التَّقْوَى وأثرُهَا فِي تَهذيبِ النفوسِ |
الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَمَرَ قُلُوبَ المُتَّقينَ بِتَقْواهُ، وَجَعَلَها سَبيلَ النَجاةِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ القائلُ سُبحانَهُ:] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [([1]) وأَشْهَدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمامُ المُتَّقِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا إِلى يَوْمِ الدِّينِ. أمَّا بعدُ: فإنَّ اللهَ تَعالَى أَمَرَ عِبادَهُ المُؤْمنينَ بالتَّقَوَى، وأَوْصَى بِهَا الأَوَّلينَ والآخَرينَ فَقَالَ:] وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ [([2]) وذكرَهَا فِي كتابِهِ فِي آياتٍ كثيرةٍ دِلالةً علَى فضْلِهَا وشرَفِهَا وجعلَهَا ميزاناً للتفاضُلِ بينَ العبادِ فِي الدنيَا والآخرَةِ، فقالَ سبحانَهُ:] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [([3]) فالتَّقْوَى كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مانعةٌ، تعنِي أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا حَرَّمَ اللهُ حَاجِبًا أَوْ حاجِزًا، وأَنْ تَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ، وتَجْتَنِبَ نَواهيَهُ، وهِيَ تشملُ كلَّ مَا جاءَ بِهِ الإسلامُ مِنْ عقيدةٍ وعبادةٍ ومعاملةٍ وخلقٍ قالَ اللهُ تعالى: ]لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [([4]) عبادَ اللهِ: إنَّ أصلَ التَّقوى أنْ يجعلَ العبدُ بينَهُ وبينَ اللهِ تعالَى وقايةً تقِيهِ مِنْ عذابِهِ وغضبِهِ وسخطِهِ، وذلكَ بفعلِ الطاعاتِ واجتنابِ المعاصِي وتركِ المحرماتِ, واتقاءِ الشبهاتِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ »([5]). وقالَr: « مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ »([6]). وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمَهُ اللهُ: ليستِ التقوَى قيامَ الليلِ، وصِيامَ النهارِ، والتخليطَ فيمَا بَيْنَ ذلكَ، ولكنَّ التقوَى أداءُ مَا افترضَ اللهُ، وتركُ مَا حرَّم اللهُ، فإنْ كانَ معَ ذلكَ عملٌ فهُوَ خيرٌ إلَى خيرٍ([7]). فالتَّقوى تُهَذِّبُ النُّفوسَ, وتقوِّمُ الأخلاقَ, وتضبطُ سلوكَ المسلمِ علَى منهجِ الشَّريعةِ السَّمحةِ ؛ فلا ترَاهُ إلاَّ خائفاً مِنَ اللهِ تعالَى راجياً رحمتَهُ منيباً إليهِ, أميناً, صادقاً, محافظاً علَى صلاتِهِ فِي أوقاتِهَا, مؤدياً لزكاةِ مالِهِ, قائماً وصائماً, بارًّا بوالِدَيْهِ, واصلاً لأرحامِِهِ, مُحْسناً للمساكينِ واليتامَى والأراملِ والجيرانِ، رحيماً بالضعفاءِ محبًّا لأهلِهِ ووطنِهِ, لاَ يظلمُ ولاَ يغدِرُ ولاَ يغشُّ ولاَ يَخدعُ ولاَ يرتكبُ الفواحشَ ولاَ يقترفُ سوءاً, يراقبُ اللهَ تعالَى فِي كلِّ حينٍ وآنٍ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:« اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »([8]). وكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَوْعِظَةً فقَالَ: إِنَّ لأَهْلِ التَّقْوَى عَلامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَيَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلاءِ، وَرَضِيَ بِالْقَضَاءِ، وَشَكَرَ النِّعْمَةَ([9]). عبادَ اللهِ: إنَّ الإسلامَ يحثُّنَا علَى إقامةِ العلاقاتِ والمعاملاتِ علَى التقوَى، لأنَّهَا أساسُ الأعمالِ وبِهَا تُصْلَحُ الأحوالُ، فالزَّوجُ مطالَبٌ بتحقيقِ التَّقوَى فِي معاملتِهِ لزوجتِهِ، إذَا أمسكَ أمسكَ بمعروفٍ، وإنْ سرَّحَ سرَّحَ بِإِحْسَانٍ، قالَ اللهُ تعالَى:] فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [([10]). وعَنِ الحسنِ أتاهُ رجلٌ فقالَ: إنَّ لِي بنتًا أحبُّهَا، وقدْ خطبَهَا غيرُ واحدٍ، فمَنْ تُشِيرُ علَيَّ أنْ أزوجَهَا ؟ قالَ: زوجْهَا رجُلاً يتقِي اللهَ فإنَّهُ إنْ أحبَّهَا أكرمَهَا، وإنْ أبغضَهَا لَمْ يظلمْهَا([11]). وبالتَّقَوى يَطْمَئِنُّ المُؤْمِنُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ، ويَحفَظُ لَهُمْ مُسْتَقَبَلَهُمْ، قالَ تَعَالَى:] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَديدًا [([12]) والتاجرُ ينبغِي عليهِ أنْ يُراقبَ اللهَ تعالَى فِي تجارتِهِ، فلاَ غشَّ ولاَ خداعَ ولاَ احتكارَ ولاَ رفعَ للأسعارِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:« إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ»([13]). والموظفُ والعاملُ كلاهُمَا مطالَبٌ بتحقيقِ التقوَى فِي عملِهِ، فاللهُ تعالَى مطلعٌ علَى العبدِ، يعلمُ السرَّ وأخفَى، قالَ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ t: التَّقَوى أَنْ يُطاعَ اللهُ فَلاَ يُعْصَى، وأَنْ يُذْكَرَ فَلاَ يُنْسَى، وأَنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرُ([14]). أيهَا المسلمونَ: مَنْ أَرادَ العِزَّ فِي الدُّنْيا والدِّينِ، والبَرَكَةَ فِي الرِّزْقِ والوَقْتِ والعَمَلِ فَعَلَيْهِ بِتَقْوَى اللهِ تعالَى ؛ فإِنَّها مِنْ أَعْظَمِ مَا اسْتُنْزِلَتْ بِهَا الخَيْرَاتُ، وَهِيَ سَبَبٌ لِتَكفيرِ السَّيِئاتِ، وَرَفْعِ الدَّرَجاتِ، والفَوْزِ بالغُرُفِ والجَنَّاتِ، قالَ اللهُ تَعَالَى:] ومَنْ يَتِّقِ اللهَ يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[([15]) وبِتَقْوَى اللهِ تَنْفَرِجُ الهُمُومُ، وتَتَّسِعُ الأَرْزاقُ، قالَ سبحانَهُ وتَعالَى:] ومَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ[([16]) اللهمَّ ارزقْنَا التقوَى، وزينَّا بالحلمِ، وجمِّلْنَا بالعلمِ.
([9]) الزهد لأبي داود 1/325 حديث 391. |
Powered by SyrianMonster Web Service Provider - all rights reserved 2024© |