الدين في حياتنا |
للدين دور فاعل ومؤثر في حياة الشعوب والأمم على اختلافها في العرق واللون، وتختلف مدى الاستجابة والتفاعل بين الناس الدين بمقدار متانة العقيدة وشمولية التعاليم. وللمقارنة: فهناك أديان تركز على الجوانب العبادية المحضة فحسب، لدرجة الوصول بالعبادة إلى حالة طقوسية، وصورة شكلية، وأديان تركز على الحياة الروحية للإنسان محلِّقة به في الآفاق الغيبية، دون أن يكون لهذا الدين أي أثر في الحياة الواقعية؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمعتنق له. ولعل هذا الانفصال بين الروحانية المثالية والحياة اليومية الواقعية هو من أهم العوامل التي جعلت المجتمعات المدنية تَكفُر بالدين الذي لا يمثل في الحياة إلا الطقوس والشعائر، دون الحقائق والغوص في الجواهر. بخلاف الدين الإسلامي الذي يسعى لتنظيم حياة الإنسان كلها، بمختلف مراحلها، وتنوع اتجاهاتها. فالإسلام مع الإنسان منذ اختيار النطفة وانتقاء الرجل لزوجته، والزوجة لبعلها، وهو معه في مراحله العمرية المتعاقبة: الجنين، والوليد، والرضيع، والصبي، والغلام، والشاب اليافع، والرجل، والكهل، الشيخ، والعجوز، حتى أثناء وفاته، ويتدخل به بعد موته، وما ذلك إلا لوضع ما يسعده في الدنيا، ويجعله من الفالحين في الآخرة. كذلك يكون الإسلام مع الإنسان في شؤونه العبادية المحضة المتصلة بالخالق سبحانه وتعالى، ليكون على صلة دائمة ومباشرة به عزَّ وجلَّ. وكذلك هو معه في حياته الاجتماعية مع أسرته الصغيرة؛ الأبوين، والأخوة، والزوجة، والأولاد، ولا ينسى رعايته له في أسرته الكبرى؛ المجتمع من حوله: الداخلي داخل حيه، وبلدته ودولته، والخارجي مع الأمم والشعوب الأخرى، والتي اصطلح لها: الحياة السياسية. والإسلام كذلك هو مع الإنسان في تعاملاته الاقتصادية؛ أخذاً وعطاءً، وبيعاً وشراءً؛ يسدد له الطريق، ويجنبه ما يوقع بينه وبين الآخرين الأحقاد والنـزاعات؛ من خلال الضوابط والقواعد المبينة للحلال والحرام. فالدين الإسلامي إيديولوجية عامة، ودستور متكامل؛ يشمل الحياة العقلية والفكرية، والروحية والنفسية، والثقافية والعلمية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية للإنسان، فهو:
إذاً: فالدين حضارة، ومنهج قويم، وفكر مستقيم، وعقل مستنير، وعلم نافع، وعمل مفيد؛ ينصهر فيه الفرد مع الجماعة دون ذوبان، وتُحقَّق في آمال الجماعة دون تغييب للفرد أو نسيان. والدين التزام روحي وأخلاقي، ومنهج يُوجِّه سلوك الأفراد ويمنح وجودهم ذاتية متميزة، ويُوحِّد الجماعة ويصون المجتمع، ويمنحه تماسكه، وينفخ فيه روحه الاجتماعية التعاونية. فدوافع الفعل المحرِّكة للفرد: تضحية في سبيل الصالح العام، وجهد جماعي في سبيل الكل؛ دون أنانية مفرطة، وأَثَرة مهلِكة، ودون تنازل عن ثوابت الشخصية، وذاتيتها المستقلة، وهذا هو محور الارتكاز ومركز التوازن. وتتجلى عظمة الإسلام وحضاريته في عالميته الكونية، وربط الانتماء بالحضارة× من خلال بعث أصالة الأمة، لتأكيد الذاتية، وتوسيع دارئة النظرة الحضارية. فروح الإسلام هي التي تسري عمقاً وشمولاً في تربية الفرد وسلوكه، وتدفعه إلى بذل الجهد ومزيد العمل، وتمنحه أفضل العادات وخير التصرفات. ولا تتقدم أمة إذا لم تعتمد على استنفار الروح في أعماق الجماهير وقلوب الناس، وإيقاظ الكوامن النفسية والمشاعر العاطفية، وتسخيرها لخدمة أغراض المجتمع. والإسلام يملك هذه الروح، ويحوي في جوهره هذه الحقائق، والحاجة اليوم إلى حسن استعمالها، وإعادة الحياة لها؛ بحيث يشعر الفرد وهو يؤدي واجبه في البيت والمجتمع، المدرسة والجامعة، وفي السوق والمصنع، وفي كل نواحي الحياة بأنه يستجيب لدوافع الذاتية الإيمانية، لا بدوافع اقتصادية بحتة، أو مادية مفرطة على طريقة (فروييد). وعند توافق الدوافع الإيمانية مع الأهداف الكلية للمجتمع تجد تطابق المصلحة الفردية مع المصلحة الجماعية العامة، ويحس الفرد بأن العمل نابع من إيمانه، ومنبعث من وجدانه؛ محقق لمصلحته وذاتيته، ومشبع لحاجاته ومتطلباته؛ ضمن مصالح الناس من حوله، وإشباع متطلباتهم وتلبية احتياجاتهم؛ بالتعاون والإيمان، والصدق والإحسان. وعندها ينتقل الدين من حيز العبادة المحضة الفردية إلى نطاق العبادة الكبرى المجتمعية؛ بتحقيق أثر العبادة في السلوكيات، وهذا هو حجر الزاوية ونقطة الارتكاز في إصلاح الشعوب والأمم؛ من خلال تربية الأفراد داخلها على أساس العمل الجماعي المنَظَّم. ولقد مرت على المجتمعات الإسلامية ظروف من التلف، وعوامل أدت إلى جمود تلك المجتمعات وأصابت شخصيتها بالتمزق، وحولت وحدة الأمة إلى التفرق، وانفصل الفعل عن القول، وتباين العمل عن الإيمان، وتباعد السلوك عن العبادة. ولا سبيل إلى إيقاظ المجتمعات اليوم من غفوتها الحضارية إلا بإزالة الانفصال بين الدين والحياة؛ ليكون الدين قوة عاملة، ومؤثراً فاعلاً في النهوض بالأمة واستعادة مكانتها. |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |