مدلول (السجود) في دين الله |
الحمد لله الذي سجد كل شيء لقدرته، وخضع كل شيء لعظمته، والصلاة والسلام على المبعوث للعالمين رحمة، وللمؤمنين هداية، صلى الله عليه وعلى آله أولى القدر العظيم، والشرف الرفيع، وصحابته أولى المعالي والهمم، والرتب والقمم، ومَن سار من المؤمنين على نهجهم، واقتدى بهديهم، وبعد: فعند سماع كلمة (السجود) يتبادر إلى الذهن: تلك الهيئة الخاصة التي يفعلها المصلي بوضع الأعظم السبعة على الأرض، (الجبهة والأنف، واليدين، والركبتين، ورؤوس أصابع القدمين)، فهل هذا فقط هو معنى السجود في المفهوم الإسلامي؟، أم إن للسجود معاني أخرى؟، ومدلولات أعمق من الشكل الخارجي الظاهري للسجود في الصلاة؟. في هذه الأسطر سنحاول التعرُّف على مفهوم السجود، ومدلولاته اللغوية، ومضامينه المعنوية، بمعنى ما مدلول السجود في الشكل والروح؟، وثمرة هذا التعرُّف أن الطاعة تزداد بالمعرفة، والإقبال عليها بعد المعرفة يكون بنفس مطمئنة، وقلب منوَّر، وعقل متفتح. معنى السجود لغة:الخضوع والتذلل والميل، ووضع الجبهة بالأرض، وكُلُّ مَن تَذَلَّلَ وخَضَعَ فقد سَجَدَ، والخضوع هو اللين والانقياد، ويكون بالقلب. قال الراغب الأصفهاني: (السجود لله عام في الإنسان والحيوانات، والجماعات، وذلك ضربان: الأول:سجود باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان، وبه يستحق الثواب، قال تعالى:} فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا{ [النجم:62]. الثاني: سجود تسخير، وهو لكل الخلائق، وإليه يشير قوله تعالى:} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{ [الرعد:15]. معنى السجود اصطلاحاً عند الفقهاء: خُصَّ السجودُ في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة، وما يجري مجرى ذلك سجود القرآن وسجود الشكر. ولكن هذه المعاني اللغوية، والاصطلاحية الفقهية التي تشير لأمور خاصة، لا تنفي أن يكون للسجود مدلولات أعمق، ومفاهيم أشمل. والسجود: لا يعني مجرد الحركة المعروفة، وهي وضع الجبهة والأنف واليدين والركبتين ورؤوس أصابع القدمين على الأرض، وإنما هو فوق ذلك: المعنى العميق في النفس الذي يتمثل فيه جلال الله وعظمته، ورحمته ووِدُّه، ويتمثل فيه الخضوع لهذا الجلال، والانقياد لهذه العظمة، والتسليم المطلق للأوامر طلباً أو تركاً. مع أن السجود في الصلاة من الوسائل التي تعين على ترويض النفس وتزكيتها؛ لتترقى في مدارج صفاتها؛ من الإمارة بالسوء، إلى اللوامة، إلى المطمئنة. كما أن السجود من الوسائل التي توصل صاحبها إلى الجنة، وتمنحه الدرجات العليا. وهو من دواعي التقرب إلى الله والقرب منه، قال تعالى:} وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ{ [العلق:19]، وفي الحديث:" أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ "[رواه مسلم]. ولبيان أهمية السجود، وقيمته المعنوية، مَدَحَ اللهُ U المسلمين الذين يُعَبِّرُون عن خضوعهم لآياته، واستجابتهم لأمره، واستسلامهم لأحكامه، بقوله: } إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{ [السجدة:15]، ومدح الله I أولئك الذين هداهم الله واجتباهم، بقوله: } إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا{ [مريم:58]، وفي بيان صفات عباد الرحمن المقربين يقول سبحانه عنهم: } وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا{ [الفرقان:64]. مدلول السجود: الخضوع والاستجابة ولعل أكبر دليل على عمق معنى السجود، وقيمة مضمونه، وليس فقط في صورته وشكله، تلك الحادثة التي قَصَّها القرآن الكريم في أكثر من موضع، تُبَيِّن في جملة ما تشير إليه الآيات إلى ما ينبغي التنبه إليه من المعاني المتصلة بالسجود، بمعنى الخضوع لله، والاستجابة لأوامره I: تلك هي حادثة أمر الله عز وجل بالسجود لآدم. قال الله تعالى: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ { [البقرة:34]. وقال U : } وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ { [الأعراف:11]. وقال I: }وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29) { [الحجر:28-29]. وقال الله تبارك وتعالى: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا { [الإسراء:61]. وقال الله جلَّ جلاله: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ { [الكهف:50]. وقال I: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ أَبَى { [طه:116]. إلى غيرها من الآيات التي ذكرت قصة خلق آدم، والأمر من الله بالسجود له، ولعل من المستحسن الوقوف عند آية منها، لما فيها من الدلالة: } فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{ [الحجر:30]، ولم يشذ منهم أحد، وكان من بينهم _ مختلطاً بهم _ إبليس، وهو من فصيلة الجن، مخلوق من نار، يختلف عن الملائكة المخلوقين من نور، ويختلف عن الإنسان المخلوق من تراب. وإبليس كان يعبد الله مع الملائكة، ويسبح المولى تبارك وتعالى معهم، حتى لقد كان يلقب بـ ( طاووس العباد)، لكثرة عبادته، وتفانيه في العبادة، ولكن التأمل في أصل خلقه، وبالوصف الذي أطلق عليه (طاووس)، يعطي فكرة وتلميحاً إلى أن عبادته كانت لغرض الظهور والتفاخر، بدليل أنه بمجرد أن أُمِرَ بالسجود لآدم؛ أبى واستكبر. لقد أبى والإباء ضد السجود، واستكبر والاستكبار ينافي الخضوع، وبعبارة أخرى: إن إبليس نظر إلى ظاهر الأمر الإلهي وشكله، وصورة الطلب الرباني ومظهره فقط، دون أن يتعمق في مضمون السجود، ويتأمل فيما وراء هيكلية الانحناء، فظاهر النص: السجود بمعنى الانحناء للمسجود له، وهو الإنسان في هذه القصة، ولكن لهذا الأمر مدلول أعمق، ومضمون أبعد، ألا وهو: حقيقة الامتثال للآمر وهو الله عز وجل، والاستسلام لأوامره، وتلبية مطالبه. ويتمادى إبليس في تكبره وطغيانه، وشيطنته وبعده عن الحق، فراح يبرر موقفه، مستنجداً بعقله ومنطقه، دون مراعاة للروح والقلب، قائلاً: } قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ{ [الأعراف:12]. ولم يكن هذا إلا منطق الهوى والكبرياء، فالأصل في السجود لآدم، ليس بمعنى عبادته لآدم، وإنما القصد العبادة لله، والاستجابة لأمره عز وجل، والخضوع لذاته سبحانه. والمتأمل في قصة السجود لآدم، يدرك أن تعبير الوحي، ولفظ القرآن، يوجب الاستجابة الفورية للأوامر الإلهية والتوجيهات الربانية، يُقرأ ذلك من قول الله عز وجل: } قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ{ [الأعراف:12]. ولفظ السجود هنا على إطلاقه دون تقييد بالسجود لآدم، مما يؤكد أن السجود في حقيقته: سرعة الاستجابة لأمر الله I فور سماعها وعلمها، قال الله U:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ { [الأنفال:24]. فالإيمان: علم وعمل، ومن هذه القصة ندرك أن الإيمان ليس هو العلم والمعرفة والتصديق المجرد، بل لابد أن يقترن ذلك مع العمل بمقتضى هذا التصديق، تأمل معي ألم يكن إبليس يعرف أن الله موجود، ثم ألم يعلم فيما بعد أن الله أ رسل رسله وأنزل كتبه، ولكنه مع ذلك مطرود من رحمة الله، مما يدل دلالة أكيدة، على وجوب اقتران العمل بالعلم، والاستجابة بالتصديق، والخشوع والخضوع بالانحناء والسجود، وتنفيذ المأمورات، واجتناب المنهيات، والاحتكام في كل شيء إلى الشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده. يشهد لذلك قوله تعالى: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ [النساء:65]. إذاً، لا يتم الإيمان ولا يكمل إلا بالاحتكام لشرع الله، والوقوف عند حدوده، والالتزام بأوامره، وقد غفل إبليس عن هذا المعنى، وكذا يغفل السائرون في طريق الشيطان ودرب إبليس. أما المؤمنون فيدركون أن كثرة السجود تعني سرعة الاستجابة للأوامر الله، وحب الخضوع يعني المبادرة إلى تلبية نداءات الله U. لقد كان سعيد بن جبير يقول: [ما آسى على شيء من الدنيا إلا على السجود]. أما علي بن عبد الله بن عباس فقد كانوا يسمونه ( السَّجَّاد )؛ لكثرة سجوده، بمعنى استجابته وخضوعه، وليس فقط كثرة حركة الانحناء. وفي وصف الله عز وجل عباده المخلصين الملتفين حول رسوله محمد e في حال حياته، والمتبعين لمبادئه بعد وفاته، يقول تعالى: }سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ{ [الفتح:29]، إنه النور الذي يشرق على جباههم، لسجودهم لله، واستجابتهم لأوامره، وخضوعهم لنداءاته، واحتكامهم لشريعته الغراء. |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |