الفتوى مكانتها، مزالقها، منهجها الصحيح |
المدخل إلى البحث:رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخ الإمام مالك - يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق!. ذاك الكلام كان في القرن الثاني الهجري، فما بالك بهذا الزمان، حيث أقدم على الفتوى مَن لا علم له بها، ومد باع التكلف إليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكَر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؟!([1])، وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى مَن لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟، بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم على أتباعهم حضور الجمع والجماعات، وكثير من هؤلاء ليسوا من "أهل الذكر" في علوم الشريعة، ولا كلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كَوَّن ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح المُعينة على فهمها وهضمها. تعريف الفتوى الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي، يقال:أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألة، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام. والفتوى شرعًا: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا جوابًا عن سؤال سائل، معين كان أو مبهم، فرد أو جماعة. والمفتي هو مَن يتصدى للفتوى بين الناس، ويبين لهم حكم الله تعالى، ويكشف لهم رأي الدين والشرع. وتختلف الفتوى عن الحكم القضائي في أمرين: الأول: إن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي، أما القضاء فهو إنشاء للحكم بين المتخاصمين. الثاني: إن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، أما الحكم القضائي فهو ملزِم. جلالة منصب الفتوى الفتوى منصب عظيم الأثر، بعيد الخطر، وهي وظيفة إسلامية جليلة، وعمل ديني رفيع، ومهمة شرعية جسيمة، ينوب فيها الشخص بالتبليغ عن رب العالمين، ويؤتمن على شرعه ودينه، فإن المفتي - كما قال الإمام الشاطبي - قائم مقام النبي e فهو خليفته ووارثه "العلماء ورثة الأنبياء".. ، وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون، وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة، قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه - كما قال الشاطبي - شارع، واجب اتِّبَاعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق([2]). واعتبر الإمام ابن القيم المفتي موقعًا عن الله تعالى فيما يفتي به، وألف في ذلك كتابه القيم المشهور "إعلام الموقعين” كتاب لإعلام المفتين ما يجب أن يعلموه من أمر الفتوى وما يتعلق بها. والكتاب من أوله إلى آخره في ذلك كما يعرف من قرأه، وقال في مقدمة الكتاب: "إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟!”. وقد عرف السلف رضي الله عنهم للفتوى كريم مقامها، وعظيم منزلتها وأثرها في دين الله وحياة الناس، وترتب على ذلك عدة أمور أو مواقف. وتتضح مكانة الفتوى ومنـزلتها في الشريعة، من خلال معرفتنا بأن الله تعالى قد أفتى عباده، يقول I:} ويستفتونك في النساء؟ قل: الله يفتيكم فيهن{ [النساء:127]، ويقول I:} يستفتونك قل: الله يفتيكم في الكلالة{ [النساء:176]. خطر الفتوى والأمراض التي تصيبها هناك أعراض مرضية تنتاب الفتوى، وبعض الأوبئة تحيط بها، وبعض المشاكل تعتريها، وشوائب تعكر صفوها، وتزيل هيبتها، وتضيِّع مكانتها، وتفقدها عظمتها. فإذا كان الكذب والافتراء على الناس فاحشة كبيرة، وذنباً عظيماً، فكيف بالكذب والافتراء على الله؟!!!. وإذا كانت الخيانة وسوء الائتمان في أموال الناس وحقوقهم جريمة بشعة يعاقب صاحبها، ويستحق اللوم والازدراء، وهي من أرذل الأخلاق وأسوأ الصفات، فكيف بالخيانة وسوء الائتمان في قضايا الشرع وأحكام الدين؟!!!. وإذا كانت الفتاوى في الزمن الماضي لا تتعدى مجال قائلها في مسجد أو بين مجموعة من الأشخاص، فإن الفتوى في هذا الزمان تطير في الآفاق بأسرع من لمح البصر، عير وسائل الأعلام المختلفة؛ من صحف، ومجلات، وإذاعة، وتلفزة، وعبر شبكات الاتصال العالمية. ويظهر خطر الفتوى من خلال بيان الأمراض والأعراض التي تصيبها، وهي:
موقف السلف من الفتوى تهيبهم للفتوى وتريثهم في أمرها، وتوقفهم في بعض الأحيان عن القول، وتعظيمهم لمن قال: "لا أدري" فيما لا يدري، وإزراؤهم على المتجرئين عليها دون اكتراث، استعظاماً منهم لشأنها، وشعورًا بعظم التبعة فيها. وأول الناس في ذلك الصحابة، فكان كثير منهم لا يجيب عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من البصيرة والطهارة والتوفيق والسداد، كيف لا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحيانًا فلا يجيب حتى يسأل جبريل؟. وكان الخلفاء الراشدون – مع ما آتاهم الله من سعة العلم – يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل، يستشيرونهم، ويستنيرون برأيهم، ومن هذا اللون من الفتاوى الجماعية نشأ – الإجماع في العصر الأول، قال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله e يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ود أخاه كفاه!. وقال عمر بن الخطاب: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار([3]). وقال ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون. وإذا انتقلنا إلى التابعين نجد سيدهم وأفقههم سعيد بن المسيب كان لا يكاد يفتي، ولا يقول شيئًا، إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني!. وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري: فقيل له: ألا تستحي من قول "لا أدري" وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا). وبعد التابعين نجد أئمة المذاهب المتبوعة لا يستنكفون من قول "لا أدري" فيما لا يحسنونه. وقد حفظ عن أبي حنيفة - مع براعته في الجواب، وقدرته الفائقة على الاستنباط والتوليد مسائل معروفة قال فيها: لا أدري. روى الخطيب البغدادي عن أبي يوسف قال سمعت أبا حنيفة يقول: لولا الفرَق(الخوف) من الله أن يضيع العلم، ما أفتيت أحدًا؛ يكون له المهنأ، وعلى الوزر!. وكان أشدهم في ذلك الإمام مالك، فكان يقول: من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها، وقال ابن أبي حسان: سئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة، فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقال مصعب: سئل مالك عن مسألة، فقال لا أدري. فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل. فالذي ينبغي للعالم أن يكون متهيباً للإفتاء؛ لا يتجرأ عليه إلا حيث يكون الحكم جلياً في الكتاب أو السنة، أو يكون مجمَعاً عليه، أما عدا ذلك ـ مما تعارضت فيه الأقوال والوجوه وخفي حكمه ـ فعليه أن يتثبت ويتريث حتى يتضح له وجه الجواب، فإن لم يتضح له توقَّف. إنكارهم على من أفتى بغير علم كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام، ومنكرًا عظيمًا يجب أن يمنع. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه". وهؤلاء بمنـزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنـزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟. والإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلى عدم الحَجْر على السفيه احتراما لآدميته، يقول بوجوب الحجر على المفتي الجاهل والمتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام على الجماعة المسلمة، (يرى أبو حنيفة وجوب الحجر على ثلاثة: الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن (المتلاعب) والمكاري (المقاول) المفلس دفعًا لضررهم عن الجماعة). ثقافة المفتي إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي e بل يوقع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضًا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط. ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف. ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بعلم أحوال الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز، كما لا يجوز أن يفتي من لم يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!. ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم. ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتُطْلِعُه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها. إن من أسوأ الأشياء خطرًا على المفتي أن يعيش في الكتب، وينفصل عن الواقع، ولهذا أحسن الخطيب رضي الله عنه حين طلب إلى المفتي أن يعرف الجد والهزل، والنفع والضر في أمور الحياة. إن المفتي البصير يجب أن يكون واعيًا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورًا معينة، ويضع قيودًا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة. وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم ومشكلات عيشهم، يقع المفتي في متاهات، أو يهوِّم في خيالات، ويظل في واد والناس في واد، فهو لا يعرف إلا ما يجب أن يكون، دون ما هو كائن، مع أن الواجب شيء، والواقع شيء آخر. يقول ابن القيم: الفقيه من يطبق بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم. الجانب الأخلاقي في المفتي نعرض فيما يلي بعض الملاحظات التي ينبغي مراعاتها في المفتي: 1- إن العلم مع فرضيته والثقافة مع حتميتها للمفتي، ليسا كل شيء، فلا بد مع العلم من عمل، ولا بد مع العمل من خشية، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق. يقول الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء). [ فاطر: 28]، وإن آفة الحياة ليست من فساد العقول، بقدر ما هي من فساد الضمائر، وإن أزمة الناس ليست أزمة معرفة بقدر ما هي أزمة أخلاق. ولم تفسد الأديان السابقة على الإسلام بسبب الجهال بحقائقها، بقدر ما فسدت من علماء السوء، المتاجرين بها، المحرفين لها. ولا عجب أن حمل القرآن بقوة على الذين يخونون علمهم، يشترون به متاعًا زائلاً، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون. ونقرأ كذلك قوله سبحانه (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنًا قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار). [البقرة:174،175]. من هنا أكد علماء الإسلام على الجانب الأخلاقي للمفتي، ولم يكتفوا منه بسعة العلم والتبحر فيه، حتى يزين علمه بالتقوى ومكارم الأخلاق. 2- ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يُحِيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجًا في صدره، سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليًّا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم. 3- ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادًا وكبرًا، أو خجلاً من الناس والله لا يستحيي من الحق، ففي كتاب سيدنا عمرt إلى أبي موسى الأشعري t:" لا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء،"([4]). 4- ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يُرْضِى الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب. 5- ويجدر بمن عَرَّض نفسه للفتوى أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعًا داعيًا أن يوفقه للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى. وقد وضع علماء المسلمين جملة من الكتب فَصَّلُوا فيها الشروط والواجبات والآداب التي ينبغي أن تتوافر فيمن يقوم بالإفتاء. منها: "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" للعلامة ابن حمدان الحنبلي. ومنها: "الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام" للإمام القرافي المالكي. ومنها: "الفقيه والمتفقه" للإمام الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي. ومنها: الكتاب الذي طبقت شهرته الآفاق: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" للإمام أبي عبد الله شمس الدين ابن القيم. وقد جمع الدكتور أحمد بدر الدين حسون ستة كتب في الفتوى في مجلد أسماه (الموسوعة في آداب الفتوى). مزالق الفتوى ومطباتها قد يقع المفتي ببعض المشاكل والأخطاء بأسباب قد تعود إلى تكوينه العلمي، أو الضغوط التي تمارس ضده، لذا، ينبغي أن يكون حذراً من تلك المزالق، وهي: 1- الجهل بالنصوص أو الغفلة عنها: فمما يعرض المفتي للخطأ: الغفلة عن النصوص الشرعية أو الجهل بها، وعدم الإحاطة بها وتقديرها حق قدرها وخصوصًا إذا كان من يتعرض للفتوى من الجرآء المتعجلين، كالذين يريدون أن يملئوا أنهار الصحف أو المجلات بأي شيء، دون أن يجشم نفسه عناء الرجوع إلى المصادر، والبحث عن الأدلة في مظانها، ومراجعة الثقات من أهل العلم. وأكثر ما تقع الغفلة عنه هنا هو: نصوص السنة، فقد فشا الجهل بها في هذا العصر فشوا مخيفًا، حتى أن بعضهم ليفتي بما يناقض أحاديث الصحيحين أو أحدهما مناقضة صريحة بينة، لأنه لم يقرأ هذه الأحاديث ولم يسمعها فجعل جهله حجة على دين الله. 2- سوء التأويل: للنصوص، وفهمها على غير وجهها، اتباعًا لشهوة، أو إرضاءً لنـزوة، أو حبًا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين. فليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي. 3- عدم فهم الواقع على حقيقته: من أسباب الخطأ في الفتوى عدم فهم الواقع الذي يسأل عنه السائل فهمًا صحيحًا، ويترتب على ذلك الخطأ في "التكييف"، أعني في تطبيق النص الشرعي على الواقعة العملية. فمن الناس من يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، وأعمال البنوك، والأسهم والسندات، وأصناف الشركات، فيحرم أو يحلل، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرًا، ويدرسها جيدًا. 4- الخضوع للأهواء: ومن أشد المزالق خطرًا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الحكام وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعًا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم، ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق. ويندد القرآن بعلماء السوء الذين يتبعون الهوى، ويستحبون العمى على الهدى في أكثر من موقع في كتاب الله كقوله تعالى في سورة الجاثية: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون) (الجاثية: 23). ولهذا يكمن الخطر في ضعاف النفوس، ومرضى القلوب، من علماء الدنيا، الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرونه حسنًا، وبلية هذا الصنف، أن ظهوره بمظهر أهل العلم والدين، يفقد كثيرين من الناس الثقة بالعلماء الحقيقيين الذين أخلصوا دينهم لله، وأخلصهم الله لدينه، فيأخذون البريء بالمسيء. ومما يدخل في اتباع الهوى: الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتباينة، بغير مرجح من دليل نقلي، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، ولعله أضعف الأقوال حجة، وأسقطها اعتبارًا، أو لعله من زلات العلماء، وزيغات الحكماء، التي جاء التحذير منها في غير ما حديث. قال ابن القيم: "وبالجملة، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض. فيطلب القول الذي يوافق غرضه، وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر"([5]). 5 - الخضوع للواقع المنحرف: ومن المزالق التي تزل فيها أقدام المفتين في عصرنا: الخضوع لضغط الواقع الماثل بما فيه من انحراف عن الإسلام، وتحد لأحكامه وتعاليمه. ومن المعلوم أن هذا الواقع إنما صنعه الاستعمار الغربي أيام سطوته وسيطرته على بلاد المسلمين ومُقَدَّرَاتِهم الثقافية والاجتماعية وغيرها، ثم استمر بل نما، على أيدي عملائه وتلامذته من بعده، ممن تَخَرَّجُوا على يديه، وصُنِعُوا على عينيه. ولا ريب أن كثيرًا من الناس، ممن يتصدون للحديث عن الإسلام وأحكامه يعانون هزيمة روحية أمام هذا الواقع، ويشعرون بالضعف البالغ أمام ضغطه القوي المتتابع. فلا عجب أن تأتي أحاديثهم وفتاويهم "تبريرًا" لهذا الواقع المنحرف، وتسويغًا لأباطيله، بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من برهان. 6 - تقليد الفكر الغربي: ومن الأسباب الجوهرية وراء انحراف كثير من الفتاوى في عصرنا: التقليد أو التبعية - وإن شئت قلت: العبودية - للفكر الغربي، وللمدنية الغربية. إن نفرًا من الناس يعانون ما يسمونه " عقدة النقص " تجاه الغرب وحضارته وفكره، ويعتبرون الغرب إماما يجب أن يتبع، ومثالاً يجب أن يحتذى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب، اعتبروا ذلك عيبًا في حضارتنا، ونقصًا في شريعتنا، ما عليه الغرب إذن هو الصواب، وما يخالفه هو الخطأ !، ويستدلون صواب الغرب: ما بلغه من إبداع مادي، وتقدم عمراني، وتفوق علمي، سخر به قوى الطبيعة، وجعل الإنسان يغزو الفضاء، ويضع أقدامه على سطح القمر. ونحن لسنا ملزمين أن نبيح الفائدة الربوية، أو نحل الخمور والميسر، لأن الغرب يحلها. وليس علينا أن نمنع الطلاق وتعدد الزوجات لمجرد أن الغرب يمنعها. وليس من واجبنا أن نسوي بين الذكر والأنثى في كل شيء وقد خالفت بينهما فطرة الله، لأن الغرب هذه فلسفته. 7 - الجمود على الفتاوى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة: ومن مزالق الفتوى: الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر. من ذلك ما يذكره بعض أهل الفتوى مما نصت عليه كتب الفقه: أن حليق اللحية لا تقبل شهادته، ومهما يكن رأينا في حلق اللحية وتأثيم فاعلها - وهو أمر اختلف فيه المعاصرون - فنحن لا نستطيع رد شهادة الحليق، لعموم البلوى به، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والرخص كما هو معلوم. ولو أخذنا بالرأي المدون في الكتب لأوشكنا أن نعطل المحاكم في أداء وظيفتها في الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس بالعدل، فقد الفقهاء أن الأكل في الطريق يسقط المروءة، وبالتالي يسقط الشهادة. ومن ذلك ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في مختلف المذاهب المتبوعة من منع المرأة من الذهاب إلى المسجد للصلاة وبخاصة الشابة، سدًا للذريعة، وخوفًا من الفتنة: أي خشية أن تَفْتِنَ أو تُفتن، فمثل هذا إذا كان له ما يبرره في العصور الماضية لم يعد له ما يبرره اليوم، فقد خرجت المرأة بالفعل إلى المدرسة، وإلى الجامعة وإلى العمل وإلى السوق وإلى غيرها، فلا يجوز أن يبقى المسجد وحده هو المكان المحظور عليها، في حين أن الحديث الصحيح يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)([6]). ولاسيما أن المرأة لا تستفيد من المسجد الصلاة فقط، بل تستفيد معها حضور المواعظ والدروس الدينية، وتتعرف على غيرها من صالحات النساء، فيتعارفن على الخير، ويتعاونَّ على البر والتقوى. ولهذا يجب أن يلاحظ المفتي في فتواه الظروف الشخصية للمستفتي - نفسية واجتماعية - والظروف العامة للعصر والبيئة. فرب فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى. يقول الإمام القرافي:" إن استمرار الأحكام التي تدركها العوائد، مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد "([7])، ونلاحظ هنا أن كلام القرافي في الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا تلك التي مستندها النصوص المحكمات. ويعود القرافي إلى هذا الموضوع مرة أخرى فيؤكد أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان، ويقول: " فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح . والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"([8]). أما عند الحنفية، فنجد مجموعة كبيرة من الأحكام الاجتهادية التي قال بها المتقدمون أعرض عنها المتأخرون، وأفتوا بما يخالفها لتغير العرف، نتيجة لفساد الزمن أو لتغير المجتمع، أو لغير ذلك. ولا غرابة في هذا، فإن أئمة المذهب أنفسهم - أبا حنيفة وأصحابه - قد فعلوا ذلك. ذكر السرخسي: أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع، من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول. ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: هو اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، ولحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن إحكام ([9]). منهج معاصر للفتوى بعد أن عرضنا لأهم المزالق التي تزل فيها أقدام الذين يتصدون للفتوى في هذا العصر، الذي تكاثرت مشكلاته، واضطربت معاييره، حتى اختلط فيه الحابل بالنابل، يحسن بنا أن نعرض هنا لمنهج عملي معاصر، عله يكون مفتاح العمل وضياء النور في مسيرة المفتين: أولاً: التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد الأعمى لزيد أو عمرو من المتقدمين أو المتأخرين، فقد قيل: لا يقلد إلا عصبي أو غبي. هذا هو التوقير الكامل لأئمتنا وفقهائنا، فعدم تقليدهم ليس حطًا من شأنهم، بل سيرًا على نهجهم، وتنفيذاً لوصاياهم بأن لا نقلدهم، ولا نقلد غيرهم، ونأخذ من حيث أخذوا، كما أن عدم تقليدهم لا يعني الإعراض عن فقههم وتراثهم، بل ينبغي الرجوع إليه والاستفادة منه بمختلف مدارسه، دون تحيز ولا تعصب. وهذا الموقف لا يتطلب من العالم المسلم المستقل في فهمه أن يكون قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق كالأئمة الأولين، وإن كان هذا غير ممنوع شرعًا ولا قدرًا، ولكن حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور: ( أ ) ألا يلتزم رأيًا في قضية بدون دليل قوي، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيًا معيناً، لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ولا يسمى العلم علماً إذا كان ناشئًا من غير دليل. ( ب ) أن يكون قادرًا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل، ليختار منها ما كان الأصح بنصوص الشرع، والأقرب إلى مقاصده، والأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق. وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة. ( ج ) أن يكون أهلاً للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل، وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين، بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية. ثانياً: تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير، وذلك لأمرين: الأول: أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرحت به السنة في مناسبات عديدة، يقول تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) [المائدة: 6]، ويقول سبحانه: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر) [البقرة: 185]، وآيات غيرها. والنبي e يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، ويقول: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"، ويقول: " إنما بعثت بحنيفية سمحة". ويوجه أصحاب هذه النـزعة إلى التوسط والاعتدال، حتى لا يطغى حق على حق، ولهذا قال لبعضهم: "إن لبدنك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه". والأمر الثاني: طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، وكيف طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغويات بالشر، والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود، وهي تيارات تحركها وتغذيها قوى ضخمة، تمدها بالتمويل والتخطيط والتوجيه، وتسهل لمن اتبعها طريق الشهوات، وربما طريق الوصول إلى المناصب والدرجات!. والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، فقلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه. ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا، وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة، ترغيبًا في الدين، وتثبيتًا لأقدامه على طريقه القويم، وقد نقل الإمام النووي في مقدمات " المجموع " كلمة حكيمة للإمام الكبير - إمام الفقه والحديث والورع - سفيان الثوري، قال فيها: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!". وهكذا كان علماء السلف: إذا شددوا فعلى أنفسهم، أما على الناس فييسرون ويخففون. ولقد وصفوا الإمام المزني صاحب الشافعي في معرض الثناء عليه. بأنه " كان أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس. إننا أحوج ما نكون إلى التوسعة على الناس، أن نيسر في الفروع، على حين نشدد في الأصول. والتيسير الذي نعنيه، هو الذي لا يصادم نصًا ثابتًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام. وعلى العموم: إذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أحوط، والثاني