A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: fopen(/home/alzatari/public_html/system/cache/ci_session7d6a9ebf632e9c8481e68342d9000867): failed to open stream: Disk quota exceeded

Filename: drivers/Session_files_driver.php

Line Number: 156

Backtrace:

File: /home/alzatari/public_html/application/controllers/Publications.php
Line: 5
Function: __construct

File: /home/alzatari/public_html/index.php
Line: 315
Function: require_once

A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: session_start(): Failed to read session data: user (path: /home/alzatari/public_html/system/cache)

Filename: Session/Session.php

Line Number: 140

Backtrace:

File: /home/alzatari/public_html/application/controllers/Publications.php
Line: 5
Function: __construct

File: /home/alzatari/public_html/index.php
Line: 315
Function: require_once

موقع الدكتور الشيخ علاء الدين الزعتري | نفاق الصحبة
shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

نفاق الصحبة

مقدمة

 

الحمد لله الذي أكرم خواص عباده بالألفة في الدين، ووفقهم لإكرام عباده المخلصين، وزينهم بالأخلاق الكريمة والشيم الرضية تأدباً بأفضل البشرية وسيد الأمة محمد بن عبد الله e‏، وبعد:

فإن عظمة الإنسان تتجسد في صفاء قلبه، ووضوح فكره، في قوة إيمانه، والتزامه بشرع ربه، ثم العمل الجاد والإخلاص فيه، والبعد عن النفاق والرياء.

ويوم تنعكس القيم، وتتغير الموازين الأخلاقية بين الناس، تفسد الحياة، ولا يعود في هذه الحياة إلا دنيا المصالح المادية، وتبادل المنافع القائمة على الماديات، رغم أن الله تعالى خلق الناس ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع مع الحفاظ على الأخوة الصادقة.

وقد كان الدافع لتأليف هذا الكتاب قصة رجل عارك الحياة، وخبر الدنيا، وصاحب أصدقائه على السراء والضراء، وعلى الأخوة الإيمانية، ولم يكن يتوقع يوماً أن تصير الأمور إلى انقلاب في العلاقة، وفساد للصحبة.

يوم فوجئ بما لم يحسب له حساباً أو يتوقعه، ذلك أن مَن يتعامل معهم عرفهم منذ الصغر، وتتدرجوا في الحياة معاً، وتوسعت أعمالهم، فهل يغر الأخ بأخيه، وهل يخون الأخ أخاه، وهل يصبح الكذب هو القيمة السائدة بين الأصدقاء؟!!.

عُرضت المسألة وحكيت القصة على أهل العلم، فأنكروها قيماً، واستهجنوها واقعاً مريراً، ورأوا أن خللاً يسود في قلوب المسلمين يفسد عليهم حياتهم، وأن مَن يكون هذا شأنه (كذب في الحديث، وخيانة عند الأمانة، وخلف في الوعد، وفجور في المخاصمة) ما هو إلا منافق مخادع، ماكر كاذب، تنطبق عليه صفات المنافقين في السلوك والأعمال، وله من الله عقاب منافقي العقيدة، وأن مصيره الدرك الأسفل من النار.

وجاء الكتاب في تمهيد عن نفاق الصحبة (النفاق الاجتماعي) (النفاق الأخلاقي)، ثم كان الحديث عن ضرورة اكتشاف ظاهرة النفاق.

ثم تحدثت عن مفهوم النفاق وحقيقته، ولم أنس التعرض لبيان نفسية المنافق.

وفي إطار كشف خصال المنافقين بيَّنت التصور القرآني للنفاق، وكذا التصور النبوي.

ومن التصور القرآني والنبوي تبينت خصال المنافقين، وأنواع النفاق، وصور النفاق.

وتحدثت عن الموقف والواجب تجاه المنافقين، والذي يتمثل في جملة أمور، منها:

1- النهي عن موالاتهم والركون إليهم.

2- زجرهم ووعظهم.

3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم.

4- جهادهم والغلظة عليهم.

5- تحقيرهم وعدم تسويدهم.

6- عدم الصلاة عليهم.

وعرضت تنبيهات مهمة:

أولاً: التفريق بين المداهنة والمداراة والنفاق.

ثانياً: التفريق بين النفاق وما يعرض للقلب من الغفلة والتغير بعد الخشوع والإخبات.

ثم بينت مبدأ النفاق ومنبته ومكمنه، ومدارج النفاق، وكيف تنمو ظاهرة النفاق في المجتمع.

وفصلت القول في مظاهر النفاق: النفاق الوظيفي، والنفاق الأسري، والنفاق الاجتماعي، والنفاق العلمي، والنفاق العبادي.

والمنافقون أنواع ودرجات، منهم:

الشخص الكذاب، والشخص النمام، والشخص المتطفل، والشخص المداهن، والشخص الحاسد، والشخص الوصولي.

ولمزيد من المعرفة بينت للناس أساليب النفاق، ومنها:

1 ـ تشويه الحقائق وتحريفها:

2 ـ التشكيك:

3 ـ بث الإشاعات:

4 ـ دس الأفكار المنحرفة والمفاهيم الخاطئة:

5 ـ إثارة روح الاختلاف والنزاعات:

6 ـ إثارة المشاكل والصعوبات لإعاقة مسيرة الحياة:

7 ـ إعطاء تصورات خاطئة أو مزيفة عن أعداء المسلمين:

8 ـ التجسس وخدمة العدو الخارجي.

9ـ التزلف إلى الناس بحلو الكلام.

10 ـ المبالغة في الحديث والوصف.

11ـ عدم المصداقية.

12 ـ مدح الذات وذم الآخرين ‏.

كما بينت أهم صفات المنافقين:

1 ـ أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

2 ـ أنهم يخادعون المؤمنين.

3 - يفسدون في الأرض بالقول والفعل.

4 ـ يستهزءون بالمؤمنين.

5ـ يحلفون كذبًا ليستروا جرائمهم.

6 ـ موالاة الكافرين ونصرتهم على المؤمنين.

7 ـ العمل على توهين المؤمنين وتخذيلهم.

8 ـ تدبير المؤامرات ضد المسلمين أو المشاركة فيها.

9 ـ ترك التحاكم إلى الله ورسوله.

10 ـ طعنهم في المؤمنين وتشكيكهم في نوايا الطائعين.

11 ـ إعراضهم عن الجهاد.‏

وللتحذير من المنافقين بينت علامات النفاق ومعالمه، والتي تتمثل في:

  • الارتباك.
  • التذبذب في المواقف.
  • والبذاء.
  • والتقاعس.
  • والتبرير الكاذب.
  • والانتهازية.

ثم فصلت القول في بيان مظاهر النفاق في حياتنا من خلال نماذج من التعاملات وعرض للمشكلات، وكيف كان للنفاق أثر سيء في الحياة؛ فالنفاق سوس ينخر حياتنا، فنميمة بعد مشورة أفسدت الحياة، وقد أفقد المشغل الخاص لأحدهم، والنفاق أخطبوط عملاق أوصل أحدهم  إلى أبواب المخدرات، وجعل الآخر يخسر زوجته.

وبيَّنت آثار النفاق، وأنه يفسد القلب، ويُنبت فيه الحقد والحسد، فيبادر المنافق إلى الغش والمكر.

وجعلت فصلاً مستقلاً للحديث عن كيفية التعامل مع المنافقين.

وكان للشعر كلمته، فذكرت قصائد شعرية عن النفاق الاجتماعي.

ولما كانت الأشياء تتميز بضدها، ذكرت خصال الصحبة الصالحة، وما يكدر صفو الأخوة، من التهاجر والتدابر، والجدال والمراء، والحسد، والتنافس على الدنيا، والأثرة وحب الذات، والسخرية والتهكم.

فمتى تكون حياتنا صدق على طول الخط، ووفاء بالوعد دائم، وحفظ للأمانة.

وختمت القول ببيان آداب معاملة الناس.

وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلني من أه الصحبة الصالحة، والأخوة الصادقة، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

علاء الدين زعتري

 

 


تمهيد

نفاق الصحبة

(النفاق الاجتماعي)

(النفاق الأخلاقي)

 

النفاق أخطر خصلة عرفها الخلق في عالم الأحياء ذوي الإرادات الحرة وهو أسلوب الشياطين الأعظم للإفساد والتضليل والإغواء.

فعندما تعيش بزمن يكون الصدق فيه يعنى الكذب، ويكون الكذب فيه يعنى الصدق فهي نهاية العالم، وعلامات لا تبشر بالخير.

وإن الحديث عن النفاق يعد من الأمور الكاشفة للخبث الذي يتبعه المنافق في صوره الظاهرة والباطنة, والنفاق مرتبط ارتباطا وثيقا بالفتن الداخلية والخارجية.

ومع كثرته وتنوع أساليبه؛ فإنه يصح أن يسمى هذا الزمان بعصر التفنن في النفاق والتآمر، واتساع الجيوب وكثرة العيوب.

ويُعَدُّ النفاق من أسوأ الأخلاق الاجتماعية، وأقبح الصفات التي عرفتها البشرية عبر العصور والدهور، ولم تَخْلُ منه أمة من الأمم، ولا شعب من الشعوب.

فهو داء عضال، وانحراف خلقي في حياة الأفراد، والمجتمعات، والأمم، فخطره عظيم، وشرور أهله كثيرة، وتبدو خطورته الكبيرة حينما نلاحظ آثاره المدمرة على الأمة.

وإذا نظرت إلى النفاق نظرة فاحصة لوجدته طبخة شيطانية مركبة من جبن شديد، وطمع بالمنافع الدنيوية العاجلة، وجحود للحق، وكذب.

ولك أن تتخيل ما ينتج عن خليط كهذا!!.

والنفاق مثل أي أمر, يبدأ صغيرا ويكبر ويتطور في وسائله وتتغير صفاته مع ممارسته الكثيرة!

ولقد كان النفاق على مدار التاريخ سببا قاتلاً ومميتاً للمجتمعات, وهو من بين الأمور التي تطورت مع مرور الأجيال وأصبح يأخذ أشكالاً متعددة وألقاباً ومسميات كثيرة.

غير أن المنافق يظل مخادعاً، أسود السيرة لا يحبه الناس ولا يفرطون ـ إذا  ما بانت لهم حقيقته ـ في معاقبته أشد عقوبة يستحقها لخداعه من حوله ولكشفه أسرارهم!

والنفاق ظاهرة اجتماعية في المجتمع انتشرت وتفشت بشكل مخيف وتحولت إلى وباء، يشكو منه الناس أصحاب المعدن الأصيل الذي لم يلن أو يتلون مع الزمن، بينما يعتبره المنافقون سياسة والسياسة شطارة.. يا حسرتاه!!

وقد ظهر النفاق كحالة من عدم الوضوح في اتخاذ المواقف بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، حيث يميل صاحبه مع الأهواء حيث مالت، ويدور مع المصالح حيث دارت، متستراً وراء الخير والحق.

وتزداد بشاعة النفاق وسوء الفعل عند ظهوره بين أتباع الرسالات السماوية، وهم الذي يُفترَض أن تكون أخلاقهم قد هُبت بتهذيب الدين، وصفاتهم وأخلاقهم قد تحولت واتجهت نحو الخير والحق والصلاح.

فماذا لو كان الشخص من أتباع خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد e؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويعتقد بالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً؛ يقرأ فيه صفات المؤمنين، وأخلاق الصادقين، كما تعرف على أفعال الكافرين ليتجنبها، وقرأ سوء النوايا وخبث الطوايا عند غير المسلمين، كي لا يقع فيها.

والنفاق في مفهومه الخاص صفة أولئك الذين يظهرون الإسلام, ويبطنون الكفر، لكن الـنفاق له معنى عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن, وكل افتراق بين القول والعمل.

ومن الملاحظ - وللأسف الشديد - أن كثيراً من الناس يفتشون عن دين تهواه أنفسهم.

لذا تجدهم لا يرغبون في توجيهات حازمة تأخذهم بالشدة والصعوبة، بل يبحثون عن ما يجعلهم يسترسلون في أهوائهم ورغباتهم، ويبرر لهم تملصهم من مسؤولياتهم وتقاعسهم عن أداء مهماتهم العبادية.

وهذه هي العلامة الفارقة بين الإنسان المنافق وغيره، وعلينا أن نحول هذه الميزة إلى رؤية لاكتشاف الفئة المنافقة في المجتمع، وأن نعوّد أنفسنا على استخدام ذات هذه الرؤية لاكتشاف نفاقنا في بعض الأوقات.

وإذا ما اكتشف أحدنا أنه مؤمن، صادق، مخلص؛ فليحذر من أن يُعجب بنفسه، ويصيبه الغرور.

فمن الممكن أن يتحول غداً إلى إنسان منافق، وما عليه إلا أن يحاسب نفسه، ويعيد النظر فيها بين الحين والآخر.

إن المنافق أسوأ حالاً من الكافر، فهو حين يقـوم بالفرائض العبادية فإن قيامه هذا لا ينبع من اعتقاد صحيح في قلبه، بل يصدر من المراءاة، وربما خوفاً من المجتمع الذي يحيط به.

ولتحذير القرآن من التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر، أو بين الحق والباطل، أو بين الخير والشر، كانت السورة القرآنية الأطول (سورة البقرة) قد بينت أصناف الناس في اعتقاداتهم وأخلاقياتهم، على ثلاثة أصناف:

ـ مؤمنون، وتحدثت السورة عنهم بخمس آيات.

ـ كافرون، واكتفت السورة بالحديث عنهم بآيتين.

ـ منافقون، وأسهب السورة بذكر أفعالهم وأقوالهم وأخلاقهم بثلاث عشرة آية.

وكأن الآية تريد أن تشير إلى أن اللافت للنظر أن من اختار طريق الكفر والضلال فأمره في المعالجة يسير؛ حيث عُرِف حاله، فاجتُنِبَت إساءته، وساء عليه ءأنذرته أم لم تنذره.

وأما قضية بناء الشخصية الإنسانية الراقية بكمال الإيمان؛ فإنها تحتاج إلى عمل وجهد، فجاء الحديث عن المؤمنين وصفاتهم في خمس آيات.

والدرس الأكبر كان في بيان المرض الذي يصعب الشفاء منه، ألا وهو النفاق، كما هو المرض الخطير الذي يصيب جسداً؛ فإنه لا يشغل صاحبه فقط، بل يعيق حركة من حول المريض؛ انشغالاً به، ومحاولة معالجته، وتخليصه من آلامه، سواء الأطباء ومساعدوهم، أو أهل المريض وأصدقاؤه، فالكل مشغول به، وقد يطول زمن مرضه، فيبدأ التذمر، إ ليس هو بميت ميؤوس من حياته، ولا هو صحيح يقوم بأعماله بنفسه.

هذا التشبيه المادي لظاهرة النفاق هو ذاته في العمل الأخلاقي؛ حيث يحتار المتعاملون مع المنافقين على أي أساس يعاملونهم؟!!، وما هي أسس أخلاقياتهم؟، وما هي منطلقات سلوكياتهم؟.

فالمنافق مذبذب السلوك، متردد الحال، متلون في المواقف، قد تعلم من مدرسة (إبليس) وتصرف بأساليب (الشيطان) في الإفساد والإغواء والخداع والتضليل.

ومنذ أن خلق الله (آدم) أبا البشر بدأت مهمة (إبليس) وأتباعه وأعوانه في التشويش على الناس؛ حيث سعى هو وجنوده، لابسين أقنعة النفاق لإغراء الناس في الوقوع في الشهوات والمعاصي، وإغواء الناس ليتنكبوا الصراط المستقيم؛ عداوة وكيداً ليكونوا مع (إبليس) في نار جهنم معاً.

ومنذ أن خلق الله آدم مَهَرَ (من المهارة) إبليس أسلوب النفاق فسعى هو وجنوده لابسين أقنعة النفاق لإغراء وإغواء بني آدم بغية صدهم وإبعادهم عن الصراط المستقيم عداوة وكيداً حتى يكونوا من أهل النار.

(إن النفاق لآفة فتاكة إن أهملت أدت إلى الأسقام

وقضت على آمالنا في أمة راياتها في البحر كالأعلام)([1]).

والمنافقون موجودون في كل زمان ومكان، لا تكاد تخلو منهم  فترة من فترات التاريخ لأن مبررات وجودهم قائمة، أو يمكن أن تقوم في كل حين.

والنفاق ظاهرة لا يقتصر خطرها على المجال الديني؛ وإنما نجد المنافقين منبثين في كل واقع الحياة، فإن المنافق لا ينافق في الدين وحده، بل ينافق مع أخيه الإنسان.

والنفاق ظاهرة لا يقتصر خطرها على المجال الديني؛ وإنما نجد المنافقين منبثين في كل واقع الحياة، فإن المنافق لا ينافق في الدين وحده، بل ينافق مع أخيه الإنسان.

والمنافقون اليوم أشد خطورةً على كيان الأمة الإسلامية و على دعائم الإسلام من أي وقت مضى، نتيجة لتعدد أساليبهم و تجدد أسلحتهم، لذالك يجب أن تُعد العِدد من أجل أخذ الحيطة و الحذر من خطرهم على ديننا و إسلامنا.

و النفاق اليوم أصبح ظاهرة تكاد أن تكون ابتلاءً عاماً، فإذا نظرنا إلى أحوال الناس و الأمم: نجد أن النفاق هو الساهر على حماية أهدافهم ومصالحهم، وأن الأخلاق قد هجرت حياتهم، وأن الفضيلة قد تهاوت تحت أقدامهم، وإن الحضارة العارية عن الأخلاق إنما هي الدمار و الخراب.

وإن النفاق اليوم أشد خطراً على الأمة وللأسف من أي وقت مضى، حيث أصبح النفاق ظاهرة تكاد تكون عامة، فترى المنافق في هذا الزمان ساهراً على حماية أهدافه ومصالحه، كما يُلاحَظ هجر الأخلاق الفاضلة، وتهاوى الفضائل لمصلحة علو مكانة الرذائل.

فمنهم من تكون غاية نفاقهم الإيقاع بالمسلمين وتمزيق صفوفهم وإيقاد الفتن بينهم بدافع من أنفسهم، أو بإيعاز من غيرهم فيندسّون بين الصفوف لغاية في نفوسهم (نفاق العقيدة).

ومنهم من يكون مبرر نفاقه تحقيق بعض المصالح الدنيوية، فيستر بستار التقوى والدين كيما يصل إلى مراده (نفاق المعاملة).

ومنهم من يكون نفاقه خلقا ذميما درج عليه لا ينفك عنه، وطبعا أصيلا لا يكاد يبارحه أو يفارقه (نفاق الأخلاق).

ومنهم من يتوسل بالنفاق ليكون من الحكام في حظوة، ومن بطشهم في نجوة! (نفاق التزلف).

ومنهم من يتوسل بالنفاق ليحظى بغرض زائل، وجاه حائل يبيع دينه بدنياه! (نفاق الجاه).

ولقد تفشى بين الناس (النفاق الاجتماعي) حيث تخلل مناحي حياة المجتمع وهو الذي يقف وراء تكريس الفساد الإداري في جميع الإدارات، ويرسخ في سلوك الناس عادة الإرشاء والارتشاء، ويعمل على جعل المحسوبية حاضرة في العلاقة مع الناس، وهو وراء انتشار الأمراض الاجتماعية المختلفة.

والمنافقون يتلونون بألف لون ليصلوا لقلوب الناس أو ليصلوا لقلوب من يحتاجون إليهم فقط، والسؤال المطروح: هل من الصواب أن يكون المرء منافقاً ليصل إلى أهدافه.

وليس أضر على الشعوب والأمم من النفاق إذا استشرى بين أبنائها، فتعوَجُّ الأخلاق، وتضطرب أحوال الناس، وتنحرف سبل معايشهم، نتيجة انعدام الثقة، وفقدان الهدوء النفسي، والاستقرار الوجداني، والثبات العقائدي.

ولعل من أجمل لحظات عمرك: حين تعيش وسط أفئدة الناس بشفافية بدون نفاق أو مجاملات خبيثة.

وعلى الرغم من عدم قبول الإنسان لنفسه المرض، إلاّ أنه قد يسقط ضحيته.

وعلى الرغم من نفرة الإنسان من الفقر، إلاّ أنه قد يصاب به.

كذلك لا يرضى أي إنسان لنفسه بالنفاق، ولكنه قد يقع في شركه.

غير أن هذا لا يعني أن الإنسان عاجز عن مواجهة النفاق، كما أنه غير عاجز عن مواجهة المرض والفقر.

ويخطأ من يستهين بالنفاق دون أن يحصن نفسه منه، وذلك لأن النفاق يسلب من الإنسان كل صفات الخير، ويحرمه من فعل الصالحات، وينتزع منه كل القيم السامية، حتى يجعله منبوذاً مدحوراً.

ولا نبالغ إن قلنا؛ إننا إذا لم نحذر النفاق؛ فإنه سوف ينفذ إلى قلوبنا من حيث لا نشعر، دون أية صعوبة تذكر.

وعندها ليس من السهل يمكننا التخلص منه، والنجاة من آثاره.

وهذا ما يدعونا إلى أن نحصن أنفسنا من النفاق بسور منيع، ولا يغيب عنا أن مثل هذا السور لا يتم إلاّ بفهم حقيقة النفاق، والاطلاع على مساوئه وسلبياته، وكذلك معرفة صفات المنافقين، وأمثالهم في المجتمع.

ضرورة اكتشاف ظاهرة النفاق:

ومن الضروري أن نكتشف ظاهرة النفاق المرضية بجميع أقسامها وأشكالها، سواء على مستوى الجماعات أم الأفراد، أم على صعيد ظاهرة النفاق نفسها كصفة سلبية لها جوانبها وحالاتها وأبعادها الخاصة بها.

ولذلك فإن من الواجب أن تمتلك الأمة الإسلامية رؤى تمكنها من معرفة الفئة المنافقة وتمييزها عن الفئة المؤمنة، كما إن من الضروري أن يمتلك الفرد المؤمن الرؤية ذاتها لكي يكتشف حالات النفاق التي يبتلى بها هو نفسه بين الحين والآخر.

والآيات القرآنية تمكننا إذا ما درسناها دراسة وافية في تزويد أنفسنا بتلك الرؤية التي تعتبر الآن مهمة أكثر من أي وقت مضى، نظراً لكثرة المتقاعسين والمتملصين من المسؤوليات والمهام الرسالية.

ومن هذا المنطلق وإيماناً منا بخطر النفاق جمعنا هذا الكتاب، وكان لزامـاً على المؤمنين أن يعرفوا معنى النفاق وأبعاده، ليكونوا في حالة جهاد دائم للنفس، وأن يضعوا النفس على المحك المميز ليكونوا على بينة من أمرهم، تحاشياً لحالة الجهالة السامحة لوساوس الشيطان وتآمر النفس.

وقد قال تعالى: }بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ{[القيامة: 14].

وقال عزَّ وجلَّ: }إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأَنفُسِهِمْ{[الرعد: 11].

 

 

 

 

مفهوم النفاق وحقيقته

 

النفاق لغة([2]): إظهار الفرد خلاف ما يبطن، وقيل: هو من يضمر العداوة ويظهر الصداقة، وقيل: يكتم الباطل ويظهر الحق، وقيل: هو الخداع، وقيل هو نوع من أنواع الكذب على الناس.

وسمي المنافق منافقا اشتقاقا من نفقاء اليربوع (جحره) فإنه يخفي نفسه فيها، كما يتخذ المنافق نفقا من التصنع والتكلف والكذب يخفي فيه شخصيته الحقيقية.

ولقد كان المنافقون على مر التاريخ مزدوجي الشخصية، فهم بين المسلمين يتظاهرون بأحسن صور الإسلام، وبين الكفار يظهرون على حقيقتهم المعادية للحق ولأهله، ويتخذون ذلك مطية لنيل الغنيمة والمصلحة من الفريقين.

أو (النفاق) مأخوذ من النَفْق وهو الموت، والمخلوق قد تكون إحدى جوانبه ميتة، وتتفاوت نسبة الموت لديه.

والنفاق بهذا المعنى هو الداء الأكبر:

فالنفاق مشكلة تسري إلى جميع جوانب الحياة؛ ولا تقتصر على حياة بني البشر فحسب، بل تتعدى إلى ميادين واسعة لتشتبك مع الحياة والطبيعة برمتها.

فالأشجار التي ينم مظهرها عن الجمال والارتفاع، ليس من المؤكد أن يكون باطنها على الدرجة نفسها من الحيوية والاستواء، إذ لعـل الديدان قد استولت على أحشائها وحولتها إلى موجود نخر.

والإنسان في حال كهذا لا يسعه إلاّ تسمية هذه الشجرة - مثلاً - بالشجرة النافقة، أي الميتة رغم وجود بعض الحياة في جزء منها الذي هو مظهرها.

وأنت حينما تصف الإنسان بـ (المنافق) فإنك تعني أن النفق قد عم باطنه، وبكلمة أخرى؛ تعني أن الموت قد استولى على ما يستره بدنه، وهو القلب والعاطفة والإحساس الإنساني السوي.

فالضمير قد احترق، والنفس قد انتهت، والإرادة قد انهارت وخارت، وقد أصبح ضحية مزعجة للثغرات الذهنية والعاطفية في شخصيتيه ذات الأبعاد المزدوجة.

و(النفق) الذي يراه الإنسان في داخل الجبل إنما يعبر تعبيراً صريحاً ومتكاملاً عن هذه الحقيقة.

فالجبل وفق هذه الحقيقة له طبيعتان متفاوتتان على أكبر درجات التفاوت، إذ الظاهر ينبئ عن الصلابة والشموخ والتحدي، بينما الباطن يؤكد حقيقة الانهيار والفراغ.

وإذا نظرنا إلى النفاق لوجدناه من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان الشر.

ومنهم مَن قال بأن أصل كلمة النفاق مأخوذ من (النفاقات) فالجربوع (الفار البري) تعمل لنفسها أنفاقاً لجحرها وتوهم من يهاجمها بأن لها جحراً واحداً ومنفذاً واحداً فإذا أعوزته الضرورة وحوصر فإنه يستعمل هذه المنافذ للهرب، بل إنه في بعض الأحيان يخفف من حجم سقف جحره ويقلل من سماكة السقف؛ فإذا سدت المنافذ هدم السقف وهرب منه.

فالنفاق مساربه ودروبه كثيرة وهو اختلاف في المدخل والمخرج.

والنفاق من الفساد في الأرض؛ ومن أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفساد حتى يَرى أنه من المصلحين.

والنفاق الاجتماعي هو ممارسة انتهازية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.

والمنافقون هم فئة في البشر يعاني منها البشر، متلونون تماماً كالحرباء التي تتشكل على حسب ما يحيط بها من تضاريس البيئة.

هذا، وإن اكتشافهم صعب للوهلة الأولى، وسهل بعد عدة تعاملات معهم؛ فرغم إجادتهم فن المراوغة والملاينة والمسكنة إلا أنهم – لحسن الحظ – يقعون في أخطاء مِن صنعهم.

النفاق اصطلاحاً:

هو المكر يحاك سراً، وقيل: هو الخبث والمكيدة ضد الخير، وقيل: أنه التعامل مع العدو ضد الصديق، وقيل: هو الخيانة للوطن والأهل والعرض، وقيل: هو مصدر كل فتنة, ومثير كل إشاعة, ومشّوه كل صورة جميلة, وهو مخرب العلاقات, ومدمر الجماعات, وكاشف الأسرار, وهو طعن في الظهر, وخداع في السر.


 

نفسية المنافق([3]):

 

يعتبر علماء النفس النفاق من السمات الشخصية الملاصقة للفرد Personaliyt trait, وقد يكون المصطلح يدل على ممارسة النفاق في حال من الأحوالstate، وقد يشير إلى السلوك الذي يظهره الإنسان خلافا للباطن Hypocrisy.

وقد يكون نوعاً من الحيل التي يمارسها الفرد في حالات الدفاع اللاشعوية Unconscious defense mechanism, وهذه الحالات الدفاعية في الحقيقة لها صور متعددة منها الإسقاط والتبرير والتقمص أو الإبطال أو الإنكار وكثير من رموز إخفاء الحقيقة التي يطلق عليها مصطلح التكوين العكسي Reaction – formation.

وهو أيضا حالة من موت الضمير، ونوع من تحقيق أهداف بطريقة غير شرعية مثل الموظف الذي يظهر ولاءه لمديره أمامه, لكنه من خلفه لا يكف عن ذمه!.

وهو جزء مهم من سيناريوهات الفساد المؤسسي والمجتمعي وإضاعة الحقوق حيث لا يواجه المنافق المسؤول عنه ولا يقدم له النصيحة ولا ينكر الخطأ ولا يقول رأياً مخالفاً!.


التصور القرآني للنفاق:

 

الحديث عن النفاق والمنافقين ورد في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم).

وقد حذّر القرآن الكريم من النفاق وصفات المنافقين في آيات كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمئة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم) ([4]).

وفي أطول سورة من القرآن ذكرت صفات المنافقين، بعد ذكر أوصاف المؤمنين، وصفات الكافرين، قال تعالى:

}وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{[البقرة: 8].

}يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون{[البقرة: 9]

والملاحظ أن القرآن الكريم في الآية لم يقل (وما يعقلون)، بل قال (وما يشعرون)، لأن الشعور أدنى من العقل.

فالإنسان الذي يكذب على الآخرين ثم يصبح هو نفسه أسير كذبته بسبب كبريائه وغروره؛ فإنه لا يمتلك العقل فحسب، بل إنه لا يمتلك الشعور أيضاً نتيجة لهذا الخداع الذاتي.

}فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{[البقرة: 10].

المرض هو مرض الشك؛ أي إن في قلوبهم شكاً، فزادهم الله سبحانه شكاً إلى شـك.

والسبب الحقيقي للنفاق هو إن الإنسان عندما لا يستطيع أن يواجه وضعاً اجتماعياً معيناً مواجهة شجاعة فإنه يلجأ إلى النفاق.

فلو كان المنافقون يمتلكون شجاعة وثقة بالذات، لدخلوا إما في صف المتقين والمؤمنين، وإما فيصف الكفار.

ولكننا نراهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يريدون أن يكتسبوا خيرات المؤمنين، وان لا يحرموا - في نفس الوقت - من مكاسب الكافرين.

وهذا التذبذب إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على وجود مرض في قلوبهم هو مرض الجبن، والانهزام النفسي، والاستسلام للواقع الاجتماعي دون أن يجرؤوا على تحديه.

وهذا المرض يزداد ويتفاقم من خلال النفاق، فالشيطان يخدع الإنسان ويدفعه في اتجاه خاطىء بسبب هوى النفس، أو سوء التربية وما إلى ذلك.

فإذا اعترف هذا الإنسان بواقعه المنحرف هذا؛ فإن من المحتمل أن يعود إلى الطريق المستقيم.

أما إذا تعقد قلب هذا الإنسان، وفتش لنفسه عن تبرير لانحرافه، فإن الأمل في إصلاحه ضعيف.

وهكذا فعندما يتلبس الكفر والفسوق بلباس من التبرير والخداع الذاتي، فإن الأمل في إصلاح مثل هؤلاء الناس يصبح ضئيلاً؛ لأنهم يبتلون بمرض الجبن والاستسلام والشك، عندها يجدون لأنفسهم غطاء من النفاق؛ أي يحاولون خداع الله سبحانه وتعالى.

كأن يبرر أحدهم عدم أدائه لصلاة الصبح بأنه يتعب في الليل، ويعمل من أجل عياله.

ويبرر الآخر عدم جهاده في سبيل الله لتكفله برعاية زوجته وأطفاله.

إن من القبيح أن يحاول الإنسان خداع الله تبارك وتعالى.

والأدهى والأسوأ من ذلك أن لا يعترف بخطئه، بل يحاول أن يبرر خطأه.

ومن الجهل والسذاجة أن نخادع الله، وهو الخبير بنا، والأقرب إلينا من حبل الوريد، وهو الذي يعلم من أنفسنا ما لا نعلمه، فربما يقوم الواحد منا بعمل ويعتقد بأنه على طريق صحيح، ولكن الله تعالى يعلم أن نيته غير خالصة.

فربما يبتلي شخص بمرض السرطان وبمجرد أن يخطر على باله بأنه مبتلى بهذا المرض الخطير يهتز ضميره حتى الأعماق.

ولكن هل تدري أن بعض الذنوب أشد على الإنسان من السرطان، كتلك الذنوب التي نرتكبها ونستهين بها.

فمن أسوء الذنوب ذلك الذنب الذي يستصغره صاحبه، فلربما تكون هناك كلمة واحدة تسقط الإنسان من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.

وفي هذا المجال ورد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ e فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْل"ِ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا }تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ{ حَتَّى بَلَغَ: }يَعْمَلُونَ{، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟"، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"، قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا"، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟، فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ـ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ـ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"([5]).

وهذا الكذب يتحول إلى عذاب أليم في الدنيا كما يقول تعالى: }وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون{[البقرة: 10].

ذلك لأنهم يعيشون دائماً حالة الخوف والإرهاب الذاتي من أن يفتضح أمرهم أمام الآخرين، وهذه الحالة من التردد تقتلهم داخلياً.

}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ{[البقرة: 11].

}أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ{[البقرة: 12].

}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ{[البقرة: 13].

انقلاب المقاييس:

ترى ما الذي جعل هؤلاء يزعمون أنهم مصلحون؟

إن المقاييس قد انقلبت عندهم بسبب محاولة خداع الآخرين، وأخـذوا يزعمون أن فسادهم إنما هو إصلاح.

أما علاقتهم بالناس فهي علاقة التعالي، ولأنها علاقة التعالي والتسفيه والاعتقاد بأنهم لا يفهمون شيئاً؛ فإننا نجدهم لا يستفيدون من الآخرين، ولا يعتبرون بتجاربهم، ولا يتفاعلون مع المجتمع المحيط بهم.

والإنسان عندما يتعالى على الآخرين فإنه يصنع بينه وبينهم حجابـاً، فلا يستفيد من تجاربهم، ولا من أفكارهم، ولذلك لا تنمو معارفه وتجاربه، ولا تتكامل نفسه، فيتحول إلى سفيه؟

في حيـن أن الإنسان المؤمن يعترف بالآخرين وبأفكارهم وتجاربهم.

فالناس المحيطون بنا ليسوا سفهاء، فقد تكون بصيرتهم ورؤيتهم أكثر وضوحاً من بصيرتنا ورؤيتنا.

ومشكلة الإنسان هو أنه قد يكـون سفيهـاً دون أن يعلم أنه سفيـه؛ لأن الجهل المركب لا يدع صاحبه يفهم شيئاً، كما يقـول الشاعـر:

قال حمار الحكيم يوماً             لو أنصف الدهر كنت أركب

فـإنني جاهـل بسيط          وراكبي جاهل مركب

}وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ{[البقرة: 14].

}اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{[البقرة: 15].

}أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ{[البقرة: 16].

}مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ{[البقرة: 17].

تركهم في ظلمات الشهوات والذنوب: وعندما يذهب الله تعالى بنورهم؛ أي يذهب بنور الإيمان من قلوبهم، فإنه يتركهم في ظلمات لا يبصرون.

والظلمات ما هي إلاّ شهوات الإنسان، وذنوبه، وأمراض قلبه من الكبرياء والغرور وسائر أمراض القلوب، وهي ظلمات بعضها فوق بعض.

و معنى الترك في هذه الآية: إن الله عز وجل منع التوفيق عنهم، وإذا ما تركهم الخالق، فهل من أحد يستطيع أن يعطيهم شيئاً؟، قال تعالى: }وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ{[النور: 40].

ومن خصائص القرآن الكريم أنه يضرب للناس الأمثال لعلهم يتفكرون في واقعهم، ويعتبرون بمصير الغابرين، وبالتالي يفقهون حقائق الأمور؛ حتى لا تفوتهم فرصة الهداية، ولا يغيب عنهم نور الحق.

ومن تلك الأمثال ما ذكره لنا القرآن الكريم عن طائفة من الناس يتيهـون في الصحراء؛ وإذا بالظلمات تلفهم، والوحشة تهز أعماقهم.

فنراهم يفتشون عن جذوة نار، وعندما يوقدون النار؛ وإذا بريح صرر تهب عليها فتخمدها، فلا يعودون يمتلكون ضياء ولا دفأ.

ترى ما العلاقة بين هذا المثل وبين المنافق؟:

إن الحياة صحراء، والشهوات في هذه الحياة ظلام، واليأس والتردد والقلق بمثابة البرد في الصحراء.

والإيمان هو نار ونور، ففيه دفء النار، وضياء النور، وهذا الإيمان يتقد لهم، والله سبحانه وتعالى ينزله عليهم.

وفي قلوب بعض المنافقين - في لحظة طيبة من لحظات حياتهم – تضيئ قلوبهم بضياء الإيمان، وتستنير أنفسهم بدفئه، ولكن لا تلبث الشهوات وحجب الكفر والعناد والاستكبار أن تطفئ في قلوبهم ضياء الإيمان، فلا يعودون يمتلكون إيماناً ولا دفئاً ولا نوراً.

والقرآن الكريم لم يستعمل لغة الجمع فيقول: مثلهم كمثل الذين استوقدوا ناراً، بل يقول: }مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً{[البقرة: 17]؛ لأن المنافق يعيش فرداً حتى وإن كان يعيش ضمن فئة.

والإنسان عندما يكون على شكل جماعة في الصحراء فإن بعض هذه الجماعة سيؤنس البعض الآخر.

أما إذا كان فرداً في صحراء موحشة، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، وكان محتاجاً إلى دفء؛ فإنه سوف يحاول بمفرده أن يحصل على قبس من نار، ولكن هذا القبس ما يلبث أن يخمد، ويذهب بأمله.

}صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ{[البقرة: 18].

}أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ{[البقرة: 19].

}يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[البقرة: 20].

والله سبحانه وتعالى يضرب لنا الأمثال لكي لا يصبح الواحد منا منافقاً.

ومَن كان بعيداً عن الزراعة، ولا يعرف أهمية المطر، إلا أن المزارع يفهم هذه الحقيقة، وهي أن كل زخة مطر تحمل معها بركات السماء.

والمزارع عندما يحرث الأرض، ويبذر البذور، ويتعب نفسه في إصلاح الأرض وتسويتها، والبحث عن السماد؛ فانه يفعل كل ذلك، ثم يجلس وهو يرقب السماء، حتى تجود بمطرها.

فإذا رأى أن وابلاً من المطر نزل على أرضه فإنه يطير فرحاً، ولا تسعه الأرض من السرور.

ومن هنا يضرب الله تعالى لنا مثلاً عن المنافقين بالصيب من السماء؛ أي المطر الشديد، ولكن المطر قد لا ينزل بالبركات، بل قد يكون معه الخوف.

فقد يقترن المطر بالرعد، والبرق، والظلمات؛ ولذلك فإن أولئك الذين يسكنون في بيوت من طين يحتملون في كل لحظة أن ينهار السقف عليهم، ولذلك فإنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذراً من الموت.

وهكذا يضرب لنا القرآن الكريم مثلين:

المثل الأول يتجسد في الإنسان الذي يعيش في الصحراء تحيط به ظلمات السحب، والرعد، والبرق، وشدة الصوت، فمَن الذي ينقذه في تلك اللحظة؟.

لا أحد سوى الله سبحانه وتعالى، والكافر الذي يزعم أنه خارج عن إطار إرادة الله جل جلاله، وخارج عن سلطانه، ألاّ يفكر بمن ينقذه في مثل هذه اللحظات؟.

والمثل الثاني حول المنافقين الذين يقول القرآن عنهم: }يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ{[البقرة: 20]، من شدة البرق الذي يمكن أن يذهب بأبصارهم، }كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ{[البقرة: 20]؛ لأنهم في ظلمات، وفي صحراء لا يملكون نوراً؛ ولذلك فإنهم يحاولون أن يستضيئوا بنور البرق، }وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا{[البقرة: 20]، فعندما يخطف البرق أبصارهم فإنهم يمشون؛ لأنه يضيء لهم الطريق، وإذا ذهب وقفوا، }وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِم ْوَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[البقرة: 20].

في سورة آل عمران:

قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ{[آل عمران: 118].

}هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ [آل عمران: 119].

في سورة النساء:

قال تعالى: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً{[النساء: 60].

}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً{[النساء: 61].

}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً{[النساء: 62].

}أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً{[النساء: 63].

وقال تعالى: }بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا{[النساء: 138].

}الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا{[النساء: 139].

}وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{[النساء: 140].

}الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً{[النساء: 141].

}إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً{[النساء: 142].

}مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً{[النساء: 143].

في سورة التوبة:

نزلت سورة التوبة، فكشف اللّه فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها، فكان مما قال تعالى في حق المنافقين:

}وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ{[التوبة: 58].

}وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآءَاتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{[التوبة: 59].

ومما قال الله تعالى فيهم: }فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{[التوبة: 76].

}أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ{[التوبة: 78]، وهي دالة على أن من عاهد الله أن يفعل شيئاً ثم أخلف عهده يكون قد تخلق بأخلاق المنافقين، وأنه على خطر عظيم من أن يعاقب بالنفاق في قلبه جزاء له على إخلافه الوعد وكذبه.

عندما يترسخ النفاق:

لَمَّا سقط هؤلاء في الامتحان، أعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقون رب العالمين، لأنهم لم يتوبوا إليه.

ومن الممكن أن يخضع الإنسان لشهوة الثروة يوماً أو بعض يوم ثم يعود بعد ذلك إلى بارئه، وحينئذ لا يكون منافقاً.

ولكن الذي يستمر في جحوده ونفاقه، فسوف يتحول إلى منافق حقيقي.

فالإنسان المسلم الذي يتعمد ترك الفرائض الدينية، ويبقى مصراً على تركها، وجاحداً لوجوبها، فانه سيتحول إلى إنسان منافق، وسيسلب منه الإيمان بالكامل ليبقى على هذه الحالة إلى يوم القيامة.

ويبين الله عز شأنه سبب ترسخ النفاق في قلوب المنافقين فيقول: }بِمَآ أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{[التوبة: 76].

فالإنسان عندما يعاهد الله فإنه قد يعاهده صادقاً، وقد يعاهده كاذباً منذ البداية.

فالذي يعاهد الله تعالى على أن يكون متصدقاً، وان يكون من الصالحين، يجب أن يكون عند عهده عندما يؤتيه الله من فضله.

ولكن المنافقين بخلوا منذ اللحظة الأولى، فانطبق عليهم حكم الكاذبين.

فلننظر إلى أنفسنا؛ هل نحن منافقون أم مؤمنون؟ ولا ننسى أن الادعاءات لا تغير حقيقة، ولا تصلح واقعاً، بل علينا أن نكون واقعيين، وان نخترق الحواجز، وننمي في أنفسنا الإرادة القوية المقاومة.

إن الإنسان الذي يعاهد الله على أن يكون صالحاً، وأن يكف عن ارتكاب الذنوب ثم لا يفي بوعده هذا، فإنه لا يكذب على الله فحسب، وإنما يكذب على نفسه أيضاً.

ومثل هذا الإنسان لا يريد أن يصارح نفسه بالحقيقة، لأنه يريد أن يتخلص من وخز الضمير، ومن شلال النور الذي يتوجـه إلى قلبه عبر آيات القرآن الكريم.

فهو عندما يقرأ القرآن ويرى نفسه ليست في مستوى تعاليمه، فإنه إما أن يقول أن القرآن يبالغ، وإما أن يسوِّف في المبادرة إلى العمل الصالح، وهو لا يعلم أن كلمة (سوف) ذهبت بالكثير من الناس إلى النار.

وفي الحقيقة أن هذه هي مشكلة الإنسان الرئيسية، فهو لا يصارح نفسه بالحقيقة، وليست لديه الشجاعة الكافية لمعارضة ذاته.

فتراه يعيش دوماً حالة النفاق، والقلق، والاضطراب.

والله سبحانه يحذر عباده من أخلاق المنافقين، ويحثهم سبحانه على الصدق والوفاء بالعهود، ويوضح لهم سبحانه وتعالى أنه يعلم سرهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شيء من شؤونهم.

وقد يسأل الإنسان ذاته: هل أنا منافق؟، وماذا أفعل إذ كانت فيَّ إحدى صفات المنافقين؟، ويقرر القرآن كيف تتم عملية النفاق عبر مراحل في الصراع مع الذات، فالنفاق يتجسد خلال مرحلته الأولى في تمني الإنسان، وعدم قدرته على التغلب على ذاته، وتسويفه للعمل بالحق إلى المستقبل.

وهكذا تبدأ بذرة النفاق بالنمو في قلب الإنسان دون أن يشعر.

فمن الملاحظ أن هنالك من يتمنى من الله الرزق حتى ينفق أمواله في سبيل الله، وآخر يتمنى من الله الجاه حتى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ونحو ذلك.

وحينما تتحقق الأمنيات، تجد كثيراً من الناس ينقضون ما عاهدوا الله عليه، وبهذا تنشأ بذرة النفاق.

وثمة سؤال مهم: كيف يتحول النفاق إلى طبقة اجتماعية؟

الجواب: إن الإنسان المنافق لا يرتضي من الآخرين أن يدعوه منافقاً، ويصفوه بأنه على باطل.

وفي هذه الحالة فانه سيعمد إلى التفتيش والبحث عن عيوب للمؤمنين، ثم يعمد إلى الاتحاد مع المنافقين الآخرين، فتتشكل بذلك طبقة اجتماعية معينة تقوم بمحاربة المؤمنين.

والى هذه المراحل الثلاثة أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الْصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَاَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{[التوبة: 75-80].

فالله عز وجل يصرح في الآيات السابقة أن الإنسان إذا لم يبادر إلى القضاء على بذرة النفاق في قلبه؛ فإنها لا تلبث أن تتحول إلى سلوك.

في سورة التوبة آيات يخبرنا الله تعالى فيها عن صفات المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله e وقد ذكر الله في سورة التوبة فضائحهم وكيف أنهم كانوا يحاربون رسول الله e والرسالة، ولذلك سميت السورة (الفاضحة).

فاضحة لنوع آخر من المنافقين يحملون الإسلام اسما ولا يحملونه علماً ولا عملاً، ولا يحملونه أخلاقاً ولا سلوكاً.

الآية تفضح المنافقين وتشهر بهم حتى لا يغشوا الناس بمظاهرهم وبماضيهم الصالح الذي أفسدوه بأعمالهم الفاسدة.

كان رجل من فقراء الصحابة يداوم على صلاة الجماعة مع رسول الله e وفي المسجد لا يفارقه.

وكان يطلب من رسول الله e أن يدعو له أن يغنيه الله ويرزقه، فكان رسول الله e ينصحه قائلاً:" قليلٌ تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"([6]).

وكان الرجل يعد رسول الله e: لئن أغناني الله من فضله فسأتصدق, فدعا له رسول الله e, بسبب إلحاحه.

وإذا أراد الله إغناء إنسان فتح عليه من أبواب خزائنه بغير حساب، وإذا بهذا الرجل يصبح من أغنى أصحاب رسول الله e حتى أصبح له وادٍ من الغنم.

وعندما كثر غنمه ترك المجيء إلى المسجد وصلاة الجماعة إلا لوقت صلاة العشاء والفجر.

ثم كثرت أغنامه وأعماله حتى انقطع عن الجماعة.

واستمر حاله كذلك إلى أن أنزل الله عز و جل فريضة الزكاة: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{[التوبة: 103].

(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم): أي من البخل، (وتزكيهم بها): تجملهم بالسخاء، (وصلِ عليهم إن صلاتك سكن لهم)، سكن للإيمان والتثبيت.

وهكذا فقد أرسل رسول الله e إلى هذا الغني الجباة ليقبضوا منه الزكاة، فلما مّروا عليه ليبلغوه الذي كان, وقد كان له من المواشي ومن غيرها الكثير فكر ثم فكر ثم قال لهم: لا وقت لدي الآن، عندما ترجعون من الجباية من غيري من الناس أكون قد تفرغت لكم.

هلك المسوفون، كالقائل الآن لن أصلي الجمعة سوف أصليها يوم السبت.

ولو كان صادق الإيمان لطبق قوله تعالى: }وَسَارِعُوا{، بمجرد الطلب من الله.

فالمسلم الحقيقي يلبي الطلب، أما إذا أَجَّلَ وسوّف فهذا دليل نفاق.

ولما رجعوا إليه و طالبوه بالزكاة استنكرها و قال: ما هي الجزية, ما هي إلا أخت الجزية".

والجزية هي الضريبة التي تؤخذ من غير المسلم في ظل الحكم الإسلامي, أما المسلم في ظل الحكم الإسلامي فيؤدي الزكاة.

فرجع الجباة إلى رسول الله e وأخبروه بما قال هذا الرجل الذي وعد الله ثم أخلف وعده مع الله.

فليس كل الناس يتحملون ثقل النعم، فلما يكون المرء فقيراً تجده في المسجد وفي مجالس العلم، وعندما يغنيه الله, يترك المسجد.

قال تعالى: }وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الْصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَاَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{[التوبة: 75-80].

(ومنهم): مِن مَن أظهروا الإسلام ولكن باطناً كانوا غير مسلمين، أظهروا الإيمان و لكن أبطنوا الكفر, كانوا يصلون مع المسلمين و يجلسون مع رسول الله e, و إذا خرجوا يطعنون برسول الله e و بالإسلام وهذا نفاق العقيدة.

(ومنهم): من المنافقين الذين يحملون لقب الإسلام وليس فيهم من أداء ما يترتب عليه اللقب, من أداء للفرائض, فلا يؤدونها, ومن اجتناب للمحارم, فلا يجتنبونها, ومن تنفيذ لوصايا الإسلام, فلا ينفذونها، ومن جهة محبة الله, لا يحبونه, لأن الحب لا يكون بالقول فالقول سهل, بل يكون بأن ينزل المحب عند رغبة محبوبه.

فعندما يطلب منك الإسلام أداء الفرائض يجب أن تؤدي, أو أن تعطي كل ذي حق حقه, يجب تعطي, وإن عاهدت عهداً يجب أن توفي بالعهد, وإذا حدثت يجب أن تصدق في الحديث, فإذا لم تحمل هذه المعاني وتدعي أنك مسلم فأنت منافق, نفاق الأخلاق وهو نوع من النفاق.

(نسوا الله فأنساهم أنفسهم): إذا نسيت الأرض فلم تزرعها و تغرسها هي أيضاً ستنساك ولن تعطيك ثمراً, وإذا نسيت إيمانك ولم تعتني به, فلن يثمر عملاً صالحاً، وحينما يحين وقت الامتحانات التي يمتحنك بها الله.

لماذا أخلفوا؟.

ولماذا كذبوا؟

لأنهم جهلوا الله.

(ألم يعلموا أن الله يعلم سرَّهم): من غش أو مكر أو غدر أو مؤامرات.

(و نجواهم و أن الله علام الغيوب): التي تخفى على الناس, و يعلم النفاق الذي في صدور المنافقين.

وفي سورة الأحزاب:

قال تعالى: }وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً{[الأحزاب: 12].

}وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً{[الأحزب: 13].

}وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً{[الأحزاب: 14].

}وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً{[الأحزاب: 15].

}قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً{[الأحزاب: 16].

}قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً{[الأحزاب: 17].

}قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً{[الأحزاب: 18].

وفي سورة العنكبوت ذكر الله عزَّ وجلَّ بعض صفات المنافقين، فقال:

}وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ{[العنكبوت: 10].

}وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ{[العنكبوت: 11].

وفي سورة المنافقون:

وليلفت القرآن الكريم أنظار المؤمنين إلى شدة خطر المنافقين على جسم المجتمع اختصهم بسورة من سور القرآن هي سورة المنافقون، وقد اشتملت على عناصر ثلاثة:

  • الكذب من صفات المنافقين الذميمة.
  • دلائل كذب المنافقين.
  • تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق.

والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث بإِسهاب عن النفاق والمنافقين، حتى سميت السورة بهذا الاسم الفاضح الكاشف لأستار النفاق "سورة المنافقون".

تناولت السورة الكريمة في البدء أخلاق المنافقين، وصفاتهم الذميمة التي من أظهرها الكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، فإِنهم يقولون بألسنتهم ما لا تعتقده قلوبهم، ثم تآمرهم على رسول الله e وعلى المسلمين، وقد فضحتهم السورة وكشفت عن مخازيهم وإِجرامهم، فهم بتظاهرهم بالإِسلام يصدُّون الناس عن دين الله، وينالون من دعوة الإِسلام ما لا يناله الكافر المعلن لكفره، ولذلك كان خطرهم أعظم، وضررهم أكبر.

كما تحدثت السورة الكريمة عن مقالاتهم الشنيعة في حق رسول الله e، واعتقادهم بأنَّ دعوته ستضمحل وتتلاشى، وأنهم بعد عودتهم من "غزوة بني المصطلق" سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة المنورة، إِلى غير ما هنالك من أقوال شنيعة.

وختمت السورة الكريمة بتحذير المؤمنين من أن ينشغلوا بزينة الدنيا ولهوها ومتاعها عن طاعة الله وعبادته شأن المنافقين، وبيّنت أن ذلك طريق الخسران، وأمر بالإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإِنسان ويندم حيث لا تنفع الحسرة والندم.

  • الكذب من صفات المنافقين الذميمة:

إِذا جاءك المنافقون وحضروا مجلسك قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله قالوها بألسنتهم نفاقاً ورياءً، واللهُ يعلم إِنك لرسوله حقاً؛ لأنه هو الذي أرسلك.

واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون، فهو يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم؛ لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب.

اتخذوا أيمْانهم الفاجرة جُنَّةً ووقاية وسُترةً يستترون بها، واغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس.

إنهم ساء ما كانوا يعملون وقَبُح عملهم وصنيعهم؛ لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان وهم من أهل النفاق والعصيان، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة.

ذلك بأنهم آمنوا بألسنتهم ثم كفروا بقلوبهم، حيث نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم المجرمين.

فطُبع على قلوبهم وخُتِم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور فهم لا يفقهون، ولا يعرفون الخير والإِيمان، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح لختم الله على قلوبهم.

وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم لحسنها ونضارتها وضخامتها، وإِن يقولوا تسمع لقولهم، وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم؛ لفصاحتهم وذلاقة لسانهم، ويُعجب الناس بهياكلهم كأنَّهم خُشبٌ مُسندة إِلى الحائط في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.

يحسبون ويظنون لجبنهم وهلعهم كلَّ صيحةٍ عليهم وكل نداء وكل صوت موجَّهاً إليهم، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم.

هم العدوُّ الكاملون في العداوة للمؤمنين فاحذرهم ولا تأمنهم على سرّ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك.

قاتلهم اللهُوأخزاهم ولعنهم، وأبعدهم عن رحمته، كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين؟.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا؛ تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقْرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ، وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ، صُخُبٌ بِالنَّهَارِ"([7])

  • دلائل كذب المنافقين:

}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ{[المنافقون: 5].

}سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{[المنافقون: 6].

}هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ{[المنافقون: 7].

}يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{[المنافقون: 8].

  • تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق:

ولما ذكر قبائح المنافقين نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد، والمعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته، وعن أداء ما افترضه عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين.

فلا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات.

ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته، فأولئك هم الكاملون في الخسران، حيث آثروا القليل الفاني على العظيم الباقي، وفضلوا العاجل على الآجل.

وأنفقوا في مرضاة الله من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال، من قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان، ويصبح في حالة الاحتضار، فيقول يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِلى زمنٍ قليل!! فأتصدق وأحسن عملي، وأصبح تقياً صالحاً.

قال ابن كثير: كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات، ولكن هيهات.

ولن يُؤَخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلُها، ولن يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله.

وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه.

والله خبير بما تعملون، مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر، ومجازيكم عليها. 

}إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ{[المنافقون: 1].

}اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[المنافقون: 2].

}ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ{[المنافقون: 3].

}وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{[المنافقون: 4].

كأنهم أعمدة من خشب مسندة على الجُدُر، ويدل هذا التشبيه على عدة أمور:

ـ لا يختارون الجلوس في أوساط المجالس مع حلقات الناس للاستماع والانتفاع، بل يبتعدون ليسندوا ظهورهم إليها بحسب الظاهر، وهم في الحقيقية لا يريدون الاستماع ولا الانتفاع.

ـ أنهم مستكبرون يترفعون عن مشاركة المؤمنين في مجالسهم.

ـ أنهم إذا كانوا في مجالس المؤمنين، لا يرغبون بسماع النصائح، ولا يريدون أن يفقهون ما يقال من الخير؛ لانصراف قلوبهم ونفوسهم وانشغال أفكارهم عن كل ذلك.

ولما كان المنافق خائناً مندساً في صفوف المؤمنين، وهو ليس منهم، ويعمل على إفساد أوضاعهم، ويكيد لهم، فهو جبان وخائف، ومشدود الجملة العصبية على الدوام خشية أن يفتضح أمره، لذا تراه يترقب، ويخاف من أي حركة تخالف الحركات المألوفة المعتادة، ويحسب أنه هو المقصود منها، والسبب أنهم أعداء يلبسون ثياب الأصدقاء، ويتسترون بأنهم من أهل الولاء.

وهم في الحقيقة أعداء للمؤمنين من جهتين:

جهة عدواتهم للمؤمنين.

وجهة نفاقهم الذي ألجأهم إليه حرصهم على مصالحهم المادية.

وهذا ما يجعلهم يتكلفون ويتظاهرون بخلاف ما يبطنون، ولذا كانوا هم العدو، وعلى المؤمنين أن يحذروهم، وأن يتخذوا كل الوسائل والاحتياطات التي تحميهم من مكر المنافقين ومن كيدهم.

}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ{[المنافقون: 5].

}سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{[المنافقون: 6].

}هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ{[المنافقون: 7].

}يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{[المنافقون: 8].

لنكتشف أنفسنا منذ البدء:

وعلى هذا فإن على الإنسان أن يكتشف منذ البداية ذاته، فالطغاة عبر التاريخ استرسلوا مع الشهوات والأهواء والخبائث، ولم يلتفتوا إلى بذور النفاق في أنفسهم، والى الخلايا السرطانية التي كانت كامنة في ذواتهم، فكانت عاقبتهم أن مرضت قلوبهم، وأصبحت المواعظ والنصائح لا تنفع معهم، وبالتالي فإنهم قد ادخلوا النار وساءت سبيلاً.

وبناء على ذلك فان على الواحد منا أن ينتبه، ويأخذ بنظر الاعتبار منذ البدء لتلك الحقيقة، لكي لا يتحول هو بدوره إلى طاغية.

الصراحة علاج النفاق:

ومن أجل أن يتخلص الإنسان من هذه الحالة المرضية؛ فإن عليه أن يكون صريحاً مع نفسه، محاسباً لها على الدوام، وأن يطرح على نفسه دائماً السؤال: ما هو النفاق، وهل فيَّ نسبة من النفاق أم لا؟، ثم يعرض نفسه بعد ذلك على المقاييس القرآنية لكي يستطيع من خلالها أن يسلط الأضواء الكاشفة على نفسه، ويكتشف النفاق في مراحل ظهوره الأولى لكي يقضي عليه وهو في المهد، ولكي لا يخدع نفسه بأنه مؤمن، وأنه يحمل حقيقة الإيمان دون أن يعرض نفسه للامتحان، ودون أن يخضعها للمعايير الإلهية.

وفي هذه الحالة وحدها -حالة عرض النفس على القرآن- سيكون بمقدور الإنسان التخلص من رواسب وأدران النفاق، وحينئذ ستنطبق عليه مواصفات الإنسان المؤمن المخلص في إيمانه.

علاقة الأمثال بالمنافقين:

ترى ما علاقة هذا المثل بالمنافقين؟.

إن هناك علاقتين هما:

1 ـ إن الله تبارك وتعالى يضيء للمنافق؛ أي يعطيه الضوء، وهذا الضوء يتمثل في القرآن الكريم، وفي الرسول الأمين،  ولكن المنافق لا يستفيد من هذا الضوء، في حين أن المؤمن إذا أضاءت الرسالة الإلهية له طريقه؛ فإنه يستمر بالسير في طريقه هذا حتى يصل إلى غايته.

2 ـ إن باب الله تعالى الذي جاء بالصيب من السماء، والذي يأتي بالبرق منها، هو الذي يأتي بالرسالة من السماء أيضاً.

فكيف يستضيء الإنسان بنور الشمس ولا يستضيء بنور الرسالة، في حين أن الرسالة اشد ضياء من الشمس وأكثر دفئاً؟.

ولذلك يقول تعالى: }وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِم ْوَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[البقرة: 20].

مثل المنافق:

ضرب الله عزَّ وجلَّ أمثلة للناس عن المنافقين ليجتنبوا أعمالهم.

قال تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{[البقرة: 264].

وقال تعالى: }أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ{[البقرة: 266].

وقال تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ{[الأنفال: 21].

وقال تعالى: }إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ{[ الأنفال: 22].

وقال تعالى: }أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{[التوبة: 109].

وقال تعالى: }وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ{[الحج: 11].

 

 

 

 

 


التصور النبوي للنفاق:

 

خصال المنافقين:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e: "لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ؛ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ"([8]).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ بن العاص ـ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"([9]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ؛ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"([10]).

ومن النفاق: النفاق الاجتماعي، وفيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e: "قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ"([11]).

وقَالَ عَلِيٌّ t: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ e إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ"([12]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ"([13]).

وعَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ، أَوْ ذَكَرَهَا فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ؛ يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ أَوْ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا؛ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا"([14]).

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ([15]) بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ([16]) إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً"([17]).

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ e الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ؛ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ، قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ([18]).

وعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ قَالَ: إِنِّي لَبِبِلَادِنَا إِذْ رُفِعَتْ لَنَا رَايَاتٌ وَأَلْوِيَةٌ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟، قَالُوا: هَذَا لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ e فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ تَحْتَ شَجَرَةٍ قَدْ بُسِطَ لَهُ كِسَاءٌ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ فَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ e الْأَسْقَامَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ؛ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ"([19]).

وعَنْ عَمَّارٍ ـ بن ياسر ـ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ"([20]).

وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ ـ أُرَاهُ قَالَ ـ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ"([21]).

وعَبْدَ اللَّهِ ـ بن مسعود t ـ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ"([22]).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ الْمُسَاوِرِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَقُولُ: "لَا يُحِبُّ عَلِيًّا مُنَافِقٌ، وَلَا يَبْغَضُهُ مُؤْمِنٌ"([23]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ؛ حُسْنُ سَمْتٍ، وَلَا فِقْهٌ فِي الدِّينِ"([24]).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ: إِنَّا كُنَّا لَنَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ بِبُغْضِهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ([25]).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ؛ طَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ؛ طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لَهَا"([26]).

وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ"([27]).

وعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى أُمَرَائِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ، فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ e النِّفَاقَ([28]).

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"([29]).

وعَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ الْهَادِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَقِيَ نَاسًا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَؤُلَاءِ، قَالُوا: خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الْأَمِيرِ مَرْوَانَ، قَالَ: وَكُلُّ حَقٍّ رَأَيْتُمُوهُ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ، وَأَعَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مُنْكَرٍ رَأَيْتُمُوهُ أَنْكَرْتُمُوهُ، وَرَدَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، بَلْ يَقُولُ مَا يُنْكَرُ، فَنَقُولُ: قَدْ أَصَبْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْنَا: قَاتَلَهُ اللَّهُ، مَا أَظْلَمَهُ وَأَفْجَرَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا بِعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ e نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا لِمَنْ كَانَ هَكَذَا([30]).

وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: بَيْنَمَا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ إِذْ عَرَضَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ e يَقُولُ فِي النَّجْوَى!!، قَالَ: "يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ([31]) فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ أَيْ يَسْتُرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتَعْرِفُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتَعْرِفُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، وَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"([32]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ؛ لَا يَزَالُ الرِّيحُ تُفِيئُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ بَلَاءٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزَةِ؛ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تُسْتَحْصَدَ"([33]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِذِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا"([34]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا؛ تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقْرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ، وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ، صُخُبٌ بِالنَّهَارِ"([35]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ غِرٌّ([36]) كَرِيمٌ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ خَبٌّ([37]) لَئِيمٌ"([38]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "ثَلَاثٌ فِي الْمُنَافِقِ؛ وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ"([39]).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ؛ قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ"([40]).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ؛ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ"([41]).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ـ بريدة بن الحصيب ـ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ e قَالَ: "لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ"([42]).

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ الْمَغْرَمِ([43]) وَالْمَأْثَمِ([44])، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرَ مَا تَعَوَّذُ مِنْ الْمَغْرَمِ، فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ([45]) حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ"([46]).

وعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ t: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟، قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ([47]).

وأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: "إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَفَافَ وَالْعِيَّ عِيَّ اللِّسَانِ، لَا عِيَّ الْقَلْبِ، وَالْفِقْهَ مِنْ الْإِيمَانِ، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ، وَإِنَّ الْبَذَاءَ وَالْجَفَاءَ وَالشُّحَّ مِنْ النِّفَاقِ، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ"([48]).

الرياء في العمل:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: "الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ بِهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً([49]) لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ"([50]).

وَعَن جُنْدَبٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ e: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ"([51]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟، قَالَ: "وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَدْخُلُهُ؟، قَالَ: "الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ"([52]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ؛ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا، قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ إِنَّهُ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ"([53]).

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ e فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ e يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟، قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ؛ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ"([54]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ؛ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ"([55]).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ"، قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: "الشِّرْكُ الْخَفِيُّ؛ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ"([56]).

و قَالَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِبَشِيرِ بْنِ عَقْرَبَةَ الْجُهَنِيِّ يَوْمَ قُتِلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: يَا أَبَا الْيَمَانِ إِنِّي قَدْ احْتَجْتُ الْيَوْمَ إِلَى كَلَامِكَ، فَقُمْ فَتَكَلَّمْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "مَنْ قَامَ يَخْطُبُ لَا يَلْتَمِسُ بِهَا إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْقَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ"([57]).

وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ t أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟، قَالَ: شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ، وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ!!، قَالَ: "نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ"([58]).

عاقبة المنافقين:

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟!، أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"([59]).

 

 

 

 

 

 


أقسام النفاق:

 

ذكر كثير من أهل العلم أن النفاق قسمان:

القسم الأول: النفاق الاعتقادي: وهو: أن يُظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كلَّه أو بعضه.

وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله e، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.

قال الله تعالى: }إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا{[النساء: 145].

القسم الثاني: النفاق العملي، وهو: التخلق ببعض أخلاق المنافقين الظاهرة كالكذب، والتكاسل عن الصلاة، مع الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، كما ورد في قوله e: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ؛ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"([60]).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e: "لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ؛ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ"([61]).

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"([62]).

صور النفاق:

 

النفاق له صور عديدة وأشكال كثيرة:

ولكن ما وضع النفاق بين الصفات النفسية والخلقية؟

النفاق يستلزم عدة صفات غير خلقية يقتضيها اكتساء الإنسان ثوباً غير ثوبه الحقيقي واعتماده في حياته الاجتماعية على هذا الثوب الزائف، وهذه الصفات المعدة ليست جزئية في جملتها أو في نهايتها؛ لأنها تنتهي بهدم الكيان الشخصي للمرء.

وهذا واضح من مجرد قبول الإنسان أن يخلع شخصيته الحقيقية ليلبس شخصية زائفة مصطفة يختفي وراءها.

وهذا الاختفاء معناه موت الشخصية من الناحية الاجتماعية، لأن الناس لا يرون شخصية المنافق الحقيقية حينئذٍ، حيث إنها مخفية وراء هذا القناع الزائف (النفاق) وهذا معناه موت هذه الشخصية بالنسبة للناس.

وكذالك موتها بالنسبة لصاحبها لأن شخصيته أصبحت أمامهُ منقسمة، الشخصية التي يراها الناس، وشخصيته الحقيقية، وشخصيته التي يراها هو، فكل شخصية: يمكن أن ينظر إليها من هذه الزوايا الثلاث.

لكن كمال الإنسان ونقصه يكون بمقدار تقارب هذه الزوايا واختلافها، فكلما كانت الزوايا متفقة كان صاحبها أقرب إلى الكمال وبالعكس، وقد تكون هذه الزوايا أكثر اختلافاً في المنافق؛ لأن شخصيته تجعله لا يستطيع إظهارها للناس فيتكلف إظهار شخصية أخرى وكذلك هو لن يرضى عن شخصيته الحقيقية؛ لأنه لو رضي عنها لأظهرها للناس.

فهو ينظر إلى شخصيته الحقيقية نظرة الساخط الماقت.

فالنفاق ليس نقيصة جانبية أو جزئية، وإنما هو فساد جذري في أساس الشخصية ومحورها الحيوي، وهذا الفساد قلما يرجى معه الصلاح، كما لا يرجى صلاح البنية إذا استحكمت العلة في جذورها، وكما لا يرجى شفاء الإنسان إذا استحكمت العلة في قلبه، وليس من المصادفة أن يحدد القرآن موضع المرض منهم في القلوب بالذات لقوله تعالى: (في قلوبهم مرض)

فإن تحديد القلوب بالذات معناه أن المرض في أخطر المواطن التي تتحكم في الشخصية وتديرها.

بل يزيد القرآن على ذلك وهو عدم الأمل في صلاحهم وشفائهم من مرضهم النفسي الخطير لأن وصول العلة إلى القلب يسبب زيادة المرض لقوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).      

وهو من أخطر الأمراض؛ لأن الذي يبتلى بهذا المرض يعاني من اضطرابات نفسية وهم وقلق، فهو يعيش في اضطراب دائم، من أن يكتشفه الناس من جهة، ومن أنه ليس صادقاً مع نفسه من جهة أخرى.

ويصف ابن كثير المنافق نقلا عن ابن جريح بالقول([63]): أن المنافق يخالف فعله: سره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه.

ما هو النفاق التي تجب معالجته؟

لقد قسم الله سبحانه وتعالى الناس في محكم كتابه إلى أصناف ثلاث: مؤمن وكافر ومنافق لا رابع لهم.

ووضح ذلك في أوائل سورة البقرة فنزلت أربع آيات في نعت المؤمنين من الآية (1 _5)

واشترط جلت قدرته فيمن يحمل هذا اللقب الكريم أن يكون متصفاً بخمس صفات: الإيمان بالغيب، و إقام الصلاة، والإنفاق ممن رزقه الله، والإيقان بالآخرة.

أما الآيتان التي بعدهم فهي في وصف الكافرين سواء كانوا مشركين أم كتابيين وهي قوله تعالى: (إن الذين كفروا ....ولهم عذاب أليم).

ثم أفرد سبحانه وتعالى 13 آية في وصف المنافقين وذلك من(8 _20)

أقسام الناس بالنسبة للشريعة الإسلامية والإيمان بها:

مؤمن يناصر الفكرة الإسلامية ويعمل لها ويجاهد من أجلها ويموت في سبيلها

وكافر يناصبها العداء ويجاهد بالمال والسلاح

وثالث مضطرب في عقيدته متأرجح بين الكفر والإيمان، وهذا هو المنافق الذي أعمى النفاق قلبه وبصره وأفسد عليه كل شيء في حياته.

فالنفاق والمنافقين أخطر على الدعوة من الكافرين أنفسهم كما أنهم يندسون في صفوف المؤمنين فيوهنوا عزائمهم ويشيعون الفشل فيما بينهم  لأن المنافق يبطن مالا يظهر، فهو يظهر الخير ويبطن الشر.

ولو أمعنا النظر في الشريعة الإسلامية لوجدناها تقسم النفاق إلى قسمين متباينين وهما:

1_ نفاق اعتقادي: وهو النفاق الذي تحمله فئة كافرة تكتم كفرها وتظهر الإيمان لغاية وتخفي الكفر لمآرب؛ فهي تبطن الشر وتعلن الخير.

2- نفاق عملي: يحمله ضعاف الإيمان بالله والرسول وهؤلاء تزعزعت عقيدتهم بدينهم وساء فهمهم للمعاني العليا لدعوتهم الكريمة، فخبثت نفوسهم وساءت فعالهم، فهم ضعفاء القلوب الذين يؤثرون المنفعة الشخصية على مصالح دعوتهم.

ولكننا نجد النفاق بنوعيه يتفق في نوع العمل وروحه ففكرة الهدم والتحطيم هي الهدف الأساسي الذي تشرئب إليه أعناق الطائفتين

ولو استعرضنا آيات القرآن التي تحدثت عن هذه الفئة من البشر لتبينا أن القرآن الكريم تارة يفرق في ندائه وتوجيهه الخطاب إلى هاتين الطائفتين كل منهما باسم خاص بها

وأخرى يطلق أحد الاسمين على الفئتين معاً على أحدهما.

وثالثة يناديهم أو يسميهم بفعل قد ارتكبوه أو إثم قد فارقوه

إذن هنالك فئتين إحداهما تبطن الشر وتظهر الخير وأعمالها أعمال الشياطين وأفعالها أفعال المارقين وأخرى ضعيفة الإيمان مريضة القلب ولكن أعمالها وأفعالها لاتختلف عن سابقها لأنها تؤثر منفعتها الشخصية وتفضل مصلحتها الذاتية

ومن ثم كانت خطورتهما اللتان تهددان الدعوة الإسلامية واحدة وكذلك أيضاً كانتا قسمين لفريق واحد هو فريق المنافقين.

ونستطيع تقسيم صور النفاق في أنواع شاملة: وهي:(الكذب، الخداع، الرياء)، وهناك الغش والضلال، والمداهنة!

1 ـ الكذب:

قال الله تعالى في سورة المنافقون: ]إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ[[المنافقون: 1].

وفي الحديث الشريف: يقول رسول الله r: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".

2- الخداع:

الخداع في اللغة: الفساد، أو: الإخفاء، والمراد به هنا هو: الاستخفاء من الناس دون مراعاة لمراقبة الله.

والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا وتعاملوا مع الله صنع المخادعين، بالرغم من أن الله لا يخفى عليه شيء.

يقول الله تعالى واصفاً المنافقين: }إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً{[النساء: 142].

والخداع: هو التغير من حال إلى حال، وما النفاق إلا تغير من ممارسة الفضيلة إلى التطبع بأطباع الرذيلة.

والخداع: هو تخلق بغير الخلق، فيقال: فلان خدع خلقه أي خدع رأيه، فهو خادع الرأي أي انه ليس يظهر ما يخفي، وهو المخادع: المتواري والمستتر وهو المتلوّن، وهو حياكة المكر للآخرين.

فكل منافق إنما هو مخادع لمن حوله، ولا فرق بينهما.

وبالتالي فإنهم ما يخدعون إلا أنفسهم؛ لأن الخداع إنما يكون مجدياً مع مَن لا يعرف البواطن، وأما رب العالمين فيعلم السر وأخفى، ويعلم خداع المنافقين، فهم مخادعون لأنفسهم.

ويستخدم المخادع المنافق حلاوة اللسان وعذب الكلام ليدخل إلى فكر المؤمن ويصل إلى قلبه.

وأقوال المنافقين في أمور الدنيا تُعجب السامعين؛ لأنهم يستطيعون التصنع والتظاهر بغير ما يبطنون، ويستطيع الواحد منهم أن يستولي في المجلس على جلسائه بزخرف القول، والكلام المجرد المنمق، الذي يوهم أنه صدق، وهو كذاب يخالف باطنه ظاهره، وتخالف حقيقة أمره ما يدعيه بلسانه.

وقد وصف الله تعالى حال المنافقين في هذا التصرف بقوله: ] وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[[البقرة: 204].

فالمنافق يتحدث أمام الناس بعذوبة لفظ، وقوة بيان، لكي يرضيهم، وقلبه ينفث بالسم عليهم، وهو ألد الخصام، أي شديد الخصومة يجادل بالباطل ويتظاهر بالدين بكلامه المعسول، وإذا انصرف سعى فساداً ونفاقاً وإيقاعاً للآخرين في الخسائر والمشاكل، وقد وصف الشاعر أخلاق المنافق هذا، بقوله:

   يعطيك من طرف اللسان حلاوة        ويروغ منك كما يروغ الثعلب

3 ـ الرياء:

بالإمكان أن نضع الرياء في زمرة النفاق، وليس بالضرورة أن نسوي بين المنافق والمرائي في درجة الاتهام، مع العلم أن الرياء ظاهراً كان أم خفياً يعتبر أمراً كبيراً وذنباً يهدم الخير ويستبدله بجبل من السيئات؛ لأنه يقود إلى الإشراك بالله، وحب إظهار النفس وخيرها أمام الناس دون أن تكون خالصة لله وحده سبحانه.

وقد يتخذ الرياء أشكالا متعدد من السلوك منها:

الظاهر ويكون كالتالي:

-          الزيادة في الطاعات بعد المدح والثناء، وتركها في عدمه.

-          النشاط في العبادة الجماعية، والكسل في الخلوة مع الله والنفس

-          التصدق أمام الناس ليقولوا عنه أنه كريم ويذكروه بالخير.

-          أن يقول ما يقوله من الحق وأن يدل على الطاعات وهو ليس عامل بها، دون توجيه النية الخالصة لله في كل عمله وقوله.

  ومن ذلك: التظاهر بالعبادة، أو السخاء والكرم، أو الوطنية والانتماء، أو التبرع للمشروعات الخيرية والاجتماعية والعمرانية.

وبذلك يبالغ المنافق في العبادة أمام الناس ويتصدق أمام الناس بقصد نيل الخظوة والمكانة الاجتماعية.

وأن يفعل الخير وهو يريد من وراء ذلك تحقيق مصالحه الشخصية ومنافعه الاقتصادية.

4 ـ الاعتزاز بالإثم:

وهو التكبر في أبشع صوره، والغرور بالنفس في أحط معانيه.

فالمنافق تأبى نفسه الضعيفة إلا الإصرار على الإثم والباطل، وتأبى قلوب المنافقين الوقوف أمام الحق، ولو بدا واضحاً جلياً.

5 ـ الاستخفاء من الناس دون حساب لمراقبة الله.

أن يكون الخوف من الناس أعظم في القلب من الخوف من الله كما هو حال المنافقين لهو عمل قبيح، استنكره الله على أصحابه، كيف يخفون أعمالهم القبيحة عن الناس ويهابون الناس، ويجاهرون الله بالمعاصي، مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم.

6 ـ ذو الوجهين:

إن الشخص الذي له وجهان إنما هو شخص حائر مذبذب يلتقي بأحد الفريقين المتباغضين فيمدحه ويزيد في مدحه، ويسب الفريق الآخر ويبالغ في الإقذاع والفحش، ولا يتحرج في الحلف بالأيمان المغلظة، حتى إذا التقى بالفريق المقابل فعل الشيء ذاته.

وهم يتربصون بالفريقين فمن غلب منهم مالوا معه ضد الآخر، فلا مبدأ يثبتون عليه، وقيماً أخلاقية يعتزون بها.

وما أكثر هذا الصنف المخادع الغاش الذي يلقى عامة الناس بوجه، ويلقى أصحاب الجاه والمسؤولين بوجه آخر.

كثير من الناس يصانعون في الظاهر، وقلوبهم منطوية على غير الذي يظهرون أمام الناس.

7 ـ  الحقد والضغينة:

فالمنافق لا يدخر جهداً من الإفساد والكيد للمؤمنين، ويتمنون شدة الضرر والمشقة لهم، وقد بدت بغضاؤهم في كلامهم؛ لأنهم لا يصبرون بالمقدار الكافي فتنطلق ألسنتهم بقليل من قلوبهم من الحقد والبغضاء.

والحقد ثمرة من ثمار الغضب، والغضب شعلة من النار مستكنة في طي الفؤاد، كاستكنان الجمر تحت الرماد.

وأما آفات الحقد، فهي:

ـ الحسد، وهو تمني زوال النعمة عن المحسود، حيث يغتم الحاسد إن أصاب المحسود خير ونعمة، ويفرح ويسر إن نزلت بالمحسود مصيبة.

ـ الهجر والقطيعة.

ـ استصغار الآخرين والشعور بالتكبر عليهم.

ـ التكلم بالمحرمات الكلامية، من الغيبة والنميمة وإفشاء السر وهتك الستر.

ـ الاستهزاء والسخرية بالآخرين.

ـ يتفنن بأنواع من الأذى.

قال الله تعالى: ]فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ[[محمد: 22]

8 ـ تثبيط الهمم وإشاعة الفشل بين المسلمين:

وبث روح الضعف، وإماتة الروح المعنوية، وإحداث الفتن والاضطرابات في صفوف المسلمين، ومن محاولاتهم:

ـ القيام بتضليل المسلمين، وبدأت تتخذ الوسائل الآتية:

1 ـ التضليل الفكري بلبس الحق بالباطل.

2 ـ كتمان الحق الذي يعلمونه.

ـ قذف الشك والحيرة في قلوب المسلمين الذي ينتج عنه القلق والاضطراب.

9 ـ الخيانة:

والخيانة التي يتصف بها المنافقون على أنواع:

1 ـ خيانة عامة، بمعناها الواسع، وهي ألا يرعى المرء ما للآخرين من حرمة وحقوق، ولا يرقب فيهم ذمة ولا يحفظ لهم جواراً، فيسلبهم ما ليس له، ويسطو على ما في أيديهم، ويقال: كل سارق خائن، وليس كل خائن سارقاً.

2 ـ الخيانة العظمى، وهي أخطر شعب النفاق وأشدها تهديداً للمجتمعات؛ لأنها لا تتصل بفرد أو أفراد، بل تؤدي إلى إيذاء عام للأمة، وتأخذ وسائل متعددة، منها:

أ ـ التجسس لصالح العدو: حيث يحضر المنافق مجالس المؤمنين وينقل الأخبار إلى أعداء المؤمنين.

ب ـ إفشاء الأسرار للعدو: يطلبون بذلك حظوة أو نصيباً مالياً، أو مكانة مرموقة.

ج ـ التآمر مع الأعداء ضد سلامة المجتمع أو الدولة التي يعيشون فيها: وهذا من أكبر النفاق ومن أكبر الخيانات، والذي يتآمر مع الأعداء ضد أمته أو شعبه أو مجتمعه ليس فيه مروءة ولا شهامة، فهو أناني لا يهمه إلا مصلحة نفسه، على حساب أهله وأبنائه وأفراد مجتمعه.

10 ـ عدم الصبر على الفتن والنكبات:

زعزعة القلب والقلق الدائم عند النكبات والفتن، وذلك شأن ضعيف الإيمان الذي لا يصبر على شيء؛ فإن أصابه خير اطمأن ورضي بذلك، ولكن إذا ابتلاه الله أو امتحنه بشيء فإنه يجزع ولا يصبر.

11 ـ الإفساد في الأرض:

فنفوس المنافقين منطوية على حب الشر ورغبة الفساد؛ فخططهم تتجه نحو الظلم والسعي في الإفساد.

12 ـ إيذاء المؤمنين:

ومما يستعمله المنافقون القيام بإيذاء المؤمنين، عن طريق السخرية من المؤمنين: حيث لا يسلم أحد من لمز المنافقين وعيبهم.

13 ـ تتبع عورات المسلمين:

ليعلموا على إيذاءهم والسيطرة على أمورهم، فمن عرف أسرار غيره ونقاط الضعف لديه استطاع أن يهيمن عليه.

وفي هذا يقول رسول الله r: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يؤمن يفضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه مَن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومَن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"().

14 ـ النميمة:

وهي فعلة خسيسة، وخصلة لا يتخلق بها إلا كل لئيم اطبع، ولا يلجأ إليها إلا كل فاقد لمعاني الإنسانية والكرامة.

ولقد ذم الله تعالى النميمة بقوله: ] هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ[[القلم: 11].

والنمام يهدف إلى إثارة الشكوك والشبهات وتثبيط الهمم والعزائم بالأراجيف والأكاذيب والأقوال الخادعة والمضللة.

 

 


شخصية المنافق

 

للنفاق صور عديدة، وأشكال كثيرة، والنفاق يستلزم عدة صفات يقتضيها اكتساء الإنسان ثوباً غير ثوبه الحقيقي، واعتماده ـ في حياته الاجتماعية ـ على هذا الثوب الزائف.

والمنافق لا يستطيع إظهار شخصيته الحقيقية للناس، فيتكلف إظهار شخصية أخرى، وفي الوقت ذاته لا يكون راضياً عن شخصيته الحقيقية لأنه لو كان راضياً عنها لأظهرها للناس، لذا، تراه في اضطراب وقلق، ينظر إلى شخصيته الحقيقية نظرة الساخط الماقت، ويحاول تلميع شخصيته المزيفة التي تظهر أمام الناس، لذا تفوح منه رائحة الخبث في تعامله.

ومن هنا نؤكد على أن النفاق ليس نقيصة جزئية ظاهرية فحسب، وإنما هو فساد جذري في أساس الشخصية  ومحورها الحيوي.

وهذا الفساد قلما يرجى الشفاء منه، ونادراً ما يصلح، كما لا يرجى صلاح النبتة إذا استحكمت العلة في جذرها، فتحتاج إلى قلع أو حرق، وكما لا يرجى شفاء الإنسان إذا استحكم العلة في قلبه، وليس من المصادفة أن يحدد القرآن الكريم موضع مرض المنافقين بأنه في قلوبهم.

 

 

 


النفاق والمنافقون.. تنبيهات وأخطار([65])

 

إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدّاً؛ لأنهم منسوبون إليه، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.

فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟، وكم من عَلَم له قد طمسوه؟، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شـبـهـهـم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، }أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ{ [البقرة:12].

هذا بعض ما سطّره ابن القيم في التحذير من النفاق والمنافقين([66]):

1- خطر المنافقين داهم:

فالمنافقون أعظم خطراً وضرراً من الكفار المجاهرين، كما أن المنافقين أغلظ كفراً وأشد عذاباً.

قال ابن القيم عنهم: (طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: }إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْـفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً{ [النساء: 145].

فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم في دركات النار؛ لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبليةُ المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالـى: }هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{ [المنافقون: 4].

ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، والمراد: إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً، ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل، صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم.

 وإنما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الإيمان ما لم يصل إلى المنابذين بالعدواة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم([67])، قال تعالى عن المنافقين: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ{ [المنافقون: 3].

2- تحذير القرآن منهم:

سبق ذكر تحذير القرآن الكريم من النفاق وبيان صفات المنافقين في فصل (التصور القرآني للنفاق).

3- تحذير الرسول e من النفاق

خاف رسول الله e على أمته من النفاق والمنافقين، وحذّر وأنذر من سلوك المنافقين، وحذر من الوقوع في شُعَب النفاق في أحاديث كثيرة.

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"([68]).

قال المناوي في التفسير: (كل منافق عليم اللسان: أي: عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام) ([69]).

وقال المناوي: (أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها، وأبهة يتعزز بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه) ([70]).

4- خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق:

كان سلفنا الصالح رحمهم الله ـ مع عمق إيمانهم وكمال علمهم ـ يخافون النفاق أيما خوف، فقد أخرج البخاري ـ تعليقاً ـ أن ابن أبي مليكة قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي e كلهم يخاف النفاق على نفسه).

قال الحافط ابن حجر: (والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة، من أجلِّم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة،... فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء، كعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم..)([71]).

وكان أبو الدرداء t إذا فرغ من التشهد ـ في الصلاة ـ يتعوذ بالله من النفاق، ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: ومالك ـ يا أبا الدرداء ـ أنت والنفاق؟، فقال دعنا عنك، فو الله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه([72]).

وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ ـ البصري ـ: مَا خَافَهُ ـ أي النفاق ـ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ([73]).

وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: (ومن يأمن على نفسه النفاق)؟! ([74]).

يقول ابن القيم: (وبحسب إيمان العبد ومعرفته يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأمة وسابقيها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر يقول لحذيفة: ناشدتك الله، هل سماني رسول الله مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً ([75])، يعني لا أفتح عليّ هذا الباب في تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يَبرأ من النفاق غيرك) ([76]).

فتأمل رحمك الله ما عليه أولئك الأسلاف الأبرار من خوف شديد من النفاق ودواعيه، ثم انظر إلى حال الأكثرين منا في هذا الزمان، فمع ضعف الإيمان وغلبة الجهل تجد الأمن من النفاق والغفلة عنه!!!، فالله المستعان.

5- المنافقون كثر:

ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين: أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، كما قال الحسن البصري: (لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات) ([77]).

وقال ابن القيم: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أحواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسبابُ المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة t رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك) ([78]).

ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شُعَب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَن فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَن إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق، ولما قوي الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك: صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكن يعاتبون عليه قبل ذلك..) ([79]).

6- سهولة الانخداع بهم:

فالمنافقون أصحاب تذبذب وتقلب، وأرباب خداع وتلبيس، فيتكلمون بمعسول الكلام، وفصيح الخطاب، ويظهرون للناس في هيئة حسنة، ومظهر جذاب، فربما انخدع لهم الفئام من المسلمين، فمالوا إليهم وأصغوا إلى قولهم وتدليسهم، قال تعالى: }وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ{ [التوبة: 47]، وقال سبحانه: }وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ{ [المنافقون: 4].

إن هذا التلون والتذبذب يجعل خطرهم كبيراً، وشرهم مستطيراً، حيث يخفون كفرهم وضلالهم، ويتظاهرون بالإيمان والاهتداء.

7- انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا:

ومما يؤكد خطر النفاق: أن الكثير من شعب النفاق الأصغر ـ الذي لا يُخرج عن الملة ـ قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى، وعدم تحديث النفس بذلك.

ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر، لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر المخرج من الملة.

وفي هذا يقول ابن رجب: (والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على المعصية أن يُسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير منافقاً خالصاً) ([80]).

بل استفحل الأمر، وعظم النفاق حتى صرنا نشاهد صوراً أو أنواعاً من النفاق الأكبر في بلاد المسلمين، ومن ذلك: الاستهزاء بدين الله تعالى، والفرح والسرور بانخفاض دين الإسلام وهزيمة المسلمين، وكذا العكس، والإعراض التام عن حكم الله تعالى، ومظاهرة الكفار ضد المسلمين.

إن على الدعاة إلى الله أن يَحْذروا مكايد المنافقين ومسالكهم، فلا ينخدعوا بهم، أو يتساهلوا معهم، وأن يعنى الدعاة بمعرفة النفاق وخطره وشعبه؛ مخافة أن يصيبهم، وأن يتعرفوا على مكايد المنافقين ومخططاتهم في الماضي والحاضر لكي لا يقعوا في شراكهم، وأن يجتهد المصلحون في تحقيق تزكية النفوس وتربية الأجيال على الإيمان الصحيح، والقيام بالعبادة ظاهراً وباطناً، فالمنافقون أرباب ظواهر لا بواطن، وسيدرك الصادقون في إيمانهم أولئك المنافقين من خلال لحن القول، كما قال سبحانه: }وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ{ [محمد: 30].

قال شيخ الإسلام: (فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقْسَم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله) ([81]).

وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان t: ما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه وفلتات لسانه.

8- الرد على منكري النفاق:

وأشير إلى مسألة مهمة، وهي: أن النفاق موجود وواقع.

قيل للحسن البصري: إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق، فقال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إليّ من طلاع (ملء) الأرض ذهباً ([82]).

ويدل على ذلك: ما رواه أبو هريرة t مرفوعاً: "ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال رجل: يا رسول الله، ذهبت اثنتان وبقيت واحدة؟ قال: فإن عليه شعبة من نفاق ما بقي منهن شيء"([83]).

قال الذهبي: (وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص..) ([84]).

وقال شيخ الإسلام: (وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب، كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة..) ([85]).

9- الموقف إزاء المنافقين:

أما عن الموقف والواجب تجاه المنافقين، فيتمثل في جملة أمور، منها:

أ- النهي عن موالاتهم والركون إليهم، كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَاًلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ*هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{ [آل عمران: 118، 119].

ب- الإعراض عنهم، وزجرهم ووعظهم: لقوله تعالى: }أُوْلَئِكَ الَذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً{ [النساء: 63].

ج- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم، حيث قال تعالى: }إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً{ [النساء: 105- 107].

د- جهادهم والغلظة عليهم: لقوله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ{ [التوبة: 73].

هـ- عدم تسويدهم: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ـ بريدة بن الحصيب ـ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ e قَالَ: "لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا؛ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ"([86]).

وكان حذيفة يؤيس (يحتقر) المنافقين([87]).

و- عدم الصلاة عليهم، امتثالاً لقوله تعالى: }وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ{[التوبة: 84].

وليس يخفى على أحد أنك لن تجد علامة صريحة صريحة مادية على المنافقين، ولن تجد لافتة على رأسه مكتوب عليها منافق، ولن تجد مَن يرضى أن يوصف بالنفاق أو يُعد في المنافقين، ولكن الأعمال تكشف النفاق، وتحدد هوية المنافقين. 

فأفعالهم تفضحهم، ولحن القول يرديهم، وفلتات اللسان تبرزهم، قال الله تعالى: }وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ{[محمد: 30] 

فما موقف المسلم من المنافقين؟.

إن المتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله وسيرتِه وسيرِ أصحابه، يجد الإجابة عن الموقف الشرعي من المنافقين في الأمور التالية:

أولاً: الحذر من المنافقين قال الله تعالى فيهم: }هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{[المنافقون: 4].

ثانياً: العمل على كشف خططهم، وفضح أساليبهم، فالمنافقون جبناء، لا يجرؤون على التصريح بما يريدون، بل هم أصحاب حيل، وأرباب مكر وخديعة، وأصحاب ظواهر لا بواطن، فلربما سعوا إلى التدمير باسم التطوير، ولربما سعوا في الأرض فساداً وهم يزعمون أنهم مصلحون، قال تعالى: }أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ{[البقرة: 12].

10 - تنبيهات مهمة:

ونذكر في نهاية هذه المقالة جملة من التنبيهات:

أولاً: علينا أن نفرق بين المداهنة - وهي من خصال المنافقين وشعب النفاق - والمداراة، فالمداهنة: مجاراة أهل الكفر والفسق في باطلهم، وأما المداراة فهي: مداراة أهل الكفر والفسق اتقاء شرهم، أو تأليفاً لقلوبهم.

فالمداهن صاحب تلون وتذبذب، ويَلْقى كل طائفة بما تهوى، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e: "قَالَ تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ"([88]).

قال القرطبي: (إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ هو متعلق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب) ([89]).

فالمداهنة محرمة ومذمومة، بخلاف المداراة؛ فقد سلكها رسول الله e، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما: استأذن رجل في الدخول على النبي e، فقال: "بئس أخو العشيرة فلما جلس تَطلّق له النبي e في وجهه، وانبسط له، فسألته عائشة، فقال: يا عائشة متى عهدتيني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله: من تَرَكه الناس مخافة فحشه" ([90]).

وقد بيّن أهل العلم الفرق بين المداراة والمداهنة، ومراد رسول الله e في مسلكه تجاه ذلك الرجل.. ( قال القاضي عياض: الفرق بين المداراة والمداهنة: أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدين، أو الدنيا، أو هما معاً، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا، والنبي e إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق، وفعله معه حسن عشرة) ([91]).

وقال ابن بطال: (حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله، وحيث تَلَقّاه بالبشر كان لتأليفه، أو لاتقاء شره، فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح) ([92]).

ثانياً: ينبغي أن نفرِّق بين النفاق وما يعرض القلب من الغفلة والتغير بعد الخشوع والإخبات.

يقول ابن رجب: ( لما تقرر عند الصحابة y أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً.

فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟!، قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ؟، قَالَ: قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ e يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ e عَافَسْنَا [ اشتغلنا بـ ] الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "وَمَا ذَاكَ؟!"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا [ اشتغلنا بـ ] الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ([93]).

فعن حنظلة الأُسيْديِّ أنه مرّ بأبي بكر الصديق t  فقال: كيف أنت يا حنظلة، قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول، قال: نكون عند رسول الله e يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله e عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله e، وأخبره حنظلة بحاله، فقال e: "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة".

وقال النووي: (وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك منافقاً، فأعلمهم النبي e أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك) ([94]).

والمقصود: أن أمر النفاق شيء، والغفلة والذهول شيء آخر، حيث يرد هذا التغير على القلب، لكنه أمر عارض يصيب القلب ساعة، فيستغفر العبد ربه وينيب.

ثالثاً: أن نفرِّق بين قبول الحق من كل شخص سواءً أكان مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، وبين موالاة ذلك الشخص ومودته، فالمنافق إذا قال صواباً، فإنه يقبل هذا الصواب منه، دون أن يكون له الولاء، وفي المقابل: فإن العالم الفاضل أو الداعية الصادق، وإن وقع في زلة أو عثرة، فلا يُوَافَق على زلته وعثرته، لكن يبقى له حق الولاء والنصرة حسب إيمانه وتقواه.

كما قال معاذ بن جبل t: (واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق؛ فإن على الحق نوراً) ([95]).

فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من النفاق، وأن يختم لنا بالإيمان.

 

 


مبدأ النفاق ومنبته ومكمنه

 

يقول الحسن البصري: إن أصل النفاق والذي بنى على النفاق هو الكذب.

قد يلجأ بعض الناس إلى الكذب لينجو من بعض المواقف المزعجة التي يريد تجنبها.

وقد يكون الكذب بدافع الخوف أو اليأس أو الطمع أو الحيلة أو لمجرد تجنب الدخول في نقاش طويل عقيم لن يؤدي إلى أي نتائج مفيدة.

والكذب هو الشجرة التي تتفرع منها الأغصان الفاسدة.

والخداع: المخادع يعيش أجواء مزيفة وغير حقيقية، ويظن أنه سعيد، ويعتقد أنه بالاحتيال يصل إلى غايته.

فالخداع أصل النفاق، وتعد صفة الخداع من أهم وأبرز صفات المنافقين؛ فإن القرآن الكريم يقول: }يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ{[البقرة: 9]، أي إنهم يحاولون خداع الله تعالى وخداع المؤمنين، ولكنهم لا يخدعون إلاّ أنفسهم.

وعلى هذا فإن صفة الخداع هي جذر صفات المنافقين، الذين تتفرع منه سائر الصفات، فهم يحاولون خداع رب العالمين.

ومع ذلك فإن المنافق الذي يحاول خداع الطرف الآخر؛ فإنه يبتلى - في الواقع - بالخداع الذاتي؛ لأن الناس لا يقبلون منه خداعه، ولكنه ولكي يثبت خداعه؛ فإنه يبحث لنفسه عن بعض الأدلة الواهية التي تتراكم في ذهنه بمرور الزمن وبشكل تدريجي حتى تتحول إلى قناعة كاذبة مزيفة.

وللتوضيح إليك المثال:

عندما تريد أن تقنع شخصاً ما بأن ما في الكأس الذي في يدك هو عصير برتقال وليس ماء، فإنك ستقول له: إن هذا السائل الذي في القدح هو عصير، أو ماء مضاف عصير، أو ماء برتقال، ولكي تثبت ادعاءك هذا فإنك تحاول أن تبحث عن دليل فتقول له: إن عصير البرتقال ليس برتقالي اللون، بل هو عديم اللون.

فيقول لك الطرف المقابل: إن عصير البرتقال برتقالي اللون.

فتقول له: إن هناك نوعاً من البرتقال في بعض بلدان العالم عصيره عديم اللون.

فيجيبك: ولكنه يفقد الطعم.

فتقول له: نعم، ولكن حاسة ذوقك مخطئة.

فيشرب وهو يوحي إلى نفسه أن فيه طعم البرتقال.

وهكذا تحاول أن تقنعه بشتى الأدلة بأن الذي يشربه هو عصير البرتقال وليس ماء.

وهكذا تتراكم الأدلة حتى تقتنع أنت من الناحية النفسية بأن السائل الذي في القدح هو فعلاً عصير برتقال، في حين أن الطرف المقابل اكتشف منذ البداية أنك غير صادق فيما تدعي، ولكنك شيئاً فشيئاً أصبحت أسير كذبك.

وفي هذا المجال تروى قصة لطيفة تقول:

إن شخصين اتفقا على أن يدعيا للناس أن أحد المواضع مدفون فيه أحد الأنبياء؛ فأصبح أحدهم سادناً، والآخر خادماً.

فما كان من أهل القرية إلا أن التفوا حول هذا الموضع لبساطتهم وسذاجتهم.

وعندما جمع الأهالي مقداراً من المال، وأعطوه لذينك الشخصين، اختلف هذان الشخصان على المال، فقال أحدهما: لي ثلثاه باعتباري سادناً، ولك الثلث لأنك خادم، أما الآخر فقد قال: لقد اتفقنا منذ البدء على المناصفة، فلا بد أن يكون لكل منا نصف المال.

وإذا بأحدهما يحلف للآخر قائلاً: بحق المدفون في هذا القبر إن هذا المال لي.

فضحك الآخر وقال: وأي مدفون تُقْسِم به، إن هذا القبر الوهمي ليس فيه أي أحد!.

وهكذا وبسبب تكراره الكذب على الآخرين اقنع داخلياً بسلامة وصحة كذبه.

ويحصل النفاق عن طريق المراء والجدال.

كما يحصل النفاق عن طريق الخصومة، فعن أبي عبد الله جعفر الصادق t قال: (إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن، وتستجير الكذب) ([96]).

والمنشأ الرئيسي للنفاق هو: الرغبة الشديدة للإنسان في أن يكون محمود السمعة بين العباد.

إما: حباً لحسن الذكر، أو مقدمة للوصول إلى متاع الدنيا بواسطة الوجاهة بين الخلق.

ومن دوافع ذلك أنه يرى أن باطنه لو انكشف على الخلق لفروا منه، وعليه فإنه يضطر دائماً لتصنع الصلاح.

وإن من منن الله تعالى على عبده أن ستر على باطنه، فالأخلاق الخبيثة كجيفة منتنة مجمدة، لا تظهر رائحتها الكريهة إلا عندما تذوب.

ومن هنا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر؛ فلنحسن سرائرنا قبل أن ننفضح على رؤوس الأشهاد.

 

 

 


مدارج النفاق، وكيف تنمو ظاهرة النفاق

 

كيف تنمو ظاهرة النفاق؟:

مدارج النفاق:

عندما يتحدث القرآن الكريم عن النفاق، فإنه يقسمه إلى ثلاث مراحل، هي:

1 - النفاق عندما يكون بذرة في قلب الإنسان، ونطفة في فؤاده.

2 - مرحلة تحول النفاق إلى ظاهرة بارزة في سلوك الإنسان.

3 - المرحلة التي يتحول فيها النفاق إلى طبقة اجتماعية لها سماتها، وثقلها وتأثيرها في المجتمع الإسلامي.

بين النفاق والتبرير:

التبرير هو نوع من الكذب والدجل، ودرجة متدنية فـي النفاق.

والمؤمن الحق هو ذلك الإنسان الذي آمن بالله تعالى بقلب سليم نقي؛ فملأ الإيمان جوانب قلبه، وانتشر في كل جوارحه، كما يضخ القلب السليم الدم النقي إلى كل الشرايين في أنحاء الجسم.

والمؤمن الحق هو أيضا ذلك المرء الذي كان إيمانه كقلبه النقي لا يعتريه أدنى كدر.

ومن علامات هذا الإيمان التي تجدها ملموسة في مواقفه وسلوكه وأقواله: الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والشجاعة والثبات، وغير ذلك من صفات الذين يحبهم الله ويحبونه.

أما المنافق فهو على العكس من ذلك؛ فهو متردد، متراجع، ذو وجهين، مريض في مواقفه وسلوكه، منهزم عند المواقف الجدية، يبحث عن مبررات انهزامية، وتتلاطم في نفسه أمواج التناقض الداخلي فيطفح منها الكدر، ويغرق فيها ضميره ووجدانه فيترسخ الكفر في أصل اعتقاده وإيمانه.

النفاق بين الذات والمجتمع:

كيف يستطيع الإنسان أن يميز منذ البدء هل إنه يتحرك باتجاه الله تعالى أم باتجاه الشيطان، وهل يسير نحو الكمال إلى أن يدخل الجنة أم إنه في حالة هبوط إلى قعر نار جهنم؟.

إن الإنسان إذا استمر في حالة السقوط حتى يجيئة ملك الموت ليقبـض روحـه، وليكتشف أنه من أهل النار؛ فإن هذا الاكتشاف لا فائدة من ورائه؛ لأن الإنسان لا يمكنه آنئذ أن يعيد النظر في حياته.

فهو إنما يأتي إلى الدنيا مرة واحدة، فهل ستسمع الملائكة كلامه عندما يقول: }رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ{ وعندما يأتي الجواب }كَلآَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ { [المؤمنون: 99-100].

إن مثل هذا الكلام الذي يبدي الإنسان من خلاله حسرته وندمه، لا يمكن أن ينفعه ذلك؛ لأن اكتشاف الإنسان لحقيقة مسيرته، وتحركه يجب أن يكون منذ البدء.

وعلى هذا، فأي مقياس يجب اتباعه، وما هي النظارة التي لو جعلها الإنسان على عينيه وبلور بها بصيرته استطاع أن يكتشف وجهة سيره؟.

في هذا المجال يقول رب العزة: }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً {[الكهف: 103-104]؛ فهم يتصورون أنهم سائرون في طريق الحق، وأنهم يقومون بالأعمال الصالحة، ولكنهم سيكتشفون في نهاية المطاف أنهم في النار، وأنهم هم الأخسرون أعمالاً، فلا يوجد أحد غيرهم أكثر خسارة منهم.

وعلى هذا؛ فإن القضية المهمة هي اكتشاف الطريق منذ البدء من خلال الاستناد إلى مقياس تقدمه لنا الآيات القرآنية التالية: }وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآءَاتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{[التوبة: 58 ـ 59].

إن القرآن الكريم يشير في هذه الآيات أن هناك بعض الناس يحومون حول أنفسهم، ويتمحورون حول ذواتهم، ويتحركون بدافع من مصالحهم.

فكعبتهم شهواتهم، وهدفهم إشباع ميولهم ورغباتهم وتحقيق الأنا والذات في أنفسهم.

وهناك آخرون مرتبطون بمقدار الصدقات التي يحصلون عليها؛ فإن أعطاهم رسول الله e ـ في زمانه، أو الناس في كل زمان ـ المقدار الكافي قالوا: نعم الرسول هذا الرسول، ونعم الدين هذا الدين.

أما إذا لم يعطوا من تلك الصدقات، إذا بهم يسخطون ويتذمرون وينهالون باللوم والتقريع على الرسول والرسالة.

وهناك نوع آخر من الرجال يشير إليهم ربنا جل وعلا بشكل غير مباشر في قوله: }وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآءَاتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{[التوبة: 59].

النفاق بذرة خبيثة:

والنفاق يشبه إلى حد كبير بذرة صغيرة تسقط في نفس الإنسان ثم تنمو وتنمو حتى تصبح شجرة خبيثة أصلها في القلب، وفرعها في النار.

وهذه حقيقة، فالإنسان لا يستطيع أن يكتشف هذه البذرة الخبيثة، والخلية الفاسدة التي تشبه الخلايا السرطانية التي يستطيع الطبيب أن يسيطر عليها في البدء ويقضي عليها.

ولكن بذرة النفاق بعد أن تتنامى وتتكاثر فإنها تتحول إلى شجرة تكون فروعها في جميع أعمال الإنسان وسلوكياته، بل وحتى في نظرته وآرائه، فتتجمع الغشاوات على عين الإنسان، ويجتمع في أذنه الوقر، ويحتجب قلبه في الأكنان، ولا يستطيع أن يرى الحقيقة، فتُسْلَب منه البصيرة، ويتحول إلى مجرم من الدرجة الأولى في جميع مفردات وجوانب حياته.

 

 

 


أشكال نفاق الصحبة:

 

النفاق الاجتماعي:

وهو بكل أسف كثير ومنتشر في أي بيئة اجتماعية، يأخذ عدة
أشكال وأنماط على حسب نوع تلك البيئة.

يشكو كثير من الناس من مثل أصحاب هذا النوع من المنافقين الذين يسيرون معهم في البداية في أول الخط باستقامة ظاهرية خادعة، وفجأة بعد ذلك في لحظة من اللحظات يحصل أمر من الأمور في المعاملة تتكشف الأمور على حقيقتها، فيظهر هذا المنافق واضحاً جلياً على صورته الحقيقية التي للأسف لم تكن
متوقعة منه أبداً.

النفاق السياسي (على مستوى الدول):

إن قصة النفاق المخزية تكرر نفسها؛ فالولايات المتحدة الأميركية التي تدعو إلى نظام دولي جديد يحمل راية الحرية والعدل والسعادة هي ذاتها تحتج بأعظم ما يكون الاحتجاج على أمور تخص الدول العظمى، بينما لا تستنكر أي اعتداء على ما يجري للمسلمين في فلسطين، ولبنان والعراق وأفغانستان.

فالعدالة والحرية في قاموس النفاق والمنافقين، إنما هي للذي يُؤَمِّن مصالحهم ويضمن الاستمرار في استنزاف طاقات الآخرين.

مظاهر النفاق:

إن من مظاهر النفاق: النفاق الوظيفي: وهو أن يعطي الإنسان لنفسه صورة حسنة في المجال الوظيفي، وواقع الحال أنه يعلم بأنه لم يلتزم بشروط عقد العمل، وهي خيانة توجب حرمة المال الذي يأخذه.

وهناك النفاق الأسري: وهو أن يظهر كلمات الود لأهله، وواقع الحال أنه يخونها في الغيب: بنظرة محرمة، أو بلقاء محرم، وكأنه لا يعلم أن الله تعالى - لو أراد - فإنه يفضحه في جوف بيته؛ فكما يستر الله العيوب لمصلحة؛ فإنه يكشفها لمصلحة أخرى أيضاً!.

وهناك النفاق الاجتماعي: بمعنى أن يُظْهِر المدح والثناء لشخص في حضوره ليطعنه في الخلف في غيبته، وقد وصف رسول الله e هذا الصنف من الناس بأن الله تعالى لا ينظر إليهم يوم القيامة؛ وذلك لأنه يدل على حقارة في النفس، والله تعالى كريم لا يعبأ باللئيم.

وهناك النفاق العلمي: بأن يُظْهِر الإنسان مقدرته في الجانب العلمي، وهو ليس أهلاً له، وبخاصة في المجال الديني؛ فترى كثيراُ يُظْهِرون آراءهم في أمور الدين وهم لم يطلعوا على النصوص الشرعية التي على أساسها يتم الحكم، وواقع الحال أنهم لا يتدخلون في التخصصات الأخرى احتراماً لها.

وهناك النفاق العبادي: وهو أن يَظْهَر بمظهر الملتزمين، ويستبطن المخالفة في السر، بل يتظاهر بدرجة من الخشوع في الظاهر زيادة عما في باطنه.

والمنافقون أنواع ودرجات، منهم:

الشخص الكذاب؛ إن كان معروفاً بالكذب أو غير معروف به.

والشخص النمام؛ الذي ينقل الكلام بين الناس لقصد الإفساد بينهم.

والشخص المتطفل؛ الذي يلاصقك في كل شيء لغرض مادي.

والشخص المداهن؛ الذي يخضع لك لغرض ما في نفسه.

والشخص الحاسد؛ سواء ظهر حسده أو لم يظهر.

والشخص الوصولي؛ الذي يستطيع عمل أي شيء لغايته.

وقد يجمع المنافق الاجتماعي نوعين أو أكثر على حسب درجة خطورته في المجتمع.

أساليب النفاق:

1 ـ تشويه الحقائق وتحريفها:

حيث يظهر المنافقون الحقائق الناصعة بمظهر مشوه، والأقوال بصورة محرفة مما يكون لها وقع سيئ على أسماع الناس، وبتكرار هذا الأسلوب ومن مصادر منافقة متعددة فإن ذلك يؤدي إلى توهين العلاقة بين المسلمين.

2 ـ التشكيك:

يسعى المنافقون إلى توجيه أنظار الناس إلى سلبيات تطفو على سطح الحياة، وربما تنشأ بصورة طبيعية وغير مقصودة أو لأخطاء لم تكن في الحسبان، أو ربما يتناول المنافقون قضية فيها مجال للتأويل فيثيرون الشبهات حولها بطريقة لا تجلب الانتباه إلى سوء نياتهم مما يؤدي إلى خلق عنصر الشك والارتياب في النفوس.

3 ـ بث الإشاعات:

فالإشاعة كانت ولا زالت سلاحاً فعالاً يستخدمه الأعداء للنيل من خصومهم.

ومثل ذلك حديث الإفك: حيث أراد المنافقون فيه النيل من شخصية رسول الله e ومكانته في نفوس المسلمين بأن بثوا إشاعة كاذبة ضد إحدى زوجاته (عائشة)، وراحت ألسنة المنافقين تتناقل تلك الإشاعة وتبثها في أوساط المدينة.

4 ـ دس الأفكار المنحرفة والمفاهيم الخاطئة:

5 ـ إثارة روح الاختلاف والنزاعات:

إن المنافقين يسعون جاهدين إلى تقطيع الأواصر المتلاحمة وتفتيت القوى المتحدة، وتبديد الطاقات المؤمنة، وإثارة روح الخلافات الجانبية فيما بينها.

6 ـ إثارة المشاكل والصعوبات لإعاقة مسيرة الحياة:

وعندها يستغل الأعداء فرصة انشغال المؤمنين بهذه المشاكل استغلالاً يمكنهم من تقوية نفوذهم وقدراتهم لضرب المؤمنين المنشغلين بمواجهة الصعوبات.

7 ـ إعطاء تصورات خاطئة أو مزيفة عن أعداء المسلمين:

يحاولون وبكل وسيلة أن يحجبوا كثيراً من الحقائق المتعلقة بالأعداء الذين يجاهرون بعداوتهم للإسلام ويعطون المعلومات الخاطئة عنهم وذلك لكي لا يكون المؤمنون على بصيرة واضحة بأولئك الأعداء.

8 ـ التجسس وخدمة العدو الخارجي.

9ـ التزلف إلى الناس بحلو الكلام.

10 ـ المبالغة في الحديث والوصف.

11ـ عدم المصداقية.

12 ـ مدح الذات وذم الآخرين، فلا تمدح سلعتك وتذم سلعة أخيك فهو نفاق‏.

 

 

 


شعب النفاق

 

كما أن للإيمان شعباً فللنفاق شعب، وقد نزلت سورة التوبة، فكشف اللّه فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد.

ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل اللّه، والشح على المال‏.‏

وهذان داءان عظيمان‏([97]):‏ الجبن والبخل.

قال رسول الله e‏:‏ "‏شر ما في المرء شح هالع، وجبن خالع"([98]).

ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ }‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{‏‏[‏آل عمران‏:‏ 180‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏: }‏وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏‏.

وأما وصفهم بالجبن والفزع، فقال تعالى: }وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ{‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56 ـ 57‏]‏‏.‏

فأخبر ـ سبحانه ـ أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو.

فـ }‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً{ يلجؤون إليه من المعاقل والحصون التي يَفِرُّ إليها من يترك الجهاد، أو }‏مَغَارَاتٍ{‏ ومغارات سميت بذلك؛ لأن الداخل يغور فيها، أي‏: يستتر كما يغور الماء، }‏أّوً مٍدَّخّلاْ{ أي‏:‏ مكاناً يدخلون إليه؛‏ ولو كان الدخول بكلفة ومشقة.

}لَّوَلَّوْاْ{ عن الجهاد }‏إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ{ أي‏:‏ يسرعون إسراعاً؛ لا يردهم شيء.‏

دعائم النفاق وشعبه:

قال أمير المؤمنين عليٌّ t: (النفاق على أربع دعائم؛ على الهوى، والهوينا، والحفيظة، والطمع.

فالهوى من ذلك على أربع شعب؛ على البغي، والعدوان، والشهوة، والعصيان.

فمن بغي كثرت غوايله، وتخلى منه، ونصر عليه.

ومن اعتدى لم تؤمن بوائقه، ولم يسلم قلبه.

ومن لم يعدل نفسه عن الشهوات، خاض في الحسرات، وسبح فيها.

ومن عصى ضل عمداً بلا عذر ولا حجة.

وأما شعب الهوينا؛ فالهيبة، والغرة، والمماطلة، والأمل.

وذلك أن الهيبة ترد عن الحق، والاغترار بالعاجل تفريط الأجل، وتفريط المماطلة مورط في العمي.

ولولا الأمل علم الإنسان حساب ما هو فيـه، ولو علم حساب ما هو فيه مات خفاتا من الهول والوجل.

وأما شعب الحفيظة؛ فالكبر، والفخر، والحمية، والعصبية.

فمن استكبر أدبر، ومن فخر فجر، ومن حمى أصر، ومن أخذته العصبية جار.

فبئس الأمر أمر بين إدبار وفجور، وإصرار وجور عن الصراط.

وشعب الطمع؛ الفرح، والمرح، واللجاجة، والتكبر.

فالفرح مكروه عند الله، والمرح خيـلاء، واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حمله الآثام، والتكبر له ولعب وشغل واستبدال الذي هو أدنى الذي هو خير.

فذلك النفاق ودعائمه وشعبه، والله قاهر فوق عباده تعالى) ([99]).

 


صفات المنافقين

 

إن المنافقين الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم وذكرهم الرسول r في أحاديثه يتصفون بصفات حسية وصفات معنوية

أما الصفات الحسية للمنافقين فهي:

قوله تعالى في سورة المنافقون: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة)

أي كأنهم أعمدة من خشب مسندة على الجدر، فدل هذا التشبيه على عدة أمور:

  • لا يختارون الجلوس في أوساط المجالس مع حلقات المسلمين، بل يبتعدون عنهم لأنهم لا يريدون الاستماع ولا الانتفاع.
  • أنهم متكبرون يترفعون عن مشاركة عامة المسلمين في المجالس العامة
  • لا يريدون السماع إلى الآيات القرآنية ولا المواعظ التي يلقيها رسول الله r وذلك لانصراف قلوبهم وعقولهم عن كل ذلك، فهم غير مؤمنين بالأصول فكيف يستمعون إلى الفروع وذلك لقوله تعالى في وصفهم هذا: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون).

إنّ المنافق خائن جبان فعندما يكون في صفوف المسلمين يكون مشدود الجملة العصبية دوماً لأنه يعمل على كيدهم والإيقاع بهم، لذلك فهو يخشى كل حركة تخالفه ويحسب أنه المقصود بها والسبب في ذلك أنه عدو يلبس ثياب صديق.

أما أنهم يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو، فهذا لأنهم أعداء للمسلمين من جهتين لا من جهة واحدة فقط:

الجهة الأولى: كفرهم الذي يبطنونه، فهم يشاركون الكافرين في عداوتهم للمؤمنين ولا سيما رسول الله r

الجهة الثانية: نفاقهم الذي ألجأهم إليه جبنهم وحرصهم على مصالحهم في دنياهم، فجعلهم دائماً حريصين على إظهار ما لا يبطنون، وأن يحرموا أنفسهم من أمور كثيرة يودون أن يفعلونها بحرية وأن يقوموا بأعمال يكرهون عملها، ويبذلون أموالاً وهم كارهون، ويشاركون في معارك قتالية لا مصلحة لهم منها ولا يؤمنون بها، وهذه الأمور لا توجد عند الكفار المصارحين بكفرهم وعداوتهم.

فقوله تعالى: هم العدو: أي وحدهم الجامعون للعداوة القصوى، بكل عناصرها المقصورة في الناس، فماذا يتوجب على المسلمين أن يفعلوا حتى يأخذوا حذرهم الكامل من هؤلاء المنافقين والله سبحانه وتعالى وجه الخطاب للنبي r وهو المؤيد بالوحي في قوله تعالى: ( فاحذرهم).

فأمره بأن يحذر من تصرفات المنافقين وأن يتخذ كل الوسائل والاحتياطات التي تحميه والمسلمين من مكرهم ومكايدهم وأن لا يدع لهم منفذاً ينفذون منه للإضرار بالإسلام والمسلمين وإفساد أحوالهم وأوضاعهم وهم في داخل المجتمع الإسلامي يتربصون الدوائر، وبأن يوجه لهم عيون المراقبة الدائمة، حتى لا يأخذوا المسلمين على حين غرة وغفلة، وأن لا يتخذ منهم بطانة تطلع على الأسرار وخفايا الخطط والتدبيرات.

فإذا كان الرسول r يأخذ حذره فماذا يكون حال المسلمين اليوم.

إن جميع المؤمنين من بعد رسول الله r وفي كل زمان ومكان مأمورون بالحذر من أفعال المنافقين وتصرفاتهم.

وللمنافقين صفات كثيرة، وقد وصفهم الله عز وجل في أكثر من موضعٍ من القرآن العظيم، وسأعرض لأهم صفاتهم، التي تميِّزهم عن غيرهم من الناس، مع إبراز الصفات الخطيرة التي تجعل من هذه الشريحة في المجتمع فئةً أخطر على المسلمين من العدوِّ الظاهر نفسه.

إن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله r تكشف لنا ما خبأه المنافقون من حقد وضغينة في صدورهم، من خلال بيان صفاتهم المعنوية وأفعالهم الكيدية للمؤمنين:

الكذب في الحديث.

الخلف في الوعد.

الخيانة عند الأمانة.

الفجور عند الخصومة.

فمن أهم صفات المنافقين:

1 ـ أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، قال تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ{[البقرة: 8].

2 ـ أنهم يخادعون الله والمؤمنين وما يخدعون إلا أنفسهم، قال تعالى: }يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ{[البقرة: 9].

3 ـ أنهم مرضى القلوب، فالمنافقون لا يمتلكون الشجاعة الكافية لإعلان موقفهم الحقيقيِّ الذي يُواجهون به أهل الإيمان، وسبب ذلك هو المرض الذي يتمكَّن من قلوبهم، فيحرفها عن طريق الإيمان، قال تعالى: }فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{[البقرة: 10]، وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، والمرض هو مرض الشبهات والشكوك والشهوات.

4 ـ الطمع الشهواني: قال الله تعالى: ]فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض[[الأحزاب:32]، فهو إما شاكّ في الإسلام منافق، يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش([100]).

5 ـ أنهم يفسدون في الأرض بالقول والفعل، مُفسدون يزعمون الإصلاح، يسعون لتخريب كل بذرة خير ،وكل نبتةٍ طيبة، ويزعمون أنهم مصلحون يعملون لخير الناس، وسبب تناقضهم أنَّ الموازين لديهم قد اختلَّت حين ابتعدت عن المقياس الربانيِّ الصحيح! وما أكثر مَن يدعي الإصلاح في زماننا وهو من المفسدين!!، قال تعالى: }أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ{[البقرة: 12].

6 ـ أنهم مخادعون متآمرون، وأصحاب مكرٍ سيئ، يتصفون بالخسَّة واللُّؤم والجُبن والخبث، يتلوَّنون حسب الظروف، فهم أمام المؤمنين متستِّرون بالإيمان، وأمام الكافرين وشياطين الإنس يخلعون ذلك الستار عن كاهلهم، فيظهرون على حقيقتهم، وهم في كل ذلك إنما يرومون النيل من المؤمنين والإيقاع بهم، والتحريض عليهم، وإلحاق أقصى درجات الأذى بهم، قال تعالى: ]وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ[[البقرة: 13]، لكنّ الله عز وجل واجههم بتهديده الرهيب الذي يُزلزل كيانهم، فيزيدهم تخبُّطاً، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ ليحشرهم إلى مصيرهم المحتوم، بعد أن يمهلهم ولا يهملهم، ليزدادوا استهتاراً وضلالاً، وشططاً وعدواناً على المؤمنين، إلى أن تحين ساعتهم، قال تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[[البقرة: 14]، أليسوا هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المصيرَ؟!، ألم يكن الإيمانُ في متناولهم؟!، ألم يكن الهدى يلامس قلوبهم وأنفسهم؟!؛ فليذوقوا تبعات الظلام الذي ارتضوه لنفوسهم.

7 ـ يستهزءون بدين الله وبعباد الله، وبالمؤمنين، قال تعالى: }وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{[البقرة: 14ـ 15].

8 ـ أنهم غادرون لا عهد له: فتراهم يعاهدون الله في بعض الأحيان على فعل الخيرات، وعلى الالتزام بما يأمرهم به ربهم، لكنَّ قلوبهم خواء، وعقولهم هراء، وشياطينهم متمكّنون من رقابهم، فينقضون عهد الله عز وجل، قال تعالى: ]وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ[[التوبة: 75].

9 ـ أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، قال تعالى: }إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً{[النساء: 142].

10 ـ أنهم يتربَّصون بالمؤمنين؛ يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاء، قال تعالى: ]الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[[النساء: 141].

يفرحون لما يُصيب المؤمنين مِنْ سُوءٍ ومحنةٍ، ويحزنون لكل خيرٍ أو فرحٍ يمكن أن يحصلَ لأهلِ الإيمانِ، قال تعالى: ]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[[آل عمران: 120].

11 ـ  أنهم يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، قال تعالى: ]الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[[التوبة: 67].

12 ـ أنهم عبيد الدنيا إن أعطوا منها رضوا، وإن منعوا سخطوا، قال تعالى: }وَمِنْهُمْ مَن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ{[التوبة: 58].

13 ـ طعنهم في المؤمنين وتشكيكهم في نوايا الطائعين، فهم يلمزون المتصدقين؛ فمن تصدق بقليل قالوا: إن الله غني عن صدقتك، وإن أنفق كثيراً قالوا: هذا مرائي يريد مدح الناس، قال تعالى: }الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{[التوبة: 79].

14 ـ أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاة الله ونسيان ذكره، ويدعون الناس إلى عمل القبيح وترك العمل الصالح سواء كان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بالإشارة أو التلميح، فهم يستخدمون ما لديهم من وسائل في نشر الرذيلة والوقوف بوجه الفضيلة، قال تعالى: } الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{[التوبة: 67].

15 ـ يحلفون كذبًا ليستروا جرائمهم، وأنهم أحلف الناس بالله كذباً وباطلاً فقد اتخذوا أيمانهم جُنة تقيهم إنكار المسلمين عليهم، قال تعالى: }اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[المنافقون: 2].

16 ـ موالاة الكافرين ونصرتهم على المؤمنين، قال تعالى: }بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً{[النساء: 138-140].

ويقول الله عز وجلَّ: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ{[الحشر: 11، 12].

17 ـ العمل على توهين المؤمنين وتخذيلهم: }وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً{[الأحزاب: 12-18].

18 ـ تدبير المؤامرات ضد المسلمين أو المشاركة فيها، والتاريخ مليء بالحوادث التي تثبت تآمر المنافقين ضد أمة الإسلام، بل واقعنا اليوم يشهد بهذا، فما أوقع كثيرًا من المجاهدين في قبضة الكافرين والأعداء إلا تآمر هؤلاء المنافقين في أكثر من أرض عربية وإسلامية.

19 ـ ترك التحاكم إلى الله ورسوله: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً{[النساء: 60-63].

هكذا حال المنافقين، فهم حين لا يقبلون حكم الله ورسوله، ويفتضح نفاقهم، يأتون بأعذار كاذبة ملفقة، ويحلفون الأيمان لتبرئة أنفسهم، ويقولون: إننا لم نرد مخالفة رسول الله e في أحكامه، وإنما أردنا التوفيق والمصالحة، وأردنا الإحسان لكل من الفريقين المتخاصمين.

20 ـ ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، ومن عجيب أمرهم في ذلك أنهم إذا وجدوا الحكم لصالحهم قبلوه، وإن يك عليهم يعرضوا عنه، كما أخبر الله بذلك حيث قال: }وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{[النور: 47-50].

فهم لا يعرفون الإخلاص، وما تحققت في قلوبهم العبودية لله، فظنوا أن المؤمنين كالمنافقين، لا يفعلون طاعة إلا لغرض دنيوي، فالمجاهدون قوم فشلوا في الحياة فاختاروا الانتحار.

21 ـ إعراضهم عن الجهاد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ"([101]).

وقد أنزل الله ‏[‏سورة براءة‏]‏ التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين‏؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟، قَالَ: التَّوْبَةُ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ (وَمِنْهُمْ)، (وَمِنْهُمْ) حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَنْ تُبْقِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا([102]).

ومن صفاتهم:

22 ـ أنهم أعذب الناس ألسنةً وأمرهم قلوباً.

23 ـ عدم التعقل واضطراب التصرفات: حيث يظل التصرف الأحمق والسلوك الطائش علامة مهمة من علامات المنافق.

فالمنافق لا يملك الوعي الذي يستطيع به أن يميز بين الأشياء ولا الإيمان الذي يضمن له الاستقامة والورع.

لهذا فإن تصرفاته الخارجية تكون انعكاساً لسريرته الخبيثة وقلبه المريض وعقله الجاهل، ويبقى سلوكه غير متسم بالاتزان والتعقل.

وقد أشار إلى ذلك الإمام علي t بقوله: (لسان المؤمن من وراء قلبه، وقلب المنافق من وراء لسانه).

24 ـ كثرة التلون والتزلف والتملق وسرعة التقلب وعدم الثبات على حال واحد؛ بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى أو صدق إذ ينقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً.

فمن أجل أن يصل المنافق إلى ما يُريد، يجد نفسه مُرغماً على التلون وفقاً للظروف والأحوال، كما أنه لا يجد حَرَجاً في أن يظهر بمظاهر مختلفة حسب ما تميله عليه المصلحة الذاتية، كما أنه لا يمانع في أن يخضع لهذا أو يتزلف لذاك أو يركع عند قدمي زيد أو يُقبِّلُ أيادي عمرو أو يمدح من لا يستحق المدح أو ينتقص مِن شأن مَن لا غُبارَ عليه.

ومن صفاتهم معارضة ما جاء به رسول الله e بعقول الرجال وآرائهم ثم تقديمها على ما جاء به e، فهم معرضون عنه معارضون له.

قال ابن القيم: (ومن صفاتهم كتمان الحق والتلبيس على أهله ورميهم لهم بأدوائهم فيرمون أهل الحق ـ إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله ـ بأنهم أهل فتن مفسدون في الأرض، وقد علم الله ورسوله بأنهم هم أهل الفتن المفسدون في الأرض).

وإذا دعاهم ورثة رسول الله إلى كتاب الله وسنة رسوله e خالصة غير مشوبة رموهم بالبدع والضلال، ووصفهم الله بأنهم يقصدون إرضاء المخلوقين ولا يقصدون إرضاء رب العالمين.

وللمنافقون صفات وقسمات بيّنها رسول الله e ليسهل على المؤمنين معرفتهم، وليتمكنوا من الحذر منهم.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ بن العاص ـ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"([103]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ؛ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"([104]).

ووصفهم رسول الله بأنهم يؤخرون الصلاة إلى آخر وقتها، وأنهم ينقرون الصلاة عجلة وإسراعاً.

ووصفهم بأنهم يتخلفون عن صلاة الجماعة.

وأن أثقل الصلوات عليهم صلاة العشاء وصلاة الصبح، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ e: "لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ؛ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ"([105]).

ومن خطبة لأمير المؤمنين عليٍّ t يصف فيها المنافقين: قال فيها: أوصيكم عباد الله بتقوى الله، واحذركم أهل النفاق؛ فإنهم الضالون المضلون، والزالُّون المزلون، تلونون ألواناً، ويفتنون أفتاناً، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد.

قلوبهم دوية، وصفاحهم نقية.

يمشون الخفاء، ويدبون الضراء.

وصفهم دواء، وقولهم شفاء، وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء، ومؤكدوا البلاء، ومقنطوا الرجاء.

لهم بكل طريق صريع، وإلى كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع، يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء.

إن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا.

قد أعدوا لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلاً، ولكل حي قاتلاً، ولكل باب مفتاحاً، ولكل ليل مصباحاً.

يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم وينفقوا به أعلاقهم.

يقولون فيشبهون، ويصفون فيموهون، قد هينوا الطريق وأضلعوا المضيق.

فهم لمة الشيطان، وحمة النيران، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) ([106]).

ومن أهم الصفات السيئة التي يتمتع بها المنافقون:

هذا قليلٌ من كثير من صفاتهم، أعاذنا الله وإياكم من النفاق، وكفى الأمة شر المنافقين.

 


علامات النفاق ومعالمه

 

يعد النفاق من الظواهر الأكثر خفاء في حياة الإنسان والمجتمعات.

لذا لا بد أن تكون هنالك رؤية واضحة لدى الأمة الإسلامية، من أجل أن تستطيع اكتشاف وتشخيص هذه الظاهرة الخفية الخطيرة، ومعرفة خطوط النفاق، وعناصره، وأساليب المنافقين.

وفي الوقت نفسه فإن على كل إنسان مؤمن أن يمتلك رؤية واضحة، وبصيرة نافذة يتعرف من خلالهما على صفات المنافقين، لكي لا يتورط في ممارسة هذه الصفة المريضة الذميمة متوهماً انه بعيد عنها.

وإن من علامات المنافق:

الارتباك.

وكثيراً ما يرتبك المنافق لدى اكتشاف أمره، ويتلعثم في الكلام وفي الجواب إذا سئل، أو نوقش عن أمر ما، يكون هو المسؤول عنه.

ويلاحظ في وجه المنافق – إذا اكتشف – عدم التماسك في حركات وجهه، والخضوع في نبرات صوت، وكل من رآه على هذه الحال أخذه الريب تجاهه.

التذبذب في المواقف:

لأنه يتحرك على وفق المصالح المرحلية، فلا يعيش حالة المبدأية في الحياة.

ومن المعلوم أن الإنسان المصلحي لا قيمة له حتى عند أصحاب المصالح.

وإن من علامات المنافق:

أنه ينشط مع الناس، ويكسل إذا كان وحده:

فالذي يهمه رأي الناس فيه، يبرمج حياته على أساس كسب الوجاهة الاجتماعية، وكم تكون خسارته يوم القيامة عندما لا يجد مغيثاً ممن كسب رضاه في الدنيا!.

البذاء من النفاق.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَفَافَ وَالْعِيَّ عِيَّ اللِّسَانِ، لَا عِيَّ الْقَلْبِ، وَالْفِقْهَ مِنْ الْإِيمَانِ، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَيُنْقِصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ، وَإِنَّ الْبَذَاءَ وَالْجَفَاءَ وَالشُّحَّ مِنْ النِّفَاقِ، وَهُنَّ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ"([107]).

التقاعس.

الاعتذار عن الأعمال والاستئذان.

ومن علامات النفاق: ما ذكره الإمام الصادق t بقوله([108]): "أربع من علامات النفاق؛ قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا"، ويقول الإمام جعفر الصادق t: (المنافق قد رضي ببعده من رحمة الله تعالى؛ لأنه يأتي بأعماله الظاهرة شبيهاً بالشريعة، وهو لاغ، باغ، لاه بالقلب عن حقها مستهزئ فيها).

التبرير (نوع من الكذب):

التبرير والاعتذار، يسلك بصاحبه إلى طريق النفاق، والوقوع في هاويته السحيقة شيئاً فشيئاً.

فكم من إنسان عاهد ربه تعالى، وأعطى العهود المواثيق بين يدي ربه، ثم نقضها وتنصل منها، وهو من النفاق، بل ربما يؤدي إلى سوء العاقبة.

قال تعالى: } وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ {[التوبة: 77].

لذلك أوصت الأحاديث الشريفة بأن يدعو المؤمن ربه أن يكرمه بحسن العاقبة، والخاتمة.

إذا رأيت أحدهم ممن فتح الله عليه أبواب الرزق، وأغدق عليه الأموال فجعله متمكناً قادراً على الإنفاق فسألته عن سبب عدم إنفاقه في وجوه الخير بما يتناسب مع حجم ثروته، تجده يتذرع إليك بشتى الحجج والأعذار تهربـاً من هذه المسؤولية، فيقول مثلاً: إن حركة التجارة متعثرة في هذه الأيام، وإن الكساد يعم السوق، والسيولة غير متوفرة، أو يقول: دخلت في صفقة تجارية استهلكت كل سيولتي النقدية، وتحول دون إنفاقي الآن، وما إلى ذلك من الأعذار الواهية التي تعبر عن شح نفسه، وقد قال تعالى: } وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{[الحشر: 9]، و[التغابن: 16].

والمعذرون - حسب التعبير القرآني - أو المبررون هم أدنى درجة من المنافقين؛ فالمعذر يكذب بطريقة لا تشعرك بأنه يكذب.

فالتبرير والاعتذار والالتواء هو الداء الاجتماعي الخطير الذي يسري في عروق مجتمعاتنا، ولعله يعشش في نفوسنا جميعاً إلاّ من عصمه الله تعالى.

ومن علامة النفاق:

قلة المبالاة بالكذب والخيانة والوقاحة،... والسفه والغلط، وقلة الحياء، واستصغار المعاصي،... واستخفاف المصايب في الدين، والكبر، وحب المدح والحسد، وإيثار الدنيا على الآخرة، والشر على الخير، والحث على النميمة، وحب اللهو، ومعونة أهل الفسق والبغي، والتخلف عن الخيرات وتنقص أهلها، واستحسان ما يفعله من سوء، واستقباح ما يفعله غيره من حسن، وأمثال ذلك كثيرة.

وقد وصف الله تعالى المنافقين في غير موضع فقال عز من قائل: }وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ{[الحج: 11].

الانتهازية([109]):

الانتهازيون يجيدون لعبة التسلق؛ كالنباتات الطفيلية التي تعيش على حساب الأشجار المثمرة.

وهؤلاء المتسلقون لا سلاح لهم سوى النفاق، وإجادة الكلام المعسول، وإضفاء الألقاب الكبيرة، والصفات الرنانة على من لا يستحقها، ودافعهم هو الكسب الشخصي الذي يتوقعون أن يخرجوا به.

هذا الداء الاجتماعي البغيض، لا تقتصر مضاره على أولئك المتسلقين، ولكنها تتعداهم إلى مَن توجه لهم هذه الإهانات المختفية وراء ستار النفاق الاجتماعي.

فمَن مدحك بما ليس فيك، فقد شتمك بأسلوب غير مباشر؛ لأنه يذكرك بنقصك في مجال يحاول تغطيته بالمديح الكاذب، والنفاق المكشوف، والزعم الممجوج.

ومَن يستمرئ هذا المديح والنفاق والزعم، وترضي غروره ألقابٌ بعيدة عنه؛ فإن فاجعة المجتمع فيه كبيرة، لأنه يتعامل مع هذا المجتمع على أساس نفعي.

منطلقه الاستعلاء والغرور، وتصديق البطولات الوهمية التي يبالغ المتسلقون في إضفائها عليه، مما يشكل حالة من الفوضى في العلاقات الاجتماعية ينعدم معها الاحترام والتقدير لمن يستحقون الاحترام والتقدير.

وهذا لا يدل على الوعي بقدر ما يدل على الجهل، ولا يعني البناء بقدر ما يعني الهدم.

وإذا جاء المديح لِمَن لا يستحقه؛ فإن ذلك مدعاة لأن يتوهم ما هو بعيد عن واقعه، خاصة إذا كان من ذوي النفوس الضعيفة، وهو في الغالب كذلك، لأنه رضي بالمديح الزائف، دون أن يفكر في ما وراء هذا المديح من نفاق أو أهداف نفعية.

وإذا جاء هذا المديح مِمَن عُرِف بالتطفل والنفاق وهو في الغالب كذلك، فالأولى أن يُقابل بالرفض والاستهجان، حتى لا تنتشر في المجتمع مثل هذه العادات القبيحة، ويكون ذلك سبباً في إشاعة عدم الثقة بين الناس، بعد أن يتحول القبح إلى جمال، والشر إلى خير، في نظر بعض الناس، مع أن القبح هو القبح، والشر هو الشر، مهما اختلطت المفاهيم، وانتشرت الأباطيل.

وما من كذب يمكن أن ينطلي على كل الناس، ونشوء الأنماط السلوكية غير السوية، مثل التسلق على أكتاف الآخرين بوسائل مختلفة، يدعو إلى جدية المعالجة؛ لأنه نوع من التفكير المضطرب الذي يتحول إلى سلوك مرفوض من كثيرين، وإن رضي به قلة من الناس تفتقر للوعي بخطورة هذا الأمر.

 


النفاق والتخلف([110])

 

إن الإصرار الإلهي على نبذ النفاق والحكم على من يمارسه بالعذاب الشديد له أسبابه الموضوعية؛ إذ إن النفاق غدة سرطانية تنخر في المجتمع، واعتقد أنه ـ إلى جانب مساوئه الاجتماعية الكثيرة فهو ـ يشكل سبباً رئيسياً من أسباب التخلف في الدول الإسلامية، وندرته في الدول الغربية أحد أسباب تقدمها وازدهارها.

وهناك سببان رئيسيان للنفاق:

الأول: حب الوصول إلى غاية معينة عن طريق التملق والرياء لأشخاص في يدهم القرار في مجتمع ينظر إلى معايير مجتمعية معينة تقاس على أساسها تقلد المناصب، والارتقاء فيها، ولا ينظر كثيراً إلى الكفاءة والإنجاز.

والثاني: الخوف من قول الحقيقة في مجتمع لا يحب أن يسمع الحقيقة، بل يحب دائما أن يسمع الإطراء والمدح بمناسبة أو غير مناسبة.

وهنا بيت القصيد.

فالإنسان في المجتمع الغربي تعلم ألا يخاف لا من رئيسه في العمل، ولا من يعود إليه القرار في بلاده؛ لأن هناك مؤسسات كثيرة تضمن له العدالة إذا تعرض لتصرف تعسفي من رئيسه أو تصرف قمعي ممن بيدهم القرار.

وبالتالي يبدي رأيه بكل ثقة واطمئنان.

على عكس الشخص عندنا؛ إذ تراه في الحوارات يتلعثم، وهو يبذل الجهد الكبير في أخذ الحيطة بأن لا تصدر منه كلمة قد تخالف فكراً اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً.

ويمكن الاستنتاج أنه إذا أردنا أن نعدد أسباب تخلفنا فإن النفاق يأتي على رأس القائمة.

وبالتالي يجب أن تتوحد الجهود المجتمعية بكل أطيافها للحث على اجتثاث مسببات هذه الخصلة السيئة من مجتمعاتنا.

وعلى الدعاة إلى الإسلام تبيان التعاليم العالية النبيلة لهذا الدين والتركيز عليها، وإعطائها الأهمية نفسها التي تعطى للعبادات وتبيان الحقيقة للناس بنوعيها.

فالمنافق يجب أن يعلم أن عباداته تذهب سدى ولا فكاك له من النار إذا نافق، والمنافق له يجب ألا يشجع الناس على التملق إليه وابتغاء مرضاته بالنفاق فهو مشارك في النفاق وبالتالي مآله مآل المنافق. والله من وراء القصد.

 

 
من مظاهر النفاق في حياتنا

 

(لا تقل زال عصر النفاق، فلكل عصر رجاله:

ما زال فينا ألوف من بني سبأ..... يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا

ما زال لأبن سلول شيعة كثروا.... أضحى النفاق لهم وسما وعنوانا

لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه... رب إذا قال كن في أمره كانا)([111]).

}وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{[آل عمران: 120].

 (النفاق من أخس الصفات, وهو ازدواج في  الشعور والسلوك يبدأ بأن يكون المرء ذا وجهين, ولا يزال ينمو حتى يكون صاحبه كالحرباء والتي تصطبغ بألوان شتي حسب الوسط الذي تكون فيه.. والكذب والحلف عليه من أول أخلاق المنافقين, وهم يقتربون أو يبتعدون حسب هبوب الريح التي تحملهم هنا أو هناك, فليس لهم محور ثابت يدورون حوله, أو وجهة محددة يرتبطون بها, إنما هي منافعهم الخاصة التي يرنون إليها ولا يتحولون عنها)([112]).

أناسٌ لا يزورون إلا الأغنياء من أقاربهم الذين يقيمون معهم علاقات عمل، بينما ينسون أو يتناسون الفقراء الذين هم في أشد الحاجة إلى المساعدة، بينما الغني ليس في حاجة إلى هذه الزيارة.

همُّ الناس مرضاة الناس والخشية من الناس:

المرأة إذا خرجت من بيتها تزَينت ولبست أجمل الثياب ليراها الناس.

والموائد تُرَتَّبُ وتوضع عليها أجود الأطعمة فقط للناس، والأولاد جياع!!.

والرجل يتصنع ويتلمع لا لأهله، بل للناس.

امتلأت الصحف بإعلانات التهاني والتعازي للنافذين والمتنفذين حتى صارت ظاهرة تحمل كل مظاهر النفاق الاجتماعي والمداهنة والتملق.

فالمسؤول النافذ الذي توفيت والدته أو والده تمتلئ الصحف على مدى أيام بإعلانات المعزين من شركات أجنبية ومحلية وغيرهم من النافذين والمتملقين.

لقد تحولت التعازي والتهاني من عرف اجتماعي يقوم على التواصل والترابط والتراحم والاحترام المتبادل الذي يسمى طهارة المسعى وسمو الهدف إلى مناسبات للنفاق الاجتماعي والتملق إلى المسؤولين والنافذين في المجتمع.

ومن النفاق: المظاهر التي لا يجد الناس بداً عنها، فحب الظهور والاهتمام بالمظاهر أصبح ظاهرة انتشرت في المجتمعات ذات المستوى الاجتماعي المرتفع.

ومن أظهر أمثلة النفاق: التبرع للحكومة ولمشاريعها إرضاء لأصحاب السلطات، وبغية أن يسهلوا له الحصول على مكاسب أكبر، كالإعفاء من الضرائب أو رسو بعض العطاءات في المزادات عليه أو الحصول على وظيفة مرموقة أو الحصول على قروض ميسَّرة وهكذا، أو نيل الشهرة والسمعة من خلال أجهزة الإعلام.

وتكمن المشكلة في التقليد الأعمى لبعض الأسر لمن هم فوق مستواهم المادي بغض النظر عن قدراتهم وإمكاناتهم المادية المتاحة.

فهناك من يلجأ للاقتراض لشراء سيارة فارهة على أحدث (موديل) فقط؛ لأن صديقه من عائلة فلان بن فلان يملك مثلها.

وهناك مَن ينفق مئات الألوف على إقامة حفل زواج تشهد له كل العائلات، وتراه يبذخ ويسرف ويكلف نفسه فوق طاقتها فقط لأنه ليس بأقل مستوى من فلان أو من تلك العائلة.

النفاق الاجتماعي عملة سهلة التداول في زمن تحكمه الماديات، فتجد الواحد منا يكتب في محاسن فلان ويمتدح علانا حتى لو كان ألد أعدائه مقابل واسطة أو حفنة من الدراهم.

مشهد نفاق: كان أحد العلماء يمشي في أحد شوارع المدينة في شهر رمضان المبارك، وإذا به يرى بعض الرجال متحلقين حول بعضهم يلعبون بورق القمار ويدخنون السجائر.

وما أن اقترب منهم وسلَّم عليهم، قاموا احتراماً لي محيين، وقد جمعوا أوراق القمار وأطفئوا لفافات التبغ.

فقال لهم: أراكم قد احترمتوني ولم تحترموا أوامر الله سبحانه!

إن الله هو الذي أمركم بالصوم فلم تطيعوه، ونهاكم عن الميسر فلم تنتهوا.

والرياء من أشد أنواع النفاق خطراً على سلوك الإنسان.

ومن النفاق أن يظهر المرء البشاشة على ملامح وجهه لأخيه ثم يطعنه من وراء ظهره.

ومن النفاق أن لا يطابق القول الطيب لفعل الإنسان، وقد قال تبارك وتعالى: }كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ{[الصف:3].

وفي هذا الزمن نعيش و في ظل أمواج متلاطمة من النفاق، والمتابع يبصر هذا الواقع بأبسط جهد.

فرغم أن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تتحدث ليل نهار عن حقوق الإنسان والحرية والرفاه والعدالة، وتنمق هذا الحديث بتقنية فائقة.

وقد حدا بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب يكذب كذبته المفضوحة التي ادعى فيها انه لم يتمكن من النوم في إحدى ليالي حرب الخليج الثانية بعد مشاهدته منظر أحد الطيور المضطربة بسبب تلوث مياه الخليج بالنفط المتسرب من آبار الكويت التي أحرقها صدام حسين!!!.

إن مثل هذا الرئيس (المنافق) لم تطرف له عين وأبناء الشعب العراقي المظلوم يسقطون جوعاً آلافاً آلافاً، بينما يتقلب في مضجعه عطفاً على طير ملوث بالنفط.

وصفة إبليسية للعيش في الدنيا:

لتنافق حتى تعيش([113])، وتنعم برغد الحياة، وأعطِ ضميرك إجازة، ولو أقلت من العمل يكون أولى.

نافق رئيسك في العمل، أو في أي مكان؛ لتكون مقرباً له، وتضمن البقاء.

نافق زوجتك، ونافقي زوجك حتى تصفو الحياة وتضمنون العيش والمآكل والمبيت.

فالسائد الآن أن النفاق منجٍ ومربحٌ ومضيف لأرصدة البنوك كثيراً من المال، ومسهل وفاتح لك كل الأبواب.

كلمة لطيفة  من حرفين (صح)، وربما تزيد حروفك يوماً بعد يوم لتصبح (هذا جميل)، (رائع)، (تمام التمام).

و يعتبر النفاق شيئاً بغيضاً للنفس ويبعث على الاشمئزاز، فقديماً قالوا: (ثلاث يرتبطن بثلاث: المرأة بمرآتها، والقارئ بكتابه، والمنافق بحذاء مَن ينافقه).

وأما عن النفاق الدينى؛ فحدث ولا حرج، يكفيك منظراً واحداً بإحدى المدن الساحلية ولن أقول الغربية بل العربية المسلمة: تجد على الشاطئ منقبة تسبح بملابسها وسط كم من الرجال، ومحجبة وقد التصق حجابها بجسدها، وملتح يغوص ببصره في النساء، وملتح آخر يحتضن الزوجة المصونة المنقبة أو المحجبة وسط الرجال.

النفاق عند النساء:

لما كانت النساء شقائق الرجال، وكما تكون التقوى في النساء والرجال، والإيمان يكون في الرجال والنساء، والمعاصي والفسوق يكون في الرجال والنساء، فكذلك النفاق يكون في الرجال والنساء.

قال الله تبارك وتعالى: ]الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ[[التبوة: 67ـ 68]، وقال جل جلاله: ]إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[[الأحزاب: 72ـ 73].

الوعود الزائفة عند غير المسلمين:

إن أزمة العالم اليوم هي أزمة الثقة في الوعود والتصريحات والأقوال([114]).

وعد بليل يُخْلَف بنهار، ووعد بنهار يُكَذَّب بليل، وتصريح هنا يناقض تصريحاً هناك، وتصريح هناك يكذب تصريحاً هنا.

شأنهم كشأن جحا الذي صنع ساقيته على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر وترد الماء إلى نفس النهر مرة أخرى، فلما عجب الناس من صنيع جحا وقالوا: عجباً لك يا جحا! تأخذ الماء من النهر بساقيتك لترد ساقيتك نفس الماء إلى النهر مرة أخرى، فقال جحا: يكفيني نعيرها.

ونحن لا نسمع إلا تصريحات ووعوداً ولكنها مكذوبة وملفقة، ودجل في دجل، وكذب في كذب.

وما زال عالمنا الغريب العجيب يتابع عن كثب، ولا يجيد إلا لغة الاستنكار، والشجب، والكلمات والبيانات والإعلانات في الصحف هنا وهناك، وفي وسائل الإعلام من هنا ومن هناك.

عالمنا مزقته العصبية المذهبية، والعصبية العنصرية، والعصبية اللادينية.

عالمنا الذي مزقته الصهيونية الحاقدة التي انطلقت في العالم بأسره، وقد أعماها الحقد، لتسوم البشرية حرباً بعد حرب، وبلاء بعد بلاء، وشقاء بعد شقاء، وتسومهم الضنك والشقاء والهوان والذل.

 


من خصال النفاق العملي:

الكذب.

إخلاف الوعد.

خيانة الأمانة.

الغدر في العهود.

الفجور في المخاصمة.

وكل خصلة من خصال النفاق التي تنطبق على الرجال تنطبق على النساء.

وهناك خصال من خصال النفاق تنفرد بها النساء دون الرجال، ولذا قال رسول الله r: "خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية؛ إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم"([115]).

فالتّبرّج هو إظهار الزينة للرجال الأجانب، وقد نهى الله عز وجل عنه، فقال: ]وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى[[الأحزاب: 33]، فقد نسب الله عز وجل التبرّج إلى الجاهلية الأولى، فالمتبرّجة جاهلة، وإن نالت أعلى الشهادات!.

وفي الحديث: وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، فقرن التّبرّج بالخيلاء.

فالمرأة إذا مَشَتْ متبرّجة حملها ذلك على التّبختر، بخلاف ما إذا كانت متستّرة متحجّبة، فإنها سوف تمشي برفق وسكينة ووقار.

والمرأة إذا تبرّجت تحمّلت الإثم مُضاعفاً: فتتحمّل إثم تبرّجها وإظهارها ما لا يحلّ لها إظهاره للرجال الأجانب، وتتحمّل إثم فتنة الرجال،
وتتحمّل إثم من تقتدي بها من النساء، ولذلك قال الله عز وجل: ]لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ[[النحل: 25].
وقال رسول الله r: "مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"([116]).

النفاق سلاح الأعداء:

إن أعداء الأمة يشعرون بخطورة الصحوة الإسلامية ويدركون خطرها على مصالحهم فراحوا يحاربون الإسلام والمسلمين بمختلف أنواع الأسلحة بهدف إسقاط الصحوة الإسلامية، وشد المسلمين إلى المدنية الغربية.

كما أن أعداء الأمة لجأوا إلى إيجاد حركات أو أحزاب تدعي الإسلام وتظهر الإيمان كي تقف بوجه الصحوة الإسلامية النقية لعزل المخلصين عن الساحة.

كما نلاحظ أن أعداء الأمة استطاعوا استمالة بعض الحركات أو الأحزاب التي كان لها رصيد إسلامي، ومن ثم استطاع أن يستوعبها ويحركها وفق ما يريدون وبالتالي تصبح قوة لا يستهان بها لضرب الإسلام نفسه.

كما إن الاستعمار (الاستخراب) قد يلجأ بمساعدة أعوانه الداخليين والمنافقين إلى تسليط الأضواء على بعض الشخصيات المنافقة التي يتوسم فيها حفظ مصالحه والسير في ركابه كي يؤهلها لاحتلال مواقع مسؤولية متقدمة في الدول الإسلامية.

 

 

 


هل نستطيع أن نقلع عنه أو نستبدله بالمجاملة البريئة

النفاق سوس ينخر حياتنا([117])

 

من الأنماط الاجتماعية والتي فرضت علينا من قبلنا لا من غيرنا وأصبحت سمة من سمات التعامل التي طغت على شؤون حياتنا وأكسبتها صبغة المجاملات القاتلة والمظاهر الخداعة (النفاق الاجتماعي).

فإلى أي مدى وصل النفاق الاجتماعي في حياتنا، وما رأي ضحاياه؟.

هذا ما حاولنا تسليط الضوء عليه في هذا التحقيق القصير.

أبعدني عن المجتمع وعن مالي:

أبو علي: كان لي رفقة وصحبة، تربينا معاً في المدرسة وتشاركنا في العمل، وتوسعنا في العلاقة، وكان بيننا أموال وديون.

ويوماً كثر الدَّين على أحدهم فأردت الحصول عليه، فاستشرت أحد أصدقائي ممن يعرفني ويعرف المدين.

حتى إذا حَمَّلْتُ أحدهم مسؤولية استشارة له في كيفية حصولي على دَين لي عند شخص يعرفه، وكانت الاستشارة في: هل أكلم فيه والد المدين أو أصدقاءه، أم أنتظره حتى يدفع لي دون مطالبة.

فما كان من المؤتمن على سر الاستشارة إلا أن نقل الكلام إلى المدين ذاته، مع تغيير في الكلام، مما أساء العلاقة بيني وبين المدين، وأني بدأت أحدِّث الناس بالدَّين الذي بيننا، وأني أصف المدين بأنه يماطل في الأداء، ويؤجل في الدفع، وأنه يأكل أموال الناس بالباطل.

وما كان من المدين إلا أن بدأ ينشر عني الأباطيل بين أصدقائه، وهم أصدقائي، بأني لا أرعى حرمة لما بيننا من أخوة، وأني لم أصبر على حسن الصحبة، وأني أطالب بالمال في كل وقت، وأكلِّم الناس عن الموضوع.

وهكذا حوصرت من جميع إخواني وأصدقائي الذين كانت تربطني بهم صداقة حميمة، وعمل مشترك.

وكان الحصار اقتصادياً حيث لم يعودوا يعاملوني، واجتماعياً فلم يقبلوني في مجالسهم، فكلما دخلت مجلساً رأيت الأنظار تُعرِض عني، وكأني ممجوج بينهم.

وفي معترك هذا الصراع نُسي حقي (مالي) الذي حاولت الحصول عليه باستشارة الأصدقاء.

نميمة بعد مشورة، أفسدت حياتي، ورسول الله r يقول: "لا يدخل الجنة قتات ـ أي نمام ـ "، مع أن المشورة أمر مشروع، قال تعالى: ] وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[[آل عمران: 159].

فكيف انقلبت الموازين، وانعكست القيم!!!؟.

أفقدني مشغلي الخاص:

أم جميل سيدة أعمال قالت: تجربتي مع تلك الخصلة الذميمة تجربة مرة أود أن أحكيها حتى يستفاد منها ولا تتكرر؛ خاصة أنها كلفتني مشروع حياتي.

فلقد فتحت مشغلاً نسائياً كلفني مبالغ كبيرة، ولعدم قدرتي عن فصل العمل والعلاقات الشخصية أصبحت أحابي وأجامل كل من يرتاد المشغل من الصديقات والمعارف مما أوقعني في خسارة وديون طائلة، واضطررت إلى تقبيله.

أخطبوط عملاق:

غازي أضاف: النفاق الاجتماعي أخطبوط عملاق اغتال كل شيء في حياتنا وأصبح المُسَيِّر لأغلب العلاقات الاجتماعية.

فالمجاملات التي تنصب على المصالح الخاصة والعامة والمبالغة في الحفلات والأعياد بغرض التباهي والتفاخر ولو على حساب حياتنا، ضريبة قاسية، وللأسف كل يوم ندفع ثمنها.

بعد أن اختفى الصدق والوضوح والبساطة والتلقائية فيما حولنا.

إنه مرض عضال أتمنى أن يجتث من جذوره من مجتمعنا.

أوصلني إلى أبواب المخدرات:

أبو فارس مأساته من نوع آخر قال والحزن يملأ كلماته: كانت حياتي تنعم بالاستقرار المادي والاجتماعي حتى تعرفت على شلة تجبرك مظاهر البذخ والهالة التي تحيط بها على أن تتملق حتى تصادقها.

وفعلاً سلكت هذا المسلك حتى أصبحت مقرباً لهم في جلساتهم وسمرهم وسفرهم ووصلت إلى مرحلة تجربة المخدرات إرضاء لهم.

وبعدها سقطت في هذا الفخ الذي دمر أسرتي وصحتي وشردني من عملي.

وبعدها نبذوني خارجاً بعد أن فقدت كل شيء.

خسرت زوجي:

لطيفة، مدرسة مطلقة قالت: بحكم عملي مدرسة كانت علاقاتي متعددة.

ولم أفرق بين مصلحة زوجي واستقراره وبين حبي للحفلات والعزايم التي لم أمل منها، أو الخروج مع زميلاتي للأسواق عندما يدعونني حتى لو لم يرض زوجي.

فكانت النتيجة طلاقي وخسارتي لزوج طيب وحنون.

دمر حياتي:

فيصل، قال: كاد أن يدمر حياتي الزوجية؛ فلقد كنت أنظر إلى زملائي في العمل وأستمع إلى نصائحهم في التعامل مع الزوجة خاصة أني عريس جديد.

فكنت أسافر كثيراً مجاملة لهم، ولكي أثبت لهم أني رجل حر وأسهر وأعاملها بعنف حتى حَمَلَتْ أغراضها ورحلت إلى بيت أهلها، ورفضت أن تعود حتى أكف عن النفاق الاجتماعي والمجاملات القاتلة.

والحمد لله رجعت إلى رشدي وقررت التمسك بزوجتي ومحاربة تلك الشلة والصفة الذميمة.

وضع لا يطاق:

أما سناء ربة بيت، فقد قالت: لقد دمروا حياتي وأحالوها إلى جحيم بسبب مجاملات زوجي لأصدقائه، لا أدري من أين جاء هؤلاء الأصدقاء؟.

لقد كنا سعداء في حياتنا قبل تلك النوعية من البشر، ولكن فجأة وبلا مقدمات أصبحتُ خادمة لمجموعة من العاطلين عن العمل الذين سيهرون الليل وينامون النهار.

حولوا داري إلى مقهى للعب الورق والشطرنج، وأنا أقوم بخدمتهم بأمر زوجي الذي تَغَيَّر حاله حين فصل من العمل.

غير أنه لم يتعلم الدرس، ومازال يفتح بيته وينافق على حساب حياتنا.

النفاق الوظيفي:

إلى جانب الحكايات السابقة هناك جوانب أخرى في الدوائر الحكومية وغير الحكومية تبرز هذه السمة (النفاق الاجتماعي).

فهناك الموظف الذي ينافق رئيسه ويضخم ذاته من أجل علاوة أو ترقية.

وهناك مَن ينافق المدير من أجل مصلحة.

وهناك المراجع الذي ينافق الموظف.

وهلم جراً.

وهذا النفاق يقود إلى الظلم والمحاباة التي ترفضها عقيدتنا السمحاء.

وبقي سؤال نطرحه في النهاية هو: هل نستطيع أن نخفف على الأقل من هذه العادة السيئة؟.

 

كانت للمساعدة.. وتحولت إلى دين مستحق السداد

عانية الزواج.. عادة شعبية تورط المدعوين([118])

 

من العادات والتقاليد الاجتماعية عادة هدية العرس، أو ما يسمى بـ (العانية)، وهي مبلغ رمزي أو هديه تقدم للعريس بمناسبة زواجه وتطورت الآن من مفهوم الهدايا، وأصبحت تقع تحت مفهوم الشكليات والرسميات التي يقوم بها الكثير من الأهالي.

والمعروف أن عانية الزواج واجب أسري واجتماعي تساعد في مواجهة تكاليف الزواج لدى المتزوجين حديثاً.

ورغم ذلك فهي نوع من التكاتف والمحبة.

والرغبة في تقليل التكاليف المادية على العريس.

وكثيرون يفضل استمرارها والبعض يطالب بإلغائها أو تحديد قيمتها.

وهذه العادة تعتبر ميزة في حفلات الزواج.

ورغبة في معرفة بعض جوانب هذا الموضوع كان لقاء بعدد من كبار السن والأهالي بمحافظة حفر الباطن لمعرفة رأيهم في هذا الموضوع:

فقال مطيران العايد: يعدها المقبل على الزواج أملاً يبني عليه الكثير من حساباته وخاصة إذا كانت عائلته كبيرة وأصدقاؤه كثر لدرجة أننا نجد منهم من قد يكون زواجه مجانياً لكثرة المبالغ التي قدمت له كعانية.

فهناك بعض العرسان قد استدانوا من أجل إتمام زواجهم وتحملوا المصاريف الكثيرة، ويأملون من جماعتهم مساعدتهم.

ونعرف الكثير ممن سدد ديونه من كثرة ما تم إعطاؤه له من أقربائه، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

وذكر مطشر الرداد: أن هذه العادة غير مناسبة؛ لأن فيها خسارة لمقدمها وللعريس حيث إن مقدمها قد يشتريها بمبالغ كبيرة، ثم تباع بعد الزواج بمبالغ قليلة، وقد تباينت نظرة أفراد المجتمع لها، فمنهم من يرى ضرورة استمرارها، وآخرون ينادون بإيقافها لتحولها من التكافل الاجتماعي إلى النفاق الاجتماعي في بعض الأحيان.

وقال سعد البنيان: إن العانية أصبحت عبئاً إضافياً مع ازدياد الأفراح، وخاصة عند كثرتها وتجمعها، وبعد انتهاء الفرح يتورط فيها أقارب العريس أين يضعونها وكيف ومتى يبيعونها للاستفادة من ثمنها.

فنجدهم يبيعونها بأقل من أسعارها الحقيقية وتذهب أموال كثيرة خسارة.

لذلك فإنني أرى البعد عن مظاهر البذخ والنفاق الاجتماعي.

وهذه العانية بالعرف الدارج تعتبر سلفاَ ودَيناً يجب رده أو أفضل منه.

فمن أين يستطيع العريس بعد فترة قد تطول أو تقصر إعطاء صديقه مثل عانيته خاصة إذا كان ذا حالة مادية متوسطة.

الشاب حميد الرباط يرى أن العانية لا بأس بها إذا كان الغرض مساعدة العريس ولكن نظرة الناس لها الآن تغيرت حيث يراد منها التباهي بين الناس، حيث خرجت من الدور التكافلي الذي كانت تقوم به في مساعدة العريس على تحمل نفقات الزواج.

وتعبر العانية مشكلة لدى البعض لأنها ترهق الموازنة الشهرية للفرد.

ويرى فهد الزيد: أن بعض العنايا تدخل في باب الرياء والسمعة لمقدمها؛ لأنه يقدمها أمام المدعوين.

وذكر مبارك السند: أنه بالنسبه لعانية العرس أصبح الوضع مختلفاً، وتدخل فيه المفاخرة والرياء.

 


المجاملة (الذوق في التعامل) والنفاق

 

في الحقيقة هناك فرق شاسع بين المجاملة والنفاق.

فالمجاملة اصطلاح جميل جداً ومعبر، ومقتبس من لفظة ( الجمال )، وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ"([119])، فمن يستعمل المجاملة إنما هو رجل يحترم الآخرين ولبق وعنده كياسة، ويحسن الرد، وعنده ضوابط بحيث لا ينفعل ولا يغضب.

المجاملة بجميع أنواعها هل هي إيجابية؟، أم سلبية؟، هل تكون جائزة ببعض المواقف؟، هل تكون مفيدة لبعض المصالح سواء الحميدة أو السيئة؟، هل هي نفاق اجتماعي؟، هل هي ضرورة شكلية؟.

المجاملة ليست عيباً، بل هي حسنة تُضاف للمجامِل؛ لأنه شخص يُقَدِّر ويحترم الآخرين، ولكن لها حدود، ومن هذه الحدود: الصدق، والمهم أن لا تصف شخصاً بما ليس فيه بقصد المجاملة، حيث عندها تتحول المجاملة إلى كذب ونفاق وتلفيق وتزوير للحقائق، ورشوة معنوية؛ لأن أصل المجاملة أن تقرب القلوب لبعضها، وتحبب الناس ببعضهم، وهي جواز سفر لقلوب الآخرين، ولكن لا يكون من ورائها مصلحة شخصية، أو منفعة خاصة، وتنتهي بعدها العلاقة بينكما.

والمجاملة بمعنى التحبب والتودد إلى الناس هي من حسن خُلُق المسلم، "وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ كما قال e ([120]).

كما يشترط في المجاملة أن لا يكون فاعلها إنما يأتي بها على حساب نفسه، وإيذاء شخصه، والمحيطين به.

فاجعل المجاملة أخي اعترافاً بما يعجبك بالشخص المقابل لك، بكلمات رقيقه لا تعدو أن تكون تلطيفاً للجو بينك وبين الآخرين.

المجاملة أسلوب ووسيلة، فهل هذه الوسيلة تنتهي بالوصول إلى غاية محددة؟ أم هي مجرد وسيلة تعبير بريئة؟.

فاعلها هو المحدد لها، كنوع من أنواع التقارب بين البشر، وعطر نعطر به الكلمات، وباب للدخول والولوج إلى القلوب، وبالتالي لا بد أن لا تتعدى حداً معيناً، وذلك لتصبح مقبولة نوعاً ما، ولا تتحول إلى نفاق و رياء، وكلمات لا معنى لها.

فالمجاملة سلاح ذو حدين قد تكون من باب الاحترام والتقدير وقد توصل صاحبها إلى التملق والنفاق.

والحقيقة أن كثيراً من الناس  في هذا الزمن أفرط في المجاملة حتى أصبح يعرف بالمنفاق أو {المتملق}.

وهي نوع من العلاقات العامة، ومن الواجب احترام الكبير وتوقيره، وتقدير المسؤول واحترامه، وإكرام الضيف والإحسان إليه، ونحو ذلك من فن المعاملة.

والقرآن الكريم والسيرة النبوية على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فيها مواقف كثيرة تحث على ما يسمى اليوم بـ(العلاقات العامة) في مختلف مجالات الحياة، وقصة موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون دليل على ذلك، عندما أمر الله عزَّ وجلَّ موسى وهارون بأن يقولا لفرعون قولاً ليناً.

أثر أسلوب المجاملة في تمتين العلاقة بين الأزواج

يعتبر أسلوب المجاملة واحداً من الأساليب الاجتماعية المحببة التي امتدحها الإسلام وحض عليها وعلى كل أشكالها وخصوصاً بين الأزواج حفاظاً على ديمومة العلاقات الزوجية واستمرارها ونموها، وإذا كنا لا ننكر بأن هناك أساليب ووسائل كثيرة تسهم في الحفاظ على الألفة والإدام بين الزوجين، فإنه يمكن القول:

إن أسلوب المجاملة يهدف بالأساس إلى تواد وتحبب كل طرف إلى الآخر والتقرب إليه، وذلك عن طريق إفشاء عبارات الاستحسان والإطراء والتعبير بالكلام الطيب والجميل.

ويبدو أن الإنسان إذا كان يضطر في حياته اليومية والعملية إلى مجاملة رئيسه في العمل وزميله في الشغل وجاره في الشارع، فإنه من باب أولى أن يجامل رفيق عمره في بعض المواطن التي يجمل أن يكون فيها ذلك، وخصوصاً في المناسبات الكثيرة التي تظهر فيها الحاجة إلى المجاملة والمداراة وتوظيف أساليب المعاملة بالتي هي أحسن.

إن سلوك أسلوب المجاملة وتقديم الكلمات الطيبة والمواقف الإنسانية الجميلة كل ذلك يولد لدى الزوج أو الزوجة شعوراً بالتواد ورفع المعنويات وتحبيب الخاطر.

بل إنه في كثير من الأحيان يكون نهج أسلوب المجاملة عاملاً من عوامل حسم الخلافات والنزاعات الزوجية، إذ كم من معارك زوجية أنذرت بالانفصال أو القطيعة فتدخل أحد الطرفين بأسلوب المجاملة واللباقة لإيقافها وتلطيف الأجواء.

إن أحد الزوجين يجامل الآخر في أمور كثيرة ومسائل اجتماعية متعددة قد يراها بعضهما عادية أو تافهة لكنها في واقع الأمر ذات أثر بالغ في تحسين العلاقة الزوجية وتمتينها وتقويتها، فالزوج قد يهنئ زوجته على الفستان الجديد ويبدي محاسنه ومميزاته ويشكرها على طبخها الجيد وأنه ألذ أنواع الطبخ التي تشتهيها نفسه.

والزوجة من جهتها تسعى إلى تغيير ترتيب أثاث البيت من حين لآخر وتفاجئ زوجها أحياناً بطبق من الطعام الشهي الذي يحبه ويتوق إليه.

إن مثل هذه المجاملات الفعلية والعملية إذا صاحبتها مجاملات قولية عن طريق الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة وإفشاء عبارات الإطراء والمديح والاستحسان كل ذلك يسهم بقوة في نمو العلاقة الزوجية وحمايتها من عوامل الضعف والشقاق والخلاف.

قد يقول قائل، إن المبالغة في المجاملة قد تؤدي إلى نوع من النفاق الاجتماعي والاصطناع الذي لا يعبر عن حقيقة المشاعر وطبيعتها.

فيجاب عن ذلك إن هناك شعرة تفصل بين المجاملة والنفاق، وهذه الشعرة هي النية التي تدفع للإطراء أو المديح، وفضلاً عن ذلك، فإن النفاق خصلة ذميمة لا مكان لها في العلاقات الزوجية لأنه لا توجد بين الأزواج مصالح كما هي بين الناس.

فلا مجال إذاً للحديث عن النفاق بين الأزواج، ورسول الله e، هو القدوة لنا في ذلك، حيث روت كتب السنَّة والسيرة كثيراً مما كان يعبر عنه e لأزواجه من حسن المعاملة،

فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"([121]).

وتقديم عبارات الإطراء والاستحسان والمزاح الحق وغير ذلك من أساليب إدخال السرور والحبور على نفوس أزواجه.

إن أسلوب المجاملة بين الأزواج يسمح بالقضاء على الخلافات وتبديد حالات الشقاق وفض النزاعات، وهو كفيل بأن يحقق فرص التسامح المتبادل وتجاوز خلافات الماضي والقضاء على سلبيات وانعكاسات الرتابة الزوجية التي كثيراً ما أدت في وقتنا الحاضر إلى تفكك الأسر وانفصامها، هذا فضلاً عن تقوية روابط وأواصر العلاقة الزوجية بما يحقق نوعاً من الاستقرار والاستمرار والتعايش الاجتماعي.

 

 

المداراة (والمداهنة) والنفاق

 

المداراة لها أهداف ومقاصد وفيها جانب حسن الخلق ورقة الطبع والاحتراز عن إيذاء الآخرين وفيها ملاينة بأنك تبذل الدنيا من أجل الحصول على الدنيا أو الحق أو الحصول عليهما معاً فأنت تجاري وتجامل من أجل الحفاظ على بيتك وعلى زوجتك مثلك وعلى الود واستمرارية التواصل.

وقد تكون (المداراة) عملاً شرعياً فأنت قد تداري وأنت تريد وجه الله يقول الله تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام }فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى{[طه: 44].

وعندما يكون هدف المداري النصيحة في الدين يكون متعبداً بدليل الآية.

ومن أهداف المداراة: الإصلاح بين الناس وهو عمل عظيم بعد إرضاء الله عزَّ وجلَّ باعتبار المداراة صدقة تجري على أصحابها.

فمن أهدافها: الإصلاح بين الناس، والله تعالى يقول: }لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا{[النساء: 114].

فإذا بالغنا في المداراة الشرعية تتحول إلى (المداهنة) وإن نقصت دخلت في النفاق والتصنع والمداهنة والتملق.

المداهنة: ترك الحق من أجل الدنيا، وأن تضيع المبادئ والمثل من أجل الدنيا، بمعنى أي يجامل الشخصُ الآخرين على حساب الحق، ولا يخبرهم به لحساب مصلحته الشخصية.

 

 

آثار النفاق:

يفسد القلب

في قلوبهم مرض: (الحقد والحسد)، فيبادرون إلى الغش والمكر.

انقلاب المقاييس.

ظلمات القلوب والشهوات.

 

كيفية التعامل مع المنافقين

 

احذروا النفاق، وقاية من النفاق، كيف نتعامل مع المنافقين؟.

من الأسئلة المهمة الحساسة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا، ونبحث لها على الإجابة الشافية السؤال التالي: كيف يجب أن تتعامل الأمة مع المنافقين، خصوصاً وانهم قد تحولوا إلى شريحة اجتماعية، ومجموعة بشرية متماسكة في الأمة؟.

والجواب:

أن يكون حذراً في التعامل معهم.

ومتيقظاً لتصرفاتهم.

وذكياً في الأخذ والرد في الفعل والقول معهم.

وعارفاً لمواقع التسرب الخداعي منهم.

وكتوماً في أسراره الشخصية لا يذيعها لهم.

ومجيداً في التحكم النفسي الشعوري تجاههم.

وأن يفضح أمرهم ويعمل على تعرية أفعالهم، وكشفهم أمام الناس، وذلك من خلال التعرف على أسرارهم وخباياهم، بهدف منعهم من ممارسة التأثير في المجتمع، وتحصين أفراد الأمة من تأثيراتهم السلبية وأفكارهم الهدامة.

كيف نميز المنافق؟!

باختصار يمكن تمييزهم بكذب الحديث، وخيانة الأمانـة.

إذن فالقول (صدق الحديث) والفعـل (أداء الأمانة) هما المقياس الأوحد لتحديد شخصية الإنسان.

فمن كان يضمر أمراً ما فإنه يظهر على لسانه الذي لا بد له من فلتات، وذلك أن المنافق ذو شخصية ازدواجية حيث يبطن ما لا يعلن، ونفسه ستسول له خيانة الأمانة.

فجرِّبه بالمال، فهو ذو قوام ذاتي مهزوز أمام أبسط الإغراءات.

 

 

وللشعر كلمته في النفاق

 

حوار مع منافق([122])

الدكتور / جابر قميحة

 

تقديم: كان زميل دراسة، وصاحبًا وصديقًا، وكنت آملاً في أن يكون في صف الحق والحقيقة، ولكني ـ وأسفاه ـ رأيته يلقي بنفسه في أحضان النفاق، عن قناعة واقتناع؛ حرصًا على الدنيا وزخرفها وبهارجها، فكان هذا الحوار:

لستُ أنساه، صاحبي وصديقي        فلقد كان في مقامِ شقيقي

ثم هانت عليه نفس تمادت             فرأى في النفاق خيرَ طريق

ومشى زاهيًا بوجه ذليلٍ                مثقلَ السمْتِ بالهوان الطليق

قلتُ "بُـؤْساك" قال "عفوًا فإني          أشتهي العيش صافيًا ذا بريق

متعٌ كلها الحياةُ، فدعْني                لمتاعٍ ميسرٍ معشوق

ولماذا أعيش في الفقر عمري           وأُقضِِّي الحياةَ في شر ضيق؟

لا تقل لي "كرامة"؛ فالكراما            تُ هُراء، ما أنقذت من غريق

ما روتْ ظامئًا، ولم تمْحُ جوعًا        أو تخففْ عن بائس مسحوق

وغدًا تسمَعَنَّ عني فإني                سوف أغدو ذا منصِبٍ مرموق

قلت: يا ضيعةَ الرجالِ إذا عا          شوا بعِرضٍ مُقَيَّحٍ ممْزوق

لا تقل "مسلمٌ"؛ فمن باع طوعًا          دينَه في هَوَى السقوطِ السحيق

زاحفًا آثمًا بغيرِ ضميرٍ                لم يكن غيرَ مارقٍ زِنديق

عزَّ من عاش في الحياة كريمًا          وهواه الأبِيُّ في التحليق

وحد اللهَ، لم تعدْ بصديقي              فطريقُ النفاقِ ليس طريقي

والمنايا ولا الدنايا نشيدي        وصلاتي في مغربي وشروقي

والمعاني الكبارُ والعزة القعـ             ساءُ([123]) أمي ومهجتي وشقيقي

والزلال القَراحُ([124]) لو شِيبَ بالضيْـ      ـم لحرَّمْـتُه يبللُ ريقي

وحروقي ـ إن كان بلسمُها([125]) الذلَّ     "فزيدي تقرُّحًا يا حروقي

ودمي لو يهادنُ الظلمَ يومًا             برِئتْ منه ذمتي وعروقي

وحد اللهَ، إن طعمَ الرزايا        في مذاقِ الأُباةِ طعمُ الرحيق

وإذا الموت هلَّ بالعز أضْحَى           في عيونِ الإخوان نورَ الشروق

إنهَا عزةُ الإلهِ حباها                  لنبي الهدى الأبيِّ الصدُوق

فعززنا بها كرامًا أباةً                   عزةَ المسلمِ الأصيلِ العريق

ثم فاضت منارةُ الحق بالنـ              ـور وعزمِ الخليفةِ الصدِّيق

وانطوتْ رايةُ العبودةِ تنعَى             كلَّ باغٍ في هواه غريق

يوم دُك الإيوانُ إيوانُ كسرى            بجيوش الإيمان والفاروق

واسألَنْ خالدًا وسعدًا وعَمْراً             هازِمِي الفرسِ قاهرِي الإغريق

وعلى دربهم مشينا حشودًا             بخطَى ثابتٍ وعزمٍ وثيق

تحت رايات أحمدٍ وهداهُ         وسنا المسجد الحرام العتيق

وحد الله إن ديني متين                 وشموخُ الأباةِ مالي وسوقي

بينما غاية الخسيس الدنايا             من طعامٍ ومنصبٍ وعقيق

فاعذُرَنِّي فسوف أبقى بريئًا             من فصيل التزوير والتزويق

واعذرني فلن أكون شريكاً       في فريق الكئوس والإبريق

مغرِقًا في النفاق من أجلِ أن أحـ       يا حياةَ التطبيلِ والتلفيق

بين كأسٍ دوَّارةٍ في انتشاءٍ             وصَبوحٍ ملعونةٍ وغَبوق

فَاطْلِقن البخورَ للوثنِ الموْ             كوسِ في قصره المَشِيد الأنيق

واسجدنَّ الغداةَ نذلا ذليلاً        في زفيرٍ مسبِّحٍ وشهيق

ولْتَدَعْنا نعيشُ قرآنَ حقٍّ        يملأ النفسَ بالضياءِ الدَّفوق

فبِهِ الحكمُ والعدالةُ أصلٌ               والمساواةُ في اقتضاءِ الحقوق

والجهادُ المريرُ أمضَى سبيلٍ           للمعالي وللسلامِ الحقيقي

في كيان موحَّدٍ مُتـنامٍ                  كبناءٍ علا بغيرِ شُقوق

بينما الموتُ في سبيل إلهي            هو أُمنـيَّة التقيِّ المَشُوق

وحياةُ الشموخِ فرضٌ أكيدٌ        وانحناءُ الجباهِ شرُّ فُسوق

إنها شرعةُ الإله ارتضاها       لصلاح العبادِ والتوفيق

إن تقلْ: حسْبنا قوانينُ صِيغتْ          وبها كلُّ نافعٍ ودقيق

قلت: شتانَ بين شدْوٍ رقيق             ونعيبٍ مذُمَّمٍ([126]) ونَهيق

أو ظلالٍ معطَّراتِ الحواشي            وحَرورٍ مُلَـهَّبٍ كالحريق

أنت يا من غدوتَ في العين أقذا       ءً وعارًا وغُصَّةً في الحلوق

وحد الله واتركنَّ طريقي         فمن اليومِ لم تعد بصديقي

هاكَ عهدي وموثقي ويقيني            هاتفًا بالتُّـقَى وطُهرٍ صدوق

لستُ من أحمدٍ إذا هنتُ يومًا           لا ولستُ بدينه بخليق

فالذي ينحني لغير إلهي               ليس بالمسلم الأصيل الحقيقي

 

قصيدة شعرية عن: النفاق الاجتماعي([127])

 

الشاعر: فالح بن عويض المطيري

 

كرهت المظاهر مع هل الطبل وأهل الدف

أنا اللي قضيته بينهم يا فهد كافي

وكرهت النفاق الاجتماعي وعنهم عف

لساني ووجداني وأنا اليوم متعافي

تشوف البعض كنه صديقك وهو يلتف

كما ألتف داب غطى جسمه السافي

بعضهم يسف المال كنه طعامه سف

ويموت الفقير من الطوى والقدم حافي

وبعضهم بكى حسره وجفن الغني مارف

وبعضهم يجود وفوقهم يوقف أوقافي

وأنا ما بقالي يا فهد في الحضارة شف

تبذ الخفا وتموت ما تعرف الخافي

أنا شف بالي يوم نمشي عليها صف

ومعي كل نشمي من بني عمنا وافي

نمد النظر مع رقرق مثل بطن الكف

ويديم السما صافي وتفكيرنا صافي

إلى من قرص الشمس خلف الجذيبه هف

سنا ضونا يجذب هل الكيف واللافي

وضو القمر بالليل كنه علينا حف

ونردد علوم قد مضت بين الاسلافي

وسالت دموع العين بعد القلم ماجف

وغطيت وجهي لايشوفون بلحافي.

 

كلمات شعرية في النفاق([128])

 

الشاعر: حسين أحمد سليم آل الحاج يونس

 

كل ما حولنا مظاهر               وكل ما نرى ظواهر

الناس عالم مخادع                الناس عالم خادع

كالأكاذيب يتلون                  في النفاق يتفنن

إلى الزوال يتحرك                 إلى الفناء يمضي

رسوم على الماء                  وأشكال على السواء

نقوش على الرمال                 وأوهام في الخيال

تعصف بها الرياح                تذروها في البطاح.

 

قصيدة عن النفاق([129])

الشاعر: أحمد مطر

 

ونافق

ثم نافق ، ثم نافق

لا يسلم الجسد النحيل من الأذى

إن لم تنافق

نافق

فماذا في النفاق

إذا كذبت وأنت صادق

نافق

فإن الجهل أن تهوى

ليرقى فوق جثتك المنافق

لك مبدأ لا تبتئس

كن ثابتاً

لكن بمختلف المناطق

واسبق سواك بكل سابقةٍ

فإن الحكم محجوز

لأرباب السوابق

هذه مقالة خائف

متملق، متسلق

ومقالتي: أنا لن أنافق حتى ولو وضعوا بكفي المغارب والمشارق

يادافنين رؤوسكم مثل النعام تنعموا

وتنقلوا بين المبادىء كاللقالق

ودعوا البطولة لي أنا

حيث البطولة باطل والحق زاهق

هذا أنا

أجري مع الموت السباق

وإنني أدري بأن الموت سابق

لكنما سيظل رأسي عاليا أبداً

وحسي أنني في الخفض شاهق!

فإذا انتهى الشوط الأخير

وصفق الجمع المنافق

سيظل نعلي عاليا

فوق الرؤوس

إذا علا رأسي

على عقد المشانق

 

 

 

 

 

كيف نواجه النفاق؟

 

من أين يبدأ النفاق في شخصية الإنسان؟ وكيف يجب أن نعالجه؟.

إذا تمكنا من الإجابة على هذه الأسئلة فسيكون بمقدورنا مواجهة مرض النفاق.

إذ لا يمكن معالجة داء ما حتى يتم تشخيصه على حقيقته، أو التعرف على أسبابه.

والاهتمام الذي ينبغي أن نوليه لأزمة النفاق ينبع من أبعاد ثلاثة.

البعد الأول: لأننا بشر تعترينا الابتلاءات من كل جانب، وفي كل وقت وأوان، وبالتالي فنحن معرضون للإصابة بداء النفاق ما لم نصمد أمام الابتلاءات.

البعد الثاني: لأن المجتمع يضم أناساً منافقين، ونحن مجبورون على الاحتكاك بهم، وهذا الاحتكاك إن لم يكن بداعي المعالجة؛ فإنه يأتي بداعي التعامل اليومي.

فماذا بوسع المرء أن يتصرف فيما لو كان أحد إخوانه - والعياذ بالله - مصاباً بمرض النفاق؟.

فبداعي قابلية التأثير والتأثر المخلوقة في الإنسان لا بد له من أن يجد المناعة ضد سريان المرض إليه بالدرجة الأولى، ثم يعمل على إزاحة هذا المرض عن أخيه بالدرجة الثانية.

البعد الثالث: لأن حركة النفاق هي الحركة السائدة في عالم اليوم، على صعيد التعامل الدولي والإقليمي والمحلي.

نعود لنتساءل: كيف نواجه النفاق كمرض؟ وما هي أسبابه الحقيقية؟.

في الجواب أقول: إن الإنسان حينما يعيش حياة هادئة طبيعية خالية عن المشاكل، وخالية عن التعرض للابتلاءات اليومية؛ لن يستطيع معرفة أبعاد شخصيته السلبية منها والإيجابية.

فهو غير قادر على تحديد مستوى تحمل صدمة خسارته المالية - مثلاً - ما لم يعمل في التجارة والأسواق.

كما لا يستطيع أن يدعي الكرم ما لم يحل أحدهم ضيفاً عليه.

من يثبت لنا أن هذا الإنسان مؤمن غير منافق من دون أن يتعرض إلى فتن المال والقوة والجنس والتعصب والحسد والعيوب؟.

 

عقاب الله لهم

 

لقد ذم القرآن الكريم صفة النفاق ذمًّا شديداً، وتوعّد المنافقين بجهنم وبئس المصير، وأنزلهم منزلة المشركين، ووضعهم في الدرك الأسفل من النار، وفي كثير من الآيات جمع الله بين مصيرهم ومصير الكفار.

الله يستهزئ بهم:

إن الله سبحانه وتعالى يستهزئ بالمنافقين يوم القيامة، بعد أن يُدْخِل الصالحين في الجنة، والطالحين في نار جهنم، والمنافقين في الدرك الأسفل من النار، وجهنم موضع ضيق ومظلم، والناس فيها يقتحم بعضهم البعض، وينشب الصراع بينهم.

وبينما المنافقون يعذبون في النار إذا بباب يُفتح أمامهم، فينظرون إلى نعيم الجنة فيقومون من مجالسهم باتجاه ذلك الباب، والطريق الذي يوصلهم تكمن فيه العقارب والحيات والنيران.

وبعد أن يمضي عليهم زمن طويل وهم يسيرون، وعند وصولهم إلى مقربة من ذلك الباب، إذا به يغلق في وجوههم، ويفتح لهم باب في الطرف الآخر فيبدؤون بالتحرك في الاتجاه المضاد، ويبقون على هذه الحالة، آلاف السنين!.

النفاق سبب من أسباب عذاب القبر:

والمنافقون أولى الناس بعذاب القبر، كيف لا وهم أصحاب الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: }وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ{[التوبة:101].

قال قتادة والربيع بن أنس في قوله تعالى: }سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ{: إحداهما في الدنيا، والأخرى هي عذاب القبر.

وفي أحاديث سؤال الملكين وفتنة القبر، ورد التصريح باسم المنافق، أو المرتاب في كثير من الروايات، كما في حديث أنس t: ".. وأما الكافر والمنافق فيُقال له.. "([130])، وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها: "وأما المنافق أو المرتاب"([131]).

الجزاء الأخروي:

إن المنافق لا بد وأن يلقى عقاباً أخروياً شديداً وذلك نتيجة لصدوده وصده عن سبيل الله ومحاربته للمسلمين، ولا بد أن يلج أبواب جهنم، وسيخسر الآخرة كما خسر الدنيا التي افتضح فيها أمره، وسقطت أقنعة الإيمان الخادعة عن وجهه الأسود، وسقطت أقنعة الإيمان الخادعة عن وجهه الأسود، وتجلى على صورته الكالحة وعزفت عنه الأمة وأشاحت بوجهها.

لا بد أن يلقى جزاء ما اقترفت يداه ولسانه وقلبه من آثام وجرائم، وما سبب من ويلات ومحن وخطوب، فجهنم حق لا بد منه لكل كافر ومنافق ومشرك.

قال تعالى: } وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ{[التوبة: 68].

 

 

يوم تبلى السرائر([132])

 

عنوان هذا الفصل آيةٌ من كتاب الله عزَّ وجلَّ، يُذكِّر الله عباده فيها بشأن القلوب، وأعمالها وسرائرها، مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم، كما ينبهُ تعالى من خلال هذه الآيةِ على أن هذه السرائر ستبلى وتختبر يوم القيامة، ويظهر ما فيها من الإخلاص، والمحبة والصدق، أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء.

وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها، حيث يقول الله تبارك وتعالى: }إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ{[الطارق: 10].

والقلب هو محطُّ نظر الله عزَّ وجلَّ، وعليه يدور القبول والرد، كما قال رسول الله e: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"([133]).

والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله تعالى، ويوضحُ هذا الأمر قوله e: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب"([134]).

ويشرح هذا ما نقله أبو نعيم في حلية الأولياء عن وهب قوله: (ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عِرْقُها [جذرها].

إن نُخر العِرق [الجذر] هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها.

فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء.

كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرةً صالحة، يصدق الله بها علانيته؛ فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق [جذر] الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها.

وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عزَّ وجلَّ) ([135]).

ويقول ابن قيم الجوزية في تفسير قوله تعالى: }يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ{: (وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها) ([136]).

وقال أيضًا في تفسير الآية: }يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ{ أي: تختبر، وقال مقاتل: تظهر وتبدو، وبلوت الشيءَ إذا اختبرته، ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينهُ وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُختبر ذلك اليوم، حتى يظهر خيرُها من شرها، ومؤدِّيها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له؛ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يُبدي الله يوم القيامة كل سرٍ فيكون زيناً في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم) ([137]).

مما سبق يتبين عظم شأن القلب والسريرة، حيثُ إنَّها محطُّ نظر الله عزَّ وجلَّ، وعليها مدارُ القبول عنده سبحانه وتعالى، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن الخاتمة وسوؤها، وكلما صلحت السريرة نمت الأعمال الصالحة، وزكت، ولو كانت قليلةً والعكس، من ذلك في قلة بركة الأعمال، حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها، وهذا هو الذي يفسر تفوق أصحاب رسول الله e على غيرهم، ممن جاء بعدهم، والذي قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادةً وقربات.

حيث إنَّ أساس التفاضلِ بين العباد عند الله عزَّ وجلَّ، هو ما وقرَ في القلب من سريرةٍ صالحة، حشوها المحبة والتعظيم، والإخلاص لله تبارك وتعالى.

فعن عبد الله بن مسعود t قال: (أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله e، وهم كانوا أفضل منكم، قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم) ([138]).

وعن القاسم بن محمد قال: كنَّا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطرُ ببالي فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضِّل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحجَّ إنا لنحج.

قال: فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيتٍ إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح، فمكث هنيهةً ثم جاء بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعلهُ حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة؛ ذَكَر القيامة([139]).

وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل، والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه وتعالى، ومن ذلك:

* قول عمر بن الخطاب t: (القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله عزَّ وجلَّ، فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه) ([140]).

* وعن عثمان t قال: (ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه).

* وعن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثـل مالك، ليس لهُ كثيرُ صلاة ولا صيام، إلاَّ أن تكون له سريرة([141]).

* وعن خالد بن صفوان قال: لقيتُ مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد: أخبرني عن حسن أهل البصرة قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلمٍ أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمرٍ كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيءٍ كان أتركُ الناس له، رأيتهُ مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضل قوم هذا فيهم([142]).

* وعن الحسن البصري قال: (ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك) ([143]).

* وعن ابن عيينة قال: (إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور) ([144]).

* وعن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد، ما بال كلام السلف أنفعُ من كلامنا؟! قال: لأنَّهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلمُ لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق([145]).

* ويقول ابن القيم: (فكل محبةٍ لغيره ـ أي لغير الله ـ فهي عذابٌ على صاحبها، وحسرةٌ عليه، إلاَّ محبته، ومحبة ما يدعو إلى محبته، ويعين على طاعته ومرضاته، فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر) ([146]).

ونكتفي بهذه المقتطفات من وصايا السلف الصالح، في إصلاح السرائر، لنتعرف على بعض العلامات الدالة على صلاح السريرة، وسلامة القلب، ومنها نعرف ما يضادها من المظاهر، التي تدل على فساد في السريرة ومرض في القلب.

ومن هذه العلامات:

 * عناية العبد بأعمال القلوب، ومنها إخلاص الأعمال والأقوال لله عزَّ وجلَّ، ومحاولة إخفائها عن الناس، وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس. ويضاد ذلك الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وحب الظهور.

* التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها، ويضاد ذلك الكبر والعجب، والولع بنقد الآخرين.

* الإنابة إلى الدار الآخرة، والتجافي عن الدنيا، والاستعداد للرحيل، وحفظ الوقت، وتدارك العمر، ويضاد ذلك الركون إلى الدنيا، وامتلاءُ القلب بهمومها ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة، وقلة ذكر الله عزَّ وجلَّ، وتضييع الأوقات.

 * سلامة القلب من الحقدِ والغلِ والحسد، ويضادُ ذلك امتلاؤه بهذه الأمراض، والعياذ بالله.

* التسليم لأمر الله  تبارك وتعالى، وأمر رسوله e دون السؤال: لماذا وكيف؟، ويضاد ذلك الولوع بالمتشابهات، والخواطر الرديئة.

* الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، والجهاد في سبيله جلَّ وعلا، ومحبة كل داعيةٍ إلى الخير والحق، والدعاء له والتعاون معه على البر والتقوى، ويضاد ذلك القعود عن تبليغ دين الله عزَّ وجلَّ، وعدم الاهتمام به، بل إذا صفى له مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، فلا يهمه بعد ذلك شيء، وقد لا يقفُ الأمر في فساد السريرةِ عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى مناصبة الداعين إلى الحق العداء، أو التشهير بهم، والتشكيك في نواياهم، ومحاولة إحباط جهودهم الخيرة.

* شدة الخوف من الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرةِ بالتوبة والإنابة من الذنب، ويضاد ذلك ضعف الوازع الديني، وقلة الخوف من الله جلَّ وعلا، بحيث إذا خلا المرء بمحارم الله عزَّ وجلَََّ انتهكها، وإذا فعل معصيةً لم يتب منها، بل أصر عليها وكابر وتبجح.

* الصدق في الحديث، والوفاء بالعهود وأداء الأمانة، وإنفاذ الوعد، وتقوى الله عزَّ وجلَّ في الخصومة، فكلُّ هذه الخصال تدلُ على صلاحٍ في السريرة؛ لأنَّ أضداد هذه الصفات إنما هي من خصال المنافقين، الذين فسدت سرائرهم، كما أخبر بذلك الرسول e بقوله: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر"([147])، ويدخل في ذلك ذو الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه.

* قبول الحق والتسليم له، من أي جهة كان، ويضاد ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل، وإتباع الهوى في ذلك.

ويحسنُ الإشارةُ إلى بعض الثمرات العظيمةِ لصلاح السريرة، وذلك فيما يلي:

*- نزول الطمأنينة والسكينة في قلبِ من صلحت سريرته وثباته، أمام فتن الشبهات والشهوات، وابتلاءات الخير والشر.

* - إلقاء المحبة لمن صلحت سريرته بين الناس، مما يكون لهُ الأثر في قبول كلامه ونصحه، وأمره ونهيه.

* - أثر صلاح الباطن والسريرة في حسن الخاتمة، حيث ما سمع ولا علم - ولله الحمد - بأن صاحب السريرة الصالحة، والقلب السليم قد خُتم له بسوء، وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته، وباغتهُ الموت قبل إصلاح الطوية.

*- القبول عند الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة، ومضاعفة الحسنات، وتكفير السيئات، قال الله عزَّ وجلَّ: }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً{[الطلاق: 5].

وقال تعالى: }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{[المائدة: 27].

*- تفريج الكربات، وإعانة الله عزَّ وجلَّ للعبد عند حدوث الملمات والضائقات، كما حصل لأصحاب الغار الذين آواهم المبيت إليه، وسألوا الله تعالى بصالح أعمالهم ففرَّج الله عنهم.

*- الهداية إلى الحق، والتوفيق إلى الصواب، عندما تحتار العقول والأفهام.

 

 

ذو الوجهين

 

ذاك الذي يلقاك بالود والبشر وربما أخذك بالأحضان وحين تنصرف عنه فهو الحية الرقطاء.

أي إنسان هذا الذي يتلون بمئة لون وشكل؟.

ومن القواعد المقررة شرعاً وعقلاً وعرفاً أننا نأخذ البشر بالظاهر، والله يتولى السرائر، وحسب المسلم من أخيه ما يعلنه.

أما ما نشاهده اليوم من مظاهر النفاق الاجتماعي (اللباقة أو الديبلوماسية) فهو مظهر غريب وشاذ يتنافى مع أبسط قيم الدين أو الأخلاق.

 

 

ما يكدر صفاء العلاقة الأخوية

 

1- النية المشوبة بشوائب الدنيا: علينا أن نصفي أخوتنا من المزاجية وغيرها، لابد أن تكون هذه الأخوة خالصة لله عز وجل: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ..." ([148]).

فما كان لله فهو المتصل، وما كان لغير الله فهو المنقطع.

2- التهاجر والتدابر: قال رسول الله e: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس؛ فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً؛ إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا"([149]).

والهجر إذا كان لله فهو جائز, فقد صح عن رسول الله e أنه أمر بهجر الثلاثة الذين خُلّفوا.

3- الجدال والمراء: فالجدال والمراء يوحش القلوب، ويوغرها لاسيما إذا أصبح لحظ النفس لا لإظهار الحق.

وفي الحديث: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"([150]).

4- الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها, أما تمني مثلها لنفسة فهي الغبطة وهي جائزة.

ولاشك أن الحسد مفسد للأخوة أيما إفساد، بل أنه مفسد للأعمال الصالحة.

وقيل يا رسول الله: مَن خير الناس؟ فقال: "كل مؤمن مخموم القلب"، فقيل وما مخموم القلب؟ فقال: "هو التقي النقي الذي لا غش فيه، ولا بغي، ولا غدر، ولا غل، ولا حسد"([151]).

5- التنافس على بعض الأمور الدنيوية: ويحدث التنافس بأن يشتركا في محاولة الوصول لهدف واحد لا يتسع إلا لأحدهما، فلابد أن يكون الفائز أو الحاصل على الشيء واحد، فيحصل بينهما تنافس عليه مما يوغر الصدور، ويفسد الأخوة ويكدرها؛ كالتعامل المالي إذا لم يكن هذا التعامل بالإطار الشرعي المطلوب، ولم تدخله المسامحة المطلوبة بين المسلمين فإن هذا يكدر الأخوة.

6- الأثرة وحب الذات: وهذا يقود إلى عدم تطبيق حقوق الأخوة وآدابها.

جاء في فتح الباري ‏:‏ (...وقوله في الحديث ‏"‏ لا يُقيم الرجل أخاه ‏"‏ لا مفهوم له بل ذكر لمزيد التنفير عن ذلك لقبحه؛ لأنه إن فعله من جهة الكبر كان قبيحا، وان فعله من جهة الأثرة كان أقبح".

7- السخرية والتهكم بالآخرين حتى ولو كان عن طريق المزاح.

عن الحسن قال: قال رسول الله e: "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنة، فيقال له: هلم هلم! فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاءه أغلق دونه، فما يزال كذلك، حتى إن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة، فقال له: هلم، فما يأتيه من الإياس"([152]).

8- الوصول لدرجة التعلق: قال رسول الله e: "ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه‏"([153]).

9- عدم مراعاة حقوق الأخوة وآدابها: فقد أوصى عمر بن الخطاب t بوصية جامعة فقال: (عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم؛ فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يُقليك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، لا تطلعه على سرّك).

جعلنا الله من المتحابين فيه، ورزقنا محبة المؤمنين والقيام بحقوقهم.


صدق على طول الخط:

 

إن التاريخ الإسلامي يحدثنا ـ بكل فخر ـ عن واحد من المؤمنين الصادقين الذين باعوا حياتهم الدنيا بالآخرة؛ فكانت قلوبهم طاهرة سليمة، ونفوسهم نقية تقية، وكلماتهم صادقة صريحة، ومواقفهم واضحة لا لبس فيها ولا تدليس، وسلوكهم في حياتهم الاستقامة والثبات.

فرضوا بما قضى الله تعالى لهم وما قدر.

إنه أبو ذر الغفاري t، ويكفيه فخراً وعلواً منزلة وقدراً أن رسول الله e قال في حقه: "ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر"([154]).

 


إخلاف الوعد من النفاق

والأصل وفاء بالوعد دائم:

 

إخلاف الوعد خصلة ذميمة من خصال المنافقين، حذر منها الشارع الحكيم أيما تحذير، كما أن صدق الوعد خلق كريم حث عليه الإسلام، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرسه في نفوس أصحابه، حتى إننا نجد أنهم ترجموا هذا الخلق إلى منهج عملي تمثلوه في واقعهم.

جاء الإسلام ليعلي وليشيد إشادة كريمة بخلق الصدق في الوعد، وليشن حملة ضارية على نقيضها ألا وهي إخلاف الوعد.

فها هو القرآن يثني على نبي من الأنبياء بصدق الوعد، فيخاطب الله تعالى رسولَه محمداً r بقوله: ]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً[[مريم: 54].

ويُلاحَظُ أن الله جل جلاله قَدَّم صدقَ الوعد على الرسالة والنبوة، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هذا الخلق الكريم إنما هو بمثابة المقدمة الضرورية للرسالة والنبوة.

وعن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله: "لا يعد أحدكم صبيه، ثم لا يُنْجِز له"([155]).

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة t قال: جاء رسول الله e إلى بيتنا، وأنا صبي صغير فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعال أعطيك، فقال رسول الله e: "‏ما أردتِ أن تعطيه؟"، قالت: أردتُ أعطيه تمراً، قال e: "لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة"([156]).

وعن عليٍّ t عن رسول الله e أنه قال: "‏العدةُ دين، ويلٌ لِمَن وعد ثم أخلف، ويل له، ويل له"، ثلاثاً([157]).

وفي الأمر بالوفاء بالوعد، والنهي عن الخلف فيه: أحاديث منها:

عن عبادة بن الصامت t أن رسول الله e قال: "‏اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم"([158]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e: "‏لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تَعِدُه موعداً فتخلفه"([159]).

وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن النبي e قال: "مَن عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم؛ فهو مَن كَمُلَت مرؤته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحَرُمَت غيبته"([160]).

الأنصار والوفاء بالوعد:

لقد ربى رسول الله r الرعيل الأول على أخلاق الإسلام، فضربوا للتاريخ كله أروع المثل على صدق الوعد وعلى الوفاء بالعهد، وأكدوا أن الإسلام ما أنزل إلا ليُحَوَّل إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي، وإلى سلوك واقعي تطبيقي.

جلس ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ينتظرون رسول الله r ليعقدوا معه بيعة العقبة الثانية.

يقول كعب بن مالك الأنصاري t يحدثنا([161]): (اجتمعنا في الشعب عند العقبة، وقد واعدنا رسول الله r هناك، فجلسنا ننتظر رسول الله r، فجاء رسول الله r ومعه عمه العباس بن عبد المطلب t، وكان ما زال على دين قومه، فكان أول متكلمٍ هو العباس، فقال العباس بن عبد المطلب: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه؛ فإنه في عز من قومه، ومنعة في بلده، إلا أنه أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن أنتم أنجزتم له ما دعوتموه إليه فأنتم وذلك، وإن أنتم رأيتم أنفسكم أنكم خاذلوه وأنكم مسلموه فدعوه من الآن؛ فإنه في عز من قومه ومنعة في بلده.

يقول كعب بن مالك: فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت يا عباس، فتكلم أنت يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

يقول كعب: فتكلم رسول الله r فقرأ القرآن ودعا إلى الله جل وعلا، وبايعنا على أن نمنعه مما نمنع منه أبناءنا ونسائنا، ووعدنا الجنة).

وفي رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال الأنصار: (علام نبايعك يا رسول الله؟، قال r: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا لله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا أتيت إليكم، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم).

يقول كعب: (فأقبل إليه البراء بن معرور t وأخذ بيد رسول الله r وقال: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله! لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فوالله إنا لأهل الحروب وإنا لأهل الحلقة، ولسوف ترى منا ما تقر به عينك، فبايعنا يا رسول الله).

وفي رواية جابر بن عبد الله، يقول: (فقاطع البراء بن معرور وهو يتكلم أبو الهيثم بن التيهان t فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال ـ أي: بيننا وبين اليهود ـ حبالاً ـ أي عهوداً ـ وإنا قاطعوها؛ فإن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله أترجع إلى قومك وتدعنا؟.

فقال رسول الله r مبتسماً: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، أنا منكم وأنتم مني".

وفي رواية جابر: (قام أسعد بن زرارة t ليبين للأنصار خطورة هذه البيعة وخطورة هذا العهد، فلما نظر إليهم قال له الأنصار: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر: فقمنا إلى رسول الله r نبايعه رجلاً رجلاً ويعدنا على ذلك الجنة).

وتمضي الأيام، وهاهي الأيام تمر، تجر خلفها الشهور، وتسحب معها السنين، ويأتي أول اختبار على صدق هذا الوعد والعهد والبيعة للأنصار في غزوة بدر الكبرى.

ويرى رسول الله r أن الأمر ولا محالة فيه قتال، فيستشير r ويقول: "أشيروا علي أيها الناس"، فيتكلم أبو بكر t الصادق الكريم، فيحسن الصديق t القول فيدعو له النبي r بخير، ويتكلم الفاروق عمر بن الخطاب t ويحسن الكلام فيدعو له النبي r بخير، ويتكلم المقداد t فيقول: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه.

ولكن المتكلمين أبو بكر وعمر والمقداد كانوا من المهاجرين، ورسول الله r يريد أن يستمع إلى رأي الأنصار؛ لأن رحى الحرب ستدور على كواهلهم وسواعدهم، فهم الكثرة الكاثرة في جيش رسول الله r، فقال رسول الله r ملتفتاً إلى الأنصار: أشيروا علي أيها الناس، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم، سعد بن معاذ t.

فقال سعد: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل يا سعد"، قال سعد: يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله حيث شئت، والله لا يتخلف عنك منا رجل واحد، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله يا رسول الله)، فسُرَّ رسول الله r.

هؤلاء هم الرجال الأبطال، أهل الصدق والوفاء.

العرب والاعتزاز بالوفاء بالوعد:

وليس الأمر مرتبط بالإسلام فحسب، بل كان خلق الوفاء بالوعد من أخلاق العرب قبل الإسلام، وأُورِد قصة من اعتزاز عربي قبل الإسلام بوفاء الوعد.

فقد كان العرب قديماً يعتزون بصدق الوعد، وينقمون نقمة شديدة على من يخلفه، ومن أجمل ما ورد في هذا: أن النعمان بن المنذر ـ وكان ملكاً على الحيرة قبل الإسلام ـ كان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم؛ فإذا لقيه أحد في يوم بؤسه قتله وأرداه، وإذا لقيه أحد في يوم نعيمه قربه وأعطاه وحباه.

وفي يوم من أيام بؤسه لقيه رجل من قبيلة طيء، فعلم الطائي أنه مقتول لا محالة بعد ما علم أن هذا اليوم للنعمان بن المنذر هو يوم بؤسه.

فاقترب الطائي من النعمان بن المنذر وقال: حيا الله الملك، حيا الله الملك، لقد خرجت وتركت أولادي على شفا تَلَفٍ من الجوع، وقد خرجت اليوم مبكراً أبحث لهم عن رزق، ففتح الله عليَّ بصيد هذا الأرنب، فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم والرجوع إليهم لأطعمهم ولأوصي بهم، وله عليَّ وعد وعهد أن أرجع إليه مرة أخرى في الموعد الذي يحدده حتى أضع يدي في يده.

فَرَقَّ له النعمان بن المنذر وقال له: لن أسمح لك بالرجوع إليهم إلا إذا ضمنك رجل منا، فضمنه رجل ممن مع الملك، يقال له، شريك بن عمرو بن شراحيل، وقال للملك: أنا أضمنه، قال: إن لم يرجع قتلناك مكانه، قال: افعل.

فانصرف الرجل الطائي فأطعم أولاده وأوصى بهم.

وفي الوقت المحدد عاد فوقف بين يدي النعمان بن المنذر، فوقف النعمان منبهراً بهذا الخلق، ومبجلاً لهذا الصدق، ومُكْبِراً لهذه الأخلاق.

ونظر إلى الطائي، وقال: أيها الرجل! لقد صدقْتَ في وعدك حتى لم تترك للصدق بعد ذلك سبيلاً.

ونظر النعمان إلى شريك بن عمرو الذي جاد بحياته ضامناً لهذا الرجل وقال: أما أنت يا شريك بن عمرو فقد جدت وأكرمت حتى لم تدع للجود سبيلاً.

ثم قال النعمان : والله لا أكون ألأم الثلاثة، فكافأ الطائي وأطلقه، ورفع يوم بؤسه.

فأنشد الطائي بين يديه قائلاً:

ولقد دعتني للخلاف([162]) عشيرتي            فأبيت عند تجهم الأقوال

إني امرؤ مني الوفاء سجية                  وفعال كل مهذب مفضال

هذه شيم الرجال، وأخلاقهم، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، فما ظنكم بدينٍ ركنه وعماده هو الأخلاق، فما جاء الإسلام إلا ليعلي وليشيد بنيان الأخلاق.

حكم إخلاف الوعد:

لخص الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم أحكام إخلاف الوعد، فقال:

(وإخلاف الوعد ينقسم إلى قسمين:

الحالة الأولى: أن يعد الإنسان وفي نيته ألا يفي بالوعد فقد وقع في الخلف والكذب.

أما الحالة الثانية: أن يعد وفي نيته أن يفي بوعده، ولكن يطرأ عليه طارئ بحال، فيخلف وعده من غير عذر له في الخلف، وهذا أيضاً من إخلاف الوعد).

ويضاف إلى هاتين الحالتين حالة: أن يعد الإنسان وفي نيته أن يفي بوعده إلا أنه ينسى.

ومَن وقع في هذه الحالة فلا إثم عليه للأدلة الصريحة الصحيحة في ذلك ومنها:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل قوله تعالى: ]رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[[البقرة:286]، قال الله جل وعلا: قد فعلت) ([163]).

 ولما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ([164]).

 


الأمانة([165])

كثير من الناس يتعامل مع هذا الخلق تعاملاً جزئياً، يقول: أنا أمين، ولا يمكن أن آخذ أي شيء من ملك غيري، وإذا أعطاني أحد أمانة أو وديعة فإني أعيدها إليه.

وعكس الأمانة: الخيانة، وجميع الناس يكرهون هذا الخلق.

قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{[الأنفال: 27]، يحذرنا الله تبارك وتعالى أن تخونه، ومعنى أن تخون الله؟ هو أن تترك أوامر الله.

ولا تخونوا رسول الله، كيف يمكن أن أخون رسول الله e؟، خيانة رسول الله أن تترك سنة من سننه، ولم تنشرها بين الناس.

يقول الله تبارك وتعالى: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا{[النساء: 58].

إذن إياك أن تخون أمانة الله ورسوله بأن تضيع دينه.

هل تخيلت المرأة أن عدم حجابها خيانة لله ولرسول الله e.

هل تخيلت أن تركك الصلاة في المسجد خيانة لرسول الله e.

يقول رسول الله e: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".

ويقول رسول الله e عندما جاءه رجل يسأله: متى الساعة؟ فقال له رسول الله e: "إذا ضيع الأمانة فانتظر الساعة".

وكأن الأمانة سنة كونية مثلها مثل الشمس والقمر، فإذا غابت الشمس والقمر قامت القيامة، وإذا ضاعت الأمانة قامت القيامة.

فقال رجل: وما ضياعها؟ فقال له رسول الله e: "إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.

أنواع الأمانات:

  • أمانة المال والودائع

قال رسول الله e: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمنه الناس على دمائهم وأرواحهم".

الأمانة في البيع والشراء والمهن 

يقول رسول الله e: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".

نجد بعض الأطباء يطلبون من المرضى أشعة ويقومون بتحويلهم لمراكز أشعة مع عدم حاجة المريض لها،  وهي مجرد منافع بين الطبيبين، إنها خيانة الأمانة.

الميكانيكي الذي تعطيه سيارتك وأنت لا تفهم فيها شيء ويطالبك بفاتورة تغيير بعض الأشياء في السيارة والتي لم تكن تحتاج لتغيير، إنها خيانة للأمانة.

كل من يتحايل في مهنته للحصول على حقوق من الغير فهو غير أمين.

أمانة حفظ الأسرار:

يقول رسول الله e: "إذا حََّث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة".

ومعناه: أني إذا كنت أجلس معك وحدثتك بأمر، ثم التفت يميناً ويساراً لأتأكد أن لا أحد يسمعني فهي أمانة أنت تحملها دون أن أقول لك ذلك.

ويقول رسول الله e: "إن من أعظم الأمانة على الله يوم القيامة أن يُفْضِيَ الرجل لامرأته بالحديث وتفضي إليه ثم ينشر سرها".

ونحن نرى ما يحدث عندما ينفصل الزوجين، فضائح لا حصر لها وليعلم كل من فعل ذلك في لحظة غدر وخصام سيسأل يوم القيامة من الله عز وجل سؤال شديد عن هذه الأمانة.

فما بالكم إذا كان هذا في غير خصام أو طلاق.

زوجة تجلس مع صديقاتها تقص عليهن كل ما يحدث بينها وبين زوجها.

زوج يجلس مع أصدقائه ليحكي عما يحدث بينه وبين زوجته.

أمانة التعامل مع المرأة

كثير من الشباب يتعامل مع المرأة وهو ينوي سوءاً ويضمر شراً بها.

و أعظم مثل ضربه الله عز وجل في القرآن للعلاقة بين المرأة والرجل لتتعلم: قصة موسى عليه السلام.

وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ{[القصص: 23 – 26].

هذا هو التوازن في التعامل مع المرأة ليس بالشكل الذي يرفض ويحرم التعامل مع المرأة بتاتاً، وليس بالشكل المتهور أو الزائد عن الحد.

وقد وصفته بنات شعيب بالأمين، لأن المرأة تعلم مدى أمانة الرجل في التعامل معها والحفاظ عليها من لفتة عينيه.

أمانة التعامل مع الزوجة:

الرجل الذي يتزوج ويعتقد أنه بذلك ملك المرأة ويفعل فيها ما يشاء ويحلوا له.

أنسيت أن بينكما عقد الزواج، وهو الميثاق الغليظ، يقول الله تبارك وتعالى: } وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا{[النساء: 21].

فالزوج الذي يمنع زوجته أن تذهب لتزور أهلها هو خائن للأمانة.

كثير من الأزواج يعتقد أنه صاحب فضل في سماحه لزوجته أن تزور أهلها.

أمانة الأبناء مع أهلهم

من يأخذ من مال أبيه وأمه دون أن يعلمون، ويقول إنه القليل من المال.

الفتاة التي تتعرف على شاب من دون معرفة أهلها ضيعت الأمانة.

الشاب الذي يصاحب فتاة بدون علم أهلها خائن لأبيها وأمها.

الأمانة هي أن تحافظ على كل ما أعطاك الله من النعم.

وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوماً أن ترد الودائع.

أولادك أمانة، هل ربيتهم جيداً؟ ليس فقط الإنفاق عليهم، بل أمانتك فيهم أن تربيهم على الدين.

صحتك أمانة، والمدخنون يخونون أمانة صحتهم.

العين أمانة، والنظر بها إلى الحرام يعد خيانة.

اللسان أمانة.

الوجه الجميل، والشعر الجميل الذي رزقك الله إياه يعد أمانة.

المال أمانة.

أمانة الحفاظ على الدين والحفاظ على الإسلام:

صيانة الدين، أنت مسئول عن الإسلام وستسأل عنه يوم القيامة.

القرآن الذي تقرأه، الدرس الذي حضرته، أمانة ستسأله عنها يوم القيامة.

يقول ابن تيمية: (لا تظن أن الأمانة أن تتوضأ برطل من الماء وتصلي ركعتين في المحراب إنما الأمانة أن تحمل هذا الدين، وتحمله للناس).

 


آداب معاملة الناس وذكر الصحبة والأخوة:

 

مصداقاً لقول رسول الله e: "‏‏المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً"([166])؛ فإن للصحبة آداباً يقتضي الإتيان بها باعتبار ذلك حقاً من الحقوق في التشريع الإسلامي.

الأخوة الإيمانية امتداد لمحبة الله وتوحيده([167]):

ثبتت رابطة الإخوة بين المؤمنين بقوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[[الحجرات: 10]، فهي رابطة بعقد الله سبحانه وتعالى، وإن أول ما يميز هذه الرابطة أنها ليست لمصالح شخصية ولكنها صحبة وإخوة في الله سبحانه وتعالى.

فمفهوم الأخوة الإسلامية امتداد لمحبة الله تعالى وتوحيده، فالمحبة والموالاة للمؤمنين هي لازم لمحبة الله وموالاته، فمن أحب الله وولاه لا بدّ أن يحب من يحبه الله سبحانه وتعالى ومن يقرب من الرسل والصديقين والمؤمنين.

يقول الله سبحانه وتعالى: ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[[التوبة: 71].

فالأخوة الإيمانية أن نشعر بأن كل مؤمن على وجه الأرض هو أخ لنا، له من الحقوق ما له وعليه من الواجبات ما عليه، في أي بقعة كان ومن أي شعب أو لغة كان ما دام على عقده وميثاقه التوحيدي مع الله سبحانه وتعالى.

فالأخوة الإيمانية فوق كل الحواجز والعلائق الأرضية، وفي هذا إلماحة إلى ضلال الذين يفرقون المسلمين على أساس ولاءات عصبية، وجنسيات مقيتة، تفتت الأمة وتمزقها، وتضع الحدود التي تفصل بين أبنائها.

ورحم الله القائل:

أخي المسلم في كل مكان وبلد    أنت مني وأنا منك كروح في جسد

فضل التآخي بالله والتحابب فيه([168]):

وردت نصوص كثيرة في بيان فضل الأخوة في الله، والتلاقي عليه، والتحابب فيه، ورتبت عليها الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، من هذه النصوص:

1- الأخوة في الله نعمة الله وفضله:

يقول الله سبحانه وتعالى: ]وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[[آل عمران: 103].

فجعل المولى عز وجل الأخوة منحة إلهية، ونفحة ربانية يهبها الله للمخلصين الصادقين، يمحى بها الأحقاد، ويزيل بها العداوة والبغضاء، فتتوحد القلوب، وتتآلف  النفوس.

2- الأخوة في الله طريق لمحبة الله تعالى:

إن تحصيل محبة الله تعالى غاية المؤمنين، وقد بينت النصوص أن محبة الله تعالى تتحصل بمحبة الأخوان وحسن عشرتهم، ومواساتهم وموالاتهم، والتزاور بينهم.

ورد عن رسول الله r: "أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟، قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟، قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ"([169]).

 وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ الشَّامِ فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا، وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ، وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: أَاللَّهِ، فَقُلْتُ أَاللَّهِ، فَقَالَ: أَاللَّهِ، فَقُلْتُ: أَاللَّهِ، فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ"([170]).

3- المتآخون في الله في ظل الله تعالى:

روى أبو هريرة t قال: قال رسول الله rr: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟!!، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي"([171]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ  - وذكر منهم -  وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ"([172]).

4- منازل المتآخين في الله غبطة الأنبياء والشهداء:

قال رسول الله r: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟، قَالَ: "هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ؛ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ"، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ]أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[[يونس: 62]([173]).

5- الأخوة في الله طريق لحلاوة الإيمان واستكمال عراه:

يقول رسول الله r: "مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ"([174]).

ويقول رسول الله r: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"([175]).

ويقول رسول الله r: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"([176]).

حقوق الأخوة وآدابها

إن الأخوة الإيمانية واجب ديني، وفريضة شرعية، وليست مجرد موقف نفسي أو تنظير فلسفي، بل هي مجموعة من الأعمال تظهر إلى حيز الوجود، وتعبّر عن حقيقة الأخوة وفيما يأتي بيان مجمل لواجبات الأخوة، من خلال مجموعة من النصوص الشرعية.

وعلى كل مؤمن أن يراجع نفسه، ويرى علاقته بأخوته ومدى تطابقها مع تعليمات الشريعة السمحة.

فالأساس الذي تقوم عليه علاقة المسلم بأخيه أن يحب له ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"([177]).

فإذا التزم المسلم مع أخيه بهذا الأساس فإنه بالتأكيد سيقوم بحقوق الأخوة كاملة.

وحقوق الأخوة:

منها حقوق عامة يلتزم بها المسلم مع أخيه المسلم.

ومنها حقوق خاصة تضاف إلى الحقوق العامة تكون بين المتآخيين.

ومن هذه الحقوق والآداب:

1 ـ محبة الأخ لأخيه في الله وحسن موالاته، والمداومة على صحبته وإخوته ما دام على عقد الإيمان:

الحب في الله:

أن يحب المؤمن أخاه المؤمن؛ لا يحبه إلا لله تعالى، ولا يشوب هذا الحب طمع مادي، ولا مصادفة عارضة، ولا نزوة هوى، ولا نفاق اجتماعي.

أن يحبه لله، وفي الله، وفي سبيل الله، وقد جاء في الحديث عن رسول الله e: "ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، أُولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من هم يا رسول الله؟، قال e: "هم المتحابون في الله".

وفي حديث آخر عن رسول الله e: "إذا كان يوم القيامة، ينادي منادٍ: أين جيران الله في داره؟ فيقوم عَنَق من الناس، فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون لهم: ماذا كان عملكم فصرتم جيران الله في داره؟ فيقولون: كنا نتحاب في الله، ونتباذل في الله، ونتزاور في الله عز وجل، فينادي مناد: صدق عبادي، خلّوا سبيلهم؛ لينطلقوا إلى جوار الله بغير حساب".

شواهد واقعية:

سيقول الذين في قلوبهم مرض: الحب في الله مثالية خيالية.

فنقول لهم: لدينا آلاف الشواهد الواقعية، منذ فجر الإسلام حتى يومنا الحاضر لمؤمنين وحّدهم الإيمان فتحابّوا في الله:

في بدء الدعوة وفي إحدى المعارك الإسلامية يسقط مسلم جريح، فيطلب ماءاً، فيؤتى له بالماء، فيقول: اسقوا أخي هذا فإنه سقط قبلي!! فيعرض الماء على الجريح الثاني، فيقول اسقوا أخي هذا ـ مشيراً إلى جريح ثالث ـ فإنه سقط قبلي!! فيؤتى له بالماء، فيجدونه ميتاً!! ويعودون إلى الجريح الثاني فيجدونه قد استشهد!! ويسرعون إلى الجريح الأول فيرونه قد فارق الحياة!!.

إنهم تحابّوا في الله فآثر كل منهم أخاه على نفسه، فماتوا عطاشى، ودمهم يسقي التراب.

إن الحب في الله لا يتيسر إلا للذين آمنوا، والذين صفت نفوسهم، وزكت أرواحهم، وطهرت قلوبهم، وغمر نور الإسلام عقولهم، فصلحت أعمالهم، وسمت أخلاقهم، فاستحقوا أن يدخلوا الجنة بغير حساب.

وإذا كانت الجنة لا تُنال إلا بالإيمان الذي يستقر في القلب وتصدقه الأعمال عبر الجوارح؛ فإن دخول الجنة من غير حساب لا يكون إلا بالحب في الله، وهو أعلى مراتب الإيمان، قال رسول الله e: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم – يعني حصل لكم الإيمان – أفشوا السلام بينكم"([178]).

وفي بيان وجوب محبة الإخوة في الله، ما جاء عن رسول الله r: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا"([179]).

ويقول ابن هشام في السيرة النبوية: (خطب رسول الله r الناس مرة، فقال: إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، تبارك وتعالى، قد أفلح مَن زَيَّنَهُ الله في قلبه، وأدخله الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تَقْسَ عنه قلوبكم؛ فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتى الناس الحلال والحرام؛ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، اتقوه حق تقاته، اصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكس عهده، والسلام عليكم)([180]).

وقد أرشد رسول الله r المؤمنين أن يخبروا بعضهم  بهذه المحبة، روى أنس بن مالك t قال: (مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ r وَعِنْدَ النَّبِيَّ r رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا فِي اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:"أَخْبَرْتَهُ بِذَلِكَ؟"، قَالَ: لَا، قَالَ: "قُمْ فَأَخْبِرْهُ تَثْبُتْ الْمَوَدَّةُ بَيْنَكُمَا"، فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ أَنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، أَوْ قَالَ أُحِبُّكَ لِلَّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي فِيهِ)([181]).

وأرشد المصطفى r المؤمنين أن يتعاهدوا هذه المحبة وينموها عن طرق متعددة، منها الإهداء من غير تكلّف فقال رسول الله r: "تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ"([182]).

وأرشدهم r إلى السلام لإدامة المحبة فقال r: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا؛ أَوَ لَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ".

وعلى ذلك فإن المحبة بين المؤمنين هي ركن الأخوة الذي تدور عليه، فينبغي على  المتحابين في الله، أن يتفقدوا أنفسهم وقلوبهم بين وقت وآخر، وينظروا هل خالط هذه المحبة ما ينغصها ويكدرها ويخرجها عن حقيقتها أم لا.

2- المواساة وحسن الصحبة والعشرة:

لقوله e‏:‏ "‏لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"([183]).

وقال عمر بن الخطاب t‏:‏ ‏(‏ثلاث يصفين لك ود أخيك‏:‏ أن تسلم عليه إذا لقيته، وتَوَسِّع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه‏)‏‏.

فصاحب إخوانك على الوفاء والصدق بالإخلاص، دون الرغبة والرهبة والطمع‏.

قال الإمام الشافعي: "لا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غمّ يعدل فراقهم".

وروي عن أبي عمرو العوفي قال: (كان يقال اصحب من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك (أي أعطاك مونة)، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سقطة سترها، ومن إن قلت صدق قولك، وإن أصبت سدد صوابك، ومَن لا يأتيك بالبوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق).

وقال الحريري‏:‏ ‏(‏تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زماناً طويلاً حتى رق الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ‏قلَّ الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار ‏الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة‏)‏‏.‏

وتكون المواساة وحسن الصحبة بعدة نقاط منها:

أً ـ حسن الظن:

هـ- إحسان الظن وسلامة الصدر:

وحمل ما يصدر عنهم من كلام على أحسن المحامل.

فقد نهينا عن ظن السوء فإنه أكذب الحديث، كما في حديث أبا هريرة t قال: قال رسول الله r: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيث، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا، وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ"([184]).

ويقول الله تعالى: ]يا أيها الَّذِين َ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا[[الحجرات: 12].

فالأصل حمل كلام الإخوة على أحسن الوجوه ما وجدت ذلك‏.‏

قال سعيد بن المسيب رحمه الله‏:‏ ‏(‏كتب إلي بعض إخواني من الصحابة أن: ضع أمر أخيك على الأحسن ما لم تغلب‏)‏‏.

وفيما يتعلق بسلامة الصدر قال تعالى على لسان المؤمنين في الدعاء: ]وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[[الحشر: 10] ويقول المصطفى r: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ"([185]).

بً‌ ـ حفظ العهد:

وملازمة الأخوة والمداومة عليها وترك الملل؛ فقد قال رسول الله e‏:‏ "‏أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ"([186]).

وإن وقعت بينهم وحشةٌ أو نفرة؛ فلا يترك كرم العهد، ولا يفشي الأسرار ‏المعلومة في أيام الأخوة‏.

وينشد لبعضهم‏:

نَصِلُ الصَديقَ إِذا أَرادَ وِصالَنا      وَنَصُدُّ عِندَ صُدودِهِ أَحيانا

إِن صَدَّ عَنّي كُنتُ أَكرَمَ مُعرِضٍ     وَوَجَدتُ عَنهُ مَذهَباً وَمَكانا

لا مُفشياً بَعدَ القَطيعَةِ سِرَّهُ بَل       كاتِمٌ مِن ذاكَ ما اِستَرعانا‎

 

ومن ‎دوام العهود: ألا يتغير عن إخوانه إذا حدث له غنىً‏، أو زيد له في جاه.‏

وأنشد المبرد‏:‏

لَئِن كانَت الدُنيا أَنالتكَ ثَروةً    وَأَصبَحتَ مِنها بَعدَ عُسرٍ أَخا يُسرِ

لَقَد كَشَفَ الإِثراءُ عَنكَ خَلائِقاً   مِن اللؤمِ كانَت تَحتَ سِترٍ مِن الفَقرِ

جً – وجوب العَود عليه بالفضل والزيادة: فينزل المسلم أخاه المسلم منزلة الصاحب لديه، فيقوم بحاجته من فضل ماله إذا احتاج، ولا ينتظر سؤاله فإن ألجأه إلى السؤال فهو دليل على تقصيره في حق أخيه.

روى أن رجلاً جاء أبي هريرة فقال: إني أريد أواخيك في الله فقال: أتدري ما حق الإخاء في الله؟ قال له: عرفني!، قال: ألا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني! فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة بعد. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: فدعك عني.

وقد استند أبو هريرة t في كلامه إلى مجموعة من الأحاديث تؤكد هذه الحقيقة، وإليك طرفاً منها:

عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ r إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ"([187]).

ثم يرتفع بعض المؤمنين الصادقين إلى مرتبة الإيثار فيقدم إخوانه على نفسه فيلحق بأولئك الأفذاذ الذين خلد ذكرهم المولى عز وجل في القرآن الكريم: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[[ الحشر: 9]، فيصبح من المفلحين الذين يغبطهم الشهداء والنبيون.

دً – طيب الكلام والمبسم والبشاشة في وجه الأخوة ورد السلام والفرح باللقاء:

والسعي في حاجته والقيام بخدمته: "... وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ..." ([188]).

وللقيام بالحاجات مع البشاشة والاستبشار مراتب: أدناها القيام بذلك عند السؤال، وأوسطها القيام بها دونما سؤال، وأعلاها تقديمها على حوائج النفس.

وإن طيب الكلام وحسنه بين الأخوة، مدعاة لجلب المحبة ودوامها وفي هذا يقول المولى عز وجل: ]وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[[ البقرة: 83].

وقد وصف الله عباده الصالحين أنهم طيبي الكلمة فقال عز وجل: ]وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ[[ الحج: 24].

والقول الطيب والكلام الحسن يبطل كيد الشيطان ويسد أمامه الطريق للإفساد والتفريق بين الإخوة، وفي ذلك يقول تعالى: ]وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[[الإسراء:53]، ورسول الله r يقول: "وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"([189]).

ومن طيب الكلام أن يدعوا أخاه بأحسن أسمائه، وأحبها على قلبه يقول رسول الله r: "ثلاث يصفين لك ود أخيك؛ تسلم عليه إذا لقيته، وتُوَسِّع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه"([190]).

والتبسم و البشاشة في وجه الأخوة من موجبات الأخوة الإيمانية، وكذلك هو من وسائل كسب القلوب؛ لأن الوجه عبارة عن المرآة التي تعكس ما هو موجود في داخل أعماق الإنسان.

فإذا كان الوجه طليقاً بشوشاً كان موحياً بالبشر والمحبة في نفس المقابل.

أما عن كان عبوساً مظلماً فلا شكَ أنه يوحي في قلب المقابل بالضيق والاشمئزاز وعدم الانشراح.

يقول رسول الله r: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"([191]).

وإما إفشاء السلام، فهو أدب من آداب الإسلام الاجتماعية، وقد أمر الإسلام المسلمين به، فالمسلم مطالب بأن يسلّم على من عرف من المسلمين ومن لم يعرف، ومكلف أن يرد التحية بمثلها أو بأحسن منها، قال تعالى: ]وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا[[النساء: 86].

وقال r:"لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"([192]).

ومصافحته إذا لقيه: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا"([193])، فضل عظيم ومع ذلك نفرط فيه.

ونداؤه بأحب الأسماء إليه: قال عمر t: [ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وأن توسع له في المجلس، وأن تناديه بأحب الأسماء إليه].

هـً – خفض الجناح ولين الجانب والتواضع وحسن الخلق و إقالة العثرات والتزاور في الله والتهنئة وتفقد الحال:

وملاطفته بالكلام: لما ورد من حديث أنس t قال: قال رسول الله e: "مَن لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك، سره الله عز وجل يوم القيامة"([194]).

وقال عليُّ بن أبي طالب t: مَن لانت كَلِمته وَجَبت محبّتُه([195]).

يقول الله سبحانه وتعالى: ]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[[الفتح: 29]، ويقول الله سبحانه وتعالى: ]وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ[[الشعراء:215]، وقال تعالى في وصف المؤمنين الذين يرضى سلوكهم: ]أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ[[المائدة: 54].

ويصف لنا أصحاب رسول الله r تواضعه ولين جانبه فيقولون: يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكليته صغيراً كان أو كبيراً، وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا أقبل جلس حيث انتهى به المجلس، وكان يشتري بضاعته من السوق ويحملها، وكان r يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويمشى في خدمة أهله وأصحابه ويأكل مع الخادم.

أما عن حسن الخلق فهو السبيل لكسب قلوب الناس، ولكسب رضى المولى عز وجل، يقول رسول الله r: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"([196])، فالالتزام بحسن الخلق بين الأخوة، يحيي نور الإيمان، ويجمع القلوب، ويفتح قنوات العلاقات الحميمة.

أما عن التزاور في الله، وتفقد الحال، فإن تبادل الزيارات ظاهرة من ظواهر المجتمع المسلم؛ لأن من شأنه أن يدعم أواصر الجماعة، ويقوي روح الجماعية ويوسع مجالاتها، ويمد آثارها، ويقوى المودات، ويزيد وشائج الصلات.

قال رسول الله r: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا"([197]).

وً- السعي بالشفاعة الحسنة:

قال الله تعالى: ]مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا[[النساء:85]، وفي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى t قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، قَالَ: "اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ r مَا شَاءَ"([198]).

وفي هذه النصوص حثّ على المعونة بالشفاعة الحسنة، والمعونة خلق (حب العطاء).

والشفاعة: تقوية لطلب صاحب الحاجة، حيث يمنح الشفيع من جاهه ومكانته لدى مَن شفع عنده، فإذا قال ـ في شفاعته ـ قولاً حسناً فقد منحه من كلامه، وإذا سار معه مسافة ليشفع له فقد منحه من جهده ووقته، وإذا خسر من ماله شيئاً في هذا السبيل فقد منحه من جهده وقته، وإذا خسر من ماله شيئاً في هذا السبيل فقد منحه أيضاً ماله، وإذا شاركه في مشاعره وأحاسيسه فقد منحه أيضاً من قلبه ونفسه.

زً ـ إظهار الفرح والبشاشة:

وبشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وبسط اليد، وكظم الغيظ، وترك الكبر، وملازمة الحرمة، وإظهار الفرح بصحبتهم وأخوتهم‏.

حً‌ ـ سلامة القلب وإسداء النصحية:

ومنها سلامة قلبه للإخوان، والنصحية لهم وقبولها منهم؛ لقوله تعالى‏:‏ }‏إِلّا مَن أَتى اللَهَ بِقَلبٍ سَليمٍ{[الشعراء: 89].

وقال السقطي رحمه الله‏:‏ ‏(‏من أَجَلِّ أخلاق الأبرار سلامة الصدر للإخوان، والنصيحة لهم‏)‏.

ومنها ألا يعدهم ويخالفهم فإنه نفاق‏.

وقال الثوري رحمه الله‏:‏ ‏(‏لا تعد أخاك وتخلفه فتعود المحبة بغضة‏)‏‏.

وأنشدوا‏:

 يا واعِداً أَخلفَ في وَعدِهِ ما الخُلفُ مِن سيرَةِ أَهلِ الوَفا

ما كانَ ما أَظهَرتَ مِن وُدِّنا إِلّا سِراجاً لاحَ ثُمَ اِنطَفا

طً ـ الحمد على الثناء:

فمن حقوق الأخوة أن يحمدهم على حسن ثنائهم وإن لم يساعدهم باليد؛ لقوله e‏:‏ "‏نية المؤمن أبلغ من عمله"([199]).

قال عليٌّ كرم الله وجهه‏:‏ ‏(‏من لم يحمل أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن ترك الحسد).

‎يً ـ الإيثار والإكرام‎:

قال الله تعالى‏:‏ }‏وَيُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ{[الحشر: 9].

ويكرمهم، قال أبو عثمان‏:‏ ‏(‏من عاشر الناس ولم يكرمهم وتكبر عليهم فذلك لقلة رأيه وعقله؛ فإنه يعادي صديقه ويكرم عدوه؛ ‏فإن إخوانه في الله أصدقاؤه ونفسه عدوه‏)‏‏.‏

‎كً ـ حفظ الأسرار:

قال رسول الله e‏:‏ "‏استعينوا على حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي ‏نعمة محسود"([200]).

ولبعضهم‏:‏‎ ‎

لَيسَ الكَريمُ الَّذي إِن زَلَّ صاحِبُهُ بَثَّ الَّذي كانَ مِن أَسرارِهِ عَلِما‎ ‎

إِنَّ الكَريمَ الَّذي تَبَقى مَودَّتُهُ وَيَحفَظُ السِرَّ إِن صافى وَإِن صَرَما‏

‎لً ـ المشاركة في السراء والضراء:

ومنها أن يشارك إخوانه في المكروه والمحبوب؛ بحيث لا يتلون عليهم في الحالين جميعاً‏.‏

3- البعد عن إيذاءه:

وأعرض بعض أشكال الإيذاء:

أ ـ اجتناب سوء الظن، والتجسس، والتناجش، والتحاسد، والتباغض والتدابر: كما في الحديث: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا"([201]).

فلا يحسد المرء إخوانه على ما يرى عليهم من آثار نعمة الله، بل يفرح بذلك، ويحمد الله على ذلك كما يحمده إذا كانت عليه؛ فإن الله تعالى ذم الحاسدين على ذلك بقوله‏:‏ }‏أَم يَحسُدُونَ الناسَ عَلى ما أتَاهُمُ اللَهُ مِن فَضلِهِ{[النساء: 54]،‏ وقال e‏:‏ ‏"كاد الحسد أن يغلب القدر"([202]).

ب- اجتناب ظلمه وخذلانه وترك احتقاره: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ..." ([203]).

ج ـ إقلال العتاب:

إذ لا بد من العتاب بين الإخوة، وقد استبقاك مَن عاتبك، لكن أن يصبح طبعاً للأخ فكلما لقي أخاه عاتبه، فهذا يورث النفرة والفرقة بين الأخوين.

قال عليّ بن أبي طالب t: لا تَقْطع أخاك على ارتياب، ولا تهجره دون استِعْتاب.

وقال أبو الدَّرداء t: مَن لك بأَخيك كلّه.

وقال رجلٌ لمُطِيع بن إياس: جِئّتُك خاطباً مَوَدَّتك؛ قال: قد زَوَّجتكها على شرط أن تجعل صَداقها أن لا تَسمع فيَّ مقالَ الناس. ([204]).

والإغضاء عن الصديق في بعض المكاره، وينشد‏:‏

     صَبَرتُ عَلى بَعضِ الأَذى خَوفَ كُلِّهِ وَدافَعتُ عَن نَفسي بِنَفسي فَعَزَّتِ

     فَيا رُبَّ عِزّ ساقَ لِلنَّفسِ ذُلَّها          وَيا رُبَّ نَفسٍ بِالتَذلُّلِ عَزَّتِ

     وَجَرَّعتُها المَكروهَ حَتّى تَجَرَّعَت وَلَو لَم أُجَرِّعها كَذا لاشمَأَزَّتِ

وأنشد ثعلب‏:‏

أُغمِّضُ عَيني عَن صَديقي تَجَسُّماً   كَأَنّي بِما يَأتي مِن الأَمرِ جاهِلُ

ولبعضهم‏:

    إِذا كُنتَ في كُلِّ الأُمورِ مُعاتِباً         صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه

    فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ        مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً وُمُجانِبُه

    إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى   ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه

د ـ عدم التمادي في الخصام:

ومنها ألا يغرق في الخصومة، بل يترك للصلح موضعاً.

فقد روي عن رسول الله e أو عن علي كرم الله ‏وجهه‏: ‏(‏أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما‏)‏‏.‏

قيل لأبي سفيان‏:‏ ‏(‏بم نلت هذا الشرف؟، قال‏:‏ ما خاصمتُ رجلاً إلا جعلت للصلح بينناً موضعاً‏)‏‏.‏

هـ ـ قبول عذره:

من فاعله صدق أو كذب، وفي الحديث: "مَن اعتذر إلى أخيه بمعذرة فلم يقبلها, كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس"([205]).

ولبعضهم‏:

أَقبَل مَعاذيرَ مَن يَأتيكَ مُعتَذِراً       إِن يَروِ عِندَكَ فيما قالَ أَو فَجَرا

فَقَد أَطاعَكَ مَن أَرضاكَ ظَاهِرُهُ      وَقَد أَجَلَّكَ مَن يَعصيكَ مُستَتِرا

وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ ‏(‏المؤمن طالب عذر إخوانه والمنافق طالب عثراتهم‏)‏.

و ـ ترك المداهنة:

ومنها ترك المداهنة في الدين مع من يعامله‏.‏

قال سهل بن عبد الله التستري‏:‏ ‏(‏لا يشم رائحة الصدق مَن داهن نفسه، أو غيره‏)‏‏.‏

ز ـ ترك الاستخفاف:

ومعرفة كل واحد من الأخوة ليُكْرَم على قدره‏.‏

قال ابن المبارك رحمه الله:‏ ‏(‏مَن استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته‏)‏‏.‏

ح ـ التسامح عن الزلات التي قد تصدر من الأخ، ولزوم الصفح والعفو عن الإخوة‏.‏

لأن الأخ ليس معصوماً، ومن طلب أخاً بلا عيب صار بلا أخ.

قال رسول الله e: "‏اصنع المعروف إلى من هو أهله، فإن لم تصب أهله فأنت أهله"([206]).

وينشد لابن أبي النجم‏:

اِصنَعِ الخَيرَ ما اِستَطَعتَ           وَإِن كُنتَ لا تُحيطُ بِكُلِّهِ

فَمَتى تَصنَعُ الكَثيرَ                 إِذا كُنتَ تارِكاً لِأَقَلِّهِ

قال أحدهم لابن السماك: غداً نتعاتب، قال: بل غداً نتغافر.

ويقول الإمام الشافعي: مَن صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسدَّ خلله، وعفا عن زللِه.

قال هلال بن العلاء‏:‏ ‏(‏جعلت على نفسي ألا أكافئ أحداً بشرٍ ولا عقوقٍ اقتداءً بهذه الأبيات‏:‏

   لمّا عَفَوتُ وَلَم أَحقِد عَلى أَحَدٍ       أَرَحتُ نَفسِيَ مِن غَمّ العَداواتِ

   إِنّي أُحيّي عَدَوِّي حينَ رُؤيَتِهِ        لِأَدفَعَ الشَرَّ عَنّي بِالتَحيّاتِ

   وأَظهِرُ البِشرَ لِلإِنسانِ أَبغِضُهُ       كَأَنَّهُ قَد حُشيَ قَلبي مَسَرّاتِ

   وَمَن لَم يُغمّض عَينَهُ عَن صَديقِهِ    وَعَن بَعضِ ما فيهِ يَمُت وَهُوَ عاتِبُ

   وَمَن يَتَتَبَّع جاهِداً كُلَّ عَثرَةٍ يَجِدها    وَلا يَسلَم لَهُ الدَهرُ صاحِبُ

‎ط ـ العفو عن الهفوات:

ومنها العفو عن هفوة الإخوة في النفس والمال دون أمور الدين؛ لقوله تعالى‏:‏ }‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{[النور: 22].

ي ـ ألاَّ يمن عليه بمعروف: فإذا أعانه، أو واساه بالمال، أو سعى في حاجته، أو قام بخدمته لا يمن عليه بهذا المعروف، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة:264].

 بل يشكر ما يصل إليه منهم‏.‏

قال عروة‏:‏ كتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة وجعلها في ثني وسادته التي يتكئ عليها، فقلب عبد الله الوسادة، فبصر بالرقعة فقرأها وردها إلى موضعها وجعل مكانها كيساً فيه خمسمئة دينار، فجاء الرجل فدخل عليه فقال له‏:‏ قلبت النمرقة فخذ ما تحتها، فأخذ الرجل الكيس وخرج وهو ينشد‏:

زادَ مَعروفَكَ عِندي عِظَماً           أَنَهُ عِندَكَ مَيسورٌ حَقير

تَتَناساهُ كَأَن لَم تَأتِهِ                وَهُوَ عِندَ الناسِ مَشهورٌ كَبير

ك ـ طلب النصح منه: وذلك لأنك لا تبصر كل عيوبك، ولا تعرف كل ذنوبك، فإذا طلبت منه النصح؛ بصرك بها، فعرفتها وتجنبتها.

يقول الحسن: [قد كان من قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجل الرجل، فيقول يا أخي: ما كل ذنوبي أبصر، وما كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني، وإذا رأيت شراً فانهني].

ل ـ تقليل الخلاف معه بقدر الإمكان:

فإن كثرة الخلاف قد توجب البغضاء.

فإن وجد الخلاف أحياناً فلا بد من التأدب بآداب الخلاف المعروفة.

سئل ذو النون: مَن أدوم الناس عناء? قال: أسوءهم خلقاً، قيل: وما علامة سوء الخلق? قال: كثرة الخلاف. حلية الأولياء.

م ـ موافقة الإخوة:

وقلة الخلاف مع الأخوة، فلزوم موافقتهم فيما يبيحه العلم والشريعة أحق وأولى‏.

ن ـ عدم المواجهة بما يكره:

ومنها ألا يواجههم بما يكرهون فإن رسول الله e نهى عن ذلك‏.

4 - الدعاء له بظهر الغيب:

ففي الحديث: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ"([207]).

5 - مساعدته، ومحاولة تخفيف وقع الأمور عليه:

فإذا سرَّه شئ بادرت إلى تهنئته، وإظهار الفرح والسرور بذلك.

‏عن أبي هريرة t‏ قال: قال رسول الله e: "مَن نَفَّس عن مؤمن كربة ‏من ‏كرب‏ الدنيا‏ نَفَّس ‏الله عنه ‏‏ كربة ‏‏من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"([208]).

6- إعانته على ما يقربه إلى الله ويبعده عن سخطه:

فالواجب الأخوي يدعوك لتعينه على أعمال الخير بعامتها، كأن تذكره بأن غداً مثلاً أول أيام البيض، ليتذكر موعد الصيام، وهكذا تعينه على أعمال الخير جميعاً.

وكذلك تعينه في الابتعاد عما يغضب الله إذا رأيه سيرتكب ذنباً أعنته في الابتعاد عنه، وهكذا.

يقول تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[سورة العصر].

ويقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر ﴾[التوبة: 71].

7- ردعه عن الظلم والعدوان:

قال رسول الله e: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوماً فانصره"([209]).

وحُكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة، فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة، وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه.

وإن لأدب الصحبة، وحسن المعاملة أوجهاً:

وسأبين ما يدل على أخلاق المؤمنين وآداب الصالحين.

لقد جعل الله المؤمنين بعضهم لبعض رحمةً وعوناً؛ ولذلك قال رسول الله e‏: "‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر‏"([210]).

وقال e‏:‏ "‏المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً"([211]).

وقال e‏:‏ "‏الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"([212]).

فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً وفقه لمصاحبة الصالحين، ومعاشرة المؤمنين، ورفقة أهل الصلاح والدين، ونزهه عن صحبة أهل تحسين العيوب.

قال ابن مازن‏:‏ ‏(‏المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم).

وقال حمدون القصار‏:‏ ‏(‏إذا زل أخ من إخوانك فاطلب له تسعين عذراً؛ فإن لم يقبل ذلك فأنت المعيب‏)‏‏.

معاملة المؤمن، والموثوق بدينه وأمانته ظاهراً وباطناً‏.

قال الله تعالى‏:‏ }لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنونَ بِاللَهِ وَاليَومِ الأَخِرِ يُوادّونَ مَن حادَّ اللَهَ وَرَسولَهُ{[المجادلة: 22].

 

واجبات دينية ذات طابع اجتماعية فما بين الإخوة:

 

لقد أوجب الإسلام واجبات عديدة لإدامة صلة الأخوة الإيمانية، وزيادة المحبة فيما بينهم، وفيما يلي بيان جملة من الواجبات والمستحبات بشكل موجز([213]):

أ- قبول الهدية واستحباب الإثابة عليها:

  فالهدية تزيد المحبة بين الأخوة، وتنمي المودة، وهذا ما عبر عنه رسول الله r بقوله: "تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ"([214])، وخصوصاً إذا كانت الهدية بعد مناسبة من نجاح أو زواج أو نحوه.

وكان من هدي النبي الكريم r أن يَقبَل الهدية ويثيب عليها، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا)([215]).

ب- إجابة الدعوى:

فإذا دعا المسلم أخاه المسلم إلى دعوة طعام أو غيره، فمن حقه عليه أن يجيب دعوته، إلا إذا عنده عذر شرعي يعتذر به.

فدعوة المسلم لأخيه المسلم صلة اجتماعية تعبر عن مودّة وأخوّة، وهذه الصلة تستدعي أن تقابل بالاستجابة، لا بالرفض، والمستجيب يعقد من طرفه حبل الصلة الذي مده إليه أخوه.

قال r: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"([216]).

ج- ستر المسلم لأخيه المسلم :

عن أبي هريرة t عن النبي r: "من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"([217]).

فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن يستره ولا يفضحه، والله تعالى يكافئه من جنس عمله فيستره يوم القيامة.

فإذا اطلع المسلم على خطيئة أو معصية أو نقيصة وقع بها أخوه المسلم بينه وبين ربّه، ولم يجاهر بها أمام الناس، بل تستر بها وتوارى واستحيا فيها، فما الغرض من فضيحته ونشر خطيئته بين الناس إذا كانت من الأمور التي لا تتعلق بها حقوق شخصية للآخرين، أو حقوق عامة ترتبط بها مصالح المسلمين الكبرى؟.

وإرادة الفضيحة هي من قبيل إشاعة الفاحشة وفعل السوء في المسلمين، وتعبَر عن رذيلة خُلُقِية في الإنسان.

وقد أنذر الله سبحانه وتعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة فقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[[النور: 24].

د- تشميت العطاس:

إن تشميت العاطس ينم عن ذوق رفيع في مجالس المسلمين.

فالمسلم يتصيَّد أدنى مناسبة ليدعو لأخيه المسلم بدعوة كريمة، وليوجّه له كلمة حلوة، يجذب بها من قلبه خيطاً من خيوط العواطف الإنسانية، التي تنسج بها وشائج المودة والمحبة، وتوثق بها روابط الإخاء.

وحين يتلقى العاطس الدعاء له من إخوانه يشعر في ذات نفسه بأن شركاءه في المجلس قد اهتموا بشأنه، عند هذه العارضة اليسيرة التي تعرض لها، فدعوا له بالرحمة، فكيف يكون اهتمامهم به إذا نابه شيء كبير، وعندئذ يردّ لمن دعا له بالرحمة.

(أما الدعوة بإصلاح البال فهي زيادة بارعة تشير إلى أن سبب البدء بالدعوة بالرحمة انشغال بال الأخ عن أخيه، إذ سمعه عطس وحمد الله تعالى، فكأنه يقول له: ولا أقلق الله بالك على نفسك أو أخ أو قريب أو حبيب)([218]).

د- الدعاء للإخوان بكل خير في حياتهم و شهود الجنازة والدعاء بالمغفرة والرضوان بعد مماتهم:

فقد ورد عن رسول الله r: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ"([219]).

وأما اتباع جنازته، فهو صلة من المسلم لأخيه المسلم موصولة من حياته إلى ما بعد مماته، واتباع الجنائز يلحقها الصلاة على الميت، والشفاعة له عند الله، وهذا أيضاً صلة عظيمة له بخير ما ينفعه بعد موته وهي الدعوة الصالحة، وتعبير صادق مخلص لا رياء فيه ولا سمعة، عن الأخوة الإيمانية التي عقدها الله بين المؤمنين، يضاف إلى ذلك ما في اتباع الجنائز من مواساة لأهل الميت وذويه المصابين بفقده، وهم بحاجة ماسة إلى من يواسيهم ويعزيهم ويصبرهم على مصابهم، ويشاركهم مشاركة وجدانية كريمة.

قال r: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ".

وقال الله تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[[الحشر: 10].

 


رابعاً: محاذير في طريق الأخوة([220]):

 

1-الغيبة والنميمة والتجسس والسخرية والتعيير والغمز:

  نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يغتاب بعضهم بعضاً، فقال تعالى: ]وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[[الحجرات: 12].

وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟"، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"([221]).

فمن ذكر أخاه في غيبته بما يكره مما هو فيه فتلك هي الغيبة، ومن ذكر أخاه في غيبته بما يكره مما ليس فيه، فقد بهته، أي كذب عليه واتهمه بما ليس فيه.

والغيبة من القبائح الاجتماعية؛ لما فيها من تقطيع أواصر الأخوة الإيمانية، وإفساد المودات، وبذر بذور العداوات، وذلك لأن الغيبة في الغالب لا تبقى سرّاً، بل يصل العلم بها لمن ذُكِر بما يكره في غيبته، وعندئذٍ يغضب ممَن ذكره، ويحقد عليه، وينتقم منه بمثل عمله أو بأقبح منه.

ثم إن في نشر معايب الناس بين الناس تشجيع على الاستهانة بها وارتكاب مثلها أو أقبح منها، لا سيما إذا كان المتحدث عنه من المعروفين بالاستقامة، أو من مستورين هذا الحال، أو ممن يشار إليه بالبنان، أو من الدعاة إلى الخير.

وللتنفير من الغيبة جعلها الله مثل من يأكل لحم أخيه ميتاً، فقال تعالى: ]وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[[الحجرات: 12].

وأما التجسس والتحسس، فالتجسس على الناس هو تبع عوراتهم وهم في خلواتهم، إما بالنظر إليهم وهم لا يشعرون، وإما باستراق السمع وهم لا يعلمون، وإما بالاطلاع على مكتوباتهم ووثائقهم وأسرارهم وما يخفوه من أعين الناس دون أذن منهم.

وقد نهى الله المؤمنين عن التجسس على إخوانهم المؤمنين، ما داموا ظاهري الاستقامة غير مجاهرين بالمعصية، وكان ما يخفونه من أمورهم من السلوك الشخصي الذي يخّصهم، ولا يتعلق بكيد يكيدونه للمسلمين.

وقد نهى الله عن التجسس؛ لأن من حق المسلم أن يخلوا بنفسه دون أن يطلع عليه أحد إلا الله، ومن حقه أن يستر قبائحه ومعاصيه إذا كان له منها شيء، وليس من حق المجتمع أن يراقبه في خلواته الخاصة، حتى يجاهر بذنبه أو يكشف صفحة نفسه وما يخفى من مخالفاته ومعاصيه.

قال تعالى: ]ولا تجسسوا[، والتجسس والتحسس كلاهما يولد في المجتمع الأحقاد، ويورث العداوات والبغضاء؛ إذ يشعر المتجسس عليه بأنه مشكوك في أمره غير موثوق، وهما يكشفان عورات الناس، ويتسببان في نشر الفاحشة في الذين آمنوا.

أما النميمة، فهي السعي بين الناس بالإفساد، لتحريض الناس بعضهم على بعض، والإيقاع بينهم، وشحن قلوبهم بالعداء والضغينة، والنميمة قد تكون للإفساد بين صديقين، أو شريكين، أو زوجين، أو قريبين، أو حبيبين أو أسرتين، أو قبيلتين، أو شعبين، أو دولتين، أو أي فريقين، بينهما صلات، ومودات.

وهي أخبث وسائل التفريق الشيطانية، وقد أبان رسول الله r أن النمام لا يدخل الجنة، فعن حذيفة قال رسول الله r: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ"([222]).

أما فيما يتعلق بالغمز واللمز والتعيير والسخرية.

فاللمز هو أن يعيب الإنسان أخيه في وجهه بكلام ولو خفيّ، ورب لمز خفي هو أشد من طعن صريح، وأعمق من جرحاً في داخل النفس؛ لأنَ فيه بالإضافة إلى الطعن والتجريح بالعيب معنى استغباء الملموز واستغفاله، فكأن اللامز يشعر اللذين في المجلس أن الملموز غبي لا ينتبه إلى الطعن الذي يوجه ضده في رمز الكلام.

واللمز والغمز قبيحة اجتماعية تورث الأحقاد والأضغان، وتقطع أواصر الأخوة الإيمانية، وهو ظلم وعدوان.

وفي النهي عن اللمز يقول تعالى: ] وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [ [الحجرات: 11]، ونلاحظ أن القرآن عبر عن لمز الأخ الموحد لأخيه بلمز نفسه وكأنهم جسد واحد.

وكذلك السخرية فإن السخرية تنافي ما يوجبه الحق، وهي ظلم قبيح،  وإيذاء للأخ، وعدوان على كرامته، وإيذاء لنفسه وقلبه.

ومن آثارها أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتوادّ والتراحم، وتبذر بذور العداوة والبغضاء ، وتولد الرغبة بالانتقام.

يقول الله تعالى: ]يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[[الحجرات: 11].

وهذا التحقير الاستصغار الذي تعبر عنه السخرية إما أن يكون له من ظاهر ما يسخر منه مبرر، وإما أن لا يكون له مبرر مطلقاً، وإنما كانت السخرية نوع من المقاومة العدوانية لذات الشخص المسخور منه، أو لفكرته أو لعمله.

وكلا الأمرين ظلم قبيح وعدوان منكر يقول رسول الله r: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ"([223]).

فهذه المنكرات الاجتماعية لها أثر كبير في تمزيق الأخوة وتشقيق جسدها، وبذر بذور الحقد والضغينة، وهو ما لا يرضاه المولى عز وجل، وهو ما لا يجب أن يظهر في المجتمع المسلم. 

2- الغضب  والحسد يحرقان الأخوة :

    الغضب شعلة محرقة للأخوة الإيمانية، وتنزع بالإنسان لسلوك الشيطان.

ومن نتائج الغضب الحقد والحسد؛ ولذلك فإن الإسلام نهى عن الغضب أشد النهي، وأرشد لعلاجه، يقول النبي r موصياً مَن طلب الوصية: "لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ"([224]).

ومدح الله سبحانه وتعالى الذين يكظمون غيظهم وغضبهم، فقال تعالى في معرض المدح: ]وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ[[آل عمران: 134]، وفي الحديث: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"([225]).

وكذلك الحسد، فهو من شر معاصي القلوب، ومعاصي القلوب أشد إثماً من كثير من معاصي الجوارح، نظراً إلى آثارها الخطيرة على السلوك.

وعلة داء الحسد ترجع إلى الإفراط في الأنانية وحب الذات، مع ضعف في الإيمان بكمال حكمة الله تعالى، الأمر الذي يفضي إلى الاعتراض على الله في حكمته.

وداء الحسد قديم في الناس، فعن الزبير قال: قال رسول الله r: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"([226]).

ونهى النبي عن الحسد فقال r : "وَلَا تَحَاسَدُوا"([227])، فالحسد يقطع وشائج المودّات، وصلات القربات، ويفسد الصداقات، ويولد الناس العداوات، ويفكك أفراد المجتمع، ويباعد بين الجماعات.

إن مثل الحسد كمثل مقراض خبيث، يمشي بين الناس فيقطع الأربطة التي تصل بعضهم ببعض على أساس الأخوة والمودة، ويضع مكانها بذرة العداوة والبغضاء والحقد.

في حين أن التربية الأخلاقية الإسلامية تبني المجتمع الإسلامي على أساس الأخوة، ذات الأربطة المتينة التي تجعل المجتمع بمثابة جسد واحد.

3- العداوة والحقد والغل:

والغل يعني: حبس أو إمساك العداوة والبغضاء في الصدر للعجز عن التشفي حالاً مع التربص أو التحين للتعبير عنها بصورة من الصور، أو شكل من الأشكال.

والحقد هو العداوة الدفينة في القلب.

والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة بالانتقام من الشخص المكروه إلى حدّ إفنائه وإلغائه من الوجود.

ومن مرادفات الحقد: الغل، والضغينة، والشحناء، فهي كلمات تدور حول معان متقاربة، ترجع بوجه عام إلى معنى العداوة.

وقد نهى الشرع الحنيف عن البغضاء، والحقد، في نصوص كثيرة، منها:

قوله r: "لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ"([228])، وهذا نص صريح في النهي عن الحقد والضغينة وعن الهجران.

ومنها قوله r: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ؛ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"([229]).

4- الكبر ورؤية الذات والغرور:

      الكبر هو إظهار الإعجاب بالنفس بصورة تجعله يحتقر الآخرين في أنفسهم وينال من ذواتهم، ويترفع عن قبول الحق.

وقد جاء الوعيد الشديد في الكتاب والسنة المطهرة على هذا الخلق الذميم، لما له من آثار مدمرة على نفس المتكبر وعلى نفوس أخوته.

فالقلوب جبلت على بغض من يترفع عليها ويحتقرها ويقلل من شأنها.

والكبر ينشر البغض بين الأخوة، كما أن المتكبر يهلك نفسه دون أن يدري، يقول رسول الله r: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"([230]).

ويتولد عن داء الكبر أنواع قبيحة من السلوك الداخلي والخارجي، فالمستكبر قد يجحد الحق الذي لغيره، ولا يعترف له به؛ لأنه لا يريد أن يخضع لغيره، أو لا يريد أن يتفوق عليه أو يساويه في الامتياز أحد.

والغرور بالنفس ينفخ في صدور المستكبرين حتى يروا أنفسهم عظماء كبراء، وهم في واقع حالهم صغار جداً.

إن شعورهم حول أنفسهم شعور هوائي صنعته الأوهام، لا يصاحبه نماء حقيقي فيما تملكه ذات المستكبر من خصائص وقوى معنوية أو مادية.

5-آفات أخرى:

تؤثِّر في الأخوة الإسلامية وتضعفها، مثل: الهجر، والجفاء، والغلظة، والغيرة، والغدر، والطمع، وسوء الظن، والشك والريبة، والشماتة، وغيرها كثير من الأمور التي نبه عليها الشرع.


أوجه المعاملة:

للمعاملة مع الناس أوجهاً‏:‏

فللمشايخ والأكابر‏:‏ بالحرمة والخدمة والقيام بأشغالهم‏.

وللأقران والأوساط‏:‏ بالنصيحة، وبذل الموجود‏، ومنها: الصفح عن عثرات الآخرين وترك تأنيبهم عليها، وقال ابن الأعرابي‏:‏ ‏(‏تناسى مساوئ الإخوان يدم لك ودهم‏)‏‏.

وللمريدين والأصاغر‏:‏ بالإرشاد، والتأدب، والحمل على ما يوجبه العلم‏.

وقال ذو النون لمن أوصاه‏:‏ ‏(‏عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهرك وتعينك رؤيته على الخير ويذكرك مولاك‏)‏‏.


مَن ذا الذي تصحبه؟

 

‎معرفة أقدار الرجال:

ومنها معرفة الرجال ومعاشرتهم على حسب ما يستحقونه، فقد قيل‏:‏ إن فتى جاء إلى سفيان بن عيينة من خلفه فجذبه، ‏وقال‏:‏ يا سفيان حدثني، فالتفت سفيان إليه وقال‏:‏ يا بني مَن جهل أقدار الرجال فهو بنفسه أجهل.

صحبة العالم العاقل:

ومنها ألا يصحب إلا عالماً، أو عاقلاً فقيهاً حليماً‏.

قال ذو النون رحمة الله عليه‏:‏ (‏ما خلع ـ أعطى ـ الله على عبدٍ من عبيده خلعةً ـ عطية ـ أحسن من العقل، ولا قلده قلادةً أجمل من العلم، ولا زيَّنَه بزينةٍ أفضل من الحلم، وكمال ذلك التقوى‏)‏‏.

صحبة الوقور:

ومنها صحبة من يُستحيا منه ليزجره ذلك عن المخالفات، فقال عليٌّ كرم الله وجهه‏:‏ (‏أحيوا الحياء بمجالسة من يُستحيا منه‏)‏‏.

وقال أحمد بن حنبل رحمه الله‏:‏ ‏(‏ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه‏)‏‏.

‎عشرة أهل الأسواق والتجار:

ومنها حسن العشرة والتعامل مع أهل الأسواق والتجار:

ألا تخلف وعدهم، وتعذرهم في خلف الوعد؛ إذ لا يمكن الخروج من حقك ‏إلا في الوقت الذي يسره الله.

فإن جاء أحد يشتري منك شيئاً ‏فالله سائقه إليك لرزقك فلا تُشِب بيعك بحَلِف ولا كذب؛ لئلا تحرم بسبب هذه الأمور المحرمة ما رزقك الله حلالاً ‏مقدراً‏.‏

واحمد الله على ربحك، وافرح بربح أخيك كفرحك بربحك؛ لقوله e: "‏لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب ‏لأخيه ما يحب لنفسه"([231]).

وإذا أمسكت الميزان فاذكر ميزان القيامة وما عليك من الحق، واحذر التطفيف؛ لقوله تعالى‏:‏ }‏وَيلٌ لِلمُطَفِفينَ{‎[سورة المطففين: 1].

وأقل من استقالك؛ أي من طلب إعادة المبيع إليك فأعد إليه الثمن؛ لقوله e: "مَن أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة"([232]).

وأرجح لمن وزنتَ له؛ فإن رسول الله e قال لوزان وَزَن لصاحب حق‏:‏ "أرجح‏".

وإذا وزنتَ لنفسك فأنقص لتيقن وجه الحل‏.‏

واحذر المطل مع الميسرة لقوله e: "‏مَطْلُ الغني ظلم"([233]).

ولا تمدح سلعتك وتذم سلعة أخيك فهو نفاق‏.‏

والزم البر والصدق.

وشِبْ بيعك بشيء من الصدقة.

واجعل خروجك للتجارة لتقضي حاجة المسلمين؛ فإن رزقك مقدر بفضل الله‏.

حسن الجوار:

ومنها ‏حسن الجوار وأن يأمنك جارك في نفسه ودينه وأهله وماله وولده لقوله e: "لا يؤمن أحدكم ‏حتى يأمن ".

وقوله e: "‏لا تؤذ جارك بقتار قدرك".

ولا تؤذه بلسانك، ولا تحسده في شيء من أحواله وأفعاله وأشفق عليه وعلى أهله وولده كشفقتك على نفسك وأهلك، واحفظ ماله كحفظ مالك.

الإخلاص في الصحبة:

مع مراعاة صلاحهم لا مرادهم، ودلالته على رشدهم لا على ما يحبونه‏.

قال أبو صالح المزي رحمه الله‏:‏ ‏(‏المؤمن من يعاشرك بالمعروف ويدلك على صلاح دينك ودنياك، والمنافق من يعاشرك بالمماذعة ويدلك على ما تشتهيه).

وقال الربيع ابن خيثم رحمه الله: ‏(‏الناس رجلان مؤمن فلا تؤذه، وجاهلٌ فلا تجاهله‏)‏‏.

‎الصبر على الهجران:

ومنها الصبر على جفاء الإخوة، وإسقاط التهمة عنهم بعد صحة الأخوة‏.

وفي وصية علقمة لابنه‏:‏ ‏(‏يا بني إذا صحبت الرجال فاصحب من إذا أخدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن تحركت بك مؤنة صانك، وإن ‏أمددت بخير مد، وإن رأى منك حسنة عَدَّها، أو سيئة سترها، وإن أمسكت ابتدأك، أو نزلت بك نازلةٌ واساك، وإن ‏قُلْتَ صدَّقك، أو حاولت أمراً أمرك، وإذا تنازعتما في حق آثرك‏)‏‏.‏

الإعراض عن الواشي النمام:

ومنها ألا يَقبل على إخوانه قول واش نمام؛ لقول الخليل بن أحمد‏:‏ ‏(‏مَن نَمَّ لك نم عليك، ومَن أخبرك خبر غيرك أخبره ‏بخبرك‏)‏.

وقال e: "لا يدخل الجنة قتات ـ نمام ـ"([234]).

 


الصداقة([235]):

قال محدثي مستفسراً: هل صحيح أن الصديق وقت الضيق؟.

فقلت: هذا مَثَل من جملة الأمثال التي توارثناها أبا عن جد، وآمنا بها إيماننا بكثير من الحقائق الثابتة، والراسخة في الوجدان دون أن ينطق بها اللسان.

قال: لكنه لم يعد ينسجم مع روح العصر الذي يسوده منطق المصلحة أولاً وأخيراً، فهي المقياس الذي يحكم العلاقات، ولا أقول الصداقات؛ لأن تعبير الصداقة أصبح بلا معنى، بل حتى الذين تحسن إليهم سرعان ما ينسون إحسانك إذا ألجأتك الظروف إليهم، فإذا احتجت إلى أحدهم أدار لك ظهره، وتَنَكَّر لما بينكما من صداقة.

قلت: الدنيا ما زالت بخير، وإن كثر أصحاب المصالح، فإن أصحاب العلاقات الحميمة ما زالوا وإن قل عددهم، والإنسان عندما يحسن لسواه فليس له أن يتوقع مقابلاً لهذا الإحسان، وإذا اعتذر أحدهم عن قضاء حاجتك، فلعل له عذر وأنت تلوم، واللوم هنا يعني أنك تنهى عن خلق وتأتي مثله، بمعنى أنك حكمت على صداقته بقدر ما يستجيب لك، أي بقدر ما يلبي من مصلحتك، ومن يفعل الخير إنما يفعله لوجه الله.

قال: ولكن الصداقة لها موجباتها، حتى لو لم أفعل الخير، فمن حقي على صديقي أن يقف معي في السراء والضراء، خاصة إذا عرفت أنه قادر على ذلك، وإلا ما معنى الصداقة إذن؟ وإذا كانت المصلحة هي منطق العصر فقل على الصداقة السلام، وما نراه الآن هو أن هذا الاتجاه بدأ يسود، ويزاحم العلاقات الحميمة والمعاني الجميلة التي كانت سائدة بين الناس.

وما فائدة الصداقة إذا كانت مجرد لفظ نتشدق به دون أن نعمل على أداء ما توجبه الصداقة من حقوق.

إن الحياة بدون صداقة تصبح جافة، وخالية من المشاعر والأحاسيس والأهداف الرائعة، والأصدقاء هم الذين يحيلون قبح الحياة إلى جمال، وسوء الحال إلى يسر وقناعة، وأزمات النفس إلى طمأنينة ويقين.

قلت: ألا يمكن أن يتحقق ذلك دون مطمع في مساعدة، أو رغبة في مصلحة؟.

قال: المسألة متشابكة ولا يمكن أن تفصل موقفا دون سواه، والعلاقة بين الأصدقاء تلغي كل هذه الإشكاليات.

إما صداقة بكل المعاني وفي كل الظروف، أو لا صداقة.

إلا إذا أردنا التلاعب بالألفاظ والمجاملات الفارغة التي تنضوي تحت لواء (النفاق الاجتماعي).

ملازمة الصديق:

ومنها ألا تقطع صديقاً بعد مصادقته ولا ترده بعد قبول‏:‏

لا تَمدَحَنَّ اِمرأً حَتّى تُجرِّبَهُ وَلا تَذُمَّنَّهُ مِن غَيرِ تَجريبِ

فَإِنَّ حَمدَكَ مَن لَم تَبلُهُ سَرَفٌ وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعدَ الحَمدِ تَكذيبُ

ومنها ألا يضيع صداقة صديق بعد ود فإنها عزيزة.

والناس ثلاثة‏:‏ معرفة وأصدقاء وإخوان؛ فالمعرفة بين الناس كثيرة، والأصدقاء عزيزة، والأخ قلما يوجد‏.‏

حفظ المودة والأخوة:

ومنها حفظ المودة القديمة والأخوة الثابتة؛ فقد دخلت امرأةٌ على ‏رسول الله e فأدناها، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ "‏إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من ‏الإيمان"([236]).

وقال محمد المغازلي‏:‏ ‏(‏من أحب أن تدوم له المودة فليحفظ مودة إخوانه القدماء‏)‏.

ولبعضهم‏:‏

ما ذاقَتِ ‏النَفسُ على شَهوةٍ          أَلَذَّ مِن حُبِّ صَديقٍ أَمين

من فاتَهُ وُدُّ أَخٍ صالِحٍ              فَذَلِكَ المَغبونُ حَقَّ اليَقين

ومعرفة حق من سبقك بالمودة، قال بلال بن سعيد‏:‏ ‏(‏مَن سبقك بالود فقد استرقك بالشكر‏)‏‏.

قضاء حوائج الإخوة:

ومنها التسارع إلى قضاء حاجة رافعها إليك؛ لقول جعفر الصادق t:‏ ‏(‏إني لأسارع إلى قضاء ‏حوائج الإخوان مخافة أن يستغنوا عني بردي إياهم‏)‏‏.

مشاهدة الإخوة:

ومنها ألا ينسيك بُعْدُ الدار كَرَم العهد والنزوع إلى مشاهدة الإخوة‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ ‏(‏من كرم الرجل حنينه إلى أوطانه وشوقه إلى إخوانه‏)‏‏.‏

رد الجواب:

ومنها المبادرة في الجواب عن كتاب الأخ وترك التقصير فيه‏.‏‎

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏إني أرى لرد الجواب حقاً، كما أرى لرد جواب السلام).

وأنشد لأبي هفان:

إِذا الإِخوانُ فاتَهُمُ التَلاقي           فَما شَيءٌ أَسَرُّ مِنَ الكِتابِ

وَإِن كَتَبَ الصَديقُ إِلى صَديقٍ      فَحَقُّ كِتابِهِ رَدُّ الجَوابِ

حفظ حرمات الصحبة والعشرة:

قال جعفر الصادق t‏:‏ ‏(‏مودة يوم صلة، ومودة سنة رحمٌ ماسةٍ؛ مَن قطعها قطعه الله عز وجل)، وقال الصادق t‏: ‏‏(‏صداقة عشرين يوماً قرابةٌ‏)‏‏.‏‎


جوامع حسن الصحبة:

 

من جوامع الكلام في حسن الصحبة:

قول ابن الحسن الوراق وقد سأل أبا عثمان عن الصحبة قال‏:‏ ‏(‏هي مع الله بالأدب، ومع الرسول e بملازمة العلم واتباع السنة، ومع الأولياء بالاحترام والخدمة، ومع الإخوة بالبِشر والانبساط وترك وجوه الإنكار عليهم ما لم يكن خرق شريعة أو هتك حرمة؛ قال الله تعالى‏:‏ }‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{[الأعراف: 199]،‏ والصحبة مع الجهال بالنظر إليهم بعين الرحمة، ورؤية نعمة الله عليك، إذ لم يجعلك مثلهم، والدعاء لله أن يعافيك من بلاء الجهل‏)‏‏.‏

 

نماذج مشرقة من الإخوة الصادقة والإخوة الإيمانية:

 

حفظ التاريخ نماذج مشرقة، وصفحات مضيئة، من صور الأخوة في الله تعالى، رسمتها شخصيات الجيل الفريد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان، وأنقل هنا بعض الصور عسى أن تكون منارة للسائرين في طريق الله تعالى: 

أ – عن أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى t قَالَ قَالَ النَّبِيُّ r: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"([237]).

ب – عن عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ، فَأَتَى النَّبِيَّ r فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ!!، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ"، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ، أَغْضَبْتُكُمْ، قَالُوا: لَا، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي"([238]).

وذلك لأنهم إنما قالوا ما قالوا تولياً لله ورسوله، ومعاداة لأعدائه، وليس لحظ النفس أو شهوة الانتقام، وشهد بذلك رسول الله r.

ج – عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ثم أهدي لرجل من أصحاب رسول الله r رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً وعياله، أحوج إلى هذا منا، قال: فبعث إليه، فلم يزل يبعث إليه واحداً إلى آخر، حتى تداولها سبعة أبيات ـ دور ـ حتى رجعت إلى الأول، فنزلت: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ[[الحشر: 9]([239]).

هـ - قضى ابن شبرمة حاجة كبيرة لبعض إخوانه، فجاء بهدية، فقال ابن شبرمة: ما هذا ؟ قال أخوه: لما أسديته إلي من معروف، قال ابن شبرمة: خذ مالك، عافاك الله، إذ سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضاءها، فتوضأ للصلاة وكبَر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى.

وهكذا  فالسلف الصالح كانوا يعيشون في ظلال الأخوة الإسلامية الوارفة متحابين متكاتفين متعاونين متفانيين رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين من إخوانهم، أشداء على الكفار، وأعزة عليهم.

فحيا على رجال نجباء يتآخون في الله، ويحيوا تاريخ أمتنا التليد، ويصوغوا فجر صحوة تهز البيرق، وتعيد المجد لأمة المجد.

 

يا أخي المسلم في كل مكان وبلد       أنت مني وأنا منك كروح في جسد

وحدة قد شادها الله أضاءت للأبد      وتسامت  بشعار  قل  هو الله أحد

يا أخي المسلم إنا دعاة الحق المبين    ورسول  الله وافى رحمة للعالمين

وكتاب الله يهدي بسناه الحائرين       وهو للكون  ضياء  وهدى للعالمين

يا أخي المسلم في كل مكان وبلد      أنت مني وأنا منك كروح في جسد

يا أخي المسلم والإسلام دين للإله     في حماه قد تساوى كل فرد بسواه

فبلال كعلي ليس من فرق  تراه      كلنا لله عبد  وله تعلوا الجباه

 

اعلموا إخوتي الكرام أن:

قوتكم في تماسككم، رغم اختلاف الأفهام.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

 

([1] ) هكذا علمتني الحياة، علي عبد الخالق القرني.

([2] ) المعجم الوسيط، حرف النون.

([3] ) http://www.alshahid.com/thqafa/gc0z0obe.htm.

([4] ) مدارج السالكين، 1/347.

([5]) رواه الترمذي، رقم الحديث (2541)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وابن ماجه، رقم الحديث (3963)، وأحمد (21008).

([6] ) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، وإحياء علوم الدين، الغزالي.

([7] ) رواه أحمد، رقم الحديث (7585).

([8]) رواه البخاري، رقم الحديث (617)، ومسلم، رقم الحديث (1041)، وأبو داود، رقم الحديث (467)، والنسائي، رقم الحديث (834)، وابن ماجه، رقم الحديث (789)، وأحمد، رقم الحديث (20314)، ومالك، رقم الحديث(268)، والدارمي، رقم الحديث (1242).

([9]) رواه البخاري، رقم الحديث (33)، ومسلم، رقم الحديث (88)، وأبو داود والترمذي، رقم الحديث (2556)، وأبو داود، رقم الحديث (4068)، والنسائي، رقم الحديث (4934)، وأحمد، رقم الحديث (6479).

([10]) رواه البخاري، رقم الحديث (32)، ومسلم، رقم الحديث (89)، والترمذي، رقم الحديث (2555)، والنسائي، رقم الحديث (4935)، وأحمد، رقم الحديث (6584).

([11]) رواه البخاري، رقم الحديث (3234)، ومسلم، رقم الحديث (4588)، وأبو داود، رقم الحديث (4229)، والترمذي، رقم الحديث (1948)، وأحمد، رقم الحديث (7039)، ومالك، رقم الحديث (1573).

([12]) رواه مسلم، رقم الحديث (113)، والترمذي، رقم الحديث (3669)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والنسائي، رقم الحديث (4936)، وابن ماجه، رقم الحديث (111)، وأحمد، رقم الحديث (607).

([13]) رواه مسلم، رقم الحديث (3533)، وأبو داود، رقم الحديث (2141)، والنسائي، رقم الحديث (3046).

([14] ) رواه مسلم، رقم الحديث (987)، والترمذي، رقم الحديث (148)، وأحمد، رقم الحديث (12462)، والنسائي، رقم الحديث (507)، ومالك، رقم الحديث (459).

([15] ) المترددة الحائرة.

([16] ) تتردد وتذهب.

([17]) رواه مسلم، رقم الحديث (4990)، وأحمد، رقم الحديث (4835)، والدارمي، رقم الحديث (320).

([18]) رواه أبو داود، رقم الحديث (4236)، والترمذي، رقم الحديث (1955)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

([19]) رواه أبو داود، رقم الحديث (2685).

([20] ) رواه أبو داود، رقم الحديث (4230).

([21]) رواه أبو داود، رقم الحديث (4239).

([22] ) رواه أبو داود، رقم الحديث (4279).

([23]) رواه الترمذي، رقم الحديث (3651)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، والنسائي، رقم الحديث (4932).

([24] ) رواه الترمذي، رقم الحديث (2608)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

([25] ) رواه الترمذي، رقم الحديث (3650)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

([26]) رواه النسائي، رقم الحديث (4952)، وابن ماجه، رقم الحديث (210)، وأحمد، رقم الحديث (18789).

([27] ) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (726)، والدارمي، رقم الحديث (447).

([28] ) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (3965).

([29] ) رواه أحمد، رقم الحديث (137).

([30] ) رواه أحمد، رقم الحديث (5118).

([31] ) ولد الضأن؛ كناية عن حقارته وهوانه.

([32] ) رواه أحمد، رقم الحديث (5562).

([33] ) رواه أحمد، رقم الحديث (7480).

([34] ) رواه أحمد، رقم الحديث (7551).

([35] ) رواه أحمد، رقم الحديث (7585).

([36] ) قليل الفطنة للشر؛ لكرمه وحسن خُلُقه.

([37] ) مخادع يسعى للفساد.

([38] ) رواه أحمد، رقم الحديث (8755).

([39] ) رواه أحمد، رقم الحديث (8793)، وأبو يعلى.

([40] ) رواه أحمد، رقم الحديث (10705).

([41] ) رواه أحمد، رقم الحديث (12940).

([42] ) رواه أحمد، رقم الحديث (21861).

([43] ) الدَّين الذي يصعب سداده.

([44] ) ما يسبب الإثم.

([45] ) استدان حتى عجز عن الوفاء بالدَّين.

([46] ) رواه أحمد، رقم الحديث (24881).

([47] ) رواه الدارمي، رقم الحديث (216).

([48] ) رواه الدارمي، رقم الحديث (509).

([49] ) النواء: المعاداة.

([50] ) رواه البخاري، رقم الحديث (2198)، ومسلم، رقم الحديث (1647).

([51]) رواه البخاري، رقم الحديث (6018)، ومسلم، رقم الحديث (5301)، والترمذي، رقم الحديث (2303)، وابن ماجه، رقم الحديث (4196)، وأحمد، رقم الحديث (10930).

([52]) رواه الترمذي، رقم الحديث (2305)، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

([53]) رواه النسائي، رقم الحديث (3086).

([54]) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (3979).

([55]) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (4192).

([56]) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (4194)، وأحمد، رقم الحديث (10822).

([57]) رواه أحمد، رقم الحديث (15493).

([58]) رواه أحمد، رقم الحديث (16498).

([59] ) رواه مسلم، رقم الحديث (5305).

([60]) رواه البخاري، رقم الحديث (32)، ومسلم، رقم الحديث (89)، والترمذي، رقم الحديث (2555)، والنسائي، رقم الحديث (4935)، وأحمد، رقم الحديث (6584).

([61]) رواه البخاري، رقم الحديث (617)، ومسلم، رقم الحديث (1041)، وأبو داود، رقم الحديث (467)، والنسائي، رقم الحديث (834)، وابن ماجه، رقم الحديث (789)، وأحمد، رقم الحديث (20314)، ومالك، رقم الحديث(268)، والدارمي، رقم الحديث (1242).

([62] ) رواه أحمد، رقم الحديث (137).

([63] ) http://alwaei.awkaf.net/mus-house/article.php?ID=55.

([64] ) رواه النسائي وابن حبان والحاكم، واللفظ له.

([65] ) من موقع المختار الإسلامي، عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف.

([66] ) يُنْظَر: مدارج السالكين، 1/347.

([67] ) طريق الهجرتين، ص 402 ـ 404، باختصار يسير.

([68] ) رواه أحمد، رقم الحديث (137).

([69] ) تفسير المناوي، 1/52.

([70] ) تفسير المناوي، 1/309.

([71] ) فتح الباري، 1/111.

([72] ) سير إعلام النبلاء، وقال الذهبي (6/382): إسناده صحيح.

([73] ) ذكره البخاري تعليقاً، (84).

([74] ) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، 2/493.

([75] ) كان عمر t يخاف من نفاق العمل لا نفاق الكفر، كما أن عمر t يخاف هذا النفاق الأصغر على نفسه في الحال وليس عند الموت فحسب، انظر تفصيل ذلك في جامع العلوم، 2/492، وفتح الباري، 1/90.

([76] ) طريق الهجرتين، ص 409.

([77] ) أخرجه ابن بطة في (الإبانة الكبرى)، 2/698.

([78] ) مدارج السالكين، 1/358.

([79] ) مجموع الفتاوى، 7/523.

([80] ) جامع العلوم، 2/492.

([81] ) مجموع الفتاوى، 17/118.

([82] ) أخرجه الخلال في السنة، 5/72.

([83]) رواه أبو يعلى، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/362): (هذا حديث حسن الإسناد).

([84] ) سير أعلام النبلاء، 11/362.

([85] ) مجموع الفتاوى، 28/433.

([86] ) رواه أحمد، رقم الحديث (21861).

([87] ) أخرجه الخلال في السنة، 5/70.

([88]) رواه البخاري، رقم الحديث (3234)، ومسلم، رقم الحديث (4588)، وأبو داود، رقم الحديث (4229)، والترمذي، رقم الحديث (1948)، وأحمد، رقم الحديث (7039)، ومالك، رقم الحديث (1573).

([89] ) فتح الباري، 10/475.

([90] ) رواه البخاري ومسلم.

([91] ) فتح الباري، 10/454.

([92] ) فتح الباري، 13/171.

([93]) رواه مسلم، رقم الحديث (4937)، والترمذي، رقم الحديث (2438)، وابن ماجه، رقم الحديث (4229)، وأحمد، رقم الحديث (16949).

([94] ) شرح النووي على صحيح مسلم، 17/67.

([95] ) أخرجه أبو نعيم في الحلية، 1/232، 233.

([96] ) بحار الأنوار، 2، 128.

([97] ) يُنْظَر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 28/438 وما بعدها.

([98] ) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

([99] ) بحار الأنوار، 65، 384 - 385.

([100] ) يُنْظَر: جامع البيان، الطبري، 17/191.

([101]) رواه مسلم، رقم الحديث (3533)، وأبو داود، رقم الحديث (2141)، والنسائي، رقم الحديث (3046).

([102] ) رواه البخاري، رقم الحديث (4503)، ومسلم، رقم الحديث (5359).

([103]) رواه البخاري، رقم الحديث (33)، ومسلم، رقم الحديث (88)، وأبو داود والترمذي، رقم الحديث (2556)، وأبو داود، رقم الحديث (4068)، والنسائي، رقم الحديث (4934)، وأحمد، رقم الحديث (6479).

([104]) رواه البخاري، رقم الحديث (32)، ومسلم، رقم الحديث (89)، والترمذي، رقم الحديث (2555)، والنسائي، رقم الحديث (4935)، وأحمد، رقم الحديث (6584).

([105]) رواه البخاري، رقم الحديث (617)، ومسلم، رقم الحديث (1041)، وأبو داود، رقم الحديث (467)، والنسائي، رقم الحديث (834)، وابن ماجه، رقم الحديث (789)، وأحمد، رقم الحديث (20314)، ومالك، رقم الحديث(268)، والدارمي، رقم الحديث (1242).

([106] ) بحار الأنوار، 2/128.

([107] ) رواه الدارمي، رقم الحديث (509).

([108] ) بحار الأنوار، 69/176.

([109] ) من موقع اليوم الإلكتروني، عدد(10615) صفحة الرأي، الإثنين 24/4/1423 هـ، 8/7/2002م.

([110]) يُنْظَر: النفاق، على رأس أسباب تخلفنا، عبد العزيز علي حسين، من موقع الوسط، يومية مستقلة سياسية، http://www.alwasatnews.com/topic.asp?tID=79297&mydate=1-11-2006.

([111] ) من خطبة للشيخ علي عيد الخالق القرني، هكذا علمتني الحياة.

([112]) نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص 460.

([113]) يًنْظَر: زمن النفاق، وأرض النفاق، موقع شبكة النبأ المعلوماتية، http://annabaa.org/nbanews/58/436.htm.

([114]) يًنْظَر: محاضرة الشيخ محمد حسان، بعنوان (إخلاف الوعد)، موقع الشبكة الإسلامية، http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=6905 .

([115]) رواه البيهقي، والغراب الأعصم هو الذي إحدى رجليه بيضاء، وقيل: الذي في جناحه ريشة بيضاء، وهي فصائل ونوعيات نادرة.

([116]) رواه مسلم.

([117]) من موقع اليوم الإلكتروني، استطلاع: نورة العتيبي، عدد 11382، صفحة الحياة، الجمعة 27/6/1425 هـ، 13/8/2004م.

([118]) من موقع اليوم الإلكتروني، تحقيق: قاسم الظـفـيري، حفرالباطن، عدد 11695، صفحة تحقيقات وتقارير، الأربعاء، 15/5/1426 هـ، 22/6/2005م.

([119]) رواه مسلم، رقم الحديث (131)، وأبو داود، رقم الحديث (3569)، وأحمد، رقم الحديث (3600).

([120]) رواه البخاري، رقم الحديث (2767)، ومسلم، رقم الحديث (1677)، وأحمد، رقم الحديث (7763).

([121]) رواه الترمذي، رقم الحديث (3830)، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، ورواه ابن ماجه، رقم الحديث (1967).

([122]) مقتطفات من موقع الوحدة الإسلامية، http://www.alwihdah.com/view.asp?cat=7&id=84.

([123] ) الرفيعة القوية.

([124] ) الماء الصافي.

([125] ) البلسم: الدواء.

([126] ) مذمم: كريه.

([127] ) من موقع جريدة الرياض السعودية، العدد: 13446، 8 ربيع الأول 1426 هـ.

([128] ) من موقع منتديات نسيج، تجليات شاعرية منثورة في أسماء الله الحسنى، 1/9/2006م.

([129] ) من موقع: http://www.brycelover.com/198/، 2/9/2006م.

([130]) رواه البخاري (1374).

([131]) رواه البخاري ومسلم.

([132] ) من مقال للشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل، على موقع (شبكة أهل السنة الإسلامية).

([133] ) رواه مسلم (2564).

([134] ) رواه البخاري كتاب الإيمان (52)، مسلم كتاب المساقات (1599).

([135] ) حلية الأولياء، 4/70.

([136] ) بدائع التفسير، 5/185.

([137] ) بدائع التفسير، 5/185.

([138] ) صفة الصفوة، ابن الجوزي، 1/420.

([139] ) صفة الصفوة، ابن الجوزي، 4/145.

([140] ) سير أعلام النبلاء، الذهبي، 2/572.

([141] ) سير أعلام النبلاء، الذهبي، 8/97.

([142] ) سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/576.

([143] ) مدارج السالكين، 1/436.

([144] ) صفة الصفوة، ابن الجوزي، 2/234.

([145] ) صفة الصفوة، ابن الجوزي، 4/122.

([146] ) روضة المحبين، ص280.

([147] ) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.

([148] ) رواه مالك وأحمد.

([149] ) رواه مسلم.

([150] ) رواه أبو داود.

([151] ) رواه ابن ماجه.

([152] ) رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن مرسل.

([153] ) رواه البخاري في الأدب المفرد.

([154] ) رواه ابن حبان والحاكم.

([155] ) رواه القضاعي في مسند الشهاب، والطبراني في الأوسط.

([156] ) رواه أحمد والبخاري في تاريخه.

([157] ) رواه الطبراني.

([158] ) رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه.

([159] ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

([160] ) أخرجه العسكري في الأمثال، والديلمي في مسنده.

([161] ) الحديث بطوله رواه الإمام البيهقي، ورواه ابن إسحاق بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله، ورواه ابن حبان أيضاً في صحيحه، و الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.

([162] ) أي: دعتني قبيلتي وعشيرتي لأن أخلف وعدك أيها الملك.

([163] ) رواه مسلم.

([164] ) رواه ابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين.

([165] ) ملخصاً من موقع عمرو خالد.

([166]) رواه البخاري.

([167]) يُنْظَر: الأخوة في الله؛ حقوق وواجبات، عبد اللطيف الفقير أبو سعد الأثري، ص 1.

([168]) يُنْظَر: الأخوة في الله؛ حقوق وواجبات، عبد اللطيف الفقير أبو سعد الأثري، ص 2 وما بعدها.

([169] )  رواه مسلم رقم  (4656) وقال النووي في شرح الحديث: و(المَدرَجة) بفتح الميم والراء هي الطريق, سميت بذلك لأن الناس يدرجون عليها, أي يمضون ويمشون، وقوله: (لك عليه من نعمة تربها) أي: تقوم بإصلاحها, وتنهض إليه بسبب ذلك.

([170]) رواه أحمد رقم (20995) وهو صحيح.

([171]) رواه مسلم رقم (4655).

([172]) رواه البخاري  رقم (620).

([173] ) أخرجه أبو داود برقم (3060)  وفيه انقطاع وباقي رجاله ثقات.

([174] )  أخرجه الترمذي برقم (2445).

([175] ) متفق عليه   خ  برقم (15)  م (60).

([176] ) متفق عليه   خ (12)  م (64).

([177] ) رواه البخاري ومسلم.

([178]) رواه مسلم.

([179] ) مسلم رقم (81).

([180] ) سيرة ابن هشام (3/30).

([181] ) رواه  أبو داود (4460)  وأحمد (130456)  بسند صحيح.

[182]   رواه مالك (1413) وهو حسن.

([183]) رواه البخاري ومسلم.

([184] ) رواه البخاري  رقم (4747).

([185] ) رواه الترمذي  رقم (2412) وقال: قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ

([186]) متفق عليه.

([187] ) مسلم (3253).

([188] ) رواه البخاري ومسلم.

([189] ) البخاري رقم (2767).

([190] ) الحاكم (5815) وهو حسن وغيره.

([191] ) مسلم رقم (4760).

([192] ) مسلم  رقم (81).

([193] ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.

([194] ) رواه الطبراني في الصغير بإسناد حسن.

([195] ) العقد الفريد.

([196] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح رقم (1082).

([197] ) رواه الترمذي  (1931) وهو حسن.

([198] ) البخاري  رقم (1342).

([199]) رواه البيهقي.

([200]) رواه الطبراني في الثلاثة.

([201] ) رواه البخاري ومسلم.

([202]) رواه الطبراني عن أنس.

([203] ) رواه البخاري ومسلم.

([204] ) العقد الفريد.

([205] ) رواه ابن ماجه.

([206]) رواه الدارقطني.

([207] ) رواه مسلم.

([208] ) رواه مسلم.

([209] ) رواه مسلم.

([210]) رواه مسلم.

([211]) رواه البخاري.

([212]) رواه البخاري ومسلم.

([213]) يُنْظَر: الأخوة في الله؛ حقوق وواجبات، عبد اللطيف الفقير أبو سعد الأثري، ص 13 وما بعدها.

([214] ) مالك بسند حسن  رقم (1413).

([215] ) رواه البخاري، رقم (2396).

([216] ) البخاري  رقم (1164).

([217] ) رواه مسلم، رقم (4677)

([218] ) الأخلاق الإسلامية، حبنكة (2/218). 

([219] ) رواه مسلم رقم (4912).

([220]) يُنْظَر: الأخوة في الله؛ حقوق وواجبات، عبد اللطيف الفقير أبو سعد الأثري، ص 16 وما بعدها.

([221]) رواه مسلم.

([222] ) رواه مسلم، رقم (151).

([223] ) رواه الترمذي رقم (1850) وقال: قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

([224] ) رواه البخاري  رقم (5651).

([225] ) رواه أبو داود وغيره رقم (4147) وهو صحيح .

([226] ) رواه الترمذي (2434) صحيح.

([227] ) رواه البخاري ومسلم.

([228] ) رواه البخاري رقم (5605).

([229] ) رواه مسلم رقم (4652).

[230]   رواه مسلم رقم (131).

([231]) رواه البخاري ومسلم.

([232]) رواه أبو داود وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم.

([233]) متفق عليه.

([234]) متفق عليه.

([235]) من موقع اليوم الإلكتروني، خليل الفزيع، عدد( 10785) صفحة الرأي، الأ{بعاء 21/10/1423 هـ، 25/12/2002م.

([236]) أخرجه الحاكم والديلمي.

([237] ) رواه البخاري رقم (3906)، أرملوا: فني زادهم .

([238] ) رواه مسلم (4559).

([239] ) رواه الحاكم، وقال هذا حديث صحيح ولم يخرجاه (2/526) وألمح الحافظ لصحته في الفتح (7/120)

عدد القراء : 13639