جوانب من عظمة شخصية رسول الإسلام (محمد ) عليه الصلاة والسلام |
|||||||||||||||||||||
في الحديث عن الرجال لا يكون حيث الشكل والمظهر، بل هو حديث السلوك والعمل والجوهر. وترتقي الشخصيات برفعة الأفعال، وسمو الأخلاق، وتتجلى عظمة شخصية الرسول العربي محمد في قلبه الطاهر صفاء، وقوة عقله نقاء، حيث كان فائق الذكاء، دقيق الفهم. فهو رؤوف بالمؤمنين بالله، قال تعالى: ] لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [[التوبة: 128]. وهو رحيم بالمسلمين وبكل الناس أجمعين، قال تعالى: ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [[الأنبياء: 107]. تقول زوجته السيدة عائشة: كان رسول الله e إذا خلا في بيته ألين الناس؛ بساماً ضحاكاً([1]). وفي إحدى سفراته، أمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله:علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال الثالث: علي طبخها، فقال رسول الله:( وعليَّ جمع الحطب) فقالوا يا رسول الله نكفيك العمل، فقال:( علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، وإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه) ([2]). عُرِف الرسول الحكيم: بالعقل الراجح، والكمال المطلق، والقول الصائب، والفعل الكامل، والصدق في القول، والأمانة في الفعل، ولما بلغ ملك عمان أن رسول الله e يدعوه إلى الإسلام قال: (والله، لقد دلني على هذا النبي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ـ عامل به ـ ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يفجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد). لذا كان تأثيره قوياً في كل مَن اتصل به، حيث عرف بالبلاغة المؤثرة، والحجة الواضحة. جمع كل خير وفضيلة، وابتعد عن كل شر ورذيلة، جمع الله له أجمل صفات الأنبياء والمرسلين؛ فهو يشبه موسى في شجاعته، وهارون في شفقته، وأيوب في صبره، وداود في إقدامه، وسليمان في عظمته وحكمته، ويحيى في بساطته، وعيسى في رحمته. روى البخاري عن أنس أن النبي r مر عليه جنازة فقام لها واقفا، فقيل له يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال r: أو ليست نفساً، وظهرت عظمته في تمسكه بالمثل العليا طول حياته، عاش حياته مثلاً سامياً في الصدق والأمانة، حتى لقَّبه أعدائه (الصادق الأمين)، والحلم والعطف على الضعيف، وحب الحق واتباعه، والمحافظة على كل خلق نبيل وفكر سديد. احترمه كل مَن عرفه، ووقره كل من اتصل به، وأحبه كل من تعرف عليه. منحه الله عقلاً كاملاً، وهناً حاضراً، ورأياً سديداً، ونظراً بعيداً، وتدبيراً حسناً، وعرف بالذكاء النادر وصدق الفراسة، وبعد النظر للعواقب، وحسن التدبير. واشتهر بكمال الأخلاق، ومحاسن الشمائل، حيث عرف بالحلم عند المقدرة، وفي أثر رواهُ البخاري عن عبد الله بن عمروُ بن العاص رضي الله عنهما أنه كان يقرأ العبرية وقرأ فيما قرأ من وصف رسول الله r في التوراة: (أنه لا يقابل السيئة بالسيئة، ولكنه يعفو ويصفح)، ويتحمل الصبر على احتمال الشدائد. وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه. لا يبارى في الجود و الكرم و السخاء, يقول واصف: كان رسول الله r أجود الناس، وأجود ما يكون بالخير في رمضان، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة. ولا يجارى في الشهامة و النجدة والشجاعة, ولا يقارب في الحياء وحسن العشرة والشفقة والرحمة, ولم يكن له مثيل في صلة الرحم, والوفاء بالعهد, ولعدل والإنصاف, بلغ في المكارم أعلى ذراها , ووصل في المحاسن إلى منتهاها. عرف بنبل الأخلاق, وجمل الصفات والاعتدال في المعاملات, والإيثار بما في يده, واشتهر بالبشاشة عند اللقاء, ونكران الذات, والبساطة في المعيشة. دافع عن الحق, وعن المظلومين, وتعاطف مع الفقراء والمساكين وعمل على تحسين أحوالهم, وأعطى الأرامل واليتامى جل اهتمامه بهم وسع الناس حتى صاروا عنده في الحق سواء متقاربين, وقر الكبير واحترمه , وعطف على الصغير ورحمه , وساعد المحتاج وأعانه , وكان بعيداً عن الفضول, لا يتدخل في ما لا يعنيه, وقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". لم يذل أحداً , ولم يبحث عن عيوب إنسان , ولم يعيّر مخلوقاً بل قال:"الخلق كلهم عيال الله , و أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ". من أخلاقه: زيارة المرضى , تفقد الأصدقاء و الأصحاب و السؤال عن أحوالهم , و يواسي الرحى و حسن إليهم و يكرمهم. الحبيب في الممازحة وهديه صلى الله عليه وسلم خير هدي، وفعله صلى الله عليه وسلم خير فعل، حتى في مزاحه ترك لنا أثره الطيب، نقتفيه ونقتدي به، وهنا يأتي السؤال: كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في الممازحة؟ هل كان يضاحك ويمازح؟ هل كان يداعب ويلاعب أو يبتسم ويمازح؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يربي بالضحكة، ويهذب بالابتسامة، ويُقوّم بالمزحة، ويدعو بالطرفة، فلضحكاته منافع، ولابتساماته مقاصد، ومن ممازحته عِبر، ولطُرَفه حِكَم وعظات. فهذا علي رضي الله عنه حين دب خلاف بينه وبين فاطمة -رضي الله عنهما- يصالحه النبي صلى الله عليه وسلم بالمزاح، يحكي لنا سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل (وقت القيلولة) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب".(1) فكان أبو تراب أحب الألفاظ إلى علي رضي الله عنه . وهذا أسيد بن حضير يمازحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدِّث القوم ويضحكهم فيطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه في خاصرته، فقال: أوجعتني، فقال: أصبرني(2). قال: اصطبر، قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه(3). قال: إنما أردت هذا يا رسول الله"(4). وعن عبد الحميد بن صيفي من ولد صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة وهو يأكل تمرا، فأقبلت آكل من التمر وبعيني رمد فقال: أتأكل التمر وبك رمد؟ فقلت: إنما آكل على شقي الصحيح ليس به رمد، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم "(5). ولما علم عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف من المزاح، ولا يغضب منه، بدأ رسول الله بالمزاح، يقول عوف: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قُبة من أُدمٍ، فسلمت، فردّ وقال: "ادخل". فقلت: أكلِّي يا رسول الله؟ قال: "كلك"، فدخلت(6). وإنما مزح عوف بن مالك بقوله: أكلِّي يا رسول الله؟ لأن القبة كانت صغيرة. ولما رأى النبي رجلا ذا بشرة حمراء مازحه قائلا: أنت أبو الورد، يقول أبو الورد قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآني رجلا أحمر، فقال: "أنت أبو الورد"(7). ومنهم رجل اسمه زاهر، يقول أنس رضي الله عنه : إن رجلا من أهل البادية يقال له زاهر بن حرام، كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت إليه فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدا، قال: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال صلى الله عليه وسلم : بل أنت عند الله غالٍ"(8). المصطفى يمازح النساء والأطفال وكما رأيناه صلى الله عليه وسلم يمازح الرجال رأيناه يمازح النساء، وهذا من باب اهتمامه ورفقه بهن صلى الله عليه وسلم . انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يلاطف عائشة -رضي الله عنها- ويمازحها، وهو يسابقها مرتين فتسبقه في الأولى ويسبقها في الثانية، فيقول لها: هذه بتلك، والحديث عن عائشة قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت؛ خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك "(9). وانظر إليه وهو يمكنها من النظر إلى أهل الحبشة يلعبون بحرابهم، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين كتفه اليسرى وعينيه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو"(10). ومن مداعبته صلى الله عليه وسلم مع النساء، ما حكت عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن الجنة لا يدخلها عجوز، فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن ذلك كذلك؛ إن الله إذا أدخلهن الجنة حوّلهن أبكارا"(11). وتأتيه أخرى فتقول: يا رسول الله، إن زوجي يدعوك، فيقول: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض؟ قالت: والله ما بعينه بياض، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إن بعينه بياضا، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا بعينه بياض"(12). وما كانت مداعبته صلى الله عليه وسلم ولا مزاحه للكبار دون الصغار، إنما هو للصغير كما هو للكبير، وللنساء كما هو للرجال. يقول أنس رضي الله عنه : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير"(13). ويداعب أنسا رضي الله عنه ويقول له: "يا ذا الأذنين"(14). ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم أنسا رضي الله عنه يوما.. ولنترك أنسا رضي الله عنه يقص علينا الخبر: يقول أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: يا أنيس، ذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم "(15). ويُخرج لسانه للحسن والحسين صغارا مداعبا إياهما رضي الله عنهما، ويطأ ظهره لولديه الحسن والحسين ليركبا، ويدخل عليه أحد أصحابه فيقول: "نعم المركب ركبتما، فيقول: ونعم الفارسان هما"(16). وفي رواية عند الطبراني: عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان، وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بكفيه جميعا، حسنا أو حسينا، وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول: حُزُقَّة حُزُقَّة ارَقَّ عين بَقَّة، فيرقى الغلام حتى يضع قدمه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له: افتح فاك، قال: ثم قبله، ثم قال: اللهم أحبه، فإني أحبه(17). وتأمل حاله صلى الله عليه وسلم وهو يرى الحسن يصارع الحسين، فيجلس ويشاهد ويشجع.. عن جابر عن أبي جعفر قال: اصطرع الحسن والحسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو حسين، فقالت فاطمة: كأنه أحب إليك؟ قال: لا، ولكن جبريل يقول هو حسين".(18) وهذا عبد الله بن الحارث يقص علينا مشهدا عجيبا فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله، وكثيرا بني العباس ثم يقول: "من سبق إليّ فله كذا وكذا"، قال: فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم (19). وها هو صلى الله عليه وسلم يمازح يتيمة كانت عند أم سلمة، لكنها لا تفهم مقصوده صلى الله عليه وسلم فتحزن، ومن ذلك حديث أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم -وهي أم أنس- يتيمة، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليتيمة، فقال: آنت هيه؟ لقد كبرت لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا عليَّ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يكبر سني أبدا، أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم متعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا تكبر سنها، أو أن لا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين شرطي على ربي؟ إني اشترطت على ربي فقلت: "إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها طهورا وزكاة وقربة يقربه بها يوم القيامة"(20). منهج نبوي في المزاح إن العبادة الدائمة أو الذكر المتواصل أمل تهفو إليه النفوس الكبار، وتحوم حوله همم العظام، بيد أن النفس البشرية جبلت على الملل إن استمرت على أمر ثابت أو عمل متواصل، حتى ولو كان عبادة الله عز وجل، وفي الحديث: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى(21) تملوا"(22). والمتأمل للأحاديث السابقة والمواقف المتقدمة يدرك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المداعبة والمزاح والترويح عن النفس حتى لا تمل، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم صراحة للصديق رضي الله عنه حين دخل الصديق يوم العيد فوجد جاريتين تغنيان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فانتهرهما، فقال صلى الله عليه وسلم : دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام العيد"(23). وفي رواية: "حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة"(24). والذي يظهر من هذا كله: أن المزاح ليس محرما شرعا، ولا ممنوعا عُرْفا، وكذلك الضحك؛ إنما الممنوع الإكثار الذي تضيع معه الحقوق، ويُخرج به من الصدق إلى الكذب، ولله در أنس حين وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كان رسول الله من أفكه الناس"(25). ولذا قال صلى الله عليه وسلم : "لا تكثر من الضحك" فقد منع من الإكثار، ولم يمنع أصل الضحك؛ بل هو في حديث أبي ذر المتقدم قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا"، فهو صلى الله عليه وسلم لم يمنع الضحك، إنما دعا إلى التقليل منه. لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا عن الفطر السوية في فعل من أفعاله، أو قول من أقواله، ولقد صدق الأعرابي حين سئل عن سبب إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أمر بشيء واستقبحه العقل، ولا نهى عن شيء واستحسنه العقل. ويحاول البعض أن يمنع الضحك بحجة هموم الدعوة، وهم الدين، بيد أن هذه حجة واهية، فلم يكن هناك، ولن يكون، من هو أكثر اهتماما بالدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس هناك من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد كان -بأبي هو وأمي- إماما للناس، ومعلما للخلق، ومفقها للدين، وحاكما بين الناس، وقاضيا بينهم، ومجيشا للجيوش، وباعثا للسرايا، كما كان أبا رحيما، وزوجا بارا، وأخًا ودودًا، وصديقًا وفيًّا، ومع هذا كله فقد كان صلى الله عليه وسلم ضحاكًا بسامًا، وتؤكد ذلك السيدة عائشة فتقول حين سألتها عمرة قالت: سألت عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في البيت؟ قالت: ألين الناس، بساما ضحاكا"(26). وفي رواية عند الترمذي في العلل: عن عائشة أنها سئلت كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس، كان رجلا من رجالكم، إلا أنه كان ضحّاكًا بسّامًا". ويقول أبو أمامة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك الناس، وأطيبهم نفسا"(27). وقد يظهر التعارض بين الأحاديث فيزيله قول الإمام السيوطي: "كان من أضحك الناس" لا ينافيه خبر "أنه كان لا يضحك إلا تبسما"؛ لأن التبسم كان أغلب أحواله، فمن أخبر به أخبر عن أكثر أحواله، ولم يعرج على ذلك لندوره، أو كل راوٍ روى بحسب ما شاهد، فالاختلاف باختلاف المواطن والأزمان، وقد يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتى تبدو نواجذه، وكان أخرى لا يضحك إلا تبسما(28). بل لقد كانت بعض المواقف تأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل المآخذ حتى يضحك ويستعلي به الضحك -ولكن ذلك على سبيل الندرة- فعن أبي أمامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه: هل أصبح أحد منكم اليوم صائمًا؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنا يا رسول الله، ثم قال: هل عاد أحد منكم اليوم مريضا؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنا يا رسول الله، ثم قال: هل تصدق أحد منكم اليوم صدقة؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنا يا رسول الله؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استعلى به الضحك، ثم قال: والذي نفسي بيده، ما جمعهن في يوم واحد إلا مؤمن، وإلا دخل بهن الجنة"(29). ولربما ضحك صلى الله عليه وسلم من حدث عامًا كاملا؛ فعن أم سلمة أن أبا بكر خرج تاجرًا إلى بصرى ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فجاءه نعيمان فقال: أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر، وكان نعيمان رجلا مضحاكًا مزاحًا، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى أناس جلبوا ظهرا(30)، فقال: ابتاعوا(31) مني غلامًا عربيا