اللغة العربية بين الأصالة والتجدد
إن أمة تتصف بالعلم، وترفع شعار القراءة لهي أمة جديرة بحمل الحضارة ونشرها، وأُذَكِّر الأمة العربية بأن التحول الأكبر قد حصل فيها نتيجة الوحي القرآني المنـزل على رسول الله r بقول تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ([العلق: 1]، والقراءة هنا قراءة هادفة، واضحة المعالم، منضبطة المقاصد، قال تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)([العلق: 1-5]، فالقراءة والعلم مقرونان بالتربية المستنيرة بمنهج خالق الكون.
ومن المعلوم أن مظهر العلم وأداته هو اللغة، فهي من أهم أدوات التشكيل الثقافي، والبناء الحضاري للأمم، فاللغة وعاء الفكر، وأداة التعبير، وطريقة التفاهم، وأسلوب التواصل؛ بها تقوى الصلات، وتزداد الروابط، وهي مخزون الأمة الثقافي وتراثها، وقد قالوا: مَن تكلَّم بلسان قوم فكَّر بعقلهم.
ولغة اليوم الحاضر جسر ممدود بين ماض مشرِّف، نعتز به ونفتخر، ومستقبل زاهر، نتطلع إليه ونتشوف، وبهذا الجسر تتحدد شخصية الأمة وتنضج هويتها، وكما قال همبلت (Humboldt) بأن (روح الشعب لغته) ([1]).
فاختيار ألفاظ التعبير وأدوات التواصل الفكري يؤَثِّران في بناء المَلَكة العقلية والقدرة التفكيرية، وفي الحِكَم قالوا: لسان الحكيم من وراء عقله.
ويقال: الأسلوب هو الشخصية، فأسلوب الكلام، وطريقة الأداء، واختيار الألفاظ، يدلاَّن على شخصية صاحبها.
فالأمة القوية ـ بالمقاييس العلمية ـ : هي التي تكون لغتها رصينة، قوية في تراكيبها، متينة في أسلوبها، جميلة في ألفاظها، حسنة في جرس أصوات حروفها.
والأمة المهزوزة المهزومة تخلط في لسانها بين أصلها وتراثها من جهة، وبين لسان غيرها فتصبح هجينة؛ لا تبقى على حالها وأصلها، ولا تستطيع اللحاق بالآخر.
وفي الصميم:
ما أروع الأمة التي تكفَّل الله حفظ لسانها ولغتها بتكفل حفظ القرآن الكريم.
وما أسخف مَن تناسى أو تجاهل هذا الأمر، وراح ينطق بلغة غيره، أو يستخف بلسان قومه.
ومن المسَلَّمات:
أ – وجود علاقة التلازم بين التعبير والتفكير.
ب – دور اللسان واللغة في بناء العقل.
ج – أثر اللغة في إغناء العقل بمجموعة المفردات، فكلما كانت خفيفة مرنة كان تشكيل العقل انسيابياً بعيداً عن انحباس المعاني.
د – غَناء اللغة يمنح العقل رحابةً وانطلاقاً في التفكير.
وما دامت اللغة من أهم العوامل في تشكيل الأمة وتفاهمها وتواصلها، فهي ـ أي اللغة ـ من القلاع الأساسية، والحصون الواجب المحافظة عليها.
وإذا تم الحديث بلغة الانتصارات والانهزامات فإن النصر يأتي للأمة القوية فكرياً، قبل أن يأتي للأمة القوية عسكرياً.
والقوة الفكرية أساسها: اللغة، ومنطلقها: الاجتماع، ووسيلتها: الاقتصاد، وسياجها: السياسة.
فإذا ما تم اكتمال عناصر القوة فكرياً تم تحقيق النصر العسكري، وما توالي هزائم الأمة العربية والإسلامية إلا بسبب انفراط عِقد هذه السلسلة المتلازمة في التشكيل العام، وخير دليل على صحة هذه المتلازمة: التاريخ المجيد للأمة التي حملت القرآن لساناً، وتكافلت اجتماعياً، وأخذت بالوسائل المتطورة اقتصادياً، وحمت نفسها بسياج الشورى سياسياً؛ فكُتِب لها النجاح في الأرض، وعم نورها الآفاق، وسطع نجمها في سماء الأمم.
ومع تجارب الأمم والشعوب، وتلاقح الحضارات أدرك المفكرون هذه القضية فاستهدفوا أساس الانتصارات، فبدأوا بتعطيل وسيلة التفكير عند الآخر، ألا وهو اللغة؛ ليصلوا إلى إلغاء العقل، وطمس الشخصية، عن طريق العبث بالثقافة، وقطع أوصال الجيل بتراثه، وتجفيف منابع الانطلاق نحو المستقبل، واجتثاث الجذور؛ ليعيش الأفراد في مهب الريح.
وقد عرف المستعمرون أهمية اللغة في تشكيل الوعي السياسي فكانت أهدافهم منصبة إلى اللغة العربية لأنها لغة ودين أيضًا، واستطاعوا أن يضعفوها عن بعض البلاد العربية.
غربة العربية وسطوة الإنجليزية
إن اللغة لم تعد وسيلة للتفاهم فقط، ولكنها صارت مظهرًا من مظاهر السيطرة والسيادة اقتصاديًا وإعلاميًا وفكريًا وعسكريًا، وهذه السطوة لا تخلو من دلالات أهمها:
- سيطرة الإنجليزية تعني سيطرة النموذج الأمريكي -على وجه الخصوص- بعد زوال الاتحاد السوفيتي، تبقى الهيمنة لأمريكا وحدها في عصر العولمة وهو ما يعني سيطرتها في كل المجالات.
- صارت اللغة مظهرًا من مظاهر الرقي الاجتماعي -دون الرقي الفكري أحيانًا، ومنا من يرى أن دراسة أولاده بالعربية مظهر من مظاهر التدني الاجتماعي يبعده عن ركاب الطبقة الراقية، ولا يعني ذلك أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية، ولكننا ضد سيطرة اللغة الأجنبية -في بلادنا- على حساب لغتنا الأم.
- أن الغالبية العظمى ممن يملكون أطباق استقبال الأقمار الصناعية صاروا يحتاجون للغة الأجنبية لمحاولة المتابعة في القنوات التي يستقبلونها -أو مواقع الإنترنت- من أحداث وغيرها وهو ما يعنى أن نظام السماوات المفتوحة ربما أدى إلى غربة لغوية ومن هنا تأتي صعوبة المهمة الملقاة على عاتق الآباء والأمهات والمعلمين لضرورة التمسك باللغة العربية.
أن محاولة نشر اللغة الأجنبية ربما يقصد منها محاولة طمس هويتنا، فاللغة والدين كلاهما يرتبط بالآخر.
خطر الحداثة بمفهوم أعداء اللغة:
إن كل سقطة لغوية ينطق بها مذيع، أو معلم، أو مقدم برامج، أو صحفي، أو محاضر، أو خطيب، أو ممثل: تترك آثارها الضارة وبصماتها البارزة في حياة الناس بالسلب أو الإيجاب.
ومن وسائل المكائد وأدوات المصائد التي يستخدمها أعداء الأمة: تلك المحاولات المستمرة التي تستهدف اللغة العربية بما يسمى بـ (الحداثة)، ومحاولة هدم المعمار الغوي، وتجاوز بناء الجملة، وطمس دلالات المصطلحات، وكسر الأوزان الشعرية، والدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة؛ بنحوها وصرفها، وزرع لغة جديدة وإنتاج خليط هجين من المفردات والتراكيب.
العامية والتحديث:
بدعوى الحداثة والتطوير، يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وكتابها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وعقيدتها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة ومعرفتها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وفكرها.
يريدون تحقيق القطيعة الكاملة مع الذات.
يريدون تحقيق العجز عن فهم الحضارة.
يريدون تحقيق العجز عن إدراك الحياة الوسطية المعتدلة.
لأن العامية ستبدأ بنقطة انفصال عن الأصل، ثم تتوسع دائرة الانفصال لينشأ عنها انفصالات أخرى، وعاميات متعددة تؤدي إلى مزيد من حواجز التمزيق داخل الأمة، وتحول دون تفاهمها وتماسكها.
فانفصال اللبنانية مثلاً عن اللغة العربية،سيتبعه انفصال فيما بعد للبيروتية عن اللبنانية، وهكذا يجد الناس أنفسهم في نطاقات ضيقة، أو يقومون باستيراد لغة تجمعهم: الإنجليزية للتجارة، والفرنسية للمحادثة اليومية،ونحو ذلك.
إشكالية لغة العلم:
في نطاق الدعوة نحو التحديث والتطوير، قُدِّمت إشكالية كبيرة إلى اللغة العربية مفادها: أن اللغة العربية تفتقر إلى المصطلحات العلمية الحديثة المتطورة والمتلاحقة المتسارعة، كما أن غياب المراجع العلمية التي يحتاجها البحث والدارس أدى إلى مزيد من هذه الهوة.
وبالتالي فإن اللغة العربية في طريقها لتكون لغة دين، وطقس عبادة، معزولة عن المجالات العلمية، حبيسة عن التطورات التقنية.
والجواب: إن مسألة توحيد المصطلح العلمي بين الدارسين في أرجاء الوطن العربي أمر مهم، وليس رغبةً؛ مَن شاء فعلها، ومَن شاء تركها، فالمسألة ليست خاضعة لنـزعة سياسية متقلبة، أو اجتماعية مزاجية، بل ضرورة كبرى، واستراتيجية عليا.
هذا، وإن الخطأ في هذا الجانب ليس في اللغة ذاتها، بل في الإنسان الذي يحملها دون أن يواكب الحياة، فليست المسؤولية واقعة على اللغة؛ فبمقدورها ـ من خلال مخزونها وكنوزها ـ استيعاب العلوم والفنون وإبداع المصطلحات، والمسؤولة عن التقصير تتوجه إلى الإنسان، أي أفراد الأمة المتخاذلين منهم، العاجزين عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي جعل الأمة بأسرها تعيش على فتات الآخرين، ومن المعلوم أن مَن أكل طعام غيره نطق بالشكر والثناء عليه، وتكلم بلسانه، وتفكَّر بعقله إن حاول التفكير، وربما ارتضى لنفسه الكسل والخنوع، والتقليد والمحاكاة؛ بعيداً عن كل إبداع وابتكار، فتابع العيش على خيرات الآخرين، دون أن يكلِّف نفسه عناء العمل وبذل الجهد.
هذا، ولا يُنكر الجهد المحدود المشكور في مجال تعريب العلوم ومناهج التعليم والمصطلحات العلمية، في بعض الجامعات العلمية العربية، وبخاصة في بلاد الشام، وإنه لحجة على أولئك المتكاسلين، ودليل على قدرة اللغة العربية، وشاهد حق في وجه المتخاذلين.
التحول إلى اللغة اللاتينية:
ولعل من أهم الإصابات الخطيرة والسهام الموجهة إلى صدر اللغة العربية، ويُخشى أن تصيبها في مقتل: ما قيل عن صعوبة كتابة اللغة العربية، وصعوبة رسم حروفها، وتعقيد رسمها وشكلها، وصعوبة قواعدها ونحوها وصرفها.
وإن الوسائل والتقنيات الحديثة قد جاءت كلها بالحروف اللاتينية، وإن الدخول إلى عالم الحاسبات الآلية، وشبكة المعلومات العالمية يتطلب إبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي.
وهذا هو أحد طرق التغريب للأمة العربية،ومَن ورائها من أمم المسلمين، إذ العجيب الغريب أن تلك الصعوبات لم تنطبق إلا اللغة العربية.
أما اللغة الصينية ـ مثلاً ـ بكب تشعبات حروفها وتضاريس كلماتها، وكذا اللغة اليابانية بكل تعقيدات رسوم حروفها وكلماتها، وحتى اللغة العبرية التي كادت أن تنقرض لم تعانٍ من هذه الإصابة في المقتل؟!!!.
ولعل السبب أن وراء هذا اللغات أمم تُدرك أهمية اللغة، ودورها في الحياة، وتأثيرها في تشكيل العقل، وتكوين الوجدان، وصياغة الهوية، ومن جهة أخرى إهمال للغة العربية من قِبَل بعض حامليها،أو المولودون فيها بأجسادهم، والمنشؤون في الغرب بأفكارهم، مِمَن تتلمذ لعدو الأمة، وحظي بالدعم الخارجي؛ لتحطيم الأمة من داخلها .
غيورية الأمم الأخرى على لغاتها:
يقول غوستاف لوبون: (إذا استعبدت أمة، ففي يدها مفتاح حبسها؛ ما احتفظت بلغتها) ([2]).
هذا، وإن أمماً كثيرة مزقها الاستعمار فاعتصمت بوحدة اللغة، واتخذت من ذلك سلاحاً ضد التفرقة ورمزاً للتحرير([3]).
فاللغة القومية تشد الإنسان الفرد إلى قومه، وتُربي فيه شخصية أمته، وتنمي فيه عزتها وتمنحه أصالة الانتماء إليها.
وفي شتى بلدان العالم نجد الغيورون على اللغات الوطنية يسعون لتأكيد أصالتها من خلال التعامل مع المصطلحات الأجنبية وفق ما يقتضيه حال لغتهم، والبحث عما يقابله في اللغة الأصلية أولاً، فعلى سبيل المثال:
- هناك حصة إذاعية في ألبانية؛ لمعالجة مسألة الكلمات الدخيلة، ويسعى الخبراء لاستبدال الألفاظ المحلية بالدخيلة؛ حفاظاً على اللغة الألبانية من الذوبان في لغات أمم التقنية الحديثة([4]).
- في فرنسة، يوجد المجمع الفرنسي الذي لا يُدخل قاموسه إلا ما كان سليماً من حيث الأصل الفرنسي، وموافقاً للذوق والأساليب الفرنسية([5]).
- بعد أن غزا نابليون بلاد الألمان وجزَّأها ، وفرَّق وحدتها: قام رجال الفكر فيها يبعثون اللغة ويحيون وحدتها معلنين أن الوطن ـ مهما يتجزأ ـ وطن اللغة الواحدة([6]).
- غيرة الألمان على لغتهم، فهم يستعملون المعاني الآتية على سبيل المثال: للتليفون: التكلم البعيد، والتلفزة: الرؤية البعيدة، والجغرافية: معرفة الأرض، والبترول: زيت الأرض([7]).
- ذهب المشاركون في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الإعلامية في أفريقية بـ(ياوندي، عاصمة الكاميرون) في (يوليو) 1980 إلى الإقرار: بأن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يعد وسيلة من أنجع الوسائل لتأكيد الذاتية الثقافية؛ فاللغة من المقومات التي تجعل للإنسان ذاتيته، أي انتماءه إلى جماعة معينة من الناس، وذلك بالإضافة إلى دورها في تيسير تحصيل المعارف، كما أن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يُمَكِّن من إضفاء الفعالية على عملية المشاركة([8]).
تهاون مقابل الغيرة:
في مقابل تلك الغيرة من الآخرين على لغتهم، يُلاحَظ التهاون والتساهل من قِبَل بعض العرب بلغتهم، فعلى سبيل المثال([9]):
كلمة (Pendulum) يستخدمها المصريون تحت تسمية: بندول الساعة.
ويستخدمها العراقيون تحت تسمية: رقاص الساعة.
ويستخدمها السوريون تحت تسمية: نواس الساعة.
ويستخدمها الأردنيون تحت تسمية: خطار الساعة.
فعلى الأقل ينبغي أن تختار الدول العربية ترجمة واحدة للمصطلح الحديث، أو تختار لهم مجامع اللغة العربية كلمة واحدة تعم الوطن الواسع بعد التنسيق والتعاون بين المجامع.
هذا، ويمكن تعميم هذا الخطأ على الطوفان الجارف من مصطلحات التقنية الحديثة والاختراعات المتجددة.
حتى في المصطلحات السياسية والإعلامية يلاحظ التقليد والمحاكاة للمصطلحات حسب مفاهيم الآخرين، وليس حسب مفاهيم المنطقة، فمثلاً كلمة (Terror) والتي تعني فيما تعنيه: القتل والتدمير، والخروج على القانون، وضعت بدل كلمة الرهبة والخشية.
إن عدداً كبيراً من الألفاظ والتراكيب لا يُعرف واضعها ولا صانعها أصبحت من صميم لغة التعامل اليومية في الأمة العربية.
وإن من حق اللغة العربية على أبنائها أن يعيشوها في حياتهم نطقاً، ويحيونها في يومياتهم سلوكاً، وأن تكون في موقع الصدارة في الخطاب بين أبنائها فكراً، ومن حق الأمة أن تسمي الأشياء الوافدة عليها ـ من مخترعات ومصطلحات ـ بلغتها هي وبمسميات متناسبة مع البيئة المحلية.
خطر التخلي عن اللغة الأصيلة:
إن قضية التمييز بين اللغة الفصحى واللهجة العامية ليست أقل خطورة في صراع الأصالة والتجديد من خلال دعوى التخلي عن اللغة أصلاً؛ فباسم الحداثة والتطور، وباسم التقدم والتجدد: ظهرت دعوات لاعتبار اللهجة العامية هي الأصل؛ كونها هي المنطوقة، والمستعملة يومياً، وكونها أكثر سلاسة وانسياباً، وأيسرَ في التفاهم والتعارف، ودعوة إلى ترك اللغة الفصحى لتبقى محنطةً في المعاجم والكتب التراثية؛ كونها فاقدة القدرة على الإرسال والتفاعل مع الحياة؛ نظراً لصعوبة تعلمها والإحاطة بها.
ويمكن وصف أصحاب هذه الدعوة ضيقو النظر، ضعيفو المدْرَك، حيث إنهم: يريدون العيش في إطار محدود في المكان والزمان، وضمن إطار ضيق؛ مِمَن يعرفون لهجة واحدة، وهؤلاء الذين يعرفون لغة واحدة متفقاً عليها لا يتجاوزن في العدد حدود نصف أصغر دولة، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن العالم اليوم يعيش في زمن الانفتاح والتوسع، وفي مرحلة التضامن والتكتل؛ بشرياً واقتصادياً؛ لمواجهة مخاطر الحياة القاسية.
ومن جهة أخرى أقول بأن هؤلاء ـ دعاة التمزق والتشرذم ـ قد أخطأوا القياس في جعل اللغات كلها بمستوى واحد؛ حيث يرددون القول بأن اللغة كائن حي؛ يولد، وينمو، ويشب، ويكبر، ثم يشيخ، ويهرم، ثم يأتيه الأجل فيموت.
ومن المعلوم أن هناك تلازم بين اللهجات المحلية،وبين الجهل والأمية، والتأثر متبادل بين الجهتين، فكيف يستسيغون أن يبقولا في الجهالة والأمية.
وإذا كانت هذه النظرية صحيحة في اللغات عامة؛ فإن الاستثناء من القاعدة: هو اللغة العربية؛ لا بفضل الإنسان الناطق بها وحمله لها فحسب، بل بفضل دين الله: الإسلام وحفظه لها، من خلال الوعد الذي أخذه على نفسه خالق الكون والحياة، ومنشئ الإنسان، ومعلِّم اللغات، جلَّ جلاله.
إذ إن القانون الإلهي قضى أن تبقى اللغة العربية دائمة بدوام الدين الخاتَم المنـزَّل على آخر الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد r.
آيات القرآن الواعدة بحفظ اللغة بحفظ الدين:
)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ([الحجر: 9].
)الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ([يوسف: 1 - 2].
)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا([طه: 113].
)وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ([الشعراء: 192 - 195].
)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ([فصلت: 3].
)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا([الشورى: 7].
)حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ([الزخرف: 3].
)وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ([الأحقاف: 12].
فالقرآن الكريم منح اللغة العربية قوة على قوتها، ومَتَّن بنيانها، وقوَّى أركانها، ودعم أساسها، فهي اليوم أغنى لغة في العالم؛ من حيث المفردات، ودقة التعبير، والأجدر والأقدر على مواجهة كيد الأعداء؛ مهما حاولوا جهدهم،وبذلوا طاقتهم، ولو أن تلك الطاقات وُجِّهت للغة أخرى غير اللغة العربية، أو لمجموع لغات؛ لفنيت وزالت، ومي أثرها منذ زمن بعيد.
هذا، وإن حفظ اللغة من قِبَل الله عزَّ وجلَّ قائم على شتى الصعد: من التغيير والتحويل، ومن الشيخوخة والهرم، ومن الفناء والزوال.
خواص اللغة العربية:
- عراقتها وقِدمها، ودوامها واستمرارها عبر قرون امتدت أكثر ألقي عام.
- أكثر أخواتها احتفاظاً بالأصوات السامية، من خلال ثبات أصوات حروفها، فهي الأغنى والأوفر من حيث عدد مخارج الحروف (سبعة عشر مخرجاً)،ولا يلتبس حرف بآخر.
- أدق أخواتها في قواعد النحو والصرف، فهي لغة اشتقاق.
- أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات وتآلف المفردات.
- استغناؤها عن تمثيل الحرف الواحد بحرفين.
- تنوع أساليبها؛ لمزيد من توضيح المعاني، ووجود المجاز والقياس.
- عالميتها، فالناطقون بها يشكلون أكثر من خمس عدد سكان العالم الإجمالي.
- شرفها وقداستها، ورفعة قدرها، باحترام المسلمين لها، وجعلها لغة الخطاب بين العبد وربه.
سمات اللغة العربية([10]):
- إنها لغة حية.
- إنها عاشت قروناً طويلة.
- حُفظت من التغيير في كلماتها وتراكيبها منذ خمسة عشر قرناً.
- فيها جوامع الكلم؛ بحيث تُؤدى المعاني الكثيرة بكلمات وعبارات موجزة.
- معظم مشتقاتها تقبل التصريف؛ مما يجعلها في طوع أهلها، وأكثر تلبية لحاجة المتكلمين بها.
وفي الختام:
أنقل كلمات عن الأستاذ الدكتور الشهيد الشيخ صبحي الصالح: [لغة العرب مرنة مطواع، لها من خصائصها في الاشتقاق،ومزاياها في التوليد، وأسرارها في الصياغة،وطرائقها في التعبير، ما يفي بترجمة روائع الفكر، ومبتكرات العلم، وبدائع الفن، وما يلبي مطالب الحياة والأحياء في الأنفس والآفاق]([11]).
من التوصيات:
- إن الارتقاء اللغوي منوط بالفصحى، وسبيل ذلك: التطلع إلى محاكاة أسلوب القرآن؛ المعجزة الخالدة البيانية.
- الارتقاء إلى وسائل معاصرة في تعليم اللغة العربية.
- التوجه نحو تعريب المصطلحات، فهو خيار لغوي، وسمة حضارية.
- الاهتمام بالبيئة السماعية للتدريب على اللغة الفصيحة بمفرداتها وتراكيبها وعباراتها.
- دعوة وسائل الإعلام للاهتمام بتعليم اللغة الفصيحة.
- جعل الإعلام موقعاً مسانداً للعملية التربوية والتعليمية، وليس عامل هدم، أو وسيلة استلاب ثقافي.
- دعوة علماء الاجتماع للمشاركة في مثل هذه الندوات لإيجاد الوسائل الناجحة.
- التنسيق على مستوى المؤسسات العلمية والمجامع اللغوية.
- الدعوة إلى تجسيد مبدأ: أن اللغة العربية ثابت من الثوابت الوطنية، والدعوة إلى التحلي بروح التفاني والإخلاص في خدمتها.
- الدعوة إلى تنفيذ توصيات المجامع اللغوية العربية التي تنص على جعل اللغة العربية الفصحى هي لغة جميع وسائل الإعلام العربية، وبخاصة في الإذاعتين المسموعة والمرئية، مع تعميم اللغة الفصحى في المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية.
([1]) يُنْظَر: اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، محاضرات تتناول التعريب في الوطن العري؛ تدريساً وتأليفاً ومصطلحاً، د. مازن المبارك، مؤسسة الرسالة، دار النفائس، ص62.
([2]) يُنْظَر: اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، محاضرات تتناول التعريب في الوطن العري؛ تدريساً وتأليفاً ومصطلحاً، د. مازن المبارك، ص10.
([3]) الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي، ضمن: الموسوعة الإسلامية العربية (10)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، ص 255.
([4]) يُنْظَر: الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، نور الدين بليبل، ضمن سلسلة (كتاب الأمة)، العدد 84، رجب 1422هـ، السنة الحادية والعشرين، ص 119وما بعدها.
([5]) يُنْظَر: التعريب ووسائل تحقيقه، محمد الفاسي، مجلة الأصالة، عدد خاص، رقم 17/18، 1974م، ص 117.
([6]) يُنْظَر: اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، محاضرات تتناول التعريب في الوطن العري؛ تدريساً وتأليفاً ومصطلحاً، د. مازن المبارك، ص10.
([7]) يُنْظَر: المرجع السابق، ص 116.
([8]) يُنْظَر: التقرير النهائي للمؤتمر الحكومي الدولي للسياسات الإعلامية في أفريقية، اليونسكو، 1981م، ص 16.
([9]) يُنْظَر: الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، نور الدين بليبل، ضمن سلسلة (كتاب الأمة)، العدد 84، رجب 1422هـ، السنة الحادية والعشرين، ص 120.
اللغة العربية بين الأصالة والتجدد
الدكتور الشيخ: علاء الدين زعتري
www.alzatari.org
إن أمة تتصف بالعلم، وترفع شعار القراءة لهي أمة جديرة بحمل الحضارة ونشرها، وأُذَكِّر الأمة العربية بأن التحول الأكبر قد حصل فيها نتيجة الوحي القرآني المنـزل على رسول الله r بقول تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ([العلق: 1]، والقراءة هنا قراءة هادفة، واضحة المعالم، منضبطة المقاصد، قال تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)([العلق: 1-5]، فالقراءة والعلم مقرونان بالتربية المستنيرة بمنهج خالق الكون.
ومن المعلوم أن مظهر العلم وأداته هو اللغة، فهي من أهم أدوات التشكيل الثقافي، والبناء الحضاري للأمم، فاللغة وعاء الفكر، وأداة التعبير، وطريقة التفاهم، وأسلوب التواصل؛ بها تقوى الصلات، وتزداد الروابط، وهي مخزون الأمة الثقافي وتراثها، وقد قالوا: مَن تكلَّم بلسان قوم فكَّر بعقلهم.
ولغة اليوم الحاضر جسر ممدود بين ماض مشرِّف، نعتز به ونفتخر، ومستقبل زاهر، نتطلع إليه ونتشوف، وبهذا الجسر تتحدد شخصية الأمة وتنضج هويتها، وكما قال همبلت (Humboldt) بأن (روح الشعب لغته) ([1]).
فاختيار ألفاظ التعبير وأدوات التواصل الفكري يؤَثِّران في بناء المَلَكة العقلية والقدرة التفكيرية، وفي الحِكَم قالوا: لسان الحكيم من وراء عقله.
ويقال: الأسلوب هو الشخصية، فأسلوب الكلام، وطريقة الأداء، واختيار الألفاظ، يدلاَّن على شخصية صاحبها.
فالأمة القوية ـ بالمقاييس العلمية ـ : هي التي تكون لغتها رصينة، قوية في تراكيبها، متينة في أسلوبها، جميلة في ألفاظها، حسنة في جرس أصوات حروفها.
والأمة المهزوزة المهزومة تخلط في لسانها بين أصلها وتراثها من جهة، وبين لسان غيرها فتصبح هجينة؛ لا تبقى على حالها وأصلها، ولا تستطيع اللحاق بالآخر.
وفي الصميم:
ما أروع الأمة التي تكفَّل الله حفظ لسانها ولغتها بتكفل حفظ القرآن الكريم.
وما أسخف مَن تناسى أو تجاهل هذا الأمر، وراح ينطق بلغة غيره، أو يستخف بلسان قومه.
ومن المسَلَّمات:
أ – وجود علاقة التلازم بين التعبير والتفكير.
ب – دور اللسان واللغة في بناء العقل.
ج – أثر اللغة في إغناء العقل بمجموعة المفردات، فكلما كانت خفيفة مرنة كان تشكيل العقل انسيابياً بعيداً عن انحباس المعاني.
د – غَناء اللغة يمنح العقل رحابةً وانطلاقاً في التفكير.
وما دامت اللغة من أهم العوامل في تشكيل الأمة وتفاهمها وتواصلها، فهي ـ أي اللغة ـ من القلاع الأساسية، والحصون الواجب المحافظة عليها.
وإذا تم الحديث بلغة الانتصارات والانهزامات فإن النصر يأتي للأمة القوية فكرياً، قبل أن يأتي للأمة القوية عسكرياً.
والقوة الفكرية أساسها: اللغة، ومنطلقها: الاجتماع، ووسيلتها: الاقتصاد، وسياجها: السياسة.
فإذا ما تم اكتمال عناصر القوة فكرياً تم تحقيق النصر العسكري، وما توالي هزائم الأمة العربية والإسلامية إلا بسبب انفراط عِقد هذه السلسلة المتلازمة في التشكيل العام، وخير دليل على صحة هذه المتلازمة: التاريخ المجيد للأمة التي حملت القرآن لساناً، وتكافلت اجتماعياً، وأخذت بالوسائل المتطورة اقتصادياً، وحمت نفسها بسياج الشورى سياسياً؛ فكُتِب لها النجاح في الأرض، وعم نورها الآفاق، وسطع نجمها في سماء الأمم.
ومع تجارب الأمم والشعوب، وتلاقح الحضارات أدرك المفكرون هذه القضية فاستهدفوا أساس الانتصارات، فبدأوا بتعطيل وسيلة التفكير عند الآخر، ألا وهو اللغة؛ ليصلوا إلى إلغاء العقل، وطمس الشخصية، عن طريق العبث بالثقافة، وقطع أوصال الجيل بتراثه، وتجفيف منابع الانطلاق نحو المستقبل، واجتثاث الجذور؛ ليعيش الأفراد في مهب الريح.
وقد عرف المستعمرون أهمية اللغة في تشكيل الوعي السياسي فكانت أهدافهم منصبة إلى اللغة العربية لأنها لغة ودين أيضًا، واستطاعوا أن يضعفوها عن بعض البلاد العربية.
غربة العربية وسطوة الإنجليزية
إن اللغة لم تعد وسيلة للتفاهم فقط، ولكنها صارت مظهرًا من مظاهر السيطرة والسيادة اقتصاديًا وإعلاميًا وفكريًا وعسكريًا، وهذه السطوة لا تخلو من دلالات أهمها:
- سيطرة الإنجليزية تعني سيطرة النموذج الأمريكي -على وجه الخصوص- بعد زوال الاتحاد السوفيتي، تبقى الهيمنة لأمريكا وحدها في عصر العولمة وهو ما يعني سيطرتها في كل المجالات.
- صارت اللغة مظهرًا من مظاهر الرقي الاجتماعي -دون الرقي الفكري أحيانًا، ومنا من يرى أن دراسة أولاده بالعربية مظهر من مظاهر التدني الاجتماعي يبعده عن ركاب الطبقة الراقية، ولا يعني ذلك أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية، ولكننا ضد سيطرة اللغة الأجنبية -في بلادنا- على حساب لغتنا الأم.
- أن الغالبية العظمى ممن يملكون أطباق استقبال الأقمار الصناعية صاروا يحتاجون للغة الأجنبية لمحاولة المتابعة في القنوات التي يستقبلونها -أو مواقع الإنترنت- من أحداث وغيرها وهو ما يعنى أن نظام السماوات المفتوحة ربما أدى إلى غربة لغوية ومن هنا تأتي صعوبة المهمة الملقاة على عاتق الآباء والأمهات والمعلمين لضرورة التمسك باللغة العربية.
أن محاولة نشر اللغة الأجنبية ربما يقصد منها محاولة طمس هويتنا، فاللغة والدين كلاهما يرتبط بالآخر.
خطر الحداثة بمفهوم أعداء اللغة:
إن كل سقطة لغوية ينطق بها مذيع، أو معلم، أو مقدم برامج، أو صحفي، أو محاضر، أو خطيب، أو ممثل: تترك آثارها الضارة وبصماتها البارزة في حياة الناس بالسلب أو الإيجاب.
ومن وسائل المكائد وأدوات المصائد التي يستخدمها أعداء الأمة: تلك المحاولات المستمرة التي تستهدف اللغة العربية بما يسمى بـ (الحداثة)، ومحاولة هدم المعمار الغوي، وتجاوز بناء الجملة، وطمس دلالات المصطلحات، وكسر الأوزان الشعرية، والدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة؛ بنحوها وصرفها، وزرع لغة جديدة وإنتاج خليط هجين من المفردات والتراكيب.
العامية والتحديث:
بدعوى الحداثة والتطوير، يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وكتابها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وعقيدتها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة ومعرفتها.
يريدون وضع حواجز بين الأمة وفكرها.
يريدون تحقيق القطيعة الكاملة مع الذات.
يريدون تحقيق العجز عن فهم الحضارة.
يريدون تحقيق العجز عن إدراك الحياة الوسطية المعتدلة.
لأن العامية ستبدأ بنقطة انفصال عن الأصل، ثم تتوسع دائرة الانفصال لينشأ عنها انفصالات أخرى، وعاميات متعددة تؤدي إلى مزيد من حواجز التمزيق داخل الأمة، وتحول دون تفاهمها وتماسكها.
فانفصال اللبنانية مثلاً عن اللغة العربية،سيتبعه انفصال فيما بعد للبيروتية عن اللبنانية، وهكذا يجد الناس أنفسهم في نطاقات ضيقة، أو يقومون باستيراد لغة تجمعهم: الإنجليزية للتجارة، والفرنسية للمحادثة اليومية،ونحو ذلك.
إشكالية لغة العلم:
في نطاق الدعوة نحو التحديث والتطوير، قُدِّمت إشكالية كبيرة إلى اللغة العربية مفادها: أن اللغة العربية تفتقر إلى المصطلحات العلمية الحديثة المتطورة والمتلاحقة المتسارعة، كما أن غياب المراجع العلمية التي يحتاجها البحث والدارس أدى إلى مزيد من هذه الهوة.
وبالتالي فإن اللغة العربية في طريقها لتكون لغة دين، وطقس عبادة، معزولة عن المجالات العلمية، حبيسة عن التطورات التقنية.
والجواب: إن مسألة توحيد المصطلح العلمي بين الدارسين في أرجاء الوطن العربي أمر مهم، وليس رغبةً؛ مَن شاء فعلها، ومَن شاء تركها، فالمسألة ليست خاضعة لنـزعة سياسية متقلبة، أو اجتماعية مزاجية، بل ضرورة كبرى، واستراتيجية عليا.
هذا، وإن الخطأ في هذا الجانب ليس في اللغة ذاتها، بل في الإنسان الذي يحملها دون أن يواكب الحياة، فليست المسؤولية واقعة على اللغة؛ فبمقدورها ـ من خلال مخزونها وكنوزها ـ استيعاب العلوم والفنون وإبداع المصطلحات، والمسؤولة عن التقصير تتوجه إلى الإنسان، أي أفراد الأمة المتخاذلين منهم، العاجزين عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي جعل الأمة بأسرها تعيش على فتات الآخرين، ومن المعلوم أن مَن أكل طعام غيره نطق بالشكر والثناء عليه، وتكلم بلسانه، وتفكَّر بعقله إن حاول التفكير، وربما ارتضى لنفسه الكسل والخنوع، والتقليد والمحاكاة؛ بعيداً عن كل إبداع وابتكار، فتابع العيش على خيرات الآخرين، دون أن يكلِّف نفسه عناء العمل وبذل الجهد.
هذا، ولا يُنكر الجهد المحدود المشكور في مجال تعريب العلوم ومناهج التعليم والمصطلحات العلمية، في بعض الجامعات العلمية العربية، وبخاصة في بلاد الشام، وإنه لحجة على أولئك المتكاسلين، ودليل على قدرة اللغة العربية، وشاهد حق في وجه المتخاذلين.
التحول إلى اللغة اللاتينية:
ولعل من أهم الإصابات الخطيرة والسهام الموجهة إلى صدر اللغة العربية، ويُخشى أن تصيبها في مقتل: ما قيل عن صعوبة كتابة اللغة العربية، وصعوبة رسم حروفها، وتعقيد رسمها وشكلها، وصعوبة قواعدها ونحوها وصرفها.
وإن الوسائل والتقنيات الحديثة قد جاءت كلها بالحروف اللاتينية، وإن الدخول إلى عالم الحاسبات الآلية، وشبكة المعلومات العالمية يتطلب إبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي.
وهذا هو أحد طرق التغريب للأمة العربية،ومَن ورائها من أمم المسلمين، إذ العجيب الغريب أن تلك الصعوبات لم تنطبق إلا اللغة العربية.
أما اللغة الصينية ـ مثلاً ـ بكب تشعبات حروفها وتضاريس كلماتها، وكذا اللغة اليابانية بكل تعقيدات رسوم حروفها وكلماتها، وحتى اللغة العبرية التي كادت أن تنقرض لم تعانٍ من هذه الإصابة في المقتل؟!!!.
ولعل السبب أن وراء هذا اللغات أمم تُدرك أهمية اللغة، ودورها في الحياة، وتأثيرها في تشكيل العقل، وتكوين الوجدان، وصياغة الهوية، ومن جهة أخرى إهمال للغة العربية من قِبَل بعض حامليها،أو المولودون فيها بأجسادهم، والمنشؤون في الغرب بأفكارهم، مِمَن تتلمذ لعدو الأمة، وحظي بالدعم الخارجي؛ لتحطيم الأمة من داخلها .
غيورية الأمم الأخرى على لغاتها:
يقول غوستاف لوبون: (إذا استعبدت أمة، ففي يدها مفتاح حبسها؛ ما احتفظت بلغتها) ([2]).
هذا، وإن أمماً كثيرة مزقها الاستعمار فاعتصمت بوحدة اللغة، واتخذت من ذلك سلاحاً ضد التفرقة ورمزاً للتحرير([3]).
فاللغة القومية تشد الإنسان الفرد إلى قومه، وتُربي فيه شخصية أمته، وتنمي فيه عزتها وتمنحه أصالة الانتماء إليها.
وفي شتى بلدان العالم نجد الغيورون على اللغات الوطنية يسعون لتأكيد أصالتها من خلال التعامل مع المصطلحات الأجنبية وفق ما يقتضيه حال لغتهم، والبحث عما يقابله في اللغة الأصلية أولاً، فعلى سبيل المثال:
- هناك حصة إذاعية في ألبانية؛ لمعالجة مسألة الكلمات الدخيلة، ويسعى الخبراء لاستبدال الألفاظ المحلية بالدخيلة؛ حفاظاً على اللغة الألبانية من الذوبان في لغات أمم التقنية الحديثة([4]).
- في فرنسة، يوجد المجمع الفرنسي الذي لا يُدخل قاموسه إلا ما كان سليماً من حيث الأصل الفرنسي، وموافقاً للذوق والأساليب الفرنسية([5]).
- بعد أن غزا نابليون بلاد الألمان وجزَّأها ، وفرَّق وحدتها: قام رجال الفكر فيها يبعثون اللغة ويحيون وحدتها معلنين أن الوطن ـ مهما يتجزأ ـ وطن اللغة الواحدة([6]).
- غيرة الألمان على لغتهم، فهم يستعملون المعاني الآتية على سبيل المثال: للتليفون: التكلم البعيد، والتلفزة: الرؤية البعيدة، والجغرافية: معرفة الأرض، والبترول: زيت الأرض([7]).
- ذهب المشاركون في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الإعلامية في أفريقية بـ(ياوندي، عاصمة الكاميرون) في (يوليو) 1980 إلى الإقرار: بأن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يعد وسيلة من أنجع الوسائل لتأكيد الذاتية الثقافية؛ فاللغة من المقومات التي تجعل للإنسان ذاتيته، أي انتماءه إلى جماعة معينة من الناس، وذلك بالإضافة إلى دورها في تيسير تحصيل المعارف، كما أن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يُمَكِّن من إضفاء الفعالية على عملية المشاركة([8]).
تهاون مقابل الغيرة:
في مقابل تلك الغيرة من الآخرين على لغتهم، يُلاحَظ التهاون والتساهل من قِبَل بعض العرب بلغتهم، فعلى سبيل المثال([9]):
كلمة (Pendulum) يستخدمها المصريون تحت تسمية: بندول الساعة.
ويستخدمها العراقيون تحت تسمية: رقاص الساعة.
ويستخدمها السوريون تحت تسمية: نواس الساعة.
ويستخدمها الأردنيون تحت تسمية: خطار الساعة.
فعلى الأقل ينبغي أن تختار الدول العربية ترجمة واحدة للمصطلح الحديث، أو تختار لهم مجامع اللغة العربية كلمة واحدة تعم الوطن الواسع بعد التنسيق والتعاون بين المجامع.
هذا، ويمكن تعميم هذا الخطأ على الطوفان الجارف من مصطلحات التقنية الحديثة والاختراعات المتجددة.
حتى في المصطلحات السياسية والإعلامية يلاحظ التقليد والمحاكاة للمصطلحات حسب مفاهيم الآخرين، وليس حسب مفاهيم المنطقة، فمثلاً كلمة (Terror) والتي تعني فيما تعنيه: القتل والتدمير، والخروج على القانون، وضعت بدل كلمة الرهبة والخشية.
إن عدداً كبيراً من الألفاظ والتراكيب لا يُعرف واضعها ولا صانعها أصبحت من صميم لغة التعامل اليومية في الأمة العربية.
وإن من حق اللغة العربية على أبنائها أن يعيشوها في حياتهم نطقاً، ويحيونها في يومياتهم سلوكاً، وأن تكون في موقع الصدارة في الخطاب بين أبنائها فكراً، ومن حق الأمة أن تسمي الأشياء الوافدة عليها ـ من مخترعات ومصطلحات ـ بلغتها هي وبمسميات متناسبة مع البيئة المحلية.
خطر التخلي عن اللغة الأصيلة:
إن قضية التمييز بين اللغة الفصحى واللهجة العامية ليست أقل خطورة في صراع الأصالة والتجديد من خلال دعوى التخلي عن اللغة أصلاً؛ فباسم الحداثة والتطور، وباسم التقدم والتجدد: ظهرت دعوات لاعتبار اللهجة العامية هي الأصل؛ كونها هي المنطوقة، والمستعملة يومياً، وكونها أكثر سلاسة وانسياباً، وأيسرَ في التفاهم والتعارف، ودعوة إلى ترك اللغة الفصحى لتبقى محنطةً في المعاجم والكتب التراثية؛ كونها فاقدة القدرة على الإرسال والتفاعل مع الحياة؛ نظراً لصعوبة تعلمها والإحاطة بها.
ويمكن وصف أصحاب هذه الدعوة ضيقو النظر، ضعيفو المدْرَك، حيث إنهم: يريدون العيش في إطار محدود في المكان والزمان، وضمن إطار ضيق؛ مِمَن يعرفون لهجة واحدة، وهؤلاء الذين يعرفون لغة واحدة متفقاً عليها لا يتجاوزن في العدد حدود نصف أصغر دولة، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن العالم اليوم يعيش في زمن الانفتاح والتوسع، وفي مرحلة التضامن والتكتل؛ بشرياً واقتصادياً؛ لمواجهة مخاطر الحياة القاسية.
ومن جهة أخرى أقول بأن هؤلاء ـ دعاة التمزق والتشرذم ـ قد أخطأوا القياس في جعل اللغات كلها بمستوى واحد؛ حيث يرددون القول بأن اللغة كائن حي؛ يولد، وينمو، ويشب، ويكبر، ثم يشيخ، ويهرم، ثم يأتيه الأجل فيموت.
ومن المعلوم أن هناك تلازم بين اللهجات المحلية،وبين الجهل والأمية، والتأثر متبادل بين الجهتين، فكيف يستسيغون أن يبقولا في الجهالة والأمية.
وإذا كانت هذه النظرية صحيحة في اللغات عامة؛ فإن الاستثناء من القاعدة: هو اللغة العربية؛ لا بفضل الإنسان الناطق بها وحمله لها فحسب، بل بفضل دين الله: الإسلام وحفظه لها، من خلال الوعد الذي أخذه على نفسه خالق الكون والحياة، ومنشئ الإنسان، ومعلِّم اللغات، جلَّ جلاله.
إذ إن القانون الإلهي قضى أن تبقى اللغة العربية دائمة بدوام الدين الخاتَم المنـزَّل على آخر الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد r.
آيات القرآن الواعدة بحفظ اللغة بحفظ الدين:
)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ([الحجر: 9].
)الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ([يوسف: 1 - 2].
)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا([طه: 113].
)وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ([الشعراء: 192 - 195].
)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ([فصلت: 3].
)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُن
عدد القراء : 2076