الله، فلا تُنـزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا]. فمَن زعم أن الحق والصواب والمصلحة في رأيه هو فقد أخطأ خطأ بيناً، وتَحَكَّم في دين الله عزَّ وجلَّ. ثم إنه لا يستطيع أحد أن يجزم بالصواب والمصلحة في الأمور إلا بعد وقوعها، ومعرفة نتائجها، وعلى قياس النتائج يكون تقدير الرأي والحكم عليه بالمصلحة أو المفسدة. ومن هنا يُلاحَظ أن بعض الناس ممن يزعم العلم الديني يفتي في أمور ويجزم بأن الحق معه، ويرمي بالجهل والفسق بل والكفر أحياناً مَن خالفه الرأي، وهنا مكمن الخطر. ملاحظة: يجب أن نعلم أنه على مقدار تقوى الله عز وجل والعلم بشريعته والتمسك بها يكون الوصول إلى الحق في أمور الخلاف ومعرفة الصواب في أمور الشورى والاجتهاد. فإذا كانت الشورى هي اشتراك مجموعة من الناس في الاجتهاد للتوصل إلى ما يرضي الله في الأمور التي تعرض للمسلمين ويطلبون حلها فإن أقرب الناس إلى الحق في ذلك هم الذين يتجردون لله عزَّ وجلَّ، ويقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم. ومن جهة أخرى: فإنه من المعلوم أن الديمقراطية هي نتاج التجربة التي خاضتها شعوب الغرب خلال العصور الوسطي و ما بعدها، وهي نتاج الفكر الرأسمالي، الذي خرج على سلطة الكنيسة وحكم رجال الدين في أوروبا، نتيجة معاناة الشعوب من الظلم و القهر والاستبداد من الحكام الذين كانوا يدعون أنهم يستمدون الحكم من عند الرب، و يقولون بأن رضا الرب مرتبط بالانصياع لهم و الخضوع لهم. فكانت ردة الفعل بوجود أناس تمردوا على السلطة الكنسية، وناضلوا لرفع وصاية الكهنوت عنهم، وأعطوا الحق لأنفسهم بوضع نظام الحياة الناسب حسب رأيهم، وظهرت فكرة أن يحكم الشعب نفسه، وشكلوا ما يسمي بالبرلمان لوضع القوانين، والدساتير للعمل بها، والتعامل بحسبها في الحياة فالسيادة عندهم للشعب. وقد أحسنوا حين فصلوا سياسة الأمة وقيادة الشعب وحكم الناس عن ظلم الدين وجور المتدينين، ولا يلامون، وقد حققوا إنجازات عظيمة، وخَلَّصوا الشعب من الظلم الكنسي، والاضطهاد الكهنوتي، حين كان رجل الدين يتكلم باسم الرب، والحاكم يأمر باسم الرب. وعدم إيقاع اللوم عليهم، لا يعفيهم من التطرف الآخر، وهو إعطاء الحق لأنفسهم بالتشريع، ونبذ التشريعات الربانية، والتوجيهات الإلهية. وهنا مكمن الخطر، ومحل الخطأ: فحق التشريع لا يعطى للبشر، بل إن الشرع لله وحده، وما الناس إلا كاشفون لهذه التشريعات، وموضحون لها، وقد يختلفون في وجهات النظر في فهم التوجيهات. فإذا ما طرحت مسألة للنقاش والحوار فلا تخرج عن الإطار العام للتشريع الرباني، ولا تتعدى النظام الكوني الفطري، وإلا إذا حصرنا التشريع بعقول البشر، فالمصيبة والكوارث ستحل بالعباد والبلاد. فأي عقل يُحَكَّم؟، عقل السلطوي، أم عقل المنفعي، أم عقل السكير، أم عقل الزاني، أم عقل الماجن، أم عقل المرابي، أم عقل المفتري، أم عقل المارق على السنن الإلهية؟، وقد رأى العالم وسمع عن قوانين أباحت كل شيئ، من الشهوات والمحرمات؛ كالمخدرات والزنا واللواط والسحاق، حتى جعلوا مثيل الزواج، وعرف العالم اليوم قوانين الربا، وقواعد الظلم بإعطاء حق النقض لأفراد أو جماعات أو دول أو حكومات. لا مانع من تلاقي العقول على دراسة مسألة تهم الأمة، لا حرج في عرض أي قضية للنقاش، بيد أن الذي يناقش عليه الالتزام بقواعد، كما يلتزم بنظام البشر، في زمن التحدث، وإعطاء الفرصة للآخر، وعدم المسيس بكرامة الأشخاص، ونحها من القواعد المعمول بها في أروقة مجالس الحكم. فإذا كان الناس يلتزمون بما وضعه غيرهم من البشر، نظاماً وضعياً قد يتغير ويتبدل، فمن باب أولى أن يتقيدوا بنظام وَضَعَه خالق الكون والحياة. ثم إن من قواعد التغيير في مجالس الحكم المعاصرة أن يعرض الموضوع للنقاش، وتُشكَّل لجان متخصصة لدراسته، وإبداء الرأي به، ثم يعرض على التصويت، ثم يُرفع لمجلس آخر، ثم يُرفع للمصادقة، فعلى سبيل المثال وفي أشهر الدول التي تدَّعى الديمقراطية: قانون محاسبة دولة ما: يمر عبر مجلس النواب، ثم مجلس الشيوخ، ثم الرئاسة. فهل يليق رفض أو قبول شكل من أشكال الحكم، بقول رجل واحد، أو باستخدام قوة عسكرية، وهل يتم تعيين حاكم أو حكومة بالإكراه والإجبار عن الشعب الذي له رأي يجب أن يحترم في اختيار العناصر الأكفاء لإدارة البلاد. وبنظرة إلى جوهر الإسلام يُلاحظ إلى أنه دين يحمل الرحمة، ويدعو إلى التراحم، وشعاره العدل والإنصاف، ويوصى بالعدل والإحسان، وينهى عن القهر بكل صوره، وعن البغي بكل ألوانه. وختاماً أقول: لم يرسم الإسلام شكلاً محدداً للممارسة السياسية، ولم يلزم المسلمين بصورة محددة الأطر، ومقيدة المعالم؛ بحيث لا ينبغي الخروج عنها. كل ما في الأمر أن الإسلام وضع مجموعة من التشريعات الرفيعة، وأقر مجموعة من الأحكام في معاملات الأفراد، وتعاملات الجماعات، ثم أوجب على المسلمين أن يتدارسوا الأمور الخلافية الفرعية فيما بينهم من خلال مبدأ الشورى. والعبرة ليست بالأسماء، وإنما بالمسميات، سمِّ هذا مجلس الحكم ما شئت؛ أهل الحل والعقد حسب تعبير الفقهاء، سمِّه برلمان، سمِّه مجلس شعب، سمه مجلس الأمة، ... المهم أن يقوم بأداء وظيفته في مناقشة المسائل الفرعية الحياتية بالشكل المطلوب، وعدم خروجه عن القواعد الأساسية للشريعة. ولا نتحدث عن خلافة وراثية، بل على اختيار حاكم مقبول من الأمة، واعتبار الحاكم فرداً مثل باقي أفراد الشعب؛ يُحَاسَبُ عند التقصير أو الإهمال مِثلَهُ مثل بقية أفراد الأمة، ونبتعد عن ما حذره منه رسول الله r: " إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". وأهل الحل والعقد هم في الحقيقة: أهم العلماء، من كافة التخصصات؛ الشرعية والتربوية والعلمية والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، والدنيوية. ويتم اختيارهم من خلال مؤسسات المجتمع؛ الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وعن أفضل البرامج السياسية التي يمكن تقديمها: ما يُؤخذ من المقاصد الشرعية الكبرى: وهي أن يضمن المرشح ويتعهد لكل إنسان في الأمة: بأن يحفظ عليه دينه، وأن يحفظ عليه نفسه، وأن يحفظ عليه عقله وفكره، وأن يحفظ عليه عِرضه ونسبه، وأن يحفظ عليه ماله. هذه شعارات أمة الإسلام كنظام حكم يسعى لتحقيقه، وهذا ما يتفق عليه جميع المسلمين، بمختلف مذاهبهم وفرقهم، ولكن قد يختلفون في الآلية التي يمكن بها تحقيق الأهداف. بقي أن أشير إلى أن مصطلح الديمقراطية في القاموس السياسي تفترض أن الشعب هو مصدر السلطات، وأن الشعب هو مصدر شرعية القانون، كما أنه هو مصدر شرعية الحكم، وهنا مكمن التعارض بين الفكر الديمقراطي والفكر الإسلامي. فالفكر السياسي في الإسلام: يعتمد في استمداد الحكم على ما جاء به رسول الله r من الوحي الرباني. |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |