shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الفقه الجامع مع الدليل

 

 

 

 

 

 

الفقه الجامع مع الدليل

 

 

ما لا يُعذر المسلم بجهله

من الأحكام الشرعية

 

 

الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري

www.alzatari.net لأالأ

www.facebook.com/alzatari.net

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الرحمة ومعلم الأمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

يقول الله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً } [الإسراء: 9]، ويقول: {وبالحق أنزلناهُ وبالحق نَزَلَ، وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} [الإسراء: 105].

وفي الصحيح من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "مَن يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين" [البخاري ومسلم].

هذا، وإن الفقه الإسلامي هو المادة العملية التطبيقية لدين الإسلام، حيث يصوغ حياة المسلمون في ضوء النصوص الشرعية، فيعرف كل حقه، ويؤدي واجبه، تجاه الله تعالى من جهة، وتجاه مخلوقات الله من جهة أخرى.

ولقد كان الفقه الإسلامي وما يزال موضع اعتزاز وتقدير بين الأمم، وهو خير صورة عملية للمسلمين، حيث يلبَّى مطالب الناس في حكم أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وفي تنظيم شؤون حياتهم.

ولما كان الآراء الفقهية متعددة، تبعاً لاجتهادات الفقهاء، واتجاهاتهم الفكرية، فقد حاولت في هذا الكتاب الجامع مع التيسير أن أدون المشترك بين آراء الفقهاء، وأن أسجل الأقرب إلى التطبيق العملي في حياة الناس دون حرج أو مشقة، وأسميته (الفقه الجامع مع الدليل؛ ما لا يُعذر المسلم بجهله من الأحكام الشرعية

منهج الكتاب:

يبرز بعض مزايا هذا الكتاب في الفقه على النحو الجديد في التأليف تحقيقاً واستنباطاً وأسلوباً وتبويباً وتنظيماً وفهرسة واستدلالاً بما يأتي:

  • كتاب يعتمد على الدليل الصحيح من القرآن والسنة والمعقول.
  • يمتاز الكتاب بشموليته لأهم أحام فقه المذاهب الفقهية.
  • ليس كتاباً مذهبياً محدوداً، بل كتاب فقه عام.
  • فيه الحرص على إيراد الحديث الصحيح، دليلاً على الحكم الفقهي.

والله أسأل الله وهو رب العرش الكريم أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين؛ لأن قصدي وضع المسائل الفقهية بمتناول شريحة كبرى من المسلمين؛ تيسيراً عليهم، ورفعاً للحرج عنهم.

راجياً من الله تعالى أن يحقق به النفع، وأن يكون سبيلاً للأجر وادخار الثواب عند الله تعالى، وهوسبحانه ولي التوفيق، والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وفي ميزان حسنات والديَّ يوم الدين.

وأتقدم بالشكر الجزيل لإدارة كلية الدعوة الإسلامية متمثلة بأخي الدكتور بسام عجك، وفَّقه الله، التي عشت فيها متعلماً ومعلماً.

وأشكر الإخوة في دار أفنان، مع رجاء المثوبة وحسن الجزاء على طبع الكتاب ونشره وإخراجه في أجمل مظهر، فجزاهم الله خير الجزاء.

اللهم تقبل منا ما كان صالحاً واصلح منا ما كان فاسداً،  وأصلحنا ظاهراً وباطناً يا رب العالمين.

 

دمشق في 23 صفر 1435 هـ/ 26 كانون الأول 2013 م

 

 

الأستاذ الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري

مدير إدارة الإفتاء العام والتدريس الديني

وزارة الأوقاف، الجمهورية العربية السورية

 

 

 

الفصل التمهيدي مقدمات لا بد منها في التعرف على الفقه

معنى الفقه:

الفقه لغة: الفهم مطلقاً، سواءٌ ما ظهر أو خفي، بدلالة قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُول} [هود: 91]، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقوله سبحانه: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 4/78].

تعريف الفقه عند الفقهاء:

(العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية)([1]).

والمقصود بالعلم هنا: الإدراك مطلقاً الذي يتناول اليقين والظن؛ لأن الأحكام العملية قد تثبت بدليل قطعي يقيني، كما تثبت غالباً بدليل ظني.

والأحكام: جمع حكم، وهو مطلوب الشارع الحكيم، أو هو: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً).

والمراد بالخطاب عند الفقهاء: هو الأثر المترتب عليه، كإيجاب الصلاة، وتحريم القتل، وإباحة الأكل، واشتراط الوضوء للصلاة.

واحترز بعبارة (العلم بالأحكام) عن العلم بالذوات والصفات والأفعال.

و(الشرعية): المأخوذة من الشرع، فيحترز بها عن الأحكام الحسية مثل: الشمس المشرقة، والأحكام العقلية مثل: الواحد نصف الاثنين، والأحكام اللغوية أو الوضعية، مثل: الفاعل مرفوع، أو نسبة أمر إلى آخر إيجاباً أو سلباً مثل زيد قائم، أو غير قائم.

و(العملية): المتعلقة بالعمل القلبي كالنية، أو غير القلبي مما يمارسه الإنسان مثل القراءة والصلاة ونحوها من عمل الجوارح الباطنة والظاهرة.

والمراد أن أكثرها عملي؛ إذ منها ما هو نظري، مثل اختلاف الدين مانع من الإرث. واحترز بها عن الأحكام العلمية والاعتقادية، كأصول الفقه، وأصول الدين كالعلم بكون الإله واحداً سميعاً بصيراً. وتسمى العملية أحياناً: (الفرعية) والاعتقادية: (الأصلية).

و(المكتسب) صفة للعلم: ومعناه المستنبط بالنظر والاجتهاد، وهو احتراز عن علم الله تعالى، وعلم ملائكته بالأحكام الشرعية، وعلم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الحاصل بالوحي، لا بالاجتهاد، وعلمنا بالبدهيات أو الضروريات التي لا تحتاج إلى دليل ونظر، كوجوب الصلوات الخمس، فلا تسمى هذه المعلومات فقهاً، لأنها غير مكتسبة.

والمراد بالأدلة التفصيلية: ما جاء في القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس.

فضل الفقه:

وردت آيات وأحاديث في فضل الفقه والحثّ على تحصيله، ومن ذلك قول اللّه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 22]، فقد جعل الله ولاية الدّعوة إلى الله للفقهاء، وهي وظيفة الأنبياء عليهم السلام.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"([2]).

موضوع الفقه:

موضوع علم الفقه هو أفعال المكلّفين من العباد، فيبحث فيه عمّا يعرض لأفعالهم من حلّ وحرمة، ووجوب وندب وكراهة.

أسباب اختلاف الفقهاء:

أهم أسباب اختلاف الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الظنية هو ما يأتي([3]):

أولاً ـ اختلاف معاني الألفاظ العربية: إما بسبب كون اللفظ مجملاً، أو مشتركاً، أو متردداً بين العموم والخصوص، أو بين الحقيقة والمجاز، أو بين الحقيقة والعرف، أو بسبب إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة. أو بسبب اختلاف الإعراب، أو الاشتراك في الألفاظ إما في اللفظ المفرد: كلفظ القُرْء الذي يطلق على الأطهار وعلى الحيضات، ولفظ الأمر: هل يحمل على الوجوب أو على الندب، ولفظ النهي: هل يحمل على التحريم أو الكراهية؟، وإما في اللفظ المركب: مثل قوله تعالى بعد آية حد القذف: {إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10/35]، اختلف في الفاعل، هل هو الكلم، أو العمل، وإما في الأحوال العارضة، نحو: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} [البقرة:2/282]، فإنه يحتمل لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما أو عليهما، ومثال التردد بين العموم والخصوص: {لا إكراه في الدين} [البقرة:2/256]، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟.
والمجاز له أنواع: إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، والتردد بين الإطلاق والتقييد: نحو إطلاق كلمة الرقبة في العتق في كفارة اليمين، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل الخطأ.

ثانياً - اختلاف الرواية: وله أسباب ثمانية، كأن يصل الحديث إلى أحدهم ولا يصل إلى غيره، أو يصل من طريق ضعيف لا يحتج به، ويصل إلى آخر من طريق صحيح، أو يصل من طريق واحد، ويرى أحدهم أن في بعض رواته ضعفاً لا يعتقده غيره، أو لا يراه مانعاً من قبول الرواية، وهذا مبني على الاختلاف في طريق التعديل والترجيح، أو يصل إليهما من طريق متفق عليه، غير أن أحدهما يشترط في العمل به شروطاً لا يشترطها الآخر، كالحديث المرسل (وهو مارواه غير الصحابي بدون سند إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم).

ثالثاً - اختلاف المصادر: وهناك أدلة اختلفوا في مدى الاعتماد عليها، كالاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي والاستصحاب، والذرائع ونحوها من دعوى البراءة أو الإباحة وعدمها.

رابعاً - اختلاف القواعد الأصولية أحياناً: كقاعدة العام المخصوص ليس بحجة، والمفهوم ليس بحجة، والزيادة على النص القرآني نسخ أم لا، ونحو ذلك.

خامساً - الاجتهاد بالقياس: هو أوسع الأسباب اختلافاً، فإن له أصلاً وشروطاً وعلة، وللعلة شروطاً ومسالك، وفي كل ذلك مجال للاختلاف، والاتفاق بالذات على أصل القياس وما يجري فيه الاجتهاد وما لايجري أمر يكاد يكون غير متحقق. كما أن تحقيق المناط (وهو التحقق من وجود العلة في الفرع) من أهم أسباب اختلاف الفقهاء.

سادساً - التعارض والترجيح بين الأدلة: وهو باب واسع اختلفت فيه الأنظار وكثر فيه الجدل. وهو يتناول دعوى التأويل والتعليل والجمع والتوفيق والنسخ وعدمه. والتعارض إما بين النصوص أو بين الأقيسة مع بعضها، والتعارض في السنة قد يكون في الأقوال أو في الأفعال، أو في الإقرارات، وقد يكون الاختلاف بسبب وصف تصرف الرسول سياسة أو إفتاء، ويزال التعارض بأسباب من أهمها الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، وإن اختلفت النظرة إلى ترتيب المقاصد.

مقاصد الشريعة هي: حفظ الدين (من عقائد وعبادات)، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وينبغي التدرج في الحفاظ عليها بحسب مراتبها وهي الضروريات أولاً، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.

أما الضروريات: فهي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وضاع النعيم وحل العقاب في الآخرة. أي أنها كل مالا بد منه لحفظ المقاصد الخمسة الأصلية.

وأما الحاجيات: فهي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم فقط، بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج دون أن تختل الحياة. فقد تتحقق بدونها المقاصد الخمسة، ولكن مع المشقة والضيق.

وأما التحسينيات: فهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العبادات ومكارم الأخلاق، كالطهارات وستر العورات. فهي بمثابة السور للحفاظ على المقاصد الخمسة الضرورية.

 

 

كتاب الطهارة

باب حكم الماء الطاهر

يجوز التطهر من الحدث والنجاسة:

بكل ماء نزل من السماء: من المطر وذوب الثلج والبرد، لقوله تعالى: ]وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد متفق عليه.

وبكل ما نبع من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فصل: مخالطة الماء لغيره

إن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغتسل مع زوجته في قصعة فيها أثر العجين رواه النسائي وابن ماجه، ولأن الماء باق على إطلاقه.

وإن غَيَّر الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة:

أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، فلا يمنع الطهارة به.

والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع، لأنه تغير عن مجاورة.

الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع، لأنه لا يمكن صون الماء عنه.

الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو طبخ فيه، سلبه الطهورية؛ لأنه زال اسم الماء.

وإن غَيَّر إحدى صفاته؛ طعمه أو لونه أو ريحه، فهو طاهر في نفسه؛ غير مطهر لغيره.

وما سوى الماء من المائعات كالخل [والمرق] ورسول اللهذ، وماء الورد، والمعتصر من الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً، ولقوله تعالى: ]فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ[ فأوجب التيمم على من لم يجد ماء.

 

باب الماء النجس

إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس.

وإن لم تغيره لم يخل من حالين:

أحدهما: أن يكون كثيراً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث رواه الأئمة.

الثاني: أن يكون قليلاً؛ ما دون القلتين، فنجس، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير.

باب السواك وغيره

 السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة متفق عليه.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه الإمام أحمد في المسند.

ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة:

عند الصلاة.

وإذا قام من النوم، لما روى حذيفة رضي الله عنه  قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، متفق عليه.

وعند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة رائحته.

فصل:

ومن السنة تقليم الأظافر، وقص الشرب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم: الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط متفق عليه.

فصل:

ويجب الختان لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي أن إبراهيم عليه السلام، ختن نفسه متفق عليه.

باب أفعال الوضوء

 النية: لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه، ومحل النية: القلب.

ثم يقول: بسم الله.

ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ لأن عثمان وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات. متفق عليهما.

ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل مَن وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ذكر أنه مضمض واستنشق.

ثم يغسل وجهه؛ لقوله تعالى: ] فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ[.

ثم يغسل يديه إلى المرفقين؛ لقول الله تعالى: ]وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ[.

وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله. متفق عليه.

ثم يمسح رأسه؛ لقول الله تعالى: ]وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ[.

والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأذنان من الرأس رواه أبو داود.

ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد.

ثم يغسل رجليه إلى الكعبين؛ لقوله تعالى: ]وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ[.

والوضوء مرة يجزىء، والثلاث أفضل؛، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة، ثم توضأ مرتين، ثم قال: هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً،، ثم قال: هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي أخرجه ابن ماجه.

ولا يزيد عن ثلاث لأن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم رواه أبو داود.

ويكره الإسراف في الماء لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مر على سعد وهو يتوضأ فقال: لا تسرف قال: يا رسول الله: في الماء إسراف ؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار رواه ابن ماجه.

ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن أبا هريرة رضي الله عنه  توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يتوضأ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه.

ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لما روى عمر رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: من توضأ وأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء رواه مسلم.

باب المسح على الخفين

 وهو جائز بغير خلاف؛ لما روى جرير رضي الله عنه  قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، متفق عليه.

ويختص جوازه في الوضوء دون الغسل؛ لما روى صفوان بن عسال رضي الله عنه  قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

ولجواز المسح عليه شروط أربعة:

أحدها أن تكون ساتراً لمحل الفرض من القدم كله، وإن كان الخف رقيقاً يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر.

الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه؛ لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة لمشي فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مسح على الجوربين النعلين. أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه، أشبه الخف؛ فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها، لأنها لا تثبت بنفسها، إنما تثبت بشدها.

الثالث: أن يكون مباح فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير؛ لأن لبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية.

الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة؛ لما روى المغيرة رضي الله عنه  قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما متفق عليه.

ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر؛ لما روى عوف بن
مالك صلى الله عليه وآله وسلم  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم.

ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس؛ لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة.

والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على أصابع قدميه، ثم يجرهما على ساقيه؛ لما روى المغيرة صلى الله عليه وآله وسلم  قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يمسح على الخفين على ظاهرهما، حديث حسن صحيح، وعن علي رضي الله عنه  قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يمسح على ظاهر خفيه. رواه بن داود.

فصل:

ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي رضي الله عنه  أنه قال: انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن أمسح عليها. رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح.

ولا فرق بين الجبيرة على الكسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر بنزعه، مسح عليه.

باب نواقض الطهارة الصغرى

وهي: الخارج من السبيلين؛ لقول الله تعالى: ]أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ[.

خروج النجاسة من سائر البدن.

النوم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   ولكن من غائط وبول ونوم. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ رواه أبو داود.

زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر؛ لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل.

لمس النساء، وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات:

إحداهن: ينقض بكل حال، لقوله تعالى: ]أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء[.

والثانية: لا ينقض؛ لما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قَبَّل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ. رواه أبو داود، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد. رواه النسائي ومسلم، ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته.

والثالثة: أنه ينقض إذا كان لشهوة، ولا ينقض لغيرها؛ جمعاً بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث، وإنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعوا فيها إلى الحدث.

باب ما يوجب الغُسل

الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق الذي تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن بعده، وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر رواه مسلم؛ فيجب الغسل بخروجه في النوم واليقظة، لأن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إذا رأت الماء. متفق عليه.

فإن احتلم فلم يرى بللاً فلا غسل عليه؛ لحديث أم سليم.

وإن رأى منياً ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل؛ لما روت عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاماً، فقال: يغتسل، وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: لا غسل عليه. رواه أبو داود.

والمذي: ماء رقيق يخرج أثناء المداعبة قبل بلوغ الشهوة، فلا غسل فيه، ويجب منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه  قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسألته عنه، فقال: يجزيك من ذلك الوضوء، حديث صحيح.

والودي: ماء أبيض يخرج عقب البول، فليس فيه إلا الوضوء.

والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج، يوجب الغسل وإن لم يُنْـزل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل رواه مسلم.

أما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض، والنفاس.

فصل:

ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية فصاعداً؛ لقول علي رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يخرج من الخلاء فيُقْرِئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة. رواه أبو داود.

ويحرم عليه اللبث في المسجد لقوله تعالى: ]وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ[، يعني مواضع الصلاة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب. رواه أبو داود.

ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر أن عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد متفق عليه.

باب الغسل من الجنابة

يأتي فيه بـ: النية.

ثم يسمي.

ثم يغسل يديه ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء.

ثم يغسل ما به من الأذى، ويغسل فرجه وما يليه.

ثم يتوضأ وضوءه للصلاة.

ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده.

ثم يفيض الماء على سائر جسده.

ثم يدلك بدنه بيده.

قالت ميمونة: وضع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وضوء الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده. متفق عليهما.

باب التيمم

التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله؛ لعدم، أو مرض؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ[، وروى عمار قال: أجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرت ذلك له فقال: إنما يكفيك أن بقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه. متفق عليه.

ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها؛ لأنه بدل عنها.

ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير؛ لقوله تعالى: ]أَوْ عَلَى سَفَرٍ[.

ويجوز في الحضر للمرض للآية، وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه.

ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد لقوله تعالى: ]فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ[.

باب الحيض

دم يخرج من المرأة في أوقات معتادة، ويتعلق به أحكام:

أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة متفق عليه.

والثاني: سقوط فرضها، لقول عائشة رضي الله عنها: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة، متفق عليه.

والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ قلن بلى، رواه البخاري.

والرابع: تحريم الطواف، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعائشة إذ حاضت: افعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري متفق عليه.

والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن رواه الترمذي.

والسادس: تحريم مس المصحف؛ لقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعمرو بن حزم: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر.

والسابع: تحريم اللبث في المسجد؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ[، يعني مواضع الصلاة، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب. رواه أبو داود.

والثامن: تحريم الطلاق.

والتاسع: تحريم الوطء في الفرج، لقوله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[، ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اصنعوا كل شيء غير النكاح رواه مسلم، وقالت عائشة: كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض، متفق عليه.

والعاشر: وجوب الغسل بعد انتهائه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعي الصلاة قدر الأيام التي تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي متفق عليه.

الحادي عشر: وجوب الاعتداد به.

الثاني عشر: حصول البلوغ به.


فصل:

وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس بحيض، ولا يتعلق به أحكامه، لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.

وأقل الحيض يوم وليلة.

وأكثره عشرة أيام.

وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي.

وليس لأكثره حد.

والحامل لا تحيض، وإن رأت دماً فهو دم فاسد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في سبايا أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حامل حتى تستبرأ بحيضة يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه.

في المستحاضة وهي: التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس.

وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول.

ومتى أرادت الصلاة، غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، ثم توضأت وصلت، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى؛ لما روي في حديث فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لها: اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي قال الترمذي هذا حديث صحيح.

باب النفاس

وهو خروج الدم، بسبب الولادة.

وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛ لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل.

وأكثر النفاس أربعون يوماً؛ لما روت أم سلمة قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة. رواه أبو داود.

وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي.

 

باب أحكام النجاسات

بول الآدمي نجس، والغائط مثله.

والودي نجس، والمذي نجس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعلي رضي الله عنه  في المذي: اغسل ذكرك.

وبول ما لا يؤكل لحمه ورجيعه نجس، وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: صلوا في مرابض الغنم حديث صحيح، وقال للعرنيين: انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها متفق عليه.

ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيصلي فيه، متفق عليه.

ورطوبة فرج المرأة طاهرة.

والقيء نجس.

والنخامة طاهرة، والبصاق والمخاط والعرق، وسائر رطوبات الآدمي طاهرة، لأنه من جسم طاهر، وكذلك هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر.

والدم نجس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لأسماء في الدم: اغسليه بالماء متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه الميتة، ودم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل طاهر، لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك وإنما حرم الدم المسفوح.

والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله.

وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه.

والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[، ورسول اللهذ مثله، وكذا كل مسكر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواه مسلم.

فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت، وإن خُلِّلَت لم تطهر؛ لما روي: أن أبا طلحة، سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا. رواه أحمد في مسنده والترمذي.

وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.

والكلب والخنزير، وما تولد منهما، نجس، ويجب غسل غير الأرض سبعاً إحداهن بالتراب، من ولوغ الكلب؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهن التراب متفق عليه، ولمسلم: أولاهن التراب.

فصل:

إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، يجزئ دلكه بالأرض؛ لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب، أو يغسل.

ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن لم يزل عنه؛ لما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. متفق عليه.

ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل؛ لما روى علي رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل رواه أحمد في المسند.

فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمَن لم يطعم، فبقي مَن عداه على الأصل.

فصل:

وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه؛ لما روي أن
خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره رواه أبو داود.


كتاب الصلاة

الصلوات المكتوبات الخمس؛ لما روى طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً قال: يا رسول الله ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطَوَّع شيئاً متفق عليه.

ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ.

باب أوقات الصلوات

الأولى هي الظهر، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: أَمَّنِي جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثال الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله. وقال: الوقت ما بين هذين في حديث طويل. قال الترمذي: هو حديث حسن.

ثم العصر، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث جبريل: وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه.

أو ما لم تصفر الشمس؛ لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وقت العصر ما لم تصفر الشمس رواه مسلم.

ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب فقد أدركها؛ لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته متفق عليه.

ثم المغرب، وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر؛ لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم  رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وقت المغرب ما لم يغب الشفق.

ثم العشاء، وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر؛ لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الشفق الحمرة، فإن غاب الشفق، وجبت الصلاة رواه الدارقطني، وآخره نصف الليل؛ لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وقت العشاء إلى نصف الليل رواه مسلم وأبو داود.

ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني.

ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الصادق؛ وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس؛ لما روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم.

ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.

ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها؛ لأن جبريل عليه السلام صلى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في اليوم الثاني في آخر الوقت.

فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها متفق عليه.

فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات؛ لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها.

فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد.

وإن نسي الفائتة حتى ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان رواه النسائي.

وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، صلى الحاضرة وسقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها.

وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام رواه أبو يعلى الموصلي.

وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه، حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء.

وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب.


فصل:

ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين.

باب الأذان

 الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله.

فصل:

ويسن الأذان للفائتة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فاتته الصبح فقال: يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة. متفق عليه.

وإن كثرت الفوائت، أقام وأذن للأولى، ثم أقام للتي بعدها؛ لما روى ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء، رواه الأثرم.

وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك؛ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان و إقامتين. رواه مسلم.

وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان، متفق عليه.

فصل:

ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل.

ويستحب أن يكون أميناً؛ لأنه مؤتمن على الأوقات.

صيتاً، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك رواه أبو داود، ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان.

وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها.

وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم إلا أن يكون معه بصير يؤذن قبله.

وأن يؤذن قائماً، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لبلال: قم فأذن، ولأنه أبلغ في الإسماع؛ فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكدة منه، وهي تجوز كذلك.

وأن يؤذن على موضع عال؛ لأنه أبلغ في الإعلام، وروي أن بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس. رواه أبو داود.

وأن يؤذن متوضئاً؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه  قال: لا يؤذن إلا متوضئ، وروي مرفوعاً أخرجه الترمذي.

وأن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ؛ لما روى أبو جحيفة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو في قبة حمراء من أَدَم [جلد]، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا؛ يقول يميناً وشمالاً حي على الصلاة، حي على الفلاح. متفق عليه. وفي لفظ: ولم يستدر، وأصبعاه في أذنيه، رواه الترمذي.

وأن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: يا بلال إذا أذنت فتَرَسَّل، وإذا أقمت فاحدر رواه أبو داود.

ويستحب لمن أذن أن يقيم؛ لما روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أخا صداء أَذَّن، ومَن أذن فهو يقيم من المسند.

وإن أقام غيره جاز؛ لما روى أبو داود في حديث الأذان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ألقه على بلال فألقاه عليه فأَذَّن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده فقال: فأقم أنت.

فصل:

ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول؛ لما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول متفق عليه.

ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة. رواه مسلم.

وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن قال حين يسمع النداء، اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة. أخرجه البخاري.

ورواه سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن قال حين يسمع النداء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً غفر له ذنبه. رواه مسلم.

ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرَدُّ. حديث حسن.

باب شرائط الصلاة

وهي ستة:

الأول: الطهارة من الحدث؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور. رواه مسلم.

والثاني: الطهارة من النجس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه. فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله، فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته.

وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه؛ لأنه شرط عجز عنه فسقط.

وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه؛ لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها.

وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها؛ لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها.

ويشترط طهارة موضع صلاته؛ لأنه يحتاج إليه في الصلاة.

وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً صحت صلاته عليها مع الكراهة؛ لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها.

فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه؛ لأنه صلى على حسب حاله، فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود وإن لم يخف سجد بالأرض.


فصل:

ولا تصح الصلاة في:

المقبرة حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه؛ لما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أبو داود.

وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها، وتأوي إليها؛ لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. رواه مسلم.

وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى في البيت ركعتين. متفق عليه.

باب ستر العورة:

وهو الشرط الثالث للصلاة؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار رواه أبو داود.

وعورة الرجل: ما بين سرته وركبتيه؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة رواه أبو بكر بإسناده.

وعن جرهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: غط فخذك؛ فإن الفخذ من العورة رواه أحمد في المسند.

والمرأة كلها عورة إلا الوجه، والكفين؛ لقول الله تعالى: ]وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا[، قال ابن عباس: وجهها وكفيها.

وإن انكشف من العورة شيء يسير عفي عنه؛ لأن اليسير يشق التحرز منه، وإن كثر بطلت الصلاة به؛ لأن التحرز منه ممكن.

وإن أطارت الريح ثوبه عن عورته، فأعاده بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه يسير فأشبه اليسير في العورة.

ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها.

باب استقبال القبلة:

وهو الشرط الرابع للصلاة؛ لقول الله تعالى: ]فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ[.

والناس في القبلة على ضربين:

منهم من يلزمه إصابة العين وهو المعاين للكعبة.

والثاني: مَن فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بين المشرق والمغرب قبلة. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

ويسقط الاستقبال من ثلاثة مواضع:

أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة يصلي على حسب حاله.

والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً؛ لقول الله تعالى: ]فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا[. قال ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها رواه البخاري.

والثالث: النافلة في السفر؛ فإن كان راكباً، فله الصلاة على مركوبه؛ لما روى ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم  كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره. متفق عليه.

فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كراكب السفينة، والقطار، والطائرة، لزمه ذلك.

وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومىء بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.

باب دخول الوقت:

لا تصح الصلاة قبل دخول وقتها؛ فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً.

متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها.

ووقت سنة كل صلاة مكتوبة بعدها من فعلها إلى آخر وقتها.

وأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع، وعند قيامها في قبة السماء حتى تزول، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب؛ فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس. متفق عليه، وروى عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب. رواه مسلم.


فصل:

ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها متفق عليه، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته.

ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر:

الصلاة على الجنازة؛ لأن الانتظار يضر بالميت.

وركعتا الطواف بعده، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار. رواه الشافعي والأثرم.

وأما سائر الصلوات ذوات الأسباب؛ كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها قولان:

إحداهما: المنع لعموم النهي.

والثانية: يجوز فعلها؛ لما روت أم سلمة، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان رواه مسلم.

باب النية

وهي الشرط السادس من شروط الصلاة؛ فلا تصح الصلاة إلا بها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات.

ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه.

وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته.

باب صفة الصلاة

إذا أراد الصلاة قام، والقيام واجب في الفرض؛ لقول الله تعالى: ]وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعمران بن حصين: صل قائماً، فإن لم تستطيع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب رواه البخاري.

فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حالة نهوضه للقيام، لم يعتقد به، لأنه أتى به في غير محله.

ويستحب للإمام تسوية الصفوف؛ لما روى أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم التفت وقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا، سووا صفوفكم. رواه أبو داود.

فصل:

ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال للمسيء في صلاته: إذا قمت إلى الصلاة فكبر وقال: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم رواه أبو داود،  وقال: لا يقبل الله صلاة امرىء حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر.

ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان إذا افتتح الصلاة رفع يده حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود. متفق عليه.

وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

فصل:

فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله؛ لما روى هلب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

ويجعلهما تحت السرة؛ لما روي عن علي أنه قال: السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة. رواه أبو داود.

ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.

فصل:

ويستحب أن يستفتح؛ بما رواه الأسود أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. رواه مسلم.

وجاز الاستفتاح بغيره؛ مثل ما روى أبو هريرة قال: قلت: يا رسول الله أرأيتَ إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد. متفق عليه.

فصل:

ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لقوله تعالى: ]فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[.

فصل:

ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يجهر بها؛ لما روى أنس بن مالك قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه البخاري ومسلم.

فصل:

ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام والمنفرد؛ لما روى عبادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب متفق عليه.

ولا تجب على المأموم؛ لقول الله تعالى: ]وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ[، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالقراءة. رواه مالك في الموطأ.

وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة؛ لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يقرأ في الآخرتين بأم الكتاب. متفق عليه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عَلَّم المسيء في صلاته، فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب ما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك.

فصل:

فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يُجْهَر فيه بالقراءة؛ لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا قال: ]وَلاَ الضَّالِّينَ[ قال: آمين ورفع بها صوته. رواه أبو داود.

ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال الإمام: ]وَلاَ الضَّالِّينَ[، فقولوا: آمين، وفي لفظ: إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له متفق عليه.

ويجهرون بها؛ لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمِّن، ويؤمِّنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده.


فصل:

ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ قيها من خلفه؛ لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سكتتين؛ سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: ]غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ[. رواه أبو داود.

فصل:

ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح في طوال المفصل، وفي المغرب في قصاره، وفي سائرهن من أوساطه؛ لما روى جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقرأ في الفجر بـ ]ق[ رواه مسلم.

وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقرأ في الظهر والعصر بـ ]وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ[، و]وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ[، ونحوهما من السور. رواه أبو داود.

وعنه قال: كان رسول الله (ص) إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: ]وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[ والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها. رواه أبو داود.

ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة؛ لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقرأ في الركعتين الأوليتين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليتين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية. متفق عليه.

ولا يزيد على أم الكتاب في الآخريين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب؛ لهذا الحديث.

فصل:

ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء والإسرار فيما وراء ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يفعل ذلك.

ولا يسن الجهر لغير الإمام، وإن جهر المنفرد فلا بأس، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة.

وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن صلاة النهار عجماء.

فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر؛ لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.


فصل:

ثم يركع وهو الركن الرابع؛ لقول الله تعالى: ]ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا[.

ويكبر للركوع؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا قام إلى الصلاة كَبَّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه يفعل ذلك في صلاته كلها. رواه البخاري.

ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير؛ لحديث ابن عمر.

وقدر الإجزاء في الركوع: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه؛ لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.

ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للمسيء في صلاته: ثم اركع حتى تطمئن راكعاً. متفق عليه.

ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه؛ لما روى أبو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، وفي لفظ: ركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه، ولم يقنع. وفي رواية: ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه. حديث صحيح.

فصل:

ثم يقول: سبحان ربي العظيم؛ لما روى عقبة بن عامر أنه لما نزل: ]فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ[،  قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزل: ]سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[، قال: اجعلوها في سجودكم رواه أبو داود.

وأدنى الكمال أن يُسبِّح ثلاثة؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه. رواه الترمذي.

وإن اقتصر على واحدة أجزأه.

فصل:

ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للمسيء في صلاته: ثم ارفع حتى تعتدل قائماً.

ولا يشرع للمأموم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد.

ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من بعد؛ لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. متفق عليه.

فصل:

في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده وهما الركن الثامن والتاسع؛ لقول الله تعالى: ]اسْجُدُوا[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   للأعرابي: ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً.

وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه؛ لحديث ابن عمر.

ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه؛ لما روى وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإن نهض رفع يديه قبل ركبتيه. رواه أبو داود.

والسجود على هذه الأعضاء واجب؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أُمِرْتُ أن أسجد على سبع أعظم: الجبهة وأشار بيده إلى أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين. متفق عليه.

ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة.

ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه؛ لما روى أبو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  جافى عضديه عن إبطيه.

ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة؛ لما روى أبو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وضع كفيه حذو منكبيه. وفي لفظ: سجد غير مفترض، ولا قبضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة. وفي رواية: فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش افتراش الكلب. صحيح، متفق على معناه.

ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه.

 

فصل:

ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للأعرابي: ثم ارفع حتى تطمئن جالساً.

ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى؛ لقول أبي حميد في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان. رواه مسلم.

ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة؛ لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة.

ويقول: رب اغفر لي؛ لما روى حذيفة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، رب اغفر لي. رواه النسائي.

والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع.

وإن قال ما روى ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني. فلا بأس. رواه أبو داود.

فصل:

ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء.

ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة.

وهل يجلس للاستراحة؟ قولان:

أحداهما: يجلس؛ لما روى مالك بن الحويرث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض. متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل بين السجدتين.

ولا يكبر لقيامه مَن جلس الاستراحة؛ لأنه قد كبر لرفعه من السجود.

والثاني: لا يجلس، بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان ينهض على صدور قدميه. وفي حديث وائل بن حجر: وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه. وفي لفظ: فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه. رواه أبو داود.

ولا يعتمد بيده على الأرض، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر.


فصل:

تصلي الركعة الثانية كالأولى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للأعرابي: ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها. إلا في النية والاستفتاح.

فصل:

ثم يجلس مفترشاً؛ لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى، وفي لفظ: فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. صحيح.

ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة. رواه مسلم.

وروى ابن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو، وفي لفظ: وألقم كفه اليسرى ركبته، رواه مسلم. وفي لفظ: وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها، رواه أبو داود.

فصل:

ثم يتشهد؛ لما روى ابن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في التشهد.

وإن تشهد بغيره مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كتشهد ابن عباس وغيره جاز.

فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف. رواه أبو داود. لشدة تخفيفه.

ثم نهض مكبراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.

فصل:

فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر به وعلمه ابن مسعود، ثم قال: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك. رواه أبو داود.

ويجلس متوركاً يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أَخَّر رجله اليسرى وجلس متوركاً على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته. رواه البخاري.

فصل:

ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ووجهها ما روى كعب بن عجرة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. متفق عليه.

فصل:

ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يدعو: اللهم إني أستعيذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. متفق عليه. ولمسلم: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع وذكره.

وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إماماً، فلا يستحب له التطويل كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك.

وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه  أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم متفق عليه.

فصل:

ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن رواه مسلم.

فصل:

ثم يسلم، والسلام هو الركن الرابع عشر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. رواه أبو داود والترمذي.

ويسلم تسليمين؛ فيقول: السلام عليكم ورحمة الله.

ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره. رواه مسلم.

ويبتدىء بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلاً: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ لقول عائشة كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  يسلم تلقاء وجهه، معناه ابتداء السلام.

ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، وعليه يُحمل حديث عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يسلم تسليمة واحدة، على أنه كان يجهر بواحدة.

فصل:

ويتسحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره؛ قال المغيرة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. متفق عليه.

وقال ثوبان: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام رواه مسلم.

وقال ابن عباس: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. متفق عليه.

فصل:

وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.

 

باب صلاة التطوع

وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة. رواه ابن ماجه.

وتنقسم أربعة أقسام:

القسم الأول: السنن والرواتب، وهي ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، ذكرها ابن عمر، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عشر ركعات؛ ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح. متفق عليه.

وآكدها ركعتا الفجر. قالت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر، وقال: ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها رواهما مسلم. وقال: صلوهما ولو طردتكم الخيل. رواه أبو داود.

ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها؛ لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: مَن حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حَرَّمه الله على النار. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وعلى أربع قبل العصر؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رَحِم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً. رواه أبو داود.

وعلى ست بعد المغرب؛ لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلى بعد المغرب ستاً لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة. رواه الترمذي.

وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات. رواه أبو داود.

فصل: في الوتر:

النوع الثاني: الوتر سنة مؤكدة؛ لمداومة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عليه في حضره وسفره، روى أبو أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الوتر حق، فمَن أحب أن يوتر بخمسة فليفعل، ومَن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومَن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. رواه أبو داود.

وأما وقته، فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح؛ لما روى أبو بصرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن الله زادكم صلاة؛ فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر. رواه أحمد. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة. متفق عليه.

ومَن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومَن طمع أن يقوم من آخره فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل. رواه مسلم.

فمَن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعاً حتى يصبح، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا وتران في ليلة. وهذا حديث حسن.

وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشر يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة؛ لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة. متفق عليه.

وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين؛ لما روى ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن الوتر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم. رواه الأثرم.

فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله؛ لئلا يخالفه.

ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ ]سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[، وفي الثانية: ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[، وفي الثالثة: ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[؛ لما روى أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يوتر بـ  ]سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[، و]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[، و]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[. رواه أبو داود.

وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن. متفق عليه.

وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع؛ لما روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد؛ فتلك إحدى عشر ركعة يا بني، فلما أَسَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول. رواه مسلم، وأبو داود.

وأما القنوت فيه، فمسنون في جميع السنة، وفي قول: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان.

ويقنت بعد الركوع؛ لما روى أبو هريرة وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قنت بعد الركوع. رواه مسلم.

ويقول في قنوته: ما روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. رواه الترمذي.

وعن علي رضي الله عنه  قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، ومعافاتك من عقوبتك، و بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. رواه الطيالسي.

وعن عمر رضي الله عنه  أنه قنت فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.

وإن قنت الإمام أمَّن مَن خلفه؛ فإن لم يسمع قنوت الإمام دعا هو.

ويرفع يده في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله.

وإذا فرغ أَمَّر يديه على وجهه؛ لأن السائب بن يزيد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا دعا رفع يديه. رواه أبو داود.

فصل:

النوع الثالث: صلاة الضحى، وهي مستحبة؛ لما روى أبو هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. متفق عليه.

وأقلها ركعتان؛ لحديث أبي هريرة.

وأكثرها ثمان ركعات؛ لما روت أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  دخل بيتها يوم فتح مكة وصلى ثمان ركعات، فلم أر قط صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. متفق عليه.

ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال. رواه مسلم.

ويستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر. أخرجه الترمذي.

فصل:

والقسم الثاني: ما سُنَّ له الجماعة، منها:

التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن صام رمضان، وقامه إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه. متفق عليه.

وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بأصحابه جماعة ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر رضي الله عنه  عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب.

قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك.

ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات؛ لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر رضي الله عنه  بثلاث وعشرين ركعة.

فصل:

القسم الثالث: التطوع المطلق وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل. وهو حديث حسن.

والنصف الأخير أفضل. قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير. رواه أبو داود. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. متفق عليه.

ويستحب للمجتهد أن يستفتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين. رواه مسلم.

ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل. متفق عليه.

وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ربما أسر وربما جهر. حديث صحيح.

إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل.

وإن كان يؤذي أحداً، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى؛ فإن أبا سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة. رواه أبو داود.

فصل:

وصلاة الليل مثنى، مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: صلاة الليل مثنى، مثنى، قيل لابن عمر: ما مثنى، مثنى؟ قال: تسليم من كل ركعتين. متفق عليه.

فصل:

والتطوع في البيت أفضل، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. رواه مسلم.

فصل:

وتجوز صلاة التطوع جالساً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة. رواه مسلم.

ويستحب أن يكون في حال القيام متربعاً، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود، لأن حال الركوع كحال القيام.

فصل:

القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها:

تحية المسجد؛ لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس. متفق عليه.

ومنها: صلاة الاستخارة، قال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة في القرآن، يقول: إذا هَمَّ أحدكم في الأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بمقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، و تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: من عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. أخرجه البخاري.

فصل:

وسجود التلاوة سنة، للقارىء والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقرأ علينا السورة من غير الصلاة فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكاناً لوضع جبهته. متفق عليه.

فصل:

وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر.

ويرفع يديه لسجود التلاوة في غير الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة، ولا يفتقر إلى قيام، لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقول في سجود القرآن: سَجَد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته. فحسن. وهذا حديث صحيح.

فصل:

وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم؛ لما روى أبو بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا جاءه شيء يُسَرُّ به خر ساجداً.

وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها.

ولا يسجد للشكر في الصلاة، لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت.

باب سجود السهو

يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.

والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في التشهد الأول، فهذا لا يبطل الصلاة بحال، لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود، لأن عمده غير مبطل.

الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها فإن كان عمداً بطلت صلاته، لأنه تكلم فيها، وإن كان سهواً، وطال الفصل، بطلت أيضاً، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريباً أتم صلاته، وسجد للسهو بعد السلام.

فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس، لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصداً لها.

والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إحدى صلاتي العشي فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، وشبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، قال: فتقدم، فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر. متفق عليه.

وإن انتقض وضوءه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، فسدت صلاته.

وإن تكلم مثل كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وذي اليدين؛ أي بما هو من شأن إصلاح الصلاة، لا تفسد، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.

النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمداً أبطل الصلاة إجماعاً؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن. رواه مسلم.

وإن غلب بكاء فنشج لم تفسد صلاته؛ لأن عمر صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُسمع نشيجه من وراء الصفوف.

والكلام المبطل للصلاة ما انتظم حرفين فصاعداً، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها.

فصل:

الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:

أحدهما: زيادةٌ من جنس الصلاة؛ كركعة، أو ركوع، أو سجود؛ فمتى كان عمداً أبطلها، وإن كان سهواً سجد له؛ لما روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خمساً، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟، قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا، قالوا: إنك صليتَ خمساً، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سَلَّم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين. وفي لفظ: إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين. رواه مسلم.


فصل:

وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء. وفي لفظ: التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء. متفق عليه.

وإذ سَبَّح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  تابعوا في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاته، أو ينتظرونه، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما إنما يفيد غالب الظن، واليقين أولى.

وإن سَبَّح به واحد لم يرجع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يرجع بقول ذي اليدين وحده.

وإن سَبَّح به مَن يعلم فسقه لم يرجعه؛ لأن خبره غير مقبول.

وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم، لتعارضه عنده.

وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائماً، لم يرجع، ويتابعونه في القيام؛ لما روى زياد بن علاقة، قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . رواه أحمد.

فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع؛ فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه، لأنه ترك واجباً تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه.

وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب فلزمهم متابعته، ولا عبرة بها فعلوه قبله.

النوع الثاني: زيادةٌ مِن غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح وهو الاعتماد في قيام الصلاة على رِجل واحدة؛ فإن كثر متوالياً أبطل الصلاة إجماعاً، وإن قل لم يبطلها؛ لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. متفق عليه، وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة.

النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما عمداً أو سهواً بطلت، لأنهما ينافيان الصلاة.

ومَن ترك في فمه ما يذوب؛ كالسكر، وابتلع ما يذوب منه فهو أكل.

وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.

وإن ترك في فمه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته، لأنه عمل يسير، ويكره، لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل وإلا فلا.

فصل:

القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمداً أبطل الصلاة، وإن كان سهواً فله أربعة أحوال:

أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته؛ لتعذر البناء مع طول الفصل.

الثاني: ذكره قريباً من التسليم؛ فإنه يأتي بركعة كاملة، لأن الركعة التي ترك الركن منها بطلت بتركه والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.

الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته: فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس، لأنه لم يتركه.

الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.

وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.

وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو.

وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد، وسجد للسهو.

النوع الثاني: ترك واجب غير ركن عمداً؛ كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود، بطلت صلاته، وإن تركه سهواً سجد للسهو قبل السلام؛ لما روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم. متفق عليه.

وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائماً، رجع فأتى به.

وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب.

وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضاً لذلك؛ لما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً جلس؛ فإن استتم قائماً لم يجلس وسجد سجدتي السهو. رواه أبو داود.

النوع الثالث: ترك سنة فلا تبطل الصلاة بتركها عمداً ولا سهواً، ولا سجود عليه.

فصل:

القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:

إحداهن: شك في عدد الركعات، فيبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين. متفق عليه.

أو يبني على اليقين؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أو أربعاً؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعاً كانتا ترغيماً للشيطان. رواه مسلم.

المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه، لأن الأصل عدمه.

المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، فإن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه.

وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع، لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعده فراغه منها.

فصل:

وليس على المأموم سجود لسهوه؛ فإن سها إمامه فعليه السجود معه؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليس على من خلف الإمام سهواً، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه. رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.

ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه؛ فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.

فصل:

ومن أحدث عمداً بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمداً.

وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته؛ كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، بطلت صلاته.

ويجوز فيمن سبقه الحدث أن يتوضأ ويبني.

وللإمام أن يستخلف من يتم به الصلاة؛ لأن عمر رضي الله عنه  حين طُعِن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقَدَّمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعاً، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحداناً جاز.

باب ما يكره في الصلاة

يكره الالتفات لغير حاجة؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن التفات الرجل وهو في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل. حديث صحيح.

ولا تبطل الصلاة بالالتفات، ما لم يستدر بجملته، أو يستدبر القبلة.

ويكره رفع البصر؛ لما روى البخاري أن أنساً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال - لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم.

ويكره أن يصلي ويده على خاصرته؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى أن يصلي الرجل متخصراً. متفق عليه.

ويكره أن يكف شعره، أو ثيابه، أو يشمر كميه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعراً ولا ثوباً. متفق عليه.

ويكره أن يشبك أصابعه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رأى رجلاً قد شبك أصابعه، في الصلاة ففرج بين أصابعه. رواه ابن ماجه.

ويكره فرقعة الأصابع؛ لما روي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تقعقع أصابعك، وأنت في الصلاة. رواه ابن ماجه.

ويكره النظر إلى ما يلهيه؛ لما روت عائشة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في خميصة، لها أعلام فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة، وائتوني بأنبجانيته. متفق عليه.

ويكره أن يصلي وبين يديه ما يلهيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعائشة: أميطي عنا قِرامك هذا، فإنه ما تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي. رواه البخاري.

ويكره العبث كله، وما يذهب بخشوع الصلاة.

فصل:

ولا بأس بعَدِّ الآي والتسبيح، كما لا بأس بقتل الحية والعقرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بقتل الأسودين في الصلاة؛ الحية والعقرب.

فصل:

فإن تثاءب في الصلاة استحب له أن يكظم، فإن لم يقدر وضع يده على فمه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وفي رواية: فليضع يده على فيه فإن الشيطان يدخل. وهذا حديث حسن صحيح.

باب الجماعة

الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار. متفق عليه.

وليست شرطاً للصحة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة. متفق عليه.

وتنعقد باثنين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الاثنان فما فوقهما جماعة. رواه ابن ماجه.

فصل:

ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد. متفق عليه.

وحضور المسجد واجب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى. مسند أحمد.

وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تُمْنَع منه، ولا تتطيب له؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن. رواه أحمد.

ولا بأس أن تصلي المرأة إمامة بالنساء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أَذِنَ لأم ورقة أن تَؤُم أهل دارها. رواه أبو داود.

فصل:

ويُعْذَر في ترك الجماعة والجمعة بأشياء:

المرض: لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له؛ إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: خوف أو مرض. رواه أبو داود.

والخوف: للحديث السابق، وسواء خاف على نفسه من ظالم، أو لص، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يخاف احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه.

والثالث، والرابع: المطر الغزير والوحل الكثير: لما روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك مَن هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أُخرجكم فتمشوا في الطين والدحض. متفق عليه.

والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يأمر منادياً فيؤذن، ثم يقول على أثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر. متفق عليه.

السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه.

السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين رواه البخاري ومسلم.

فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما وَلَّى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب رواه مسلم.

فصل:

إذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة رواه مسلم.

وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، ودليل الإتمام قول الله تعالى: ]وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[.

وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا متفق عليه.

فإن أدركه راكعاً كَبَّر للإحرام وهو قائم، ثم كَبَّر أخرى للركوع.

وإن أدرك قدر ما يجزىء في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركاً لها؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة رواه أبو داود.

فصل:

وإذا أحس الإمام بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره ما لم يشق على المأمومين؛ لما روى ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يَسمع وَقْعَ قدم.

ومَن كَبَّر قبل سلام الإمام فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها.

فصل:

وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى.

فإن لم يجد إلا مَن قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه؛ لما روى أبو سعيد أن رجلاً جاء وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: مَن يَتصدق على هذا فيصلي معه؟ وهذا حديث حسن، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الجماعة تَفْضُل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.

فصل:

ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كَبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا متفق عليه، والفاء للتعقيب.

وقال في حديث أبي موسى: فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم رواه مسلم.

وإن ركع أو رفع قبله عمداً أثم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام والنهي يقتضي التحريم، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يُحَوِّل الله رأسه رأس حمار متفق عليه.

باب صفة الأئمة

الكلام فيها في ثلاثة أمور:

أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على أقسام:

أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها؛ فتصح إمامته.

وتصح إمامة الأعمى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى، رواه أبو داود.

وتصح إمامة المتيمم بالمتوضىء؛ لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيمماً وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فضحك ولم يُنْكِر عليه.

فصل:

القسم الثاني: مَن لا تصح إمامته وهم نوعان:

أحدهما: مَن لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب لغير عذر.

النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفر، ففي إمامته قولان:

إحداهما: تصح؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها، قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة من المسند.

والثاني: لا يصح؛ لأن جابراً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا تَؤُمَّن امرأةٌ رجلاً، ولا فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه. رواه ابن ماجه، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بهما خلف كل بر وفاجر.

فصل:

القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع:

إحداها: المرأة، يجوز أن تؤم النساء، ولا يجوز أن تؤم رجلاً؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تَؤُمَّن امرأةٌ رجلاً.

والثاني: الأمي، وهو: مَن لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غيناً، ومن يلحن لحناً يحيل المعنى مثل أن يضم تاء أنعمت أو يكسر كاف إياك، أو يخل بشدة؛ فإنَّ الشدة قامت مقام حرفٍ بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام.

فإن أَمَّ أميين وقارئاً صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارىء.

وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود.

إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين:

أحدهما: أن يكون إمام الحي.

والثاني: أن يرجى زوال مرضه.

ويصلون خلفه جلوساً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى بهم جالساً، فصلى وراءه قوم قياماً فأشار إليهم أن اجلسوا ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. متفق عليه.

فإن صلوا قياماً ففيه وجهان:

أحدهما: لا يصح للنهي عنه.

والثاني: يصح؛ لأن القيام هو الأصل وقد أتوا به.

فإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس أتموا قياماً؛ لأن عائشة قالت: لما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً يقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. متفق عليه. فأتموا قياماً لابتدائهم بها قياماً.

فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادراً على القيام وهو جالس؛ لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه.

فصل:

القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلاً، وهل يصح أن يؤم مفترضاً؟ فيه قولان:

أحدهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية الإمام.

والثاني: يصح؛ وهي أولى؛ لأن جابراً روى أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. متفق عليه.

وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه قولان. وجههما ما تقدم.

وإن صلى مَن يؤدي صلاة خلف مَن يقضيها، أو مَن يقضيها خلف مَن يؤديها صحت.

فصل:

الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً، أو قال سلماً، ولا يُؤَمَّنَّ الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه رواه مسلم.

فأولى الناس بالإمامة: السلطان؛ للحديث، وهو الخليفة، أو الوالي مِن قبله، أو نائبهما.

فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق؛ للحديث؛ فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته.

وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة.

وإمام المسجد الراتب في مسجده بمنزلة صاحب البيت، فلا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحسنتم رواه مسلم.

فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم: أقرأهم لكتاب الله؛ للحديث، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم رواه مسلم.

فإن استويا في القراءة فأولاهما: أفقههما؛ للحديث.

وإن استويا في ذلك فأولاهما: أكبرهما سناً؛ للحديث، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما وليؤمكما أكبركما حديث صحيح.

فإن استويا في ذلك قُدِّم مَن أشرفهما نسباً، وأعلاهما قدراً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قَدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها.

فإن استووا قُدِّم أتقاهم وأورعهم.

ويقدم الحاضر يقدم على المسافر، والبصير على الأعمى.

فصل:

الثالث: أنه يكره إمامة مَن لا يحسن تلاوة القرآن، ومَن لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو مَن يكرر التاء، والفأفاء وهو مَن الذي يكرر الفاء.

ويكره أن يؤم قوماً أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم، العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون وهذا الحديث حسن.

باب موقف الصلاة

إذا كان المأموم واحداً، وقف عن يمين الإمام.

فإن جاء آخر كَبَّر وتأخر فصَفَّا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقاً.

لما روى جابر قال: سرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعاً حتى أقامنا خلفه، مسند أحمد.

وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فعل، رواه أبو داود.

فإذا كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما روى أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين. متفق عليه.

فإن اجتمع رجال وصبيان ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم النساء؛ لما روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: أقام الصلاة، فصَفَّ الرجال، ثم صَفَّ خلفهم الغلمان ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا صلاة أمتي، رواه أبو داود.

فصل:

وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أدار ابن عباس وجابر لمَّا وقفا عن يساره، وروى وابصة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد. رواه أبو داود.

فصل:

فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه نَبَّه رجلاً يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده.

فصل:

السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن، لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز، لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها، بدليل حديث أنس.

فصل:

والسنة أن يقف الإمام وسط الصف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وَسِّطُوا الإمام، وسدوا الخلل رواه أبو داود.

وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها رواه مسلم.

ويلي الإمامَ الشيوخُ وأهلُ القرآن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى [أي العقول]. رواه مسلم.

فصل:

والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين؛ لما روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار وقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو يقول: إذا أَمَّ الرجلُ القومَ فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم. وقال: عمار فلذلك اتبعتك حين أخذت علي يدي، رواه أبو داود.

ويصح أن يأتم به مَن في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.

فصل:

يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد.

فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة وسماع التكبير لم يصح الائتمام به؛ لتعذر اتباعه.

ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط الفقهاء أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق.

فصل:

ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى سهل: كان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وبين القبلة ممر الشاة. رواه البخاري ومسلم.

فإن لم يجد سترة خَطَّ خطاً؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن معه عصاً فليخط خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه. رواه أبو داود.

ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيراً؛ لقول المقداد: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمداً، رواه أبو داود.

وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصلي بأصحابه إلى سترة ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.

فصل:

وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لَحَّ دَفَعَه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير؛ لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو الشيطان. متفق عليه.

فصل:

ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه. متفق عليه.

باب قصر الصلاة

ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع.

ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط:

أحدها: أن تكون في سفر طويل؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرُد، ما بين عسفان إلى مكة، وسواء كان في بر أو بحر أو جو، لأن الاعتبار بالفراسخ.

والثاني: أن يكون السفر مباحاً.

والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت بلدته أو قريته، لأن الله تعالى قال: ]وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا[، ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج.

والرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام.

والخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر؛ فلو ترك صلاةَ حضرٍ فقضاها في السفر لم يجز له قصرها، لأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر أتمها، وإن ذكرها في سفره أو في سفر آخر قصرها.

والسادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، وإن أَمَّ المسافرُ مقيماً لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر؛ لما روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعاً فأنا مسافر رواه أبو داود.

وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام.

فصل:

وإذا نوى المسافرُ الإقامةَ أتم.

فصل:

والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر.

باب الجمع بين الصلاتين

وأسباب الجمع ثلاثة:

أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا عَجَّل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينها، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. متفق عليه.

وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية؛ لما روى معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أَخَّر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أَخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عَجَّل العشاء، فصلاها مع المغرب. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى، وأن لا يفرق بينهما إلا تفريقاً يسيراً، ووجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية.

وإن جمع في وقت الثانية اعتبر: أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجود العذر في وقت الثانية.

فصل:

والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء.

والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.

والثلج مثله في هذا.

والوحل بمجرده مبيح للجمع، لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة.

وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة قولان.

فصل:

والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. متفق عليه.

والمريض مخير بين التقديم والتأخير أيَّ ذلك كان أسهلَ عليه فعله.

باب صلاة المريض

إذا عجز عن الصلاة قائماً صلى قاعداً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لـعمران بن حصين: صل قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً؛ فإن لم تستطع فعلى جنب. رواه البخاري.

فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.

فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.

وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائماً، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود، لأن سقوط فرض لا يُسقط فرضاً غيره.

وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلاً آخر.

فصل:

وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لـعمران بن حصين: صل قائماً؛ فإن لم تستطع فقاعداً؛ فإن لم تستطع فعلى جنب. رواه البخاري.

وإن صلى مستلقياً على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز.

فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه.

فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتاً.

باب صلاة الجمعة

وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمَن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره.

وروى طارق بن شهاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض. رواه أبو داود.

فصل:

وتصح الجمعة من المرأة والمسافر والمريض، وتجزئهم عن الظهر.

فصل:

ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:

أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقته ولا بعده؛ بالإجماع.

وآخر وقتها آخر وقت الظهر.

فصل:

الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به.

فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم.

فصل:

الشرط الثالث: اجتماع عدد ممن تنعقد بهم الجمعة.

وفي العدد أقوال:

تنعقد بثلاثة، لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة.

وتنعقد باثني عشر، وهو عدد مَن بقي من الصحابة يوم خرج الجميع للتجارة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قائم يخطب.

وتنعقد بأربعين؛ لقول جابر: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة.

فصل:

إذا أدرك المسبوق مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة؛ لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة. متفق عليه.

فصل:

الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يخطب خطبتين يقعد بينهما. متفق عليه.

فصل:

وفروض الخطبة أربعة أشياء: حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

الثاني: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.

الثالث: الموعظة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يعظ.

الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويُذَكِّر الناس. رواه أبو داود والترمذي.

فصل:

وسننها:

أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يخطب على منبره.

وأن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا صعد المنبر سَلَّم عليهم. رواه ابن ماجه.

وأن يجلس إذا سلم عليهم: لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب، رواه أبو داود.

وأن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب. رواه مسلم وأبو داود.

وأن يجلس بينهما؛ لما رويناه.

وأن يدعو للمسلمين.

وأن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: ]إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ[، يعني الأذان.


فصل:

ومتى أمكن الاستغناء بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة.

وإن احتيج إلى أكثر من جمعة واحدة جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً.

وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة.

فصل:

ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها، لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز.

فصل:

ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قَرَّب بدنه، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرَّب بقرة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرَّب كبشاً أملح، ومَن راح في الساعة الرابعة كأنما قَرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة كأنما قَرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. متفق عليه.

فصل:

ويستحب أن يغسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة؛ لما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. رواه البخاري.

فصل:

وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ولم يفرق بين اثنين.

ومن وجد موضعاً لا يَصِلُ إليه إلا بتخطي الرجل والرجلين، وقد جلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم.

وليس لأحد أن يُقِيم غيره ويجلس مكانه؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مقعده ويجلس فيه. متفق عليه.

وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به. رواه مسلم.

وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطى فيه أحداً استحب له ذلك؛ لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره. مسند أحمد. وهو حديث صحيح.

فصل:

وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقرأ القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقِيَ الفتنة.

فصل:

فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل.

فإذا بدأ بالخطبة حَرُم الكلام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أَنْصِتْ فقد لغوت متفق عليه.

ولا يحرم الكلام مع الخطيب؛ لما روى أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا. وذكر الحديث. متفق عليه.

وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام.

ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سأل الداخل: أصليت، فأجابه.

ولا يرد السلام؛ لأن المُسَلِّم سَلَّم في غير موضعه.

ولا يشمت العاطس؛ لأن التشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب.

فصل:

ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما؛ لما روى جابر قال: دخل رجل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يخطب قال: صليت يا فلان؟، قال: لا، قال: فصل ركعتين. متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.

فصل:

ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصلِ بعدها أربعاً. رواه مسلم.

وإن شاء صلى ركعتين؛ لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصلي بعد الجمعة ركعتين. متفق عليه.

فصل:

يستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة سورة السجدة، وسورة الدهر (الإنسان)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: ]ألم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ[، و ]هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا[ رواه مسلم.

ولايداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.

باب صلاة العيدين

الأصح أنها فرض على الكفاية، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً.

ولا تجب على الأعيان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع. متفق عليه.

ووقتها من حين ترتفع الشمس بقدر رمح إلى الزوال.

فصل:

ويسن أن يأكل من الفطر قبل الصلاة، ويمسك عن الأكل في الأضحى حتى يصلي؛ لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يَطعم يوم النحر حتى يصلي. رواه الترمذي.

فصل:

والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه.

ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس مَن يصلي بهم في الجامع؛ لأن علياً رضي الله عنه  استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد.


فصل:

ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال في جمعة من الجمع: إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك.

فصل:

ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً رضي الله عنه  قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن.

وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا كان يوم عيد خالف الطريق. رواه البخاري.

فصل:

ويستحب خروج النساء؛ لما روت أم عطية قالت: أَمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن نخرجهن في الفطر والأضحى؛ العواتق والحِيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. متفق عليه.

فصل:

وليس للعيد أذان ولا إقامة؛ لما روى عطاء قال: أخبرني جابر أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة. متفق عليه، وقال جابر بن سمرة: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة. رواه مسلم.

فصل:

وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة، قال عمر رضي الله عنه: صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد خاب من افترى. رواه أحمد في المسند.

ويكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام؛ لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: التكبير في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع. رواه أبو داود.

وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين.

وفي قول: يوالي بين القراءتين، فيجعل التكبير في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبل الركوع.

فصل:

وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً.

وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه.

فصل:

فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فعل ذلك.

ويفارق خطبتي الجمعة في أشياء:

أحدها: أن محلها بعد الصلاة؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. متفق عليه.

الثاني: أنه يسن أن يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متوالية، ويستفتح الخطبة الثانية بسبع، ويكثر التكبير في أثناء الخطبة؛ لما روى سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين.

الثالث: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما؛ لما روى عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب؛ فمَن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومَن أحب أن يذهب فليذهب رواه أبو داود.

فصل:

ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى؛ إماماً كان أو مأموماً؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها. متفق عليه.

ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه؛ لما روى أبو سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين. رواه ابن ماجه.

فصل:

ومَن أدرك الإمام في الركوع تبعه ولم يقض التكبير.

وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما.

وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب.

فصل:

ويشرع التكبير في العيدين؛ لقول الله تعالى: ]وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[.

فصل:

والتكبير في الأضحى على: مطلق ومقيد.

فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق.

وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.

وصفه التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد).

فصل:

وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم.

والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل.

باب صلاة الكسوف والخسوف

وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر؛ لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يُخَوِّف الله بهما عباده، وإنهما لا يكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتن منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم. متفق عليه.

وعن عائشة قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. متفق عليه.

وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لها في جماعة.

وينادي لها: الصلاة جامعة؛ للحديث.

وتفعل في المسجد؛ لخبر عائشة.

فصل:

وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد، ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم.

وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فيما روت عائشة.

ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  جهر في صلاة الخسوف. رواه أبو داود.

فصل:

ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تُقْضَ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا حتى يكشف الله ما بكم.

وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها.

وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء.

باب صلاة الاستسقاء

وهي سنة عند الحاجة إليها؛ لما روى عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحَوَّل رداءه، وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة. متفق عليه.

وصفتها صفة صلاة العيد؛ لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى ركعتين كما يصلى في العيدين، حديث صحيح.

وليس لها وقت معين.

فصل:

ويشترط لها إذن الإمام؛ فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.

وإذا أرادوا الاستسقاء وعظ الإمامُ الناسَ، وأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[

ويَعِد الناسَ يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً، ولم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير. هذا حديث صحيح.

فصل:

ويخرج الشيوخ والصبيان، ومَن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنهم أسرع للإجابة.

فصل:

اختلفت الأقوال في الخطبة:

فعلى قول: أنه لا يخطب وإنما يدعو؛ لقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه.

وعلى قول: أنه يخطب قبل الصلاة؛ لقول عبد الله بن زيد: فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى.

وقول: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.

وقول: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثم خطبنا. وهذا صريح.

ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار؛ مثل: ]اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْه[ِ، وقوله: ]اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا[

ويكثر الدعاء والتضرع، ويدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

روى ابن قتيبة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً، مريعاً مربعاً مرتعاً، سابلاً مسبلاً، مجللاً دائماً دروراً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير رائث.

اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد.

اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها.

اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً.

فالحيا الذي يحيى به الأرض.

والجدا: المطر العام.

والطبق: الذي يطبق الأرض.

والغدق: الكثير.

والمونق: المعجب.

والمريع: ذو المراعة والخصب.

والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.

والسابل: المطر.

والمسبل: الماطر.

والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا استسقى قال: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً.

اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك.

اللهم أَنْبِت لنا الزرع، وأَدِّرَ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك.

اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً.

ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا؛ لأن عبد الله بن زيد روى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحَوَّل رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن.

ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. متفق عليه.

فإن سقوا قبل الصلاة صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله.

وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث؛ لأن الله يحب الملحين في الدعاء.

فصل:

ومن صور الاستسقاء: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر؛ كما روى أنس: أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يخطب، فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا.

فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. وذكر الحديث، متفق عليه.

ومن صورها: أن يدعوا عقيب الصلوات.

فصل:

فإن كَثُر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: فمُطِرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل، وهلكت المواشي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر.

فانجابت عن المدينة انجياب الثوب. متفق عليه.

وفي حديث آخر: اللهم حوالينا ولا عليينا.

 

كتاب الجنائز

يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له.

فإذا مرض استحب عيادته؛ لما روى البراء قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  باتباع الجنازة، وعيادة المريض. متفق عليه.

إذا دخل عليه سأله عن حاله، ورقاه ببعض رقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحثه على التوبة، ويرغبه في الوصية، ويذكر له ما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده. متفق عليه.

فصل:

ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه.

وإذا رآه منزولاً به تعاهد بَلَّ حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً، ويندي شفتيه بقطنة.

ويلقنه قول: لا إله إلا الله مرة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله رواه مسلم.

ويكون ذلك في لطف ومداراة، ولا يكرر عليه فيضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون آخر كلامه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة رواه أبو داود.

ويقرأ عنده سورة [يس] ليخفف عنه؛ لما روى معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: اقرؤوا يس على موتاكم رواه أبو داود.

ويوجهه إلى القبلة.

فصل:

فإذا مات أغمض عينيه؛ لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح. مسند أحمد.

ويشد لحيته بعصابة عريضة، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه.

ويقول الذي يغمضه: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ويلين مفاصله؛ لأنه أسهل في الغسل.

ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد.

ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه رطوبة الأرض فتغيره.

ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه.

ويسجى بثوب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سجى ببردة حبرة. متفق عليه.

و يسارع في تجهيزه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود.

ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة.

ويسارع في قضاء دينه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه. وهذا حديث حسن.

فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أتي بجنازة فسأل: هل عليه دين؟، قالوا: نعم، ديناران فلم يصل عليه، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه. رواه النسائي.

وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له.

باب غسل الميت

وهو فرض على الكفاية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال في الذي وَقَصَتْه ناقة: اغسلوه بماء وسدر. متفق عليه.

وأولى الناس بغسله مَن أوصي إليه بذلك؛ لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه  أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك، وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين ففعل.

فإن لم يكن وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه، ثم جده، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصابته، ثم الرجال من ذوي الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه.

وأولاهم بغسل المرأة أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها، ثم الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبيات.

ويجوز للمرأة غسل زوجها؛ لحديث أبي بكر، ولقول عائشة: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غَسَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلا نساؤه. رواه أبو داود.

وفي غسل الرجل امرأته قولان:

يباح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لعائشة: لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك. رواه ابن ماجه، وغسل علي فاطمة رضي الله عنهما، فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً.

لا يباح، لأن الموت فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها، فحرمت اللمس، والنظر كالطلاق.


فصل:

وينبغي أن يكون الغاسل أميناً؛ لما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون.

فصل:

ويجرد الميت عند تغسيله، ويستر ما بين سرته وركبتيه، والأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  غسل في قميصه.

ويستحب أن يوضع على سرير غسله، متوجهاً، منحدراً نحو رجليه، لينصب ماء الغسل منه، ولا يستنقع تحته فيفسده.

فصل:

والفرض في الغسل: النية، وتطهيره من النجاسة، وتعميم البدن بالغسل.

ويسن فيه:

أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويُمِرَّ يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً، ليذهب بما يخرج، فلا تظهر رائحته.

ثم يلف على يده خرقة فينجيه بها، ولا يحل له مس عورته.

ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة.

ثم يوضئه؛ لما روت أم عطية أنها قالت: لمَّا غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها. متفق عليه، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء، لكن يلف على يده خرقة مبلولة، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه وأنفه، ويتبع ما تحت أظافره فيزيله ويغسله، كما يفعل الحي في وضوءه وغسله.

ثم يغسله بسدر [صابون] مع الماء؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور. متفق عليه.

ثم يبدأ فيغسل بالرغوة رأسه ولحيته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة.

ثم يغسل له شقه الأيمن؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ابدأن بميامنها فيغسل يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك.

ويغسله وتراً؛ للخبر، فيغسله ثلاثاً، فإن لم يُنْقَ بثلاث زاد إلى خمس، أو إلى سبع؛ لا يزيد عليها؛ لأنه آخر ما انتهى إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه، لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة.

ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل.

ويسد مخرج النجاسة بالقطن.

ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها؛ لما روت أم عطية قالت: ضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها، تعني: ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . متفق عليه.

فصل:

ويكره تسريح شعر الميت؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: علام تنصون ميتكم؟ يعني: لا تسرحوا رأسه بالمشط.

والماء البارد في الغسل أفضل من الحار؛ لأن البارد يشد الميت، والحار يرخيه، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل المنظفات، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ.

وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه.

فصل:

والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه؛ لما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: والسقط يصلى عليه. رواه أبو داود.

ومَن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت، ويستحب تسميته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم.

ومَن له دون أربع أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه.

فصل:

والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل.

وفي الصلاة عليه قولان:

أحدهما: يصلى عليه؛ لما روى عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف. متفق عليه.

والثانية: لا يصلى عليه؛ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصلِ عليهم. رواه البخاري.

وإن حمل من أرض المعركة وبه رمق، أو أكل أو طالت حياته، ثم مات؛ غُسِّل وصلِّي عليه؛ لأن سعد بن معاذ غسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فصلى عليه وكان شهيداً.

وإن مات بحادثٍ، أو تردى من شاهق، غُسِّل وصلِّي عليه.

فصل:

ومن تعذر غسله لقلة الماء أو خيف تقطعه به، كالمحترق، يُمِّمَ.

وإن تعذر غسل بعضه يُمِّمَ.

وإن أمكن صب الماء عليه، وخيف من عركه، صب عليه الماء صباً ولا يعرك.

فصل:

ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن غسل ميتاً فليغتسل. رواه أبو داود، والصحيح في الحديث أنه موقوف على أبي هريرة.

فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه، كي لا يبل أكفانه.

باب الكفن

يجب كفن الميت في ماله، مقدماً على الدين والوصية والإرث؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الذي وقصته ناقته: كفنوه في ثوبيه. متفق عليه.

فإن لم يكن له مال فعلى مَن تلزمه كسوته في حياته.

فصل:

وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه.

ويستحب تحسين الكفن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه رواه مسلم.

ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه  قال: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.

والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه.

والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط على بساط؛ ليكون الظاهر للناس أحسنها، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقهما.

ويذر الحنوط والكافور [أنواع من الطيب] فيما بينهن.

ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً، ليكون أمكن لإدراجه فيها، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن، ويجعل من بين أليتيه برفق، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويجعل باقي الحنوط والكافور في قطن على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده، ويطيب رأسه ولحيته، وإن طيب جميع بدنه كان حسناً.

ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن.

ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، وإذا وضع في القبر حلها.

فصل:

وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز.

وتكفن المرأة في خمسة أثواب، مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم تخمر بمقنعة، ثم تلف بلفافتين؛ لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الحقي، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر.

فصل:

فإن لم يوجد إلا ثوب لا يستر جميع الميت، غطي رأسه، وترك على رجليه حشيش؛ لما روى خباب أن مصعب ابن عمير، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نَمِرة، إذا غطي رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر. متفق عليه.

فصل:

وإذا مات المُحْرِم بعمرة أو حج، لم يقرب طيباً، ولا يُخَمَّر رأسه؛ لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون؛ لما روى ابن عباس قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياُ. متفق عليه.

باب الصلاة على الميت

وهي فرض على الكفاية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: صلوا على مَن قال لا إله إلا الله.

ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة.

ويجوز أداؤها في المسجد لأن عائشة قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد. رواه مسلم.

وتجوز في المقبرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى على قبر في المقبرة.

والسنة فعلها في جماعة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصليها بأصحابه.

ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف على الأقل؛ لما روى مالك بن هبيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما من مسلم يموت فيصلي  عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب. وهذا حديث حسن.

وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة، أو فرادى فلا بأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها صلت على سعد بن أبي وقاص.

فصل:

وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك، لإجماع الصحابة على الوصية بها؛ فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير، وأبا بكرة أوصى به أبا برزة، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم.

ثم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، ثم الرجال من ذوي أرحامه، ثم الأجانب.

فصل:

ومن شرطها: الطهارة واستقبال القبلة والنية.

والسنة أن يقوم الإمام أمام رأس الرجل ووسط المرأة؛ لما روي أن أنساً صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قام على المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم. وهذا حديث حسن.

ويجوز أن يصلى على جماعة دفعة واحدة، ويُقَدَّم إلى الإمام أفضلهم، ويسوى بين رؤوسهم.

فإن اجتمع رجال وصبيان ونساء: قُدِّم الرجال ثم الصبيان ثم النساء.

فصل:

وأركان صلاة الجنازة ستة:

أحدها: القيام.

والثاني: أربع تكبيرات؛ لأن رسول الله كَبَّر على النجاشي أربعاً. متفق عليه.

الثالث: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن، وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن، وقال: إنه من السنة، أو من تمام السنة، حديث صحيح، رواه البخاري.

والرابع: أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الثانية؛ لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يُكَبِّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، ويقرأ في نفسه، ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة، ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه. رواه الشافعي في مسنده.

الخامس: أن يدعو للميت في الثالثة للخبر السابق، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء. رواه أبو داود.

والسادس: التسليم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تحليلها التسليم.

فصل:

وسننها سبع:

أولها: رفع اليدين مع كل تكبيرة.

والثاني: الاستعاذة قبل القراءة، لقول الله تعالى: ]فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[.

والثالث: الإسرار بالقراءة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يسر بها.

والرابع: أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا صلى على الجنازة قال: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا، وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذَكَرِنا وأنثانا. حديث صحيح.

وعن أبي هريرة عن رسول الله نحوه. وزاد: اللهم مَن أحييته منا فأحييه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده.

في آخر: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له. رواه أبو داود.

وعن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على جنازة فحفظت دعائه: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه،، وأكرم نُزُله ووَسِّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. رواه مسلم.

وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له: اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً، وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقِهِ برحمتك عذاب الجحيم.

وإن لم يعلم من الميت شراً قال في دعائه: اللهم لا نعلم إلا خيراً.

والخامس: أن يقف بعد الرابعة قليلاً.

والسادس: أن يضع يمينه على شماله؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله.

والسابع: الالتفات على يمينه في التسليمة.

فصل:

ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأنها المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فإن كَبِّر خمساً جاز وتبعه المأموم؛ لأن زيد بن أرقم كَبِّر على جنازة خمساً، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يكبرها. رواه مسلم.

وإن كَبِّر ستاً أو سبعاً يجوز ويتابعه المأموم فيها؛ لأنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه صلى الله عليه وآله وسلم  سبعاً.

وإن زاد على سبع لم يتابعه، ولم يسلم قبله.

فصل:

ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه، كما يدخل في سائر الصلوات، فإذا سلم الإمام قضى ما فاته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما فاتكم فاقضوا.


فصل:

وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد.

ومَن صلى مرة لم يستحب له إعادتها.

ومَن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره؛ لما روى ابن عباس أنه مَرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على قبر منبوذ فأَمَّهم وصلوا خلفه. متفق عليه.

فصل:

وتجوز الصلاة على الغائب؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، فصَفَّ بهم في المصلى وكَبَّر بهم أربعاً. متفق عليه.

باب حمل الجنازة والدفن

وهما فرض على الكفاية، لأن في تركهما هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله.

 وأولى الناس بإدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب.

فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء. رواه البخاري.

والسنة الإسراع في المشي بها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسرعوا بالجنازة؛ فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. متفق عليه.

فصل:

واتباع الجنازة سنة، وهو على ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يصلي وينصرف.

والثاني: أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين. متفق عليه.

الثالث: أن يقف بعد الدفن يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت؛ كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: استغفروا له واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل. رواه أبو داود.

والمشي أمامها أفضل؛ لما روى ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة. رواه أبو داود، وحيث مشى قريباً منها فحسن.

وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها؛ لما روى المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها. حديث صحيح.

ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة، ولا بأس بالركوب في الانصراف؛ لما روى جابر بن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس. حديث حسن، رواه الترمذي ورواه مسلم.

فصل:

وإن مرت به جنازة يستحب له القيام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه. رواه مسلم.

ويكره اتباع النساء الجنائز؛ لما روت أم عطية قالت: نهينا عن اتباع الجنائز. متفق عليه.

فصل:

ويجوز الدفن في البيت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبا بكر وعمر دفنوا في بيت.

ويدفن الشهيد في مصرعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: صحيح، وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة.

وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه؛ لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة.

وجمع الأقارب في الدفن حسن؛ لتسهل زيارتهم والترحم عليهم، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي. رواه أبو داود.

ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض.

فصل:

ويستحب تعميق القبر وتوسيعه وتحسينه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: احفروا وأوسعوا وأعمقوا. رواه أبو داود.

فصل:

ولا يدفن في القبر اثنان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يدفن كل ميت في قبره.

فإن دعت الحاجة إليه جاز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لما كثر القتلى يوم أحد، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد. حديث صحيح.

ويقدم أفضلهم إلى القبة؛ للخبر، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب.

وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما.

وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه.

فصل:

ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام.

يجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه.

وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ترك تحته قطيفة كان يفترشها.

ويكره الدفن في التابوت، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار.

فصل:

ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ولا يزاد عليه من غير ترابه.

ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد، لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سل سعداً، ورش على قبره الماء. رواه ابن ماجه.

وتسنيمه أفضل من تسطيحه، ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها.

فصل:

ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه؛ لقول جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه. رواه مسلم. زاد الترمذي: وأن يكتب عليها. وقال: حديث صحيح.

ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد. متفق عليه.

ويكره الجلوس عليه، والاتكاء إليه، والاستناد إليه؛ لحديث جابر.


فصل:

ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب. رواه مسلم.

فصل:

يستحب تلقين الميت في قبره؛ لحديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعونه فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم  نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً و نكيراً يتأخر كل واحد منهما، فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته، ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل: يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء. رواه الطبراني في معجمه بمعناه.

باب التعزية والبكاء على الميت

التعزية سنة؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن عزَّى مصاباً فله مثل أجره. وهو حديث غريب.

وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده؛ لعموم الخبر.

ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك.

فصل:

والبكاء غير مكروه إذا لم يكن مع ندب ولا نياحة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  دخل على سعد بن عبادة، فوجده في غاشية، فبكى وبكى أصحابه وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم. متفق عليه.

ولا يجوز لطم الخدود، وشق الجيوب؛ لما روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليس منا مَن ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.

وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة، ويسترجع، ولا يقول إلا خيراً، لحديث أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خير منها، قالت: فلما توفي أبو سلمة قلتها؛ فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . رواه مسلم.

فصل:

ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاحُ طعامٍ لأهله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لما جاء نعي جعفر قال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم. رواه أبو داود.

فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم.

فصل:

ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت. رواه مسلم.

وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.

و في حديث آخر: يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين.

وفي حديث آخر: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم.

وإن زاد: اللهم اغفر لنا ولهم كان حسناً.

فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن قولان:

أحدهما: لا يكره؛ لعموم ما رويناه، ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن.

والثانية: يكره، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لعن الله زوارات القبور. وهذا حديث صحيح.

ويجمع بين القولين: بجواز زيارة النساء عند عدم ازدحام المقبرة بالرجال، ويكره مع الازدحام.

فصل:

إن دعا إنسان لميت، أو تصدق عنه، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك؛ لأن الله تعالى قال: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ[.

 وقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أينفع أمي إذا تصدقت عنها؟ قال: نعم. متفق عليه.

وإن فعل عبادة بدنية؛ كالقراءة، والصلاة، والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات.

 

كتاب الزكاة

وهي أحد أركان الإسلام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. متفق عليه.

وتجب على الفور، فلا يجوز تأخيرها مع القدرة على أدائها.

فصل:

شروط وجوبها:

1- تمام الملك، فلا تجب الزكاة في حصة المضارب من الربح قبل القسمة.

وأما في الدََّين فينظر:

إن كان على مَن لا يمكن استيفاء الدَّين منه بسبب إعسار أو جحد أو مطل؛ فلا زكاة فيه، لأنه خارج عن يده وتصرفه، فإن قبضه دفع زكاة عام واحد.

وإن كان على غني مليء باذل؛ ففيه الزكاة، والملك مستقر، ويملك المطالبة به، ولا يلزمه الإخراج حتى يقبضه، فيؤدى على ما مضى.

وحكم الصداق (المهر) على الزوج حكم الدين على الموسر والمعسر؛ لأنه دَين.

2- الغنى، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لمعاذ بن جبل: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم. متفق عليه.

والغنى المعتبر، ملك نصاب خالٍ عن دَين.

فلا يجب على مَن لا يملك نصاباً؛ لما روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة، ولا دون خمسة ذُوَدٍ صدقة، ولا فيما دون خمسة أواقٍ صدقة. متفق عليه.

فصل:

وتجب الزكاة في خمسة أنواع:

أحدها: المواشي، ولها ثلاثة شروط:

أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام؛ الإبل والبقر والجواميس، والغنم والماعز.

والثاني: الحول؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول. رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود.

والثالث: السوم، وهو أن تكون راعية، وأما المعلوفة فحكمها حكم زكاة عروض التجارة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة.

فصل:

ولا يجزئ في الصدقة هرمة، ولا معيبة؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ[

فصل:

ولا يؤخذ التي تربي ولدها، ولا الحامل، ولا التي طرقها الفحل، ولا الأكولة وهي السمينة، ولا فحل الماشية المعد لضرابها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لمعاذ: إياك وكرائم أموالهم. متفق عليه.

فإن تبرع المالك بدفع شيء من هذا، أو أخرج عن الواجب أعلى منه من جنسه جاز، لأن المنع من أخذه، لحقه فجاز برضاه.

وقد روى أبو داود عن أبي بن كعب أن رجلاً قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، فزعم أنَّ ما علي فيه بنت مخاض، فعرضت عليه ناقة فتية سمينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك الذي وجب عليك؛ فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك. فقال: ها هي ذه يا رسول الله، فأمر رسول الله بقبضها، ودعا له بالبركة.

فصل:

ويجزئ دفع القيمة في الزكاة؛ لأن المقصود غنى الفقير بقدر المال.

باب زكاة الزرع والثمار

وهي واجبة بقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً: العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر. أخرجه البخاري وبالإجماع.

ولا تجب إلا شروط:

أحدها: أن يكون حباً أو ثمراً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا زكاة في حب أو ثمر حتى تبلغ خمسة أوسقٍ. رواه مسلم.

والثاني: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه.

فأما النابت بنفسه فلا زكاة فيه.

ومَن استأجر أرضاً، أو استعارها فالزكاة عليها فيما زرع، دون المالك.

ومَن زرع في أرض موقوفة فعليه الزكاة.

والثالث: أن يبلغ نصاباً (خمسة أوسقٍ، ما يقارب 600 كغ)؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة. متفق عليه.

فصل:

وقدر الزكاة:

العشر فيما سُقِيَ بغير كلفة، كماء السماء والعيون والأنهار.

ونصف العشر بما سقي بكلفة؛ كالدوالي والنواضح ونحوها.

فإن سقي نصف السنة بكلفة، و نصفها بما لا كلفة فيه، ففيه ثلاث أرباع العشر.

وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر بالأكثر.

وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر.

فصل:

وفي العسل العشر.

باب زكاة الذهب والفضة

وهي واجبة لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[.

ولا زكاة إلا في نصاب، (85 غرام من الذهب، أو 600 غرام من الفضة)، ويمكن أخذ الوسط الوسطي بين النصابين حسب القيمة.

فصل:

والواجب فيها ربع العشر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في الرقة ربع العشر. رواه البخاري، والرقة: الدراهم المضروبة.

فصل:

ومَن ملك مصوغاً من الذهب أو الفضة محرماً كالأواني، وما يتخذه الرجل لنفسه من الطوق ونحوه، وخاتم الذهب وحلية المصحف: ففي الزكاة.

فإن كان مباحاً كحلية النساء المعتادة من الذهب والفضة، وخاتم الرجل من الفضة، وكان معداً للتجارة، أو نفقة أو كراء بيت: ففيه الزكاة؛ لأنه معد للنماء.

وإن أعد للبس والعارية: فلا زكاة فيه؛ لما روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ليس في الحلي زكاة.


باب زكاة المعدن

وهو ما استخرج من الأرض مما خلق فيها من غير جنسها كالحديد والنحاس والزبرجد والبلور والعقيق وأشباهها، والقار والنفط والكبريت ونحوه: فتجب فيه الزكاة؛ لقول الله تعالى: ]وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ[.

وقدرها ربع العشر.

ولا يعتبر لها حول، ويعتبر النصاب في كل جنس منفرداً.

فصل:

فأما الخارج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ففيه قولان:

أحدهما: لا شيء فيه، لأنه قد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وخلفائه فلم يسبق فيه سنة.

والثاني: فيه زكاة، لأنه معدن أشبه معدن البر.

ولا شيء في السمك، لأنه صيد فهو كصيد البر، يعتبر عن اتخاذه عروض تجارة.

باب زكاة التجارة

وهي واجبة، روى سمرة بن جندب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع. رواه أبو داود.

ولا تجب إلا بشروط:

أحدها: نية التجارة.

والثاني: أن يملك العروض بفعله كالشراء ونحوه بنية التجارة.

والثالث: أن يبلغ قيمته نصاباً من أقل الثمنين قيمة.

والرابع: الحول؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.

فصل:

وتقوم السلعة عند الحول بما فيها من نماء وربح؛ لأن الربح من نمائها.

وقدر زكاته ربع العشر، ويخرج عنها ما شاء من عَين أو نقد.

باب صدقة الفطر

وهي واجبة على كل مسلم؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى، والحر والمملوك من المسلمين، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُر على الصغير والكبير، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه.

فصل:

ولا تجب إلا بشرطين:

أحدهما: أن يزيد عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته.

والثاني: دخول وقت الوجوب، وهو غروب الشمس من ليلة الفطر؛ لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  زكاة الفطر من رمضان. وذلك يكون بغروب الشمس.

فمن أسلم أو تزوج أو ولد له ولد أو أيسر بعد الغروب، لم تلزمه فطرتهم.

وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت.

فصل:

ولا يشترط لوجوبها الغنى بنصاب؛ لما روى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أدوا صدقة الفطر صاعاً من بُر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى.

فصل:

ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته من المسلمين.

فيجب على الرجل فطرة زوجته.

وعلى الموسرة التي زوجها معسر فطرة نفسها فقط.

فصل:

والواجب في الفطرة صاع من كل مُخْرَج؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولما روى أبو سعيد قال: كنا نعطيها في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب. متفق عليه.

والصاع يعدل ما يقارب (2 كغ).

باب إخراج الزكاة والنية

لا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات.

ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة، أو صدقة المال، أو الفطر.

فصل:

وإذا نوى إخراج الزكاة عند دفعها للوكيل، ونوى الوكيل عند أداءها جاز.

وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكِّل لم يجزه.

وإن نوى الموكل عند الدفع للوكيل ولم ينو الوكيل عند الدفع: يجزئ؛ لأن الذي عليه الفرض قد نوى.

فصل:

وإذا عجل الزكاة فلم تتغير الحال وقعت موقعها.

باب ذكر الأصناف الذين تدفع الزكاة لهم

وهم ثمانية ذكرهم الله تعالى في قوله: ]إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[

فصل:

والفقراء والمساكين صنفان، وكلاهما يأخذ لحاجته إلى مؤنة نفسه.

والفقير من ليس له ما يقع موقعاً من كفايته من مكسب ولا غيره.

والمسكين الذي له ذلك.

فيعطى كل واحد منهما ما تتم به كفايته.

فصل:

المؤلفة قلوبهم: هم السادة المطاعون في أقوامهم، مِمَن يرجى إسلامهم، أو يُخاف شرهم.

أو يرجى بإعطائهم إسلام نظرائهم.

فصل:

والغارمون ضربان:

ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو مَن يحمل دية أو مالاً لتسكن فتنة، وإصلاحٍ بين طائفتين، فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته، وإن كان غنياً؛ لما روى قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أسأله فيها فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: يا قبيصة إن الصدقة لا تحل إلا لثلاث، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. رواه مسلم.

والضرب الثاني: مَن غَرِم لمصلحة نفسه في مباح، فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه.

وإن غرم في معصية، لم يدفع إليه قبل التوبة، وفي إعطائه بعد التوبة قولان:

أحدهما: يعطى؛ لأنه يأخذ لتفريغ ذمته، لا لمعصية فجاز.

والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يُؤْمَن عوده إلى المعصية.


فصل:

في سبيل الله: هم المجاهدون، ويعطون قدر ما يحتاجون إليه؛ من نفقة طريقهم وإقامتهم، وثمن السلاح؛ لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين.

ومن الجهاد الحج، وفي دفع الزكاة للحج قولان:

أحدهما: هو من سبيل الله فيعطى من الصدقة ما يحج به حجة الإسلام، أو يعينه فيها مع الفقر؛ لما روي أن رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اركبيها فإن الحج في سبيل الله. رواه أبو داود.

والثاني: لا يجوز ذلك؛ لأن سبيل الله إذا أُطْلِق إنما يتناول الغزو.

فصل:

ابن السبيل: هو المسافر المنقطع به وله الغنى واليسار في بلده؛ فيعطى من الصدقة ما يبلغه.

فأما المنشئ للسفر من بلده فليس بابن سبيل، فإن كان فقيراً أعطي لفقره، وإلا فلا.

فصل:

ولا يدفع إلى واحد منهم أكثر مما يدفع به حاجته.

فصل:

ولا يستحب إعلام الآخذ أنها زكاة إذا كان ظاهره الاستحقاق؛ لأن فيه كسر قلبه.

فإنَّ شَكَّ في استحقاقه أعلمه كما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الرجلين الجَلْدَين.

باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه

الغني؛ لا تحل له الزكاة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب، وقوله: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي. وهذا حديث حسن.

وإذا كان للمرأة زوج غني فهي غنية؛ لأن كفايتها واجبة عليه وجوباً متأكداً.

مَن تلزمه مؤنته: كزوجته ووالديه وإن علوا، وأولاده وإن سفلوا؛ فلا يجوز الدفع إليهم.

وهل للمرأة، دفع زكاتها إلى زوجها؟ على قولين:

أحدهما: يجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لزينب امرأة ابن مسعود: زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم. رواه البخاري، ولأنه لا تلزمها نفقته فلم تحرم عليه زكاتها كالأجنبي.

والثاني: لا يجوز، لأنها تنتفع بدفعها إليه.

فصل:

وإذا تولى الرجل إخراج زكاته استحب أن يبدأ بأرقابه الذين يجوز الدفع إليهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقتك على ذي القربى صدقة وصلة. رواه الترمذي والنسائي، ويخص ذوي الحاجة، لأنهم أحق.

 

كتاب الصيام

صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ الآيات، وعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يوماً بارزاً للناس إذا أتاه رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. متفق عليه.

شروط وجوبه: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والإطاقة.

وأما الصغير فيؤمر بالصوم إذا أطاقه ليعتاده.

فإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي في أثناء الشهر: لزمه صيام ما بقي من الشهر، ولا يلزمهم قضاء ما مضى.

وإن وجد ذلك منهم في أثناء نهار، لزمهم إمساك بقيته وقضاؤه.

وإن بلغ الصبي وهو صائم، لزمه إتمام صومه؛ لأنه صار من أهل الوجوب فلزمه الإتمام.

كما لا يجب على الشيخ الذي يجهده الصيام، ولا على المريض المأيوس من برئه؛ لقول الله تعالى: ]لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[، وعليه أن يطعم لكل يوم مسكيناً؛ لقول الله تعالى: ]وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[.

فصل:

ومَن لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة:

أحدها: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فلهما الفطر، وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم؛ لقول الله تعالى: ]وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[.

وإن أفطرتا خوفاً على أنفسهما فعليهما القضاء فقط، كالمريض.

والثاني: الحائض والنفساء لهما الفطر، وتقضيان، ومتى وجد ذلك في جزء من اليوم أفسده.

وإن انقطع دمها ليلاً فنوت الصوم، ثم اغتسلت في النهار، صح صومها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويتم صومه. متفق عليه.

والثالث: المريض له الفطر، وعليه القضاء؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[.

والمرض المبيح للفطر: ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه.

فأما ما لا أثر للصوم فيه؛ كوجع الضرس والإصبع ونحوه فلا يبيح الفطر؛ لأنه لا ضرر عليه في الصوم.

ومَن أصبح صائماً فمرض في النهار فله الفطر؛ لأن الضرر موجود.

والصحيح إذا خاف على نفسه لشدة عطش أو جوع، ونحو ذلك، فله الفطر ويقضي؛ لأنه خائف على نفسه، أشبه المريض.

ومن فاته الصوم لإغماء فعليه القضاء؛ لأن الإغماء لا يزيل التكليف.

ومن أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه، وإن نام جميع النهار صح صومه.

والرابع: السفر الطويل المباح يبيح الفطر، لقول الله تعالى: ]فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[.

ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره.

وللمسافر أن يصوم ويفطر؛ لما روى حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر. متفق عليه.

والفطر أفضل: لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من البر الصوم في السفر. متفق عليه.

وإن نوى الصوم في سفره فله الفطر؛ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه. فقيل: إن الناس قد شَقَّ عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا فقال: أولئك العصاة. رواه مسلم.

وإذا قَدِم المسافر وبرئ المريض وهما صائمان لم يبح لهما الفطر؛ لأنه زال عذرهما قبل الترخص.

فإن زال عذرهما أو عذر الحائض و النفساء وهم مفطرون ففي الإمساك قولان.

فصل:

ولا يجب صوم رمضان إلا:

كمال شعبان ثلاثين يوماً، لأنه تيقن به دخول رمضان.

ورؤية الهلال، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. متفق عليه، ويقبل فيه شهادة الواحد.

فصل:

وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناس كلهم الصوم؛ لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان، وصومه واجب بالنص والإجماع.

ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين؛ لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن رسول الله أنه قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها؛ فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين؛ فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا. رواه النسائي.

فصل:

ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ لقول الله تعالى: ] وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق. حديث حسن، وعن عمر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس أفطر الصائم. متفق عليه.

وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جنباً صح صومه؛ وقد روت عائشة و أم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم. متفق عليه.

وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل.

وإن أكل شاكاً في غروب الشمس بطل صومه؛ لأن الأصل بقاء النهار.

باب النية في الصوم

لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل لكل يوم؛ لما روت حفصة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له. رواه أبو داود، وكل يوم عبادة منفردة لا يتصل بالآخر، ولا يفسد أحدهما الآخر.

وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه.

ومن أكل وشرب بعد النية، لم تبطل نيته؛ لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على أن نيته لم تفسد به.

فصل:

ويصح صوم التطوع بنية من النهار؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا، قال: إني إذا صائم. رواه مسلم.


باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة

يحرم على الصائم الأكل والشرب.

فإن أكل أو شرب مختاراً ذاكراً لصومه أبطله.

وإن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، أفطر.

وإن جمع ريقه ثم ابتلعه لم يفطر، وكذا إن ابتلع النخامة؛ لأنهما لم يصلا من خارج.

فصل:

ومَن استقاء عمداً أفطر، ومَن ذرعه فلا شيء عليه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقى عمداً فليقض. حديث حسن.

فصل:

وتحرم عليه المباشرة؛ لقوه تعالى: ]أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ[.

فإن باشر فيما دون الفرج، أو قَبَّل أو لمس فأنزل فسد صومه، فإن لم ينزل لم يفسد؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  قال: قلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً؛ قبلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم، قلت: لا بأس، قال: فمه؟. رواه أبو داود.

ولو احتلم لم يفسد صومه؛ لأنه يخرج عن غير اختياره.

وإن كَرَّر النظر فأنزل أفسد صومه؛ لأنه إنزال عن عمد في فعل الصوم يمكن التحرز عنه، وكذا إن استمنى بيده فأنزل أفطر.

فصل:

وما فعل من هذا ناسياً لم يفطره؛ لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه. متفق عليه.

وإن فعله مكرهاً لم يفطر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. رواه النسائي.

وإن فعله وهو نائم لم يفطر؛ لأنه أبلغ في العذر من الناسي.

وإن أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع: أفطر؛ لما روي عن حنظلة قال: كنا بالمدينة في رمضان وفي السماء سحاب، فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس، ثم طلعت الشمس، فقال عمر: مَن أفطر فليقضِ يوماً مكانه. رواه سعيد بن منصور.

فصل:

وعلى مَن أفطر: القضاء، وإمساك سائر يومه.

ولا تجب الكفارة بغير الجماع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يأمر بها المحتجم ولا المستقيء.

فصل:

ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبينا نحن على ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعذق فيه تمر فقال: أين السائل، خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد حرتي المدينة - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حتى بدت أنيابه فقال: أطعمه أهلك. متفق عليه.

ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان؛ لعدم حرمة الزمان.

ومَن لزمه الإمساك في رمضان فعليه الكفارة بالوطء وإن كان مفطراً؛ لأنه وطء يحرم بحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كوطء الصيام.

وإن وطئ ثم وطئ قبل التكفير في يوم واحد فعليه كفارة واحدة.

وإن كان ذلك في يومين ففيه قولان:

أحدهما: تجزئه كفارة واحدة؛ لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا.

والثاني: تلزمه كفارتان؛ لأنه أفسد صوم يومين بجماع فوجبت كفارتان.

فصل:

والكفارة عتق رقبة، فمَن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

باب القضاء

يجوز تفريق قضاء رمضان؛ لقول الله تعالى: ]فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[.

ويجوز له تأخيره ما لم يأت رمضان آخر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان يكون عليَّ الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان. متفق عليه.

ولا يجوز تأخيره أكثر من ذلك لغير عذر.

فإنْ أَخَّرَه لعذر فلا شيء عليه.

وإن أمكنه القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.

وإن فَرَّط فيه حتى مات قبل رمضان آخر، أُطعم عنه عن كل يوم مسكين؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ويجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع بالصوم؛ لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع بها في وقتها.

باب ما يستحب وما يكره

ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا كان يوم صوم أحدكم قلا يرفث ولا يصخب؛ فإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم. متفق عليه.

ويستحب للصائم السحور؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: تسحروا؛ فإن في السحور بركة. متفق عليه.

ويستحب تأخير السحور وتعجيل الفطر؛ لما روى أبو ذر رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطور. مسند أحمد.

ويستحب أن يفطر على تمرات، فإن لم يجد فعلى ماء؛ لما روى أنس رضي الله عنه  قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء. وهذا حديث حسن.

ولا بأس بالسواك؛ لأن عامر بن ربيعة رضي الله عنه  قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ما لا أحصي يتسوك وهو صائم. وهذا حديث حسن.

فصل:

وتكره القبلة لمن تُحَرِّك شهوته؛ لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد صومه.

ومن لا تحرك شهوته فيه قولان:

أحدهما: يكره؛ لأنه لا يأمن من حدوث شهوة.

والأخرى: لا يكره؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُقَبِّل وهو صائم. متفق عليه.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن المباشرة للصائم فرخص له، فأتاه آخر وسأله فنهاه، فإذا الذي رَخَّص له شيخ، والذي نهاه شاب. رواه أبو داود.

والحكم في اللمس وتكرار النظر كالحكم في القبلة.

ويكره أن يذوق الطعام؛ فإن فعل فلم يصل إلى حلقه شيء لم يضره، وإن وصل شيء فطره.

فصل:

ويكره الوصال بأن يصوم يومين أو أكثر لا يفطر بينهما؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تواصلوا قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كأحد منكم إني أُطْعَم وأُسْقى. متفق عليه.

فإن أَخَّر فطره إلى السحر جاز؛ لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر. أخرجه البخاري.

باب صوم التطوع

وهو مستحب؛ وأفضله ما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.متفق عليه.

ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم  بثلاث؛ صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. متفق عليه.

ويستحب أن يجعلها أيام البيض؛ لما روى أبو ذر رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. وهذا حديث حسن.

ويستحب صوم الاثنين والخميس؛ لما روى أسامة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس. رواه أبو داود.

ويستحب الصيام في شهر محرم؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم. رواه مسلم. وهذا حديث حسن.

ويستحب صيام عشر ذي الحجة؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء. وهذا حديث حسن صحيح.

وصوم يوم عرفة كفارة سنتين، وهو التاسع من ذي الحجة؛ لما روى أبو قتادة رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده.

ولا يستحب لمن بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فلم يصمه، ومع أبي بكر فل يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه ولا آمر به، ولا أنهى عنه. حديث حسن.

وصوم عاشوراء كفارة سنة، وهو العاشر من المحرم، قال صلى الله عليه وآله وسلم  في صيام يوم عاشوراء: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده. رواه مسلم.

ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها فكأنما صام الدهر؛ لما روى أبو أيوب رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله. رواه مسلم.

فصل:

ويكره إفراد الجمعة بالصيام؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو يوماً بعده. متفق عليه.

ويكره إفراد يوم السبت بالصوم؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم. وهذا حديث حسن صحيح.

فإن صامهما معاً لم يكره؛ لحديث أبي هريرة.

ويكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يشك فيه هل هو من شعبان أو من رمضان إذا كان صحواً، ويحتمل أنه محرم؛ لقول عمار: مَن صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم . رواه أبو داود والترمذي نحوه وصححه.

ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صياماً فليصمه. متفق عليه.

فصل:

ويحرم صوم العيدين عن فرض أو تطوع.

فإن صامهما فقد عصى ولم يجزئاه عن فرض؛ لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه  فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن صيامهما؛ يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون من نسككم. متفق عليه.

ولا يجوز صيام أيام التشريق؛ لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل. رواه مسلم.

فصل:

ومَن دخل في صيام تطوع فله الخروج منه ولا قضاء عليه.

وفي قول: عليه القضاء؛ لأنه عبادة فلزمت بالشروع كالحج.

ومَن دخل في واجب كقضاء أو نذر غير معين أو كفارة: لم يجز له الخروج منه؛ لأنه تعين بدخوله فيه، فإن خرج منه لزمه أكثر مما كان عليه.

فصل:

ويستحب تحري ليلة القدر؛ لقول الله تعالى: ]لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ[.

وهي في رمضان؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل فيها القرآن، وأنه أنزل في شهر رمضان، فيدل على أنها في رمضان.

وأرجاه الوتر في ليالي العشر الأواخر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان متحرياً فليتحرها في السبع الأواخر. وفي لفظ: فاطلبوا في العشر الأواخر في الوتر منها. متفق عليه.

فينبغي أن يجتهد في ليالي الوتر من العشر كله، ويكثر من الدعاء لعله يوافقها، ويدعو بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني. رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.

كتاب الاعتكاف

وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، وهو مستحب؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه.

ويجب بالنذر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن نذر أن يطيع الله فليطعه. رواه البخاري.

فصل:

ولا يصح إلا بنية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات.

فصل:

ومَن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه جاز الاعتكاف في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعاً فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى. متفق عليه.

وإن نذره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه ولم يجز في المسجد الأقصى؛ لأنه مفضول.

وإن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما؛ لأنهما أفضل منه، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. رواه مسلم.

فصل:

فإن عين بنذره زمناً تعين ولزمه أن يعتكف فيه.

فإن نذر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، ويخرج منه بعد غروب شمس شهر رمضان.

وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله، ويخرج منه بعد غروبها من آخره تاماً كان الشهر أو ناقصاً.

وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوماً بالعدد، ويلزمه التتابع، ويدخل في نذره الليل والنهار.

وإن نذر اعتكاف يوم لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقيناً، ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات، لأن اليوم اسم للكامل المتتابع.

فإن قال: لله تعالى عليَّ أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهراً بالليل أو بالنهار، لزمه ما نذر، ولم يدخل فيه ما سواه.

وإن نذر اعتكافاً معيناً متتابعاً ففاته لزمه قضاؤه متتابعاً.


فصل:

ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. متفق عليه.

ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان.

وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له مَن يأتيه به فله الخروج إليه، لأنه مما لا بد له منه.

وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها؛ لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف.

وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها، فعليه الخروج لذلك، ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان.

فصل:

ولا يخرج لعيادة مريض، ولا حضور جنازة لم تتعين عليه؛ لقول عائشة رضي الله عنها: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه. رواه أبو داود.

وإن شرط أنه متى مرض أو عَرَض له عارض خرج جاز شرطه لذلك.

فصل:

وله صعود سطح المسجد لأنه منه، وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه؛ لأنها ليست منه.

فصل:

ويحرم على المعتكف الوطء؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[.

فإن وطئ فسد اعتكافه، والعامد والساهي سواء.

فصل:

وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه؛ كالطعام ونحوه.

ولا يتكسب بالصنعة، لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد والتجارة فيه تنافيه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن البيع والشراء في المسجد. وهو حديث حسن.

فصل:

ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد، ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد.

وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يفعله وهو معتكف.

وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب.

فصل:

ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن، واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال.

ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام.

فصل:

وأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام؛ لما روى قيس بن مسلم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه  على امرأة من أحمس، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت. رواه البخاري.

وعن