فارهًا، وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوا عليَّ غلامي، فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص(32)، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال للقوم: دونكم هو هذا. فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك، قال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر. فقالوا: قد أخبرنا خبرك، وطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به، فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه، فضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا"(33). بيد أن هذا لم يكن هو الحال الدائم أو الصفة الملازمة، وهذا ما يؤكده حديث جابر حيث قال: "كان لا ينبعث في الضحك"(34). وكان لا ينبعث في الضحك أي لا يسترسل فيه. ولله در صاحب كتاب "تأويل مختلف الحديث" حين قال: "فلو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح صلى الله عليه وسلم ليمزحوا، ووقف على أصحاب الدركلة(35) وهم يلعبون فقال: "خذوا يا بني أرفدة؛ ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة"(36). يريد ما يكون في العرسات لإعلان النكاح، وفي المآدب لإظهار السرور.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي. وكان الحلم والاحتمال، والعفو عند المقدرة، والصبر على المكاره، صفاتٌ أدبه الله بها، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هَفْوَة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثرة الأذي إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، وقالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم رضاً. وكان من صفة الجود والكرم على مالا يقادر قدره، كان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وقال جابر: ما سئل شيئاً قط فقال: لا. وكان من الشجاعة والنجدة والبأس بالمكان الذي لا يجهل، كان أشجع الناس، حضر المواقف الصعبة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فَرَّة، وحفظت عنه جولة سواه، قال علي: كنا إذا حمي البأس واحمرت الحَدَقُ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَلَ الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، في عنقه السيف، وهو يقول: (لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا). وكان أشد الناس حياء وإغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهة. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يشافه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يقول. (ما بال أقوام يصنعون كذا). وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــلا يكلـم إلا حيـن يبتسـم وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه، وكان يسمي قبل نبوته الأمين، ويُتَحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام، روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. وسأل هرقل أبا سفيان، هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وكان أشد الناس تواضعاً، وأبعدهم عن الكبر، يمنع عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس في أصحابه كأحدهم، قالت عائشة: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل بيده كما يعمل أحدكم في بيته، وكان بشراً من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وكان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره. كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: على ذبحها، وقال آخر: على سلخها، وقال آخر على طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وعلي جمع الحطب)، فقالوا: نحن نكفيك. فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه)، وقام وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال هند فيما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره. يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن ـ لا يميز لنفسه مكاناً ـ إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم ـ لا تخشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب. كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه. قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ. وقال خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلا لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء به. وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير، أدبه ربه فأحسن تأديبه، حتى خاطبه مثنياً عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وكانت هذه الخلال مما قرب إليه النفوس، وحببه إلى القلوب، وصيره قائداً تهوي إليه الأفئدة، وألان من شكيمة قومه بعد الإباء، حتى دخلوا في دين الله أفواجاً. وهذه الخلال التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته، أما حقيقة ما كان عليه من الأمجاد والشمائل فأمر لا يدرك كنهه، ولا يسبر غوره، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال، استضاء بنور ربه، حتى صار خلقه القرآن؟ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حَميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد. من أسرار عظمة الرسول (ص) ورسالته - د. جليل كمال الدين
|