{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].
(Whether you show what is within yourselves or hide it, Allah will hold you accountable thereof.)
AL-BAQARAH: 284
- يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، ويقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29]، ويقول الله تعالى: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119، و154، والمائدة: 7، والأنفال: 43، وهود: 5، ولقمان: 23، وفاكر: 38، والزمر: 7، والشورى: 4، والحديد: 6، والتغابن: 4، والملك: 13].
- يقول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، ويقول الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ويقول الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25].
- في صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير الناصر، (13/ 270)، 5269 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ".
- في مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط، (43/ 29)، 25835 - عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وَعَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَقَالَتْ مَا سَأَلَنِي عَنْهُمَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، هَذِهِ مُتَابَعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ الْحُمَّةِ وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةُ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي ضِبْنِهِ [الضبْنة قال ابن الأثير: ما تحت يدك من مال وعيال ومن تلزمك نفقته]، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْكِيرِ".
- في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 118)، 34641 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَطُّ إِلَّا بَكَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]".
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، في قزله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] "فَذَلِكَ سِرُّ عَمَلِكُمْ وَعَلَانِيَتُهُ، يُحَاسِبُكُمْ بِهِ اللَّهُ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُسِرُّ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا لَيَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِهِ كُتِبَتْ لَهُ بِهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُقْدَرْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ كُتِبَتْ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَاللَّهُ يَرْضَى سِرَّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَانِيَتَهُمْ، وَإِنْ كَانَ سُوءًا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَ بِهِ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16]".
- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَقَالَ: سِرُّ عَمَلِك وَعَلَانِيَتُهُ يُحَاسِبُك بِهِ اللَّهُ، وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُسِرُّ فِي نَفْسِهِ خَيْرًا لِيَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ عَمِلَ بِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ هُوَ لَمْ يَقْدِرْ يَعْمَلْ بِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِسِرِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَانِيَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يُؤَاخِذْهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَ بِهِ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] وَهَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ".
- يَقُولُ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "إِذَا دُعِيَ النَّاسُ لِلْحِسَابِ، أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا لَمْ يَعْمَلُوهُ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَعْزُبُ عَنِي شَيْءٌ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تُسِرُّونَ مِنَ السُّوءِ، وَلَمْ تَكُنْ حَفَظَتُكُمْ عَلَيْكُمْ مُطَّلِعِينَ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْمُحَاسَبَةُ".
- عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] الْآيَةَ، قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ مِثْلَ الَّذِي هَمَّ بِهِ مِنَ السَّيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَكَانَتْ كَفَّارَتَهُ».
- عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، كَانَ يَقُولُ إِذَا دُعِيَ النَّاسُ إِلَى الْحِسَابِ، يُحَاسَبُ الْعَبْدُ بِمَا عَمِلَ، وينظر في عمله ويخبره الله بما وَمَا أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْهُ، وَلَمْ تَكُنِ الْمَلائِكَةِ، تَطَّلِعُ عَلَيْهِ حَاسَبَهُ بِمَا (أَعْلَنَ) أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَلِمَهُ اللَّهُ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. فَهَذِهِ الْمُحَاسَبَةُ.
- قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ مَا خَطَرَ بِقَلْبِ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ إنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ فَهُوَ يُحَاسَبُ بِهِ وَلَا كَلَامَ، لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ لَا بِمُجَرَّدِ خُطُورِهِ فِي الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ كَالرِّيَاءِ وَالشِّرْكِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْكَافِرِينَ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهِ بَعْضُ الْجَوَارِحِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَمَا شَابَهَهُمَا فَإِنْ خَطَرَ وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ أَيْضًا بَلْ قِيلَ: يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَوَارَاهُ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقَدَتْ عَزِيمَتُهُ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ.
- محل البحث في هذه الآية أن قوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يتناول حديث النفس، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب، ولا يتمكن من دفعها، فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، والعلماء أجابوا عنه من وجوه: الوجه الأول: أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين، فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول: يكون مؤاخذاً به، والثاني: لا يكون مؤاخذاً به، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وقال في آخر هذه السورة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وقال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِى الذين ءَامَنُواْ} [النور: 19] هذا هو الجواب المعتمد. والوجه الثاني: أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل، فهو في محل العفو وقوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف، لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب: وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه، وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب. والوجه الثالث في الجواب: أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي الغموم والهموم في الدنيا، روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه، وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه. فإن قيل: المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17]. قلنا: هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام. الوجه الرابع في الجواب: أنه تعالى قال: {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} ولم يقل: يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة، وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها، فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم، فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه، وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب. الوجه الخامس في الجواب: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر، والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها. الوجه السادس: قال بعضهم: المراد بهذه الآية كتمان الشهادة، وهو ضعيف، لأن اللفظ عام، وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه. الوجه السابع في الجواب: ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله {لا يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا أيضاً ضعيف لوجوه أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» والثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي.
- هذه الآية تدل بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنّ الإنسان لا يكلّف إلا بما يطيق كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا}. يعني: ما تبديه لنفسك أو تخفيه فالله يحاسبك به، فمن الذي يستطيع أن يمنع الوساوس في الصلاة مثلاً. أي: يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي، والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به، لا يعاقبه عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم"، أي: إن الله لا يعاقب أمتي على تصور المعصية، وإنما يعاقب على عملها، وقيل: إذا وصل التصور إلى حدّ التصميم والعزم، يؤاخذ به، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة/225]. لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على التصميم والعزم على إيقاع المعصية في الأعيان، وهي أيضاً من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات، ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس. قال ابن حجر: المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود. وقسَّم بعضهم ما يقع في النفس أقساماً: أضعفها أن يخطر له، ثم يذهب في الحال، وهذا من الوسوسة وهو معفوٌّ عنه، وهو دون التردد. وفوقه أن يتردد فيهمُّ به، ثم ينفر عنه، فيتركه، ثم يهمُّ به ثم يتركه، ولايستمر على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه، وفوقه، أن يميل إليه، ولاينفر منه، بل يُصمم على فعله، فهذا هو العزم، وهو منتهى الهمُّ وينقسم إلى قسمين: أن يكون من أعمال القلوب صرفاً، كالشك في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، فهذا كفر، ويعاقب عليه جزماً. ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر، كمن يحب ما يبغض الله، ويبغض ما يحبه الله، ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا إثم. أن يكون من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، فهو الذي وقع فيه النزاع، فقيل: لا يؤاخذ بذلك أصلاً. أخرج مسلم عن طريق همّام عن أبي هريرة رفعه: "قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها".
- ظاهر الآية أن الإنسان يحاسب بما تحدث به نفسه ولا يدري ما يغفر منه وما لا يغفر منه، ولا شك أن الإنسان إذا حوسب بما يخطر على باله من الأحاديث والوساوس يشق عليه ذلك وتضيق عليه الحياة. قال علي وابن عباس: نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وهذا هو رأي ابن عمر.
- إبداءُ ما في النفس هو العمل بما أضمروه، وهو مُؤَاخَذ به ومُحَاسَب عليه، وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به. وفيما أراد به قولان: أحدهما: أن المراد به كتمان الشهادة خاصة، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي. والثاني: أنه عام في جميع ما حدَّث به نفسه من سوء، أو أضمر من معصية، وهو قول الجمهور.
- أي: وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان لأنه «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان، وحركات الأبدان.
- هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِمَّنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ مُلْكِهِ فَعِلْمُهُ عَامٌّ وَمُلْكُهُ عَامٌّ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مُحَاسَبَتِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَهِيَ تَعْرِيفُهُمْ مَا أَبْدَوْهُ أَوْ أَخْفَوْهُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ عِلْمَهُ بِهِمْ وَتَعْرِيفَهُمْ إيَّاهُ.
- ظَاهِرُ (مَا): الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ إِبْدَاءً وَإِخْفَاءً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ سَابِقٌ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِعْدَامِ.
- معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: فِي أَنْفُسِكُمْ تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز.
- أي: إنه تعالى وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، علما بأن كراهية وسوسة السّوء من الإيمان.
- إنَّمَا هُوَ مَا يُخْفُونَهُ مِمَّا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ لَا يُخْفُوهُ وَمَا يُبْدُونَهُ مِمَّا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُخْفُوهُ، لَا الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا إبْدَاءً وَلَا إخْفَاءً، وَلَا يَمْلِكُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
- أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه، فعلى ذلك الأول قد أفاد أن ذلك كله يحصيه عليهم، ويحاسبهم في ذلك؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف.
- من فوائد الآية: عموم علم الله وسعته؛ لقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}؛ ولا محاسبة إلا من بعد علم.
- قَالَ قوم ان هَذِه الْآيَة نزلت عُمُوما ثمَّ خصصت بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صفح لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ نفوسها مَا لم تكلم بِهِ أَو تعْمل.
- أي: وإن تظهروا ما دار في نفوسكم أو تخفوه، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، يعني: في الحالتين يحاسبكم به الله.
- ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم وأظهرته من الأمور التي يحاسب عليها.
- بيَّن بقوله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} أنه كامل العلم والإحاطة.
- يعني: ما خَطَرَ في قلوبكم من الخير والشر يحاسبكم به الله، سواءٌ أظهرتُمُوه أو كتَمْتُمُوه.
- مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواء أبدوه أم أخفوه.
- دل على كمال علمه وهو قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}.
- بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ سِرِّنَا وَجَهْرِنَا وَبَاطِنِنَا وَظَاهِرِنَا شَيْءٌ الْبَتَّةَ.
- معناه إن تظهروا العمَل به أو تُسِرُّوه يُحاسبكم به اللَّه.
عدد القراء : 1951