الأمة المقاومة الأبية |
||
إن أمتنا هذه، أمةٌ أبيَّةٌ ولله الحمد، إنها أمةٌ لا ترضى الذل والهوان، إنها أمةٌ تقاوم الذي يريد الاعتداء على عقيدتها والنيل من مقدساتها، إن هذه الأمة فيها خيرٌ عظيم، قال النبي e[مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره][1]. فالخير باقٍ في هذه الأمة، كما كان من أولها، فكما أن الدين كان محتاجاً إلى أول هذه الأمة لإبلاغة، كذلك هو محتاجٌ إلى القائمين به في آخر هذه الأمة لصونه والمحافظة عليه، والفضل للمتقدم قطعاًَ، كما أن الزرع محتاجٌ إلى المطر الأول، وإلى المطر الثاني، ولكنَّ احتياجه إلى الأول آكد، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها. ومعنى الحديث أنه يكون في آخر الأمة من يقارب أولهم في الفضل، وإن لم يكن منهم، وذلك لأنه قال: لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره، مع أن الله يعلم، أيهما خير، وهذا فيه بشارةٌ عظيمةٌ لنا، بأن الخير موجودٌ في هذه الأمة، إلى قيام الساعة، ألا ترى أن النبي e قال في الحديث: [لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله فيهم وهم كذلك] [2]. فهذه الطائفة المنصورة باقية إلى قيام الساعة، تنافح عن دين الأمة، تنافح عن عقيدة هذه الأمة، تنافح عن شريعتها، وعن أحكام ربها، وعن مقدساتها، بالسنان واللسان، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم الساعة. ويبين النووي: أنه لا يلزم من هذه الطائفة أن تكون واحدة، أو أن يكون واحداً قائماً بجميع الدين، بل يمكن أن تكون الطائفة جماعةً متعددةً من أنواع المؤمنين، ما بين شجاعٍ وبصيرٍ بالحرب وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ وقائمٍ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهدٍ وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلدٍ واحد، بل يجوز اجتماعهم في قُطْرٍ واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض، فإذا انقرضوا جاء أمر الله، يعني قامة الساعة. هذه الأمة لا يزال الله يغرس فيها غرساً، إلى يوم القيامة، لا يزال الله سبحانه وتعالى، يُظهر فيها من يظهر دينه، قال عليه الصلاة والسلام:[لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته] [3]. [ويبعث لها على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها][4]. يحيي ما درس من الكتاب والسنة، يدافع وينافح، يبين الحق ويظهره، يرد على أعداء الدين، وهكذا ظهر في الأمة، عمالقةٌ وجبال، كلما مات سيدٌ قام سيدٌ، وهكذا يتوالون، والحمد لله بلا انقطاع. وأنت ترى في هذا الزمان، ولله الحمد، من لا يزال ينافح عن الدين، يرد على الأعداء، ويصد كيدهم. إن الإسلام كالشمس، إن غربت من جهةٍ طلعت من أخرى، فلا تزال طالعة، وهذه الأمة، قادرة ولله الحمد، على الدفاع عن دينها، إنهم يعملون بلا هوان، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:139]، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون: من الآية8]. من اسم الله العلي: يستعلون على أعدائهم، فأهل الحق ظاهرون على من ناوأهم، يكبتون مَن عاداهم، ويُسكتون من أراد أن يخرج على دينهم. لن يُفلح الأعداء في طمس نور هذا الدين، ولا يزال نوره قائماً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، ولوكره الكافرون. إن روح المقاومة في هذه الأمة روحٌ تدعوا للإعجاب والفخر: لقد قامت الشيوعية, والوجودية, وأنواع الإلحاد، وقيض الله في هذه الأمة, من يقوم بالرد عليهم, وبيان كفرهم, وصريح باطلهم، يرفضون الأجنبي عن هذه العقيدة, والأجنبي عن الدين. تعالوا ننشط ذاكرتنا: بذكر بعض الأمثلة على ذلك في واقعنا المعاصر: لما قامت فرنسا باحتلال الجزائر اختيرت عشر فتيات مسلمات, أدخلهن المدارس الفرنسية, وألبسن الملابس الفرنسية, حتى أصبحن كالفرنسيات تماماً, وبعد أحد عشر عاماً من الجهود, هُيئت حفلة تخرج لهن, ودعي لها الكبراء والمفكرون وأهل الصحافة, ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات يدخلن, بلباسهن الإسلامي, فثارت الصحف, وتساءلت ماذا فعلن إذن في الجزائر؟ وماذا أنجزن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً, فقام وزير مستعمارتهم لاكوستلي يقول: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا. أيها الإخوة: إن مقاومة المحتلين ورفض أن تحكم بلاد المسلمين من الكفار يدل على تأصل روح العقيدة في المسلمين، وأنهم لا يرضون أبداً, أن يسيروا على منهج الكفر. الأمة أمة مقاومة للكفر, الأمة فيها صبر ورفض للكفر, وهكذا لا يزال المسلمون, دائماً, كلما احتل الكفار يقومون بمقامة الكفار, ولا بد أن يقوم في المسلمين من يقاوم هؤلاء بشتى الطرق والوسائل. إن المقاومة والتتبع للمحتل والمعتدي شيءٌ يسري في الأمة منذ عهدها الباكر حتى الآن, ولنأخذ قصة سلمة بن الأكوع, رضي الله تعالى عنه, كيف تبين هذه القصة, أن المسلم لا يرضى بالهوان, ولا يرضى بالاعتداء, وإنه يحارب ويطارد حتى النهاية. روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: [قدمنا الحديبية مع رسول الله e ونحن أربعة عشرة مئة, وذكر الحديث وفيه, ثم خرجنا راجعين إلى المدينة, فنـزلنا منـزلاً بيننا وبين بني لحيان ـ وكانوا مشركين ـ جبل, فاستغفر رسول الله e لمن رقي هذا الجبل الليلة, وكان يرقى ذلك الجبل, طليعةً وحِرَاسةً وحتى ينبه المسلمين, لو كان هناك شيئاً من جهة المشركين, فرقيت تلك الليلة, مرتين أو ثلاثاً, فبعث رسول الله e بظهره يعني بالإبل, مع رباح, غلام رسول الله e, وأنا معه, وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر, مع إبل المسلمين ومع الرعي, أي يجعله في المرعى ويشرب من الماء, فلما أصبحنا, إذا عبدالرحمن الفزاري المشرك قد أغار على ظهر أي على دواب وإبل رسول الله e, فاستاقها أجمع, فقلت: يا رباح خذ هذا الفرس, فأبلغه طلحة بن عبيد الله, وأخبر النبي e أن المشركين قد أغاروا على سرحه, ثم قمت على أكمة, فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثاً: يا صباحاه, أراد أن ينبأ المسلمين, يقول: ثم خرجت في آثار القوم, أرميهم بالنبل, وارتجز وأقول:
فألحق رجلاً منهم, فأصك سهماً في رحله, حتى خلص نصل السهم إلى كتفه, قلت: خذها وأنا ابن الأكوع, واليوم يوم الرضع, قال: فو الله ما زلت أرميهم, وأعقر بهم. فهذا يجرحه, وهذا يزيله عن فرسه, وهذا يصيب فرسه, فإذا بفارس منهم رجع إلي، فأتيت شجرة فجلست في أصلها, ثم رميته بسهم فأصبته، وتبعت القوم حتى إذا تضايق الجبل, دخلوا في تضايقه فجعلت أرميهم بالحجارة، حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله e إلا خلفته وراء ظهري, وخلوا بيني وبينه, ثم اتبعتهم أرميهم, حتى ألقوا أكثر من ثلاثين برداً, وثلاثين رمحاً, يَسْتِخُفون, يعني ليسهل هروبهم, وكانوا لا يطرحون شيئاً, إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة, يعرفها رسول الله e وأصحابه، حتى أتوا متضايق من ثنية, فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري, يعني إعانه لهم, فجلسوا يتغدون, وجلست على رأسِ قرنٍ, قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح, والله ما فارقنا منذ غَلَس, حتى انتزع كل شيءٍ في أيدينا, قال: فليقم إليه نفرٌ منكم, أربعه, فصعد إلي منهم أربعة في الجبل, فلما أمكنوني من الكلام, قلت: هل تعرفوني؟ قالوا: لا, ومن أنت؟ قلت: أنا سلمة بن الأكوع, والذي كرم وجهه محمدٍ e, لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته, ولا يطلبني رجل منكم فيدركني, فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله e, يتخللون الشجر. ولحقني عامر بسطيحة, فيها مذقة من لبن, وسطيحة فيها ماء, فتوضأت وشربت, ثم أتيت رسول الله e, وهو على الماء, فإذا رسول الله e, قد أخذ تلك الإبل, وكلَّ شيءٍ استنقذته من المشركين, وكل رمحٍ وبرده, وإذا بلال نحر ناقة من الإبل, الذي استَنْقَذْتُ من القوم, وإذا هو يشوي لرسول الله e, من كبدها رسول الله. فضحك رسول الله e، وقال: كان خيرُ فرساننا اليوم أبو قتادة, وخيرُ رجّالتنا سلمة, ثم أعطاني رسول الله e, سهم الفارس وسهم الراجل, ثم أردفني على ناقته, راجعين إلى المدينة. هؤلاء إذن الذين كانوا لا يرضون أبداً أن يسلب للمسلمين شيء. أيها الإخوة: إن هناك أموراً عظيمة يريد الغربيون اليوم جرنا إليها، وإن التصدي لها من أعظم القربات عند رب العالمين، كل حسب قدرته العلمية والعملية والفكرية.
[1] رواه الترمذي وقال الحافظ حديث حسن. [2] رواه مسلم. [3] رواه أحمد. [4] حديث صحيح. |
||
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |