العدالة الاجتماعية في الإسلام من فكر بديع الزمان سعيد النورسي
لمؤتمر:
ممارسة حياة إيمانية فاعلة في سلام ووئام في عالم متعدد الثقافات من خلال رسائل النور
بإشراف: مؤسسة الثقافة والعلوم ـ إستانبول
İSTANBUL İLİM VE KÜLTÜR VAKFI / THE ISTANBUL FOUNDATION FOR SCIENCE AND CULTURE |
Tel: (+90 212) 347 87 68-69 Fax: (+90 212) 347 87 73 |
إعداد: الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، وبعد:
فإنه حَرِيٌّ بالأممِ الحيَّةِ أن تَستذكرَ عظماءَها ورجالاتِها الذين عاشوا ظروفَها ووَعَوا حاجاتها في فترة من الزمن، وعملوا ما بوسعهم من أجل أن ينقلوا واقعَها إلى مستقبلٍ مشرق تصبوا إليه، تاركين إشعاعاتِ فكرهم النيِّرَةَ على كلِّ عمل يزاولونه، وبصماتِ أصابِعهم الواضحةَ في كل نشاطٍ يشتركون فيه.
إن تذكر هؤلاءِ الرجال وتدارس حياتِهم، ومعرفةَ خصائصهم، والتعرفَ على نشاطاتِهم يزيدُ في عمر ذاكرةِ الأمة، ويُضيف بعداً فكرياً إلى خصائصها، ومعرفة ظروفها، والواقع الذي تعيشه، والمستقبل الذي تنشده وتهفو إليه.
وإن من واجبِ كل مسلم أن يكون عالمياً في فكره وتوجهاته، يريد الخيرَ لبني البشر جميعاً، وهذا ما يُلاحظ في الْمُصلحين العظام، والأئمة الأعلام، ومن بينهم في آخر الزمان: علاَّمةُ الدنيا، ومنبعُ صفاءِ الفكر المعاصر: الشيخُ بديع الزمان سعيد النورسي، فخطابُه ـ كما يقول إحسان قاسم الصالحي ـ (جاء مُوَجَّهاً إلى الإنسانية عامةً، وليس المسلمين وحدهم؛ فهو يتكلم مستلهماً من القرآن الكريم، يتكلم من خلالِ حقيقةِ الفطرةِ التي تربِطُ بين أجزاءِ البراهينِ العظيمةِ الثلاثةِ لمعرفة الله وتوحيده، وهي:
القرآن الكريم المقروء.
والقرآن الناطق؛ وهو الرسول الحبيب r.
والقرآن المنظور؛ وهو الكون الفسيح.
ويُقَرِّب الحقائقَ بأسلوبٍ فصيح ورائق.
نعم ، إن النورسي لم يكتب لمرحلةٍ معينة، ولا لقومٍ بعينهم، ولا كان أسيرَ زمنٍ محدد، بل عاش في قلبِ القرآن الخالد، ووقف وراءَ مَوْكِب رسول الله r ، وجَالَ بفكرِه الثاقبِ في آفاق الكون) ([1]).
ومن هنا يمكن وصف العلاَّمة النورسي: بأنه مجدِّدُ العصر، وعالِمٌ خبير، ومفكرٌ مبدع، وأديبٌ لامع، وباحثٌ متقن، فهو عميق الاطلاعِ واسعُ الأفكارِ، ومحلَّقٌ في الآفاق؛ علماً ومعرفةً؛ ما عَالَجَ قضيةً من القضايا إلا بدا بها خبيراً.
وفي هذا البحث نُنْعِم النظرَ في إحدى القضايا المهمة التي شغلت بال العلاَّمةِ النورسي، ألا وهي: العدالة الاجتماعية.
مفهوم العدالة:
اسم العدل: الوسط، مشتق من المعادلة بين شيئين؛ بحيث يقتضي شيئاً ثالثاً وسطاً بين طرفين؛ لذلك كان اسمُ الوسطِ يُستعمل في كلام العرب مرادفاً لمعنى العدل.
فعن رسول الله e في تفسيره لقوله تعالى: }وكذلك جعلناكم أمة وسطاً{[البقرة: 143]، قال: "عَدْلاً، والوسط هو العدل"([2]).
العدالة لغة:
[العَدْل: ما قام فـي النفوس أَنه مُسْتقـيم، وهو ضِدُّ الـجَوْر، عدَل الـحاكِمُ فـي الـحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وهو عادِلٌ... وعَدَل علـيه فـي القضيَّة، فهو عادِلٌ، ... وفـي أَسماءه سبحانه: العَدْل، وهو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فـيَجورَ فـي الـحكم،... والعَدْلُ: الـحُكْم بالـحق، يقال: هو يَقْضي بالـحق و يَعْدِلُ، قال ـ تعالى ـ في موضعين: }وأَشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم{[الطلاق:2]، وقال: }يَحْكُم به ذَوَا عَدْلٍ منكم{[المائدة:95]([3]).
العدالة اصطلاحاً:
العدالة من العدل، والعدل يعني تمكينَ صاحب الحق من الوصول إلى حقه من أقرب الطرق وأيسرها.
والعدالة عند العلاَّمة النورسي: هي المساواة في الحقوق والواجبات في نظر الخالق والخلق، يقول: [إن العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة] ([4]).
مصدر العدالة:
استقت الشرائع القديمة مبادئ العدالة من العقل وشعور العدل في النفس، ولكن هذا المصدر اتخذ صوراً مختلفة تبعاً لاختلاف الشعوب؛ فكان مصدر العدالة عند الرومان (قانون الشعوب)، وعند اليونان (قانون الطبيعة)، وعند الإنكليز (ضمير الملك).
أما مصدر العدالة في شريعة القرآن هو: نصوصُ الشريعة، والعقلُ السليم الفاهم لحكمة التشريع في الإسلام.
والعدالة واحدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الإسلام في مجتمعه، فلجميع الناس في مجتمع الإسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها، عملاً بقول الله تعالى: }وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل){[النساء: 58].
العدالة تشكل ربع المقاصد الأساسية من القرآن:
يراد بالمقاصد الأساسية للإسلام: الأهدافُ الاستراتيجية التي جاء الإسلام لتحقيقها في حياة المسلمين والبشر عموماً.
ويرى العلاَّمة النورسي: أن [المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة] ([5]).
وفي موضع آخر، يقول: [إن المقصدَ الأصليّ في القرآن الكريم إرشادُ الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثباتُ الصانع الواحد، والنبوّةُ، والحشرُ، والعدالةُ] ([6]).
وفي استدلاله على هذه الأهداف والمقاصد الأساسية للدين الحنيف، يقول العلاَّمة النورسي: [لَمَّا أُنـزل (بسم الله) لتعليم العباد كان "قُلْ" مقدَّراً فيه، وهو الأُمّ في تقدير الأقوال القرآنية، فعلى هذا يكون في "قل" إشارةٌ إلى الرسالة، وفي (بسم الله) رمز إلى الألوهية، وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد، وفي (الرحمن) تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان، وفي (الرحيم) إيماءٌ إلى الحشر.
وكذلك في (الحمد لله) إشارة إلى الألوهية، وفي لام الاختصاص رمزٌ إلى التوحيد، وفي (رب العالمين) إيماء إلى العدالة والنبوة أيضاً؛ لأن بالرسل تربيةُ نوع البشر، وفي (مالك يوم الدين) تصريحٌ بالحشر.
وحديثنا عن العدالة المستفادة من كلمة (الرحمن) في البسملة، ومن قوله: ]رب العالمين[ في سورة الفاتحة، حيث دعا الإسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك؛ لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كلُ مجتمع صالح.
فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد مصيرُه إلى الانحلال والزوال]([7]).
وعن العدالة العامة في الكون يقول العلامة النورسي: [العدالة العامة الجارية في الكون النابعة من التجلي الأعظم لاسم (العدل) إنما تدير موازنة عموم الأشياء، وتأمر البشرية بإقامة العدل.
فاعلم من هذا إن (العدالةَ والاقتصادَ والطهرَ) التي هي من حقائق القرآن ودساتير الإسلام، ما أشدَّها إيغالاً في أعماق الحياة الاجتماعية، وما أشدَّها عراقة وأصالة، وأدرك من هذا مدى قوة ارتباط أحكام القرآن بالكون، وكيف أنها مدّت جذوراً عميقة في أغوار الكون فأحاطته بعرىً وثيقةً لا انفصام لها، ثم افهم منها إن إفساد تلك الحقائق ممتنعٌ كامتناع إفساد نظام الكون والإخلال به وتشويه صورته]([8]).
ويستدل على ذلك من القرآن بقوله: [وإنَّ }وَمَا رَبُّكَ بظَلاّمٍ لِلْعَبيدِ{[فصلت:46] نموذجٌ آخرُ يشير إلى دليل العدالة في الكون]([9]).
فعدالة الإسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات.
فمجتمع الإسلام يقوم على توحيد الإله، وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: ]إن الدين عند الله الإسلام[[آل عمران: 19]، و]إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون[[الأنبياء: 92]، و]إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون[[المؤمنون: 52].
وعدالة الإسلام تتناول جميعَ مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتسعى إلى تحقيق العدالة فيها بوسائلَ شتى:
أولاً: إعلانُ الأخوة بين أبناء المجتمع الإسلامي، يقول الله تعالى: ]إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم[[الحجرات: 9]، ويقول رسول الله r: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"([10]).
ثانياً: تشديد النكير على كل عمل يوهن الأُخوةَ الإسلامية، ومن أجل ذلك:
ـ حَرَّمَ التعالي والسخرية، بقوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن[[الحجرات: 11].
ـ وحَرَّمَ التعريضَ بالعيوب والتفاخرَ بالأنساب: ]ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب[[الحجرات:11].
ـ وحَرَّمَ الغيبة والنميمة وسوء الظن: ]يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه[[الحجرات: 12].
ثالثاً: الترغيبُ في كل ما يجمع القلوب ويدعم الوحدة وذلك:
ـ كالدعوة إلى الإصلاح بقوله r: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاحُ ذات البين"([11]).
ـ وكحسن الجوار، بما رُوي في بيان حق الجار، فقد جاء في الأثر عن جابر t وغيره من صحابة رسول الله e أن بعضهم سأل النبي e: ما حق الجار؟ قال: "إن مرض عُدتَّه، وإن مات شيَّعته، وإذا استقرضك أقرضتَه، وإذا افتقر عدَّتَ عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك، إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده"([12]).
وكذلك أغرى الإسلامُ بالمساعدات والخدمات الاجتماعية فاعتبر مساعدةَ الضعيفِ صدقةً، وإزاحةَ الأذى عن الطريق صدقة، وحثَّ على التعاون ابتغاء خير الجماعة، فقال تعالى: ]وتعاونوا على البرّ والتقوى[[المائدة: 2].
وقال رسول الله r: "لأن يمشي أحدُكم مع أخيه في قضاء حاجة (وأشار بإصبعه) أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين"([13]).
والعدل الإسلامي مبدأٌ مقرر في كل شيء؛ في القول، وفي العمل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النساء، وفي الأقارب، والأولاد، والضعفاء حتى في الجوارح، فضلاً عن العدل في الاقتصاد، وفي الشهادة، وفي الحكم.
ويتحقق هذا بمعرفة كل مسؤول ما له وما عليه.
وأمثلة ذلك:
1 ـ في القول: ]وإذا قلتم فاعدلوا[[الأنعام: 152].
2 ـ في العمل: يقول رسول الله r مخاطباً أهله: كما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: لما نـزلت هذه الآية: }وأنذر عشيرتك الأقربين{[الشعراء: 214] دعا رسول اللّه e قريشاً فعمَّ وخصَّ، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني واللّه لا أملك لكم من اللّه شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبُلها ببلالها ـ أي سأصلها ـ"([14]).
3 ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ]كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر[[آل عمران:110].
وتَبِعَةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تُلقى على عاتق الفرد وحده، بل تُلقى على عاتق الجماعة كلها، فإذا أهملَتْ ذلك تعرضَتْ للكوارث والويلات، يقول الله تعالى: ]واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة[[الأنفال: 25]، كما يقول سبحانه: ]لُِعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون[[المائدة: 78].
4 ـ في النساء: فالإسلام لا يعترف بالتفرقة الجائرة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية المشترك وفي حق كل منهما، بأن يتمتع بمقتضيات حياته النوعية وخصائصه الطبيعية في إطار الحق والعدل، يقول الله تعالى: ]ومَن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً[[النساء: 124].
5 ـ في الأقارب وذوي الأرحام: يقول الله تعالى: ]واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام[[النساء: 1]، بمعنى: صلوها واعدلوا فيها ولا تغطوها أو تنسوا حقوقها عليكم فتَظْلِمُوها.
6 ـ في الاقتصاد: إن كل عدل لا يقوم على اقتصاد منظم فهو عدلٌ ناقص، فلن نكون عمليين حين نقول للجائع أو العاري أو المفلس أو العاطل عن العمل: لا ترتكب الجريمة، قبل أن نحقق له مجتمعاً صالحاً لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يتعطل عن العمل.
7 ـ العدل في القصاص والحدود: وكذلك تناولت عدالة الإسلام الحدود؛ إذ جعلتها متفاوتة لكي يتناسب الحدّ مع الجرم، فجعل الإسلام عقوبة الزنى: الرجمُ للمحصن والْجَلْدُ فقط لغير المحصن؛ تبعاً للفرق بين المتزوج والعازب، فقال رسول الله r: "البكر بالبكر جلدُ مئةٍ ونفيُ سَنَة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم"([15]).
8 ـ العدل في الشهادة: والشهادة في الإسلام حق واجب الأداء، فكل مسلم أو مسلمة مطالَبٌ بأداء الشهادة وعدم كتمها، لقول الله تعالى: ]ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون[[البقرة:140].
9 ـ العدل في الحكم: فقد أمر الله رسوله أن يحكم بالعدل، في قوله سبحانه: ]وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين[[المائدة: 42]، كما أمر الله تعالى مَن يأتي من بعد رسول الله من الحكام المسلمين أن يحكموا بالعدل بقوله سبحانه: ]وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[[النساء: 58].
جزاء العدل:
أبوابُ السماء مفتوحة أمام الإمام العادل وأمام المظلوم على سواء، يقول رسول الله e: "ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم"([16])، فالله سبحانه يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته، بل أباح للمظلوم فوق ذلك الدعاء على الظالم، والتشهير به، وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه، مصداقاً لقول الله تعالى: }لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم{[النساء: 148].
يقول العلامة النورسي في بيان العدل المحقق إما في الدنيا أو الآخرة: [فاعلم! أنّا كثيراً ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة.
ثم نرى المظلومَ الفقيرَ المتدينَ الحسنَ الخُلُق ينقضي عمره في غاية الزحمة والذِّلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما.
وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلماً.
والعدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت عليهما الكائناتُ منـزهتان عن الظلم؛ فلا بد من مجمعٍ آخر ليرى الأول جزاءه والثاني ثوابه فيتجلى العدالة الإلهية] ([17]).
العدالة بين الفردية والجماعية، والأنانية والغيرية:
العدل في الإسلام لا يتأثر بحبّ أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما لا يفرق بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاه ومال، بل يتمتع به جميع المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو شنآن، بقول الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون[[المائدة:8].
وفي هذا المعنى يقول العلاَّمةُ النورسي: [العدالة القرآنية المحضة، لا تُهْدِر دمَ بريء، ولا تُزْهِق حياته؛ حتى لو كان في ذلك حياة البشرية جمعاء] ([18]).
وما يشيع اليوم بين الناس من كثرة المقاضاة بشأن الديون والحقوق واتساع رقعة الخصومات بشأن الاختلاف بين الناس على الأموال ونحوها: يوهن من رابطة الأخوة بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من بني الإنسان، ولم يصل الأمر إلى ما وصل إليه اليوم في صورته البشعة إلا نتيجةَ طغيان غرائز الإنسان؛ من الطمع والجشع وحب الاستئثار الذي يجرد الناس من آدميتهم وإنسانيتهم وعقيدتهم وضمائرهم.
وفي معالجة المسألة جاء الإسلام يدعو إلى ضرورة العدل مع الظالم والمظلوم، وذلك بالحديث النبوي الشريف: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ فقال e: "تأخذون فوق يديه وتردعونه عن ظلمه"([19]).
وعن مفهوم العدالة الإسلامية في الحكم، وأنها المساواة بين الطرفين، دون ميل لأحدهما بسبب دِين أو عِرْق أو لون يقول العلاَّمة النورسي: [فكما أن كليهما ـ أي المتخاصمين ـ في نظر القدرة ـ أي القدرة الإلهية ـ سواءٌ، فهما في نظر العدالة ـ البشرية ـ سواءٌ أيضاً] ([20]).
ثم يشير إلى الأخطاء التي يقع فيه الحكام، من سيطرة الأهواء النفسية، والأطماع الشهوانية، والمصالح المادية على أحكامهم، فيقول العلاَّمة النورسي: [ولكن الذي تمكّن فيه الحرصُ والأنانية يصبح إنساناً يريد القضاء على كل شيء يقف دون تحقيق حرصه، حتى تدمير العالم والجنس البشري إن استطاع] ([21]).
وتحدث عن ظهور الأنانية وطغيان الأفراد في زمانه، فقال: [طغيان الأنانية وهيمنتُها الواسعةُ في هذا الزمان]([22])، وقال في موضع آخر: [إنه في زمان قد استولت فيه الأنانية، وطغت فيه الأثرة، واستهدفت المنافع الشخصية حتى انحصر شعور الإنسان في إنقاذ نفسه] ([23]).
ومن تواضعه وفهمه لم يستثنِ نفسه بحسن ظن إخوانه به، فيقول رضي الله عنه: [أرفضُ حسن الظن المفرط بشخصي الذي يفوق كثيراً حدّي وطوقي، لأني كإخوتي، لا أحسن الظن بنفسي]([24])، ويؤكد أن الأنانية تتدخل في النفس البشرية فيقول: [إن الذي يرى نفسه صاحب مقام فالأنانية ربما تتداخل في الأمر] ([25])، ويربأ بنفسه أن يكون إلا مخلصاً، فيقول: [وليس في مسلك النور - بأية جهة كانت - الرغبة في الأنانية وحب الشخصية والتطلع إلى المقامات والحصول على الشرف وذيوع الصيت، وكل ذلك منافٍ لسر الإخلاص تماماً] ([26]).
المدنية قلبت المفاهيم، بخلاف الحضارة:
في بيان الواقع المرير للأمة الإسلامية يشير العلاَّمة النورسي إلى أنه: [حصل انقلاب في بعض الحقائق، حيث استَبدلت الأضدادُ أسماءَها ومواقعَها، فيُطْلَق العدالةُ على الظلم، والبغيُ على الجهاد، والحريةُ على الأَسْر]([27]).
وهنا يقول العلاَّمة النورسي: [لقد وضع الظلمُ على رأسه قلنسوةَ العدالة، ولبست الخيانةُ رداءَ الحمية، وأُطلق على الجهاد اسمُ البغي، وعلى الأَسْر اسمُ الحرية، وهكذا تبادلت الأضداد صُوَرَها]([28]).
وفي مقابل المدنية المعاصرة كانت المدنية الإسلامية الحضارية في قيمها ومفاهيمها، ومن هنا يقول العلاَّمة النورسي: [المدنية التي تتضمنها الشريعة الأحمدية وتأمر بها؛ فإن نقطة استنادها: الحق بدلاً من القوة، والحق من شأنه: العدالة والتوازن، وهدفها: الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها: المودّة والتجاذب]([29]).
فالحق في الحضارة هو الأصل والأساس، ومن شأن الحق: العدالة والتوازن، وهدف الحق في الحضارة: الفضيلة والقيم الأخلاقية، المفضية إلى المودة والتحابب، والرحمة والتوادد.
تطبيقات في العدالة:
1 ـ ميراث الذكور والإناث.
لما كانت العقول البشرية المحدودة لا ترغب في التأمل بعدلِ ميراثِ الأخوة والأخوات في الإسلام، وقد جعل بعض الناس مسألة الميراث مثار شبهة على التشريع الإسلامي، كان رَدُّ العلاَّمة النورسي بقوله: [إن الحكم القرآني } فللذكر مثلُ حظِّ الانُثيين{ [النساء: 176] محض العدالة وعين الرحمة في الوقت نفسه نعم، إن ذلك الحكم عدالة؛ لأن الرجل الذي ينكح امرأة يتكفل بنفقتها كما هو في الأكثرية المطلقة، أما المرأة فهي تتزوج الرجل وتذهب إليه، وتحمّل نفقتها عليه، فتلافي نقصها في الإرث.
ثم إن الحُكْمَ القرآنيَ رحمةٌ؛ لأن تلك البنت الضعيفة محتاجة كثيراً إلى شفقة والدها وعطفه عليها والى رحمة أخيها ورأفته بها فهي تجد - حسب الحكم القرآني - تلك الشفقة عليها من والدها وعطفه دون أن يكدرها حذر؛ إذ ينظر إليها والدها نظرة من لا يخشى منها ضرراً، ولا يقول بأنها ستكون سبباً في انتقال نصف ثروتي إلى الأجانب والأغيار، فلا يشوب تلك الشفقة والعطف الأبوي الحذر والقلق.
ثم إنها ترى من أخيها رحمة وحماية لا يعكرّها حسد ولا منافسة، إذ لا ينظر إليها أخوها نظر مَن يجد فيها منافساً له يمكن أن تبدد نصف ثروة أبيهما بوضعها في يد الأجانب؛ فلا يُعَكِّر صَفْوَ تلك الرحمة والحماية حقد وكدر.
فتلك البنتُ اللطيفةُ الرقيقةُ فطرةً، والضعيفةُ النحيفةُ خلقةً، تفقد في هذه الحالة شيئاً قليلاً في ظاهر الأمر.
إلا أنها تكسب - بدلاً منه - ثروة لا تفنى من شفقة الأقارب وعطفهم عليها ورحمتهم بها، وإلاّ فان إعطاءها نصيباً أكثر مما تستحق بزعم أن ذلك رحمة في حقها أزيد من رحمة الله سبحانه، ليس رحمة بها قط بل ظلم شنيع في حقها، ربما يفتح سبيلاً أمام الحرص الوحشي المستولي على النفوس في هذا الزمان لارتكاب ظلم أشنع، يذكّر بالغيرة الوحشية التي كانت مستولية على النفوس في زمن الجاهلية في وأدهم البنات.
فالأحكام القرآنية كلها تُصَدّق - كما يُصَدّق هذا الحكم - قوله تعالى: }وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ (الأنبياء:107)] ([30]).
ويشير إلى تنطع المدنية المعاصرة في تحاملها على عدالة التشريع الإسلامي، فيقول: [إن المدنية التي لا تتحاكم إلى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة }للذَكَرِ مثلُ حظ الأنثيين{[النساء:11] التي تمنح النساء الثلث من الميراث (أي نصف ما يأخذه الذكر).
ومن البديهي أن أغلب الأحكام في الحياة الاجتماعية إنما تُسَنُّ حسب الأكثرية من الناس؛ فغالبية النساء يجدن أزواجا يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون إلى إعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.
فإذا ما أخذت الأنثى الثلث من أبيها (أي نصف ما أخذه الزوج من أبيه) فان زوجها سيسد حاجتها، بينما إذا أخذ الرجل حظين من أبيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته، وهكذا تقتضي العدالة القرآنية]([31]).
2 ـ معاقبة المسيء، والعدل في القضاء:
شرّع الإسلام في القضاء مبادئ وأصولاً ومناهج لإقامة العدل تعد دستوراً لجميع قضاة الأرض، وستظل عَلَماً ونوراً يهتدون به ويسيرون في ضوئه في كل مكان وعلى كل الأزمان.
من هذه المبادئ والأصول:
أ ـ أنه e أوجب على كل قاض أن لا يقضي في الحادثة حتى يسمع كلام الخصوم سماعَ فهم وتدبر، لقوله e للإمام علي كرم الله وجهه: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف تدري كيف تقضي"، قال علي: فما زلت قاضياً بعد([32]).
ب أوجب رسول الله e على القاضي حين يقضي أن يكون حاضر الذهن هادئ البال، غير منفعل ولا غضبان؛ حتى يأمن الخطأ في قضائه، فقال e: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"([33]).
ج ـ شرع رسول الله e مبدأ البينة على إقامة الحق والعدل، فقال: "البيّنة على المدعي واليمين على مَن أنكر"([34]).
ويشير العلامة النورسي إلى أهمية العدالة في القضاء والحكم بقوله: [إن الآية الكريمة: } وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى{[الأنعام:164] تفيد العدالة المحضة، أي لا يجوز معاقبة إنسان بجريرة غيره.
إن لم تكن تصرفات المؤمن وحركاته وفق الدساتير السامية التي وضعها الحديث الشريف: "الحب في الله والبغض في الله"([35]) والاحتكام إلى أمر الله في الأمور كلها، فالنفاق والشقاق يسودان.
نعم، إن الذي لا يستهدي بتلك الدساتير يكون مقترفاً ظلماً في الوقت الذي يروم العدالة.
حادثة ذات عبرة: في إحدى الغزوات الإسلامية، كان الإمام علي t يبارز أحد فرسان المشركين، فتَغَلَّبَ عليه الإمامُ وصرعَه، فلما أراد الإمام أن يُجْهِز عليه تَفَل على وجه الإمام، فما كان من الإمام إلا أن أخلى سبيله وانصرف عنه، فاستغرب المشرك من هذا العمل، فقال: إلى أين؟، قال الإمام: كنت أقاتلك في سبيل الله، فلما فعلت ما فعلت خشيت أن يكون قتلي إياك فيه ثأرٌ لنفسي فأطلقتك لله، فأجابه الكافر: كان الأولى أن تثيرك فعلتي أكثر فتسرع في قتلي! وما دمتم تدينون بدين هو في منتهى السماحة فهو بلا شك دين حق.
وحادثة أخرى: عزل حاكم مسلم قاضيه؛ لما رأى منه شيئاً من الحدة والغضب أثناء قطعه يد السارق.
فما ينبغي لمن ينفذ أمر الله أن يحمل شيئاً من حظ نفسه على المحكوم، بل عليه أن يشفق ـ من حيث النفس ـ على حاله دون أن تأخذه رأفة في تنفيذ حكم الله، وحيث إن شيئاً من حظ النفس قد اختلط في الأمر وهو مما ينافي العدالة الخالصة؛ فقد عُزل القاضي] ([36]).
3 ـ العدل السياسي: السياسة الحاضـرة شيطان في عالم الأفكار ينبغي الاستعاذة منها:
يقول العلامة النورسي: [إن سياسة المدنية الحاضرة تُضَحِّي بالأكثرية في سبيل الأقلية، بل تُضَحِّي قلةٌ قليلة من الظَلَمَة بجمهور كبير من العوام في سبيل مقاصدها.
أما عدالة القرآن الكريم، فلا تُضَحِّي بحياة بريء واحد، ولا تهدر دمه لأي شيء كان، لا في سبيل الأكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة؛ إذ الآية الكريمة: }مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قَتَل الناسَ جميعاً{ [المائدة: 32] تضع سرّين عظيمين أمام نظر الإنسان:
الأول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر إلى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما إنهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سنة دائمة.
إلاّ أن الشخص يستطيع - برغبة من نفسه - أن يضحي بنفسه، من دون أن يُضَحَّى به قطعاً، حتى في سبيل الناس جميعاً؛ لأن إزهاق حياته وإزالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعاً شبيه بإزالة عصمتهم جميعاً وهدرِ دمائهم جميعاً.
والسر الثاني: هو لو قَتَلَ مغرورٌ بريئاً دون ورع، تحقيقاً لحرصه وإشباعاً لنـزواته وهوى رغباته؛ فإنه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري إن استطاع] ([37]).
وقراءةً للأحداث التاريخية ولبيان مفهوم العدل المطلق والنسبي، يشرح العلاَّمة النورسي القضية بقوله: [إن ((معركة الجمل)) التي دارت رحاها بين سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ من جهة أخرى، هي معركة بين العدالة المحضة والعدالة الإضافية (النسبية).
وتوضيحها كالأتي: لقد جعل سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ العدالة المحضة أساساً لسياسته في إدارة دفة الحكم، وسار بمقتضاها على وفق اجتهاده وبمثل ما كان الشيخان يسيران عليه من قبله.
أما معارضوه فقد قالوا: إن صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهّدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، إلا أن دخول أقوام متباينة الطبائع والاتجاهات وهم على ضعف الإسلام بمرور الزمن، في هذا المجتمع أدى إلى وضع عوائق مهمة إزاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً، لذا فقد اجتهدوا على أساس بالعدالة النسبية التي هي اختيار لأهون الشرين.
ولكن، لأن المنافسة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت إلى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين. وحيث أن كل طرف قد توصل إلى اجتهاده بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الإسلام، ونشبت الحرب نتيجة هذا الاجتهاد الخالص لله، فيصح أن نقول: القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان، رغم معرفتنا أن اجتهاد الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ كان صواباً وان اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب، وهؤلاء المخالفون ليسوا أهلاً للعقاب الأخروي؛ إذ المجتهد لله إذا أصاب فله أجران، وإن اخطأ فله اجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع من العبادة، أي هو معذور في خطئه] ([38]).
وعن إيضاح الفرق بين العدالة المحضة والعدالة الإضافية، يقول العلاَّمة النورسي:[إن حق الشخص البريء الواحد لا يبطل لأجل الناس جميعاً، إي: إن حقه محفوظ، وهذا المعنى هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: }مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً{[المائدة: 32]، فلا يُضحى بفردٍ واحد لأجل الحفاظ على سلامةٍ الجميع؛ إذ الحق هو حق ضمن إطار الرحمة الإلهية، فلا يُنظر إلى كونه صغيراً أو كبيراً، لذا لا يُفدى بالصغير لأجل الكبير، ولا بحياة فرد وحقه لأجل سلامة جماعة والحفاظ عليها، إن لم يكن له رضا في الأمر، أما إذا كانت التضحية برضاه ورغبة منه فهي مسألة أخرى.
أما العدالة الإضافية فهي أن الجزء يُضَحِّي لأجل سلامة الجميع، فهذه العدالة لا تأخذ حقَّ الفرد بنظر الاعتبار لأجل الجماعة، وإنما تحاول القيام بنوع من عدالة إضافية من حيث الشر الأهون.
ولكن إذا كانت العدالة المحضة قابلة للتطبيق فلا يُصار إلى العدالة الإضافية، وان صار إليها فقد وقع الظلم.
فالإمام علي ـ رضي الله عنه ـ قال: إن العدالة المحضة قابلة للتطبيق، كما كان عليه في عهد الشيخين؛ لذا حاول بناء الخلافة الإسلامية على تلك القاعدة من العدالة المحضة.
بينما معارضوه كانوا يقولون إن هذه العدالة المحضة غيرُ قابلة للتطبيق؛ حيث هناك عوائقُ ومشكلاتٌ كثيرة تظهر أثناء تطبيقها، فصار اجتهادهم إلى العدالة الإضافية] ([39]).
وعن أهمية الرابطة الإسلامية جامعة ومُكَمِّلة، وأن القوميات الصغيرة ممزقة ومنفرة، يتحدث العلاَّمة النورسي عن طريقة الأمويين في حكمهم، حيث [فضّلوا رابطة القومية على رابطة الإسلام فأضروا من جهتين:
الأولى: آذوا الأقوام الأخرى بنظرتهم هذه، فوّلدوا فيهم الكراهية والنفور.
الثانية: إن الأسس المتبعة في القومية والعنصرية أسس ظالمة لا تتبع العدالة ولا توافق الحق؛ إذ لا تسير تلك الأسس على وفق العدالة، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم بنو جنسِه على غيرهم، فأنَّى له أن يبلغ العدالة! بينما ((الإسلام يجبّ ما قبله)) ([40]) من عصبية جاهلية، لا فرق بين عبد حبشي وسيد قرشي إذا أسلما، فلا يمكن إقامة رابطة القومية بدلاً من رابطة الدين في ضوء هذا الأمر الجازم؛ إذ لا تكون هناك عدالة قطٍ، وإنما تَهْدِر الحقوق ويَضِيْع الإنصاف] ([41]).
ويصف العلاَّمة النورسي الحالةَ السياسية عامة بقوله: [إن الدستور الغادر للسياسيين الظلمة الذين هو: "يُضحى بالفرد لأجل الجماعة" له وقائع وأحداث قاسية ظالمة تحت اسم "أهون الشرين" الذي اتخذه بعض الحكام نوعاً من أنواع العدالة الإضافية (النسبية) وأبرزوه لمصلحة إدامة حكمهم، حتى في هذا العصر بموجب هذا الدستور الغادر يُفْنِي أحدهم قريةً كاملةً بخطأ شخص واحد فيها، ويهلك ألوف الناس لتوهم ضرر قد يَلحق بسياستهم من جراء معارضة عشرة أشخاص] ([42]).
وفي موضع آخر يقول: [دستور المدنية الدنيّة الظالم هو: يُضَحَّى بالفرد لأجل الجماعة ولا يُنظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة.
وقد فتح هذا الدستور ميدان مظالم شنيعة لم يُر مثلها حتى في القرون الأولى.
بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يُفدى بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة، فالحق حق، لا ينظر إلى كثيره وقليله] ([43]).
ويوجه العلاَّمة النورسي الحكام إلى حسنِ السيرة مع الشعوب متمثلين أخلاقَ العظام من الأنبياء والمرسلين؛ أصحابِ الحق والعدل، فيقول: [أيها الحكام! ويا من تسلمتم أمر البلاد! إن كنتم تريدون أن تسود العدالة أنحاء مملكتكم، فاقتدوا بسليمان - عليه السلام - واسعَوا مثله إلى مشاهدة ما يجري في الأرض كافة، ومعرفة ما يحدث في جميع أرجائها؛ فالحاكم العادل الذي يتطلع إلى بسط راية العدالة في ربوع البلاد، والسلطان الذي يرعـى شؤون أبناء مملكته، ويشفق عليهم، لا يصل إلى مبتغاه إلا إذا استطاع الاطلاع - متى شاء - على أقطار مملكته، وعندئذٍ تعم العدالة حقاً، وينقذ نفسَه من المحاسبة والتبعات المعنوية] ([44]).
ويوجه عنايته إليهم ليحسنوا التعامل مع الرعية مسترشدين بالعدالة؛ صوناً لحكمهم وحفاظاً على هيبتهم، فيقول: [العدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة]([45]).
وفي الختام: لا يسعني إلا أن أشكر القائمين على هذا المؤتمر، جزاهم الله خيراً، وهم الذين يذكرون ويتذكرون أحدَ أهم عظماء الأمة في الزمن القريب؛ تكريماً وعرفاناً بالجميل.
وأذكر قول العلامة النورسي: [لو كان لي ألف روح، لكنت مستعداً لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة؛ إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة، أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون] ([46]).
رحم الله العلاَّمة النورسي رحمة واسعة، وأجزل مثوبته، ورفع مقامه، وألحقه بموكب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
([1]) من نوى رسائل النور والأدب الإيماني، إحسان قاسم الصالحي، مركز رسائل النور ـ استانبول، موقع رابطة أدباء الشام، www.odabasham.org..
([2]) تفسير الطبري، 2/7، ومصنف ابن أبي شيبة، 6/310.
([3]) لسان العرب، ابن منظور، مادة (عدل)، 11/430.
([4]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([5]) من إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ص 23.
([6]) من إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ص 177.
([7]) من إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ص 24.
([9]) من الكلمة التاسعة والعشرون.
([11]) رواه أبو داود والترمذي.
([14]) رواه مسلم والترمذي، ضبطناه بفتح الباء الثانية وكسرها وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعات من العلماء قال القاضي عياض رويناه بالكسر قال ورأيت للخطابي أنه بالفتح وقال صاحب المطالع وريناه بكسر الباء وفتحها من بله يبله والبلال الماء ومعنى الحديث سأصلها شبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها باطفاء الحرارة ببرودة ومنه بلوا أرحامكم أى صلوها
([16]) رواه ابن ماجه والبيهقي.
([17]) من إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ص 66.
([18]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([19]) فتح الباري، ابن حجر، 5/98.
([20]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([21]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([22]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور، 1/308.
([23]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور، 1/311.
([24]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور، 1/308.
([25]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور، 1/308.
([26]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور، 1/316.
([28]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([29]) من نوى الحقائق، والكلمة الثالثة والثلاثون.
([31]) من الكلمة الخامسة والعشرون.
([32]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن، ورواه ابن أبي شيبة، والبيهقي.
([33]) الدراري المضيئة، الشوكاني، 1/415.
([34]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر، 5/283.
([35]) مصنف ابن أبي شيبة، 6/170، وأخرجه أبو داود كما في فتح الباري، 1/47.
([36]) من المكتوب الثاني والعشرون.
([37]) من الكلمة الثالثة والثلاثون.
([40]) فتح الباري، ابن حجر، 7/196، ومجمع الزوائد، الهيثمي، 1/31.
([42]) من ملحق أمير داغ، بكليات رسائل النور.
([43]) من ملحق قسطموني بكليات رسائل النور، في فقه دعوة النور، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، ص: 172.
عدد القراء : 2292