أيسر، فإنه ينبغي إيثار الإفتاء بالأيسر، اقتداء بالنبي e الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. أما الأحوط فيمكن أن يأخذ به المفتي في خاصة نفسه، أو يفتي به أهل العزائم والحريصين على الاحتياط، ما لم يخش عليهم الجنوح إلى الغلو. ثالثا: أن يخاطب الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبًا وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخيًا السهولة والدقة. وقد جاء عن الإمام علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟!". وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ولكل عصر لسان أو لغة تميزه، وتعبر عن وجهته، فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها. ولغة عصرنا تتطلب عدة أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها: ( أ ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات، فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن، الذي تحدى الله به. ولم يتحد بالخوارق، مع وقوعها للنبي e ولم تعرف البشرية ديناً يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام. ( ب )أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات بالأساليب، فالناس ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والفكر، فمنهم الأستاذ الكبير، ومنهم الطالب الصغير، ومنهم التاجر، ومنهم العامل، وكلهم يجب أن يفهم ويعي، وإفهام المستويات المتفاوتة أمر صعب. ( ج ) أن يذكر الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام، وذلك لأمرين: الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة، فالقرآن حين يفتي في المحيض - وقد سألوا عنه - يقول: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم علة الحكم - وهو الأذى - مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال. حتى العبادات الشعائرية يأمر بها القرآن مقرونة بعلل وأحكام تقبلها الفطر السليمة، والعقول الرشيدة، ففي الصلاة يقول: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وفي الصيام يقول: (لعلكم تتقون)، وفي الزكاة: (تطهرهم وتزكيهم بها)، وفي الحج: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات). وأما في السنة، فإن من تأمل فتاوى النبي e رآها مشتملة على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته. من هذا: قوله لعمر حين جاءه منـزعجًا، إذ قبل امرأته وهو صائم، فقال له: أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان يضر شيئًا ؟ قال: لا فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون دائما محظورة، فإن غاية القبلة أن تكون مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه، وليست المقدمة محرمة. ومن هذا قوله e: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على ابنة أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " فذكر لهم الحكم، ونبههم على حكمة التحريم، وهو ما يترتب عليه من قطع ما أمر الله به أن يوصل نتيجة الاحتكاك الضروري بين الضرائر. الثاني: أن الشاكين والمشككين في عصرنا كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبيدات المحضة. رابعاً: الإعراض عما لا ينفع الناس: ومن القواعد التي ينبغي للمفتي المعاصر التزامها: ألا يشغل نفسه ولا جمهوره إلا بما ينفع الناس، ويحتاجون إليه في واقع حياتهم. أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، أو إثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك، فينبغي أن نضرب عنها صفحًا، ولا نلقى لها بالاً، لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع. ومما قاله في ذلك الإمام شهاب الدين القرافي: " ينبغي للمفتي إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله e، أو فيما يتعلق بالربوبية، يسأل فيها عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجلف، أو يسأل عن المعضلات، ودقائق الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له، فلا يجيبه أصلاً، ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخض فيما عساه يهلكك، لعدم استعدادك له. وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه بما يصل إليه عقله. فهداية الخلق فرض على من سئل. قال: والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة، فإن اللسان يُفهِم ما لا يُفهِم القلم، لأنه حي، والقلم موات. فإن الخلق عباد الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعياله، ولا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد([10]). خامساً: الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين: ومن خصائص المنهج: التزام روح التوسط دائمًا، والاعتدال بين التفريط والإفراط، بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، وبين الذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسًا منهم لكل قديم. التفريط: أما الأولون فهم لا يريدون أن يبقى شيء على حاله، ولا يستمر وضع كما كان وأن يغيروا كل شيء، بحجة أن العالم يتطور، والحياة تتغير، وهم الذين سخر منهم بعض الأدباء بأنهم يريدون أن يغيروا الدين واللغة والشمس والقمر !. الربا كان حرامًا في الزمن الماضي لأن آخذ الربا - المرابي - كان هو القوي الغني، ومعطي الربا كان هو الضعيف المحتاج، أما الآن، فآخذ الربا هو العامل أو الموظف الضعيف الذي يدخر من دخله دراهم معدودة يودعها في البنك، ليأخذ عليها فائدة محددة، والبنك الذي يعطيه الفائدة هو الغني القوي، الذي يربح من وراء إيداع الكثير، وإذن يقضي التطور بتبديل الحكم في الربا الذي اعتبره القرآن والسنة من أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، وآذن القرآن فاعله بحرب من الله ورسوله !!. وهذا أمر لا يسيغه عقل، ولا يسمح به نقل: أن ينتقل فعل تكليفي ما من دائرة المحرمات المنصوصة، بل الكبائر المعلومة، إلى دائرة المباحات المشروعة !. أما المقدمات التي استند إليها هؤلاء التطوريون فغير مسلَّمة، وقائمة على المغالطات فمن أين لهم أن علة تحريم الربا تنحصر فيما ذكروه وصوروه ؟. إن تحريم الربا له أكثر من وجه، وأكثر من علة، بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها سياسي، وبعضها أخلاقي، وقد شرح ذلك أهل الاختصاص في كتب ورسائل وبحوث شتى، ينبغي لكل معنيٍّ بالموضوع الرجوع إليها، وتصوير آخذ الربا من البنك بأنه الضعيف المستفيد، ليس تصويرًا صحيحًا على إطلاقه، فكم من أصحاب ملايين، يودعون في البنوك أموالهم لعدة سنين، فيأخذون فوائد أكبر، لأن المبالغ كلما كبرت، ومدة الإيداع كلما طالت، كانت الفائدة أكثر، أما الضعيف المحتاج، فلا يودع – إن أودع – إلا مبالغ تافهة، وفائدته عليها أقل، واستفادة البنك منه أكبر، وهو لا يأخذ من البنك المستغل إلا الفتات من الربح العريض، فتصوير هذا بأنه هو المستفيد تصوير غير عادل. المتزمتون في الفتوى: نجد آخرين يريدون أن يحرموا على الناس كل شيء، فأقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة " حرام " دون مراعاة لخطورة الكلمة، ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سندًا للتحريم. فعمل المرأة حرام، والغناء حرام، والموسيقى حرام، والتمثيل حرام، والتليفزيون حرام، والسينما حرام، والتصوير كله حرام، والشركات المساهمة حرام، والجمعيات التعاونية حرام !، والحياة كلها اليوم حرام في حرام. هذا مع تحذير القرآن والسنة والسلف الصالح من إطلاق كلمة " الحرام " إلا ما علم تحريمه جزما من كتاب الله وسنة رسوله e، يقول الله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالاً، قل: آلله أذن لكم أم على الله تفترون ؟)، ويقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون). وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنـزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"([11]). سادساً: إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح: جرت العادة أن يتبع المفتون طريقة بعض العلماء قديما وحديثًا في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز، وهذا حلال وهذا حرام، أو حق وباطل، طلبًا للاختصار، وعدولاً عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف، وإلا لصار المفتي مدرسًا. ولكن الحق أن المسؤول عن حكم شرعي عند إجابته السائلين ينبغي أن يكون مفتيًا، ومعلمًا، ومصلحًا، وطبيبًا، ومرشدًا. وهذا يقتضي تفصيل بعض الإجابات وتوسيعها شرحًا وتحليلاً، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علمًا، والمؤمن إيماناً. وهنا أورد بعض الملاحظات: ( أ ) مما ينبغي للمفتي: التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولا لدى السائلين وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه([12]) (ب) من الفتاوى ما يحرِّم على المستفتي أمرًا كان يظن إباحته، أو يريده ويتمناه لحاجة إليه، أو تعلقه به، فينبغي هنا أن يدله على البديل الحلال، ما دمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام. وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه. فمن سأل عن إيداع المال في المصارف بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون وهو ما تقوم به الآن المصارف الإسلامية. ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك، بيَّنا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف. ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بينا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة الأيام البي< |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |