الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان الكامل أسوة العلماء في كل زمان ومكان |
مفهوم الأسوة: ما يتأسى به ويقتدي به في جميع الأحوال. أهمية وجود الأسوة الحسنة؛ (لماذا الأسوة بشرية؟). حرص الإسلام على إيجاد الأسوة الحسنة. الصفات المطلوبة في الأسوة: حسن الخلق، ومن الأخلاق الحسنة: * الصدق. * الصبر. * الرحمة. * الرفق. * الحلم. نماذج من السيرة النبوية:
الحمد لله الذي خلق الإنسان إماماً، وأسجد له الملائكة، وجعل له تعليم الملائكة ما جهلوه، وكمل به وفيه وجود العالم، وحصَّل المنزلتين، منزلة العزة بالسجود له، ومنزلة الذلة بعلمه بنفسه. فبالإنسان الكامل ظهر كمال صورة الحق، في النبيين والمرسلين الذين اختارهم الله قدوة للبشر أجمعين. وبعد: فإن الله لم يخلق الإنسان عبثاً، بل خلقه ليكون الإنسان الكامل، ويقتدي بالنبي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو الإنسان الأكمل في المخلوقات. ولنعلم أن العالم اليوم يفتقد نموذج الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون له الأسوة والقدوة، ولكن من رحمة الله في الكون أنه أبقى لنا صورة عن القدوة والأسوة نستطيع أن نراها من خلال كلمة الله في القرآن الكريم، فمن لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صورة يستطيع أن يدركه قيما وأخلاقا ومسيرة، فقد وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: كَانَ خُلُقُهُ صلى الله عليه وآله وسلم الْقُرْآنُ([1]).
مفهوم الأسوة: الأسوة لغة([2]): اسم مصدر من الائتساء، من مادة (أ س و) التي تدل على المداواة والإصلاح. ومن هذا الباب، قول القائل: لي في فلان أسوة (بالكسر أو بالضم) أي: قدوة، أي: إني أقتدي به. واصطلاحًا: قال المناوي: الأسوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً أو قبيحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً([3]). وفي تفسير قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... (4)} [الممتحنة]: الأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة([4]). وللجمع بين أقوال العلماء([5]) في وجوب أو استحباب الاقتداء والتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نُرجح: أن القول بوجوب الأسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين حتى يقوم الدليل على الاستحباب، والقول باستحباب الأسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا.
أهمية الأسوة في حياة الشعوب والأمم: لا بد للناس من نماذج راقية ومُثُلٍ أخلاقية واقعية، لذا أرسل الله الرسل: فالإنسان يحترم البطولة ويرهب القوة، وتأخذ المعاني الرائعة بجماع قلبه، وتملك عليه لبه، وتسري إلى فؤاده فتوقظ مشاعره، فتتفتح أمامه معاني الحق، ويسهل عليه اتباعه. وأعلى درجات القوة: قوة الحق، والدعوة إليه، ونصرته وتأييده، والدفاع عنه، والصبر والتحمل في سبيل تحقيقه. والحق ليس قوة مادية، بل جميع القوى المادية تخضع للحق؛ قوة معنوية روحية، لها مظاهر تطبيقية. في العبادة والسلوك، والمعرفة والتفكير، والإدارة والتدبير، والجرأة والحكمة، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (153)} [الأنعام]. ولا يصلح الإنسان في زمان أو مكان إلا بما صلح به أهل التمكين والعزة والقوة.
أهمية وجود الأسوة الحسنة. تكمن أهمية الأسوة في أن: 1- المثال الحي يثير في نفس البصير قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة. 2- تعطي الآخرين فكرة أن الفضائل يمكن تطبيقها والوصول فيها إلى الكمالات.
لماذا الأسوة بشرية؟ قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة]. وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه]. فالآيتان تشيران إلى وجوب الاهتداء بالهدي الرباني، عبر وحي السماء (الكتاب الصامت). ومن منطق الأشياء وضرورة الاتباع ووجوب الالتزام أن يكون هناك قدوة صالحة، وأسوة حسنة، (الكتاب الناطق). كما إنه من منطق الأشياء وضرورة الاتباع ووجوب الالتزام أن يكون القدوة والأسوة من بني البشر (لذا بُعث الأنبياء). وفي جواب اعتراض المشركين، قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام]. فكل نبي أو رسول هو النموذج التطبيقي، والقدوة العملية، والأسوة السلوكية لأتباعه، ورسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القدوة العليا، والأسوة الفضلى، وحجة الله على عباده، قال تعالى: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء]. وخير من يتبع الهدي الرباني، ويتمثل الأسوة النبوية ويكون أقرب الكمال الإنساني، هم العلماء العاملون.
الآيات الواردة في (الأسوة الحسنة): قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} [الممتحنة]. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام]. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف]. ومن الآيات القرآنية الداعية لاتّباع الرسول الأسوة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران]. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف]. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]. فهذه الآيات جعلت الرسول أسوةً، وقدوةٌ يُقتدى به ومثالٌ يُحتذى، بحيث يكون قولـه وفعله حجةً على العباد. كما أمرت الآيات باتّباعه وجعلت ذلك أساساً لمحبّة الله للمؤمنين، دون أن تقيّد هذا الاتّباع بشيء. ومدحت الآيات من يتّبع النبي الذي يحلّ الطيبات ويحرّم الخبائث... وهذا كلّه دليل على وجوب اتباعه ولزوم السير وراءه في مطلق أموره صلى الله عليه وآله وسلم. ومفهوم الأسوة: أن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سليمة منطبقة على الوحي الإلهي، والمنهج الرباني، وذلك لكون: أولاً: الوحي القرآني صاحب الشريعة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حاملها، مما يؤكد على اختصاص التأسي بما كان راجعاً إلى الشرع، وأما ما صدر منه صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه بشراً يمارس حياته العادية المتأطّرة بإطار الزمان والمكان فلا تأسّي فيه، إلا لبيان جواز الفعل. ثانياً: إن الاقتداء لا يتحقق إلا بالقيام بالفعل أو غيره على النحو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا ثبت أنه كان يقوم بفعلٍ ما على نحو الوجوب والإلزام، لزم قيامنا به على النحو نفسه، إلا إذا قام دليل على اختصاصه به. وإذا ثبت أنه كان على نحو الندب فكذلك. وهكذا الأمر في طرف الترك من الحرمة والكراهة. وقد ذكرت بعض كتب التفسير([6]) أن المراد بالأسوة هنا ليس الاقتداء العملي فقط، بل: إن آية الأسوة من آيات سورة الأحزاب، وأن سباق الآية وسياقها متصل بالحديث عن القتال والجهاد، وهذا ما يعزّز الأسوة بمعنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عانى من المعارك ما عانى، وكُسِرت رباعيته، وأصيب بجروح، وأن لكم أسوةً به في مصابه يوم أحُد أو في جوعه كما يُروى عن ابن عمر، كذلك هنا، لكم أسوة بالنبي فيما عاناه وواجهه، فاصبروا واثبتوا وتحمّلوا. دليل ذلك أن الله أمر نبيّه بالصبر أسوة بالنبيين من قبله، فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (35)} [الأحقاف]. ثم أمر الأمّة وأهل الطاعة بذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]. إن جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في مصابه، تعبير عن جعله أنموذجاً تهدأ النفس بمعرفة ما أصابه. فكأن المراد: اقتد به فيما أصابه، وافعل كما فعل.
الأحاديث النبوية الواردة في (الأسوة الحسنة) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ"، فَنَبَذَهُ وقال: "إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ"([7]). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ؛ قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَع رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَو قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ([8]) مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ صلى الله عليه وآله وسلم يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكَعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ"([9]). عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَسْجُدُ فِي (ص)([10])؟ فَقَرَأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَتِهَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حَتَّى أَتَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الآيات من سورة الأنعام] فَقاَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وآله وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ) ([11]).
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في (الأسوة الحسنة) عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: [إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيُتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ] ([12]). عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: [كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَتَى جَمْعًا فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: فَعَلَ رَسُول ُاللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ. قَالَ هُشَيْمٌ مَرَّةً: فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلاَةَ، وَصلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي هَذَا الْمَكَانِ] ([13]). قَالَ مجاهد في قول الله تعالى: {وَاجْعَلْناَ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 4]، قَالَ: (أئمة نقتدي بمَن قبلنا، ويُقتدي بنا مِن بعدنا)([14]). قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...}: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله) ([15]).
دور العلماء قدوة وأسوة: إن علماء الدين بما يحملون من هدي الرسالة، وما يملكون من تأثير روحيّ على الناس، وموقعية ونفوذ في أوساطهم، يشكّلون رصيداً ضخماً، ومخزوناً هائلاً من القدرة والإمكانية، إذا ما وظّف في مشروع النهضة والبناء الحضاريّ، فسيخلق أمواجاً من الفاعلية والنشاط، وسيدفع بحركة الأمّة أشواطاً بعيدة إلى الأمام. الدور المنشود من العلماء: يتحمل العلماء مسؤولية كبيرة في كونهم قادة المجتمع؛ روحياً، وثقافياً، واجتماعياً، وتتطلع الجماهير إلى جهودهم الفاعلة التي تبني المجتمع وتنقذه، وينظرون إلى تصرفاتهم وسلوكياتهم؛ كونها كمالاً بشرياً. والمطلوب من علماء الدين في هذا العصر، بالدرجة الأولى، تجديد مناهج الاجتهاد في الدين، لاستنباط الحلول والمعالجات لما يواجه البشرية من مشكلات وأزمات. وذلك يقتضي فهم قضايا العصر، والانفتاح على تطوّرات العلم والحياة، والتحرّر من ضيق الأفق والقوالب الجاهزة في التفكير، ممّا يفقد الاجتهاد معناه، ويحوّل العلماء المعاصرين إلى مقلّدين ومتّبعين لآراء السالفين. الدين الذي يحمل العلماء رسالته ليس برنامجاً للنجاح في الآخرة فحسب، بل هو نظام لإسعاد الناس في الدنيا قبل ذلك. يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالميزان لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (25)} [الحديد]. ويقول تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا الدُّنْيَا حَسَنَةً حَسَنَةً وفي الآخرة حسنة وقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة]. وعلماء الدين هم قمة المجتمع الإسلامي، وطليعته، فإذا ما كان واقعهم مشرقاً نقياً، يعكس صفاء قيم الإسلام، فإن ذلك يقدم للآخرين صورةً مشرقة عن الدين، مما يزيد من الاندفاع والإقبال على الدين، والالتزام بمبادئه.
الأسوة الحسنة مصدر قوة الوحدة وموجه الصحوة الإسلامية: إن من نافلة القول التأكيد على كون وجود القدوة هدفاً يُسعى لتحقيقه، والأسوة غاية يتنافس المؤمنون ليصلوا إليها، أن من أهم عوامل تجميع قوة المؤمنين، وتوجيه الطاقات وتنمية القدرات في سبيل ذلك الهدف، بحيث يستشعر المؤمنون أنهم بتكاتفهم، وتسابقهم في الخيرات، وتنافسهم لفعل الأفضل، يتمثلون قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} [الأنبياء]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون]. فالمسلمون اليوم وبسبب تفرقهم، واختلافهم فيما بينهم، بحاجة ماسة، أكثر من أي حاجة أخرى، إلى هذا المثال الرباني، والنموذج النبوي، والكمال البشري، يكون العنصر الجاذب نحو المركز، والمحور في التجمع، والمحرك في النهضة، والضابط للصحوة، والمؤلف للقلوب، للخروج من الصراعات الدامية. على طريقة: مَن كان اعتقاده بالإله الواحد، والقرآن الواحد، والقبلة الواحدة، فلماذا لا يوحده المنهج؟؟. نظرة أعداء الأمة: إذا ظهر الخلاف والصراع بين علماء الدين، ونشط كل واحد منهم في إظهار معايب الآخر وأخطائه، فسيعطي ذلك صورة مشوهة عن الإسلام، وسيتساءل الكثيرون:إذا كانت تعاليم الدين سليمة ومجدية؛ فلماذا لا يظهر أثرها على حَمَلَتِه من العلماء، والمبشرين به من الدعاة؟ ومن المفترض أن يكون علماء الدين قادة المجتمع ، ومحل ثقة الناس، ومحور التفاف الجماهير. وكيف تتوفر فيهم ثقة الناس، إذا ما اختلفوا وتصارعوا، وعملوا على إسقاط سمعة بعضهم بعضاً؟ ولقد استفاد المخالفون للإسلام كثيراً من وجود الخلافات والنزاعات بين الجهات الدينية، لإبعاد الناس عن العلماء، عبر التشكيك في مصداقيتهم، والتأكيد على دوافعهم الذاتية المصلحية، ونزوعهم إلى المواقع والمناصب. ولأن عالم الدين في موقع الإرشاد والوعظ للآخرين، فإنه يجب أن يكون قدوة للناس، متعظاً بما يعظ به، وملتزماً قبل غيره، ليكون كلامه مؤثراً في الناس، مقبولاً لديهم، وليكون منسجماً مع نفسه. كما يقول الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه والرضوان: (من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه، قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته، قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)([16]).
أصناف العلماء لجهة تفاعلهم مع المجتمع: يقول العارفون: (مَن نظر إلى الناس بعين الشريعة مقتهم، ومَن نظر إلى الناس بعين الحقيقة عذرهم، ومَن نظر إلى الناس بعين الله أحبهم). أعرض فيما يأتي نماذج العلماء في تعاملهم مع الناس: فمن يتعامل مع أفراد المجتمع على أساس الأحكام وتطبيقاتها العملية، واستجابة البعض لها، وتغافل البعض عنها، ومعاندة الآخرين لها، يصيبه اليأس، ويدخله المقت، ويبدأ بردات فعل عنيفة، بدءاً باللفظ وصولاً إلى الإقصاء والإلغاء. نموذج تطبيقها العملي من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ما جاء في الأثر: "يَا بني هَاشم لَا يأتيني النَّاس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم"([17]). وفي الحديث: "وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"([18]). ومن يتعامل مع أفراد المجتمع على أساس حكمة الأحكام ومقصد تطبيقاتها العملية، فإنه يحاول إيجاد المبررات للناس، لإنقاذهم من الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم، ومن الانغماس في الحرام إلى تذوق معرفة الحلال. نموذج تطبيقها العملي من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: حديث الإمام عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةَ، وَمَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا. فَانْطَلَقْنَا، تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ. فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ فَقُلْنَا: لَتُخْرِجَنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا. فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا حَاطِبُ مَا هذَا؟". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالهُمْ؛ فَأَحْبَبْتُ، إِذ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هذَا الْمُنَافِقِ. قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْريكَ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"([19]). ومن يتعامل مع أفراد المجتمع على أساس أنهم خلق الله الذي جعلهم متفاوتين في الأفكار والرؤى، والعقول والمدارك، وأن مهمته النصح والإرشاد، والتذكير بالواجبات دون إكراه للآخرين، وأن المطلوب أن يقول الحق، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف]، وقال عزَّ وجلَّ: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة]. نموذج تطبيقها العملي من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى لَيْلَى يَقُولُ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالاَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِىٍّ، فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا"([20]).
أهم الصفات المطلوبة في الأسوة: حسن الخلق، ومن الأخلاق الحسنة: * الصدق. الصدق من أكرم الصفات الإنسانية، وأعظم الفضائل الخلقية؛ فهو أهم الأسس في بناء الأمة وسعادة المجتمع؛ إذ به يرتبط كل شأن من شئون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح الناس. لذلك أمر الله به، وجعله خُلُقًا لحَمَلَة وحْيِه ومبلِّغي رسالاته؛ فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوة حسنة ومثلاً أعلى للصدق في القول والعمل، منذ نشأته حتى لحق بربه صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون. وما عاش المجتمع الإسلامي الأول في ظل الأمن والاستقرار والسعادة إلا لأن أفراده كانوا يتحرَّوْن الحقَّ، ويتصفون بالصدق في علاقاتهم وعباداتهم ومعاملاتهم؛ بل في كل حياتهم الخاصة والعامة، والمؤمنون كذلك صُدُق في كل زمان ومكان. * الصبر. إن الصبر وصيةُ الله للرسل والأنبياء، والصلحاء والأولياء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة]. الصبرُ رفيقُ الدرب حين تُظلم الدنيا، والصبر منحةٌ من الله للثبات على الحق، وحين يغترّ الدهماء بالباطل إذا تكاثَرَ واستشرفت له النفوس، وتطاوَلَت له الأعناق، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} [يوسف]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة]. وفي خطاب الله لرسوله الكريم: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام]. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ"([21]). وقال مقالته الشهير: "يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه"([22]). * الرحمة. الرحمة والتراحم سلوك إنساني عظيم وخلق نبوي كريم: وإن فقدان الرحمة والتراحم في هذه الأمة أفقدها رشدها، وأدخلها في نفق مظلم يكتنفه الغفلة والقسوة والأنانية والأثرة. إن هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس قبل المال، وفي بذل الحياة، لا في الحرص عليها، وفي أخلاق الروح، قبل أخلاق اليد، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، وليس الذهب والفضة . طوفان المادة طغى على المعاني والسلوكيات، حتى أصبحت القواعد المتبعة لدى كثير من الناس: - إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب . - إن لم تجهل يجهل عليك . - تغدى بزيد قبل أن يتعشى بك . أحوج ما نحتاج في هذه الظروف التي تمر بها الأمة: التراحم فيما بيننا، لأن خلق الرحمة إذا انتشر ساد الخير، وإذا فقد ارتكسنا إلى عهود جاهلية. رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضمـير العالم الإنساني ومحور الكـون، يقول عنه ربه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}. [الأنبياء]. كان رؤوفاً بالمؤمنين، رحيماً بجميع المخلوقات؛ حيواناً وشجراً وحجراً، وبالإنسان بوجه أخص. * الرفق. الرفق من الأخلاق العظيمة، التي عَمِلَ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحَثَّ عليها ورَغّب فيها. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: "إنه من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"([23]). فقد عظّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شأن الرفق في الأمور كلها، وبيّن ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وبخاصة العلماء والدعاة إلى الله عز وجل؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرفاتهم، وأحوالهم. فالرفق سبب لكل خير، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العنف. قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران]. * الحلم. الحلم سيد الأخلاق، والحلم هو الأناة والتثبت في الأمر، وما يلزم لذلك من ضبط للنفس عن الغضب، وكظم للغيظ وعفو عن السيئة. والحليم هو ذو الأناة الذي لا يستفزه الغضب إذا واجه ما يغضبه، ولا يتسرع بالعقوبة، بل يضبط نفسه، ويتريث، وبعد الأناة يتصرف على وفق مقتضيات الحكمة، وكل ذلك لا يكون إلا بضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأشَجِّ عبد القَيْس: "إِنَّ فيكَ خَصْلتين يُحبهما الله: الحلم، والأناة"([24]). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حليما، وقد أعطانا دروسا عملية وقولية في خلق الحلم، قال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى]. وفي الحِكَم: إذا سَكَتَّ عن الجاهل فقد أوسعته جواباً وأوجعته عقابا، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان].
جانب من أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم: 1- رأفته ورحمته بالمؤمنين، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة]، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ 088)} [الحجر]. 2- خلقه العظيم، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} [المؤمنون]. 3- وإنه لين هين ليس بالفظ ولا بغليظ القلب، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران]. 4- خشيته لله: إنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يعصي ربه، ويعمل حساباً ليوم الحساب، قال تعالى: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}([25])، وقال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس]. 5- تواضعه، قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام]، وقال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93)} [الإسراء]، وقال تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود]، وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى].
من التوصيات: من الواجب أن تكون العلاقة بين علماء الدين علاقة مثالية، نابعة من قيم الإسلام ومنسجمة مع تعاليمه. وإذا كان الاختلاف العلمي له مبرراته وأسبابه المقبولة، فليكن الخلاف ضمن دائرته، وداخل إطاره وحدوده، واختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضية.
([1]) مسند الإمام أحمد، والبيهقي في دلائل النبوة، والطبراني في الأوسط والكبير. ([2]) يُنْظَر: لسان العرب (4/5)، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (1/0)، والمقاييس لابن فارس (1/6). ([3]) التوقيف (1)، والكليات للكفوي (4). ([4]) أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي (8/ 5). ([5]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (5). ([6]) يُنْظَر: تفسير الثعالبي 4: 340؛ وابن حجر، لسان الميزان 4: 177؛ والكاشاني، الصافي 1: 46. ([7]) البخاري - الفتح13(7298). ([8]) الشَّنُّ: القربة الخلق والجمع شنان. ([9]) البخاري - الفتح1(183) واللفظ له. ومسلم (763). ([10]) أنسجد في [ص]: أي عند قوله تعالى في سورة [ص] {وَظَنَّ دَاودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وأَنَابَ}. ([11]) البخاري ـ الفتح 6(1). ([12]) البخاري ـ الفتح 3(7). ([14]) قال الحافظ في الفتح (3/5) أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما بسند صحيح. ([15]) تفسير القرآن العظيم (3/3). ([16]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، قصار الحكم، رقم 73. ([17]) أخرجه ابْن أبي حَاتِم، تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، المؤلف: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: 762هـ)، المحقق: عبد الله بن عبد الرحمن السعد، دار ابن خزيمة – الرياض، الطبعة: الأولى، 1414هـ، 1/91. ([18]) أخرجه أحمد (2/252، رقم 7421)، ومسلم (4/2074، رقم 2699)، وأبو داود (4/287، رقم 4946) ، والترمذي (5/195، رقم 2945)، وابن ماجه (1/82، رقم 225)، وابن حبان (2/292، رقم 534). ([19]) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان - (1 / 791)، أخرجه البخاري في: 56 كتاب الجهاد والسير: 141 باب الجاسوس وقول الله تعالى: (لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء). ([20]) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِى إِيَاسٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ شُعْبَةَ. ([21]) أخرجه أحمد (3/286، رقم 14087)، وعبد بن حميد (ص 392، رقم 1317)، وابن أبى شيبة (7/332، رقم 36566)، والترمذي (4/645، رقم 2472) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1/54، رقم 151)، وابن حبان (14/515، رقم 6560)، وأبو نعيم فى الحلية (1/150)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/239، رقم 1632)، والضياء (5/30، رقم 1634). ([23]) أخرجه أحمد 6/159، وإسناده صحيح؛ انظر الأحاديث الصحيحة للألباني برقم 519. ([24]) أخرجه مسلم (1/48، رقم 17)، والترمذي (4/366، رقم 2011) وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه البيهقي (10/104، رقم 20059). ([25]) مكررة في سورة الأنعام، الآية: 15، والزمر، الآية: 13.
|
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |