العمل التطوعي (رأس المال الاجتماعي) من منظور إسلامي |
في ظل الزحف المادي الجارف الذي يكتسح الأخضر واليابس من حياتنا، وفي ظل التعاملات المادية الجافة التي لا تعطيك شيئاً إلا وتأخذ منك مقابله أشياء أخرى؛ ينطلق بعض الأشخاص بروح الملائكة، وتضحيات الصالحين، يقدمون الأعمال الخيرية، طالبين مرضاة اللَّه سبحانه وتعالى. وإن أسمى الأعمال الإنسانية تلك التي لا تنتظر مقابلاً لها، بل تنبع من قلبك، ومن رغبةٍ لديك في العطاء والتضحية. ويمثل العمل التطوعي بمنهجه الاجتماعي والإنساني سلوكاً حضارياً ترتقي به المجتمعات والحضارات منذ قدم الزمان، وأصبح اليوم يمثل رمزاً للتكاتف والتعاون بين أفراد المجتمع. حيث يرتبط العمل التطوعي ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجتمعات البشرية منذ الأزل، وذلك باعتباره ممارسة إنسانية. ولا شك أن للعمل التطوعي أهمية كبيرة وجليلة تؤثر بشكل إيجابي في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وعلى كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، باعتباره مجموعة من الأعمال الإنسانية والخيرية والمجتمعية. ومن إيجابيات وآثار العمل التطوعي: تحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي والأحوال المعيشية للناس، والحفاظ على القيم، حيث يمثل العمل التطوعي تجسيداً عملياً لمبدأ التكافل الاجتماعي، واستثمار أوقات الفراغ بشكل أمثل. وفي المجتمعات المعاصرة يحظى العمل التطوعي باهتمام خاص، ويحتل حيزاً كبيراً فيها؛ لما له من أهمية في مجالات تنمية المجتمع. تعريف التطوع: العمل التطوعي هو: تقديم العون إلى شخص أو مجموعة أشخاص، يحتاجون إليه، دون مقابل مادي أو معنوي. أو هو: ذلك المجهود القائم على مهارة، والذي يبذل عن رغبة؛ بغرض أداء عمل اجتماعي وبدون انتظار جزاء مالي. والتطوع مسألة إنسانية تحدثت عنها كل الشرائع السماوية وجميع الدساتير الأرضية. ويُعَدُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعظم رجل تحدث عن هذا الجانب، وطبّقه في حياته، وجاءت الآيات القرآنية الكثيرة، والأحاديث النبوية الشريفة التي رَغَّبت في ذلك. فالتطوع أحد الأمور الهامة جداً في الحياة الاجتماعية، والتي تمثل روح الإسلام في التعامل بين الناس، وفي حمايته لأفراد مجتمعه. إن عظمة أمر التطوع هو أن اللَّه اعتبر أيما إنسان قام بعمل خير لأخيه الإنسان، كأنما قدم العمل إلى اللَّه سبحانه وتعالى، واللَّه هو الذي سيجازيه عليه، دل على ذلك الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاءت في القرآن الكريم دعوة كريمة إلى الخير، ووردت بتعبير غاية في الجمال، إذ يقول الله تعالى: }مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً{ [البقرة: 245]. ويقول تعالى: }مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ{ [الحديد: 11]. وتشير الآيات إلى العطاء للآخرين، وتقديم الخير لهم في صورته للإنسان الذي أمامك، وفي حقيقته أنه لله، ومن كان يعطي ربه الكريم، فليتصور كم تكون مكافأته؟!!!. وفي آية أخرى يأمر اللَّه سبحانه وتعالى بالإنفاق ثم يعقبها بأن هذا الإنفاق يلقى مردوده من الباري عز وجل أضعافاً مضاعفة، وأكثر من ذلك، ألا وهي المغفرة للذنوب، قال الله تعالى: }فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ{ [التغابن: 17]. والإسلام يحث على العمل التطوعي، ويثني على من يُسَخِّر نفسه لخدمة الآخرين ورسم الابتسامه على وجوههم والأخذ بأيديهم نحو طريق الصلاح والسداد. والعمل التطوعي ظاهرة اجتماعية صحية تحقق الترابط والتاَلف والتآخي بين أفراد المجتمع حتى يكون كما وصفه رسول الله r (كالجسد الواحد). والعمل التطوعي من أهم الأعمال التي يجب أن يعتنى بها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم وكلها تدعو إلى عمل الخير والبذل في سبيل الله سواء بالمال أو الجهد أو القول أو العمل. فكل إنسان ذكراً كان أو أنثى مطالب بعمل الخير بما يتناسب مع قدراته، انطلاقاً من قوله تعالى: }وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{ [المائدة: 2]. وما من مجتمع إلا وفيه المحتاج المريض والمعوق وغير المتعلم، ومن يحتاج الى مساعدة أو من يحتاج إلى المال أو المسكن أو الملبس أو الزواج أو غيرها من أعمال البر. فعمل الخير باب واسع بشرط أن يكون العمل منبثقاً من نفس تواقة لإصلاح المجتمع. وقد أصبح العمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع ونشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين لأي مجتمع. والعمل التطوعي ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجموعات البشرية منذ الأزل ولكنه يختلف في حجمه وشكله واتجاهاته ودوافعه من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى. فمن حيث الحجم يقل في فترات الاستقرار والهدوء، ويزيد في أوقات الكوارث والنكبات والحروب. ومن حيث الشكل فقد يكون جهداً يدوياً وعضلياً أو مهنياً أو تبرعاً بالمال أو غير ذلك. ومن حيث الاتجاه فقد يكون تلقائياً أو موجهاً من قبل الدولة في أنشطة اجتماعية أو تعليمية أو تنموية. ومن حيث دوافعه فقد تكون دوافع نفسية أو اجتماعية أو سياسية. أنواع الأعمال التطوعية: المتطوعون ليسوا سواء: فمن الناس من يمكن أن يقوم بمساعدة العجزة، أو زيارة المرضى. ومنهم من يستطيع أن يقدم المشورات المجانية؛ مثل المهندسين والمحامين. ومنهم من يستطيع أن يعمل في اللجان العاملة في المنظمات الاجتماعية، والمؤسسات التطوعية. وآخرين يستطيعون تقديم المعونة إلى المنظمات والجمعيات، لتوزيعها على مستحقيها. ويمكن أن نصنف المتطوعين إلى مجموعة أصناف:
يقول الحق سبحانه وتعالى: }فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{ [آل عمران/195]. ويقول تعالى: }مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{ [النحل/97]. فالسعي مع الضعفة وعامة الناس في هذا الزمن أصبح من الضرورات، ومن الحقوق الواجبة على المؤمن؛ لأن كثيرين قد تتقطع بهم سبل الحياة، وتضيق عليهم دروب المعيشة، ويحتاجون إلى من يعينهم، ويقضي حوائجهم، ويُدخل السرور عليهم. الآيات القرآنية الدالة على فعل الخير التطوعي:
يطعمون الطعام للفقراء والمساكين ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من عون ومساعدة، ولا ينتظرون منهم أي مردود، وهذا هو المعنى الصحيح للتطوع.
والمعنى أن أي فعل مهما كان قليلاً، حتى لو كان مثقال ذرة فإن الله يجزيه على عمله، ويرى نتيجة فعله. الأحاديث النبوية الدالة على فعل الخير التطوعي: وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحوي مجموعة من أعمال الخير، نذكر بعضها:
كل هذه النصوص وغيرها الكثير الهدف منها جعل المسلمين جميعاً ذكوراً وإناثاً يشعرون بروح الجماعة الواحده المرتبطة ببعضها البعض مادياً ومعنوياً. يقول الحسن البصري رحمه الله: (لأن أقضي حاجة لأخ أحب إليَّ من أن أصلي ألف ركعة، ولأن أقضي حاجة لأخ أحب إليَّ من أن أعتكف شهرين). وكان أبن عباس رضي الله عنهما يقول: (لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحب إليَّ من حجة، وَلَطَبَقٌ بدرهم أهديه إلى أخ لي في الله أحب إليَّ من دينار أنفقه في سبيل الله). حكم العمل التطوعي: يقول الله تعالى: }وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ{ [البقرة: 185]. في منظومة الفكر الإيماني الإسلامي؛ إذ يتصل التطوع بالفرض، اتصالاً وثيقاً، يصل أحياناً إلى حد انتقال العمل من موقع "التطوع" إلى موقع الفريضة الملزمة، وذلك في الحالات التي عبر عنها الفقهاء بمفهوم (فروض الكفاية)؛ وهي تلك الأعمال التي يتعين القيام بها لمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، ويناط ذلك بفرد أو بجماعة منها أو فئة معينة تكون مؤهلة لهذا العمل على سبيل التطوع، فإن لم ينهض به أحد صار العمل المطلوب فرضاً ملزماً، ويأثم الجميع ما لم يقم هذا الفرد أو تلك الفئة أو الجماعة - أو غيرها - بأدائه على الوجه الذي يكفي حاجة المجتمع. وكلما كان الفرد أو الجماعة أو الفئة أكثر قدرة على القيام بأداء فرض الكفاية على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبه من الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه. وفي الآية الكريمة إشارة إلى المنفعة النفسية الكبيرة للمتطوع، ومن يقوم بالأعمال التطوعية أشخاص نذروا أنفسهم لمساعدة الآخرين بطبعهم واختيارهم، وهو وسيلة لراحة النفس والشعور بالاعتزاز والثقة بالنفس عند من يتطوع. والعمل التطوعي يقوي الرغبة بالحياة والثقة بالمستقبل، حتى أنه يمكن استخدام العمل التطوعي لمعالجة الأفراد المصابين بالاكتئاب والضيق النفسي والملل. والتطوع جهود إنسانية، تبذل من أفراد المجتمع، بصورة فردية أو جماعية، وتقوم على الرغبة والدافع الذاتي. إن للعمل الاجتماعي التطوعي فوائد جمة تعود على الفرد المتطوع نفسه وعلى المجتمع بأكمله، وتؤدي إلى استغلال أمثل لطاقات الأفراد وخاصة الشباب في مجالات غنية ومثمرة لمصلحة التنمية الاجتماعية. وثقافة التطوع في مجتمعاتنا ترتكز نظرياً على عقيدة الإيمان، وهي التي دفعت المجتمع الإسلامي على مر الزمن أفراداً وجماعات إلى المبادرة بفعل الخير، والسعي طواعية لتقديم العون للآخرين ابتغاء وجه الله تعالى. وقد ارتبطت بهذه النواة الصلبة للتطوع منظومة معرفية واسعة المدى من الأعمال التطوعية التي تبدأ بأبسط الأمور، مثل (الابتسامة) في وجه الآخر، و(إماطة الأذى عن الطريق)، وتصل إلى التضحية بالنفس في سبيل الله. وتشتمل المنظومة على مفاهيم ومبادئ وأخلاقيات تعلي من شأن عمل الخير والبر والإحسان وإيثار الآخرين على النفس، والجهاد بالمال والنفس وبالكلمة والرأي الذي ينتصر للحق. وبعض هذه المفاهيم تحول إلى مؤسسات كان لها دور كبير في حياة المجتمع الإسلامي، ومن ذلك مفهوم الصدقة الجارية الذي نشأت عنه مؤسسة الوقف بتراثها العريق. صور من العمل التطوعي: فالغني لا ينسه غناه حاجة الفقير، بل يسعى ليخفف عنه في بعض المال. والسليم في صحته لا تنسه صحته وعافيته حاجة المريض، بل يسعى لعيادته والتخفيف من آلامه وتصبيره عليه. والمتنعم بالآمال والسعادة لا تنسه سعادته حاجة المبتلى بوفاة عزيز، فيشاركه أحزانه ليخفف عنه. والمتنعم بالحياة الزوجية السعيدة لا ينسى المبتلى بقساوة الحياة الزوجية، بل يقف بجانبه ليحل مشكلته. ومَن كان ذا منصب وكلمة مسموعة فإنه ينظر في حال من تغلق دونهم الأبواب وتسد أمام أعينهم الطرق، فيشفع لهم محتسباً الأجر والمثوبة، لا طامعاً بمال، قال الله تعالى: }مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا { [النساء: 85]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل، أو طلبت إليه حاجة، قال: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء". [رواه البخاري ومسلم]. فالشفاعه الحسنه أن تشفع لإزاله ضرر عن إنسان، أو رفع مظلمة عن مظلوم، أو جر نفع إلى مستحق من غير ضرر بغيره. فالشفاعة (الواسطة) باب من أبواب التعاون على البر. والشفاعة من أسباب فتح القلوب وإدخال السرور على المسلم وتفريج كربه وإعانته على نوائب الدهر. وكذا الحال مع الأيتام؛ فإن من يسعى ويتسابق في كفالتهم نال القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنه كهاتين، وضم بين السبابة الوسطى". [رواه البخاري]. |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |