الاجتهاد في الفقه؛ ضرورته المعاصرة، وآفاقه المستقبلية |
||||||||||||||||||||||||||||||||
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعد: فإني سأقسم الموضوع إلى ثلاثة محاور: 1- الاجتهاد في الفقه؛ أهميته، تاريخه. 2- الضرورة المعاصرة للاجتهاد. 3- الآفاق المستقبلية للاجتهاد. المحور الأول: الاجتهاد في الفقه: لاشك بأن الفقه في الإسلام والاجتهاد له أهمية خاصة، تظهر هذه الأهمية في نقطتين: النقطة الأولى: إن الاجتهاد في الفقه من خصوصيات الأمة الإسلامية، فالعقيدة واحدة في كل الشرائع والديانات السماوية، غير أن الأحكام التفصيلية والشرائع مختلفة بين نبي ونبي، حتى إذا جاء خاتم الأنبياء e وبَيَّنَ القرآن أنه نبي وخاتم النبيين، وكان لابد أن يظهر في هذا التشريع الاجتهاد، فالاجتهاد ضرورة وحاجة من حاجات ومستلزمات الأمة الإسلامية والتشريع الإسلامي. النقطة الثانية: تظهر أهمية الاجتهاد في تحقيق التوازن بين الجهاد والاجتهاد. إذ غاية الجهاد الإسلامي إيصال نور الحق، وضياء الهداية إلى الآفاق. مما يستوجب وجود فقهاء مجتهدين، لدراسة الوقائع والحوادث المستجدة لدى الشعوب الداخلة في دين الله. أيها السادة الحضور: في حديثنا عن الاجتهاد نلحظ أن الشريعة الإسلامية كلية، شاملة، إجمالية، عامة، مطلقة، تامة، محكمة، وكُلُّ ذلك في القواعد. أما التفاصيل والجزئيات فأمرها متروك للمجتهدين في كل زمان ومكان. وأول المجتهدين ورائدهم رسول الله e، فقد اجتهد وأذن لأصحابه بالاجتهاد، وعلّم أمته أسلوب القياس والاستنباط. تاريخ الاجتهاد: ثبت أن رسول الله e كان مأذوناً بالاجتهاد، وأنه وقع منه، وأنه أذن فيه لأصحابه، وأنه أقرهم على ما اجتهدوا فيه، وأحياناً نبههم إلى الصواب. فمن اجتهاداته: الاستشارات المتكررة في أكثر من موضع ، ويدلنا على هذا قوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"([1]). وقوله: "يا عائشة ! لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزمته بالأرض"([2])، كما استخدم القياس، إذ جاءته امرأة، وقالت: يا رسول الله! إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يجزىء عنها؟" قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق أن يُقضى"([3]). وقد كان اجتهاده e مؤيداً بالوحي السماوي، مراقباً من قِبل الله، يُقَرُّ على الصواب، وينبه إلى الأكمل والأفضل في بعض الأحيان. إذنه e للصحابة بالاجتهاد: - لما بعث معاذاً إلى اليمن، يعلمهم ويقضي، قال: "كيف تصنع إن عرض لك القضاء"؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟"، قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو [لا أقصّر]. فقال e: "الحمد لله وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله"([4]). ومن اجتهادات الصحابة: خرج صحابيان في سفر، فحضرت الصلاة، ولم يكن معهما ماء، فتيمما، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت نفسه، فأعاد أحدهما، ولم يُعد الآخر، فقال e للذي لم يعد الصلاة: "أصبت السنة"، وقال للذي أعاد: "لك الأجر مرتين"([5]). واجتهد الصحابة بعد عهد رسول الله e، وساروا على المنهج الذي رسمه لهم خاتم النبيين، فهذا أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهم الشريعة روحاً ومضموناً، لا حرفاً ونصاً فحسب، فاجتهد في قضية المؤلفة قلوبهم، فقد حرمهم من الزكاة رغم أن النص القرآني يذكرهم في عداد مصارف الزكاة. وكذلك اجتهد - عام المجاعة - ولم يقطع يد السارق في تلك السنة، وذلك لأن يد السارق لا تُقطع إلا إذا وجد مقتضى القطع. وهكذا سار فحول العلماء، وكبار الفقهاء، والسادة التابعون على نهج الصحابة، في الاستنباط والاجتهاد، والقياس، ومحاولة التوفيق بين نصوص الشريعة والنوازل الواقعة والحوادث المستجدة. وقد بذل الصحابة والتابعون جهودهم في استخراج الأحكام للمسائل الجديدة، وبيّنوا طرائق الاستنباط من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ورسموا لذلك خططاً انتهجها من جاء بعدهم من الفقهاء. ومرت فترة من الزمن بلغ النشاط العلمي أشده، وظهر كثير من المجتهدين، ودُوِّنت الأحكام، ووُضعت الأصول والقواعد. ثم أخذ الفتور سبيله إلى نفوس بعض العلماء، حتى فشا التقليد وشمل العامة والخاصة، وتناسوا قضية الاجتهاد، وشددوا في شروط المجتهد، حتى نادى بعضهم بانسداد باب الاجتهاد. ولم ينج مع هذا سوى القلة النادرة من المصلحين المجددين، الذين اعتمدوا على مقاصد الشريعة، وقواعدها العامة، وأدلتها الكلية الإجمالية. ونحن نتابع السير من هؤلاء المتفهمين لدينهم، الداعين لأهمية الاجتهاد. هذا وقد عقد ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) فصلاً مطولاً عن تغيير الفتوى واختلافها، وبين أن [الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، (أي: في الدنيا والآخرة) وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها]([6]). المحور الثاني للاجتهاد (ضرورته المعاصرة) في ظل حياتنا المتطورة مادياً، عن الأزمنة السابقة، ظهرت على الساحة العملية قضايا شغلت بال المسلمين. ولقد قام الغيورون على دين الله، بواجبهم الاجتهادي، وبهذا الصدد نذكر - على سبيل المثال، ونعتذر لسائر المجمعات الفقهية ومراكز الأبحاث الأخرى - عمل [مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومقره (جدة)] وما قام به من جهود وأبحاث ودراسات وصل في بعضها إلى اتخاذ قرارات. ونلفت النظر هنا إلى أن دراسة القضايا المستجدة يخضع لأحد طريقين: الطريق الأول: الاجتهاد الترجيحي (الانتقائي) (الاختياري) ويكون في (منطقة النصوص المحتملة). الطريق الثاني: الاجتهاد الإبداعي (الإنشائي) ويكون في (منطقة الفراغ التشريعي) أو (منطقة العفو) كما جاء في الحديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو...."([7]). وسنبدأ بالطريق الأول وهو: الاجتهاد الانتقائي: (منطقة النصوص المتشابهات) التي تتسع لأكثر من فهم، وأكثر من رأي، ويكون الاجتهاد هنا باختيار أحد الآراء المنقولة في كتب الفقه، ليصار إلى الإفتاء به، واعتماده؛ ترجيحاً له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى. وسبيل هذا النوع من الاجتهاد: الموازنة بين الأقوال، ومراجعة الأدلة، ليختار المجتهد في النهاية ما يراه أقوى حجة، وأرجح دليلاً، وأوفق لحياة الناس وأرفق بهم، وأقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها. ولقد اشتهر عن فقهاء الحنفية قولهم في الخلاف بين الإمام وصاحبيه [اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان]. وفي هذا الإطار يُلاحَظ أن مجمع الفقه الإسلامي قد درس بعض القضايا ضمن هذا النوع من الاجتهاد، وأصدر بذلك قراراته، ومن هذه المسائل: 1- توحيد بدايات الشهور القمرية: فقد قرر: إذا ثبتت الرؤية في بلد، وجب على المسلمين الالتزام بها، ولا عبرة باختلاف المطالع، وبخاصة إذا كانت البلاد على خط طول واحد. 2- دفن المسلمين في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة. 3- البيع بالتقسيط - تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال - يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً، وثمنه بالأقساط لمدة معلومة، ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. ¯ ومن المسائل التي ينبغي البحث فيها: مسألة الزكاة عموماً في ظل الأوضاع الاقتصادية المعاصرة. - زكاة العقارات والعمائر المؤجرة. - زكاة مباني المصانع الضخمة. - زكاة دخل أصحاب المهن الحرة؛ كالطبيب والمهندس والمحامي، الذين ينفقون إيرادهم ولا يبقى معهم ما يزيد عن حاجتهم الأصلية - بتصورهم – ما يبلغ نصاباً ليحسبوا له حولاً. - زكاة المزارع الخاصة والمنتزهات الشخصية، والبيوت الفخمة والسيارات الحديثة باهظة الثمن. كل هذا لا يزكي عنها المسلم الغني بحجة الاستخدام الشخصي، وذاك الفلاح المسكين الذي ربما ل ايكفيه المحصول لسداد احتياجاته، نقرأ عليه قول الله تعالى: ]وآتوا حقه يوم حصاده[([8])!!! الطريق الثاني: الاجتهاد الإنشائي: هو استنباط حكم في مسألة من المسائل، التي لم يقل به أحد من العلماء والفقهاء السابقين، سواء كانت المسألة قديمة أم جديدة. ومعنى هذا، أن الاجتهاد الإنشائي الإبداعي قد يشمل بعض المسائل القديمة، بحيث يظهر للمجتهد المعاصر فيها رأي جديد لم يُنقل عن علماء السلف، تبعاً للقاعدة الفقهية [لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغير الأزمان]. وفيما يلي استعراض لبعض المسائل الجديدة التي بحثها مجمع الفقه الإسلامي، واتخذ فيها قراره، ونستشف أن هذه القضايا، منها: - ما يخص التيارات المعاصرة. - ما يمس المسائل الاجتماعية وقضايا الأسرة. - ما يتصل بالأمور الاقتصادية وشؤون الاستثمارات الحديثة. أولاً: التيارات المعاصرة: - القاديانية والبهائية: قرر المَجْمَعُ أن ادعاءات ميرزا غلام أحمد والبهاء، إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة. ومنكر ذلك تنطبق عليه أحكام الكفر بإجماع المسلمين. ثانياً: قضايا الأسرة والمجتمع 1- التلقيح الصناعي: وفي هذه القضية أبدى المَجْمَع رأيه وفق الجدول التالي:
2- تنظيم النسل: قرر المجمع أنه: - لا يجوز إصدار قانون عام يحدّ من حرية الزوجين في الإنجاب. - يحرم استئصال القدرة على الإنجاب. - يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، بتشاور من الزوجين وتراض، وبشرط: آ- أن لا يترتب على ذلك ضرر. ب- أن تكون الوسيلة مشروعة. جـ- أن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. ثالثاً: المسائل الاقتصادية: 1- التأمين التجاري، ذو القسط الثابت عقدٌ فيه غرر مُفْسدٌ للعقد وهو حرام شرعاً. وكذلك التأمين على الحياة، فأنت لا تملك نفسك ولا روحك، فكيف تؤمّن على شيء لا تملكه، هذا حرام، والبديل عنه هو التأمين التعاوني، القائم على أساس التبرع والتعاون. 2- التعامل المصرفي الربوي (بفائدة) حرام. والبديل، هو: التعامل المصرفي الإسلامي، وهو جائز. 3- التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها قرر المجمّع: أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفَّر له بمال حلال. أما الاستقراض من المصرف العقاري أو - الإسكان - بفائدة فهو حرام. والبديل: - تقديم قروض حسنة من الدولة. - بناء مساكن من قبل الدولة ثم يتم بيعها بأقساط للراغبين بالشراء. - أن يتولى المستثمرون - أفراد أو شركات - بناء مساكن تباع بالأجل. هذا طرف مما بحثه علماء العصر، وفقهاء الأمة، ومازال أمامهم الكثير، راجين لهم مزيداً من التقدم والازدهار لمواكبة الحياة. المحور الثالث: الآفاق المستقبلية للاجتهاد: ألمح هذه الآفاق من خلال البيان التالي: ¯ إن القرارات الاجتهادية في مجمع الفقه، لا تؤتي ثمارها إذا لم تجتمع معها: - توعية شاملة للأمة، بغرس الإيمان في القلوب، توجيهاً ودعوة وإرشاداً، ليسهل عليهم تقبل الأحكام الشرعية، بصورتها الناصعة. - التزام القائمين على الأمر بأحكام التشريع الإلهي، فتدوين القرارت وتقنين الفقه، ودراسة القضايا المستجدة وبحث الأمور المهمة، لا يكفي وحده - السعي إلى تطهير وسائل الإعلام بكل أشكالها المقروءة والمرئية والمسموعة، وجعل الإعلام هادفاً إلى تحقيق العبودية لله - شكراً على نعمه لتدوم -. ويكون ذلك بملء الفراغ والمبادرة إلى استقطاب ساعات جديدة في البث التلفزيوني لنشر الخير والفضيلة، والتحرر من المبادئ الهدامة. ¯ إن اجتماع الفقهاء لاتخاذ قرار فقهي بشأن مسألة جديدة أمرٌ له أهميته الاستراتيجية، فهو يعطي فرصة لتكوين أجيال من المسلمين متصفة بثلاثة أشياء: آ- بعيدة عن التعصب والتقليد الأعمى. ب- متوحدة في المرجع الفقهي بعد أن توحدت في مجال العقيدة. جـ- متقاربة في التوجه الفكري. وهنا أثير بعض القضايا وهي: - الضرورة الملحّة لإيصال قرارات المجمع الفقهي إلى أكبر عدد من المفتين، والقضاة، وأساتذة الجامعات الإسلامية، وطلاب العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية عموماً. - الدعوة إلى تخصيص مادة في الجامعات الإسلامية والكليات المتخصصة لتدريس قرارات مجمع الفقه الإسلامي، كل قرار في مكانه من الكتب الفقهية المقررة. - الانتقال في مناقشة القضايا الفقهية إلى ما هو أكثر فائدة وأعم نفعاً، بأن تكون جلسات المناقشة، أو قراءة القرارات على الأقل علنية وببث حي ومباشر على أكثر من قناة فضائية، ليتمكن المسلمون عامة، وفقهاؤهم بخاصة من متابعة ما يهمهم ويشغل بالهم، مع إمكانية الاتصال الهاتفي أو بالبريد المصور (الفاكس) بمقر الجلسات، للمداخلة والحوار. وهنا لا أطالب بالمستحيل، فالإمكانات متوفرة. وختاماً أقول: ضماناً لاستمرار العمل في مجمع الفقه الإسلامي، لابد من الاهتمام والاعتناء به، على الصعيد الرسمي من قِبَل الحكومات والدول. وهاهو المجَمْع نفسه يطالب بتخصيص 1% من الناتج الإجمالي للدول الإسلامية لتمويل البرامج البحثية، وإنشاء المخابر العلمية على أساس وثيق من التكامل والتعاون بين الجامعات الإسلامية ومراكز الأبحاث فيها؛ كل ذلك لتحقيق النهضة الفكرية للأمة من أجل مواجهة التحديات الفكرية القادمة، ونحن على أبواب قرن جديد، ومستجدات حديثة. وأخيراً أشكر لكم حسن استماعكم. والحمد لله رب العالمين
([1]) أخرجه مسلم في: كتاب الطهارة حديث رقم (252) ترقيم عبد الباقي، والترمذي في كتاب [الطهارة] حديث رقم (22)، والنسائي في كتاب الطهارة رقم (7)، وأبو داود في: [الطهارة] رقم (46) ترقيم محي الدين، عن أبي هريرة. ([2]) أخرجه البخاري في: كتاب الحج رقم (1509) ترقيم د. البغا، ومسلم في: الحج رقم (1333) ترقيم عبد الباقي، عن عائشة. ([3]) أخرجه مسلم في الصيام رقم (1148) ترقيم عبد الباقي، عن ابن عباس. ([4]) أخرجه أبو داود في: كتاب [الأقضية]، حديث رقم (3592)، ترقيم محي الدين، وأحمد في: مسند الأنصار رقم (21556) ترقيم إحياء التراث، عن معاذ. ([5]) رواه أبو داود في: كتاب [الطهارة] رقم (338)، ترقيم محي الدين، والدارمي في: كتاب الطهارة ، حديث رقم (744). ([7]) رواه البزار والطبراني والبيهقي والحاكم عن أبي الدرداء [كنـز العمال 3/571]. |
||||||||||||||||||||||||||||||||
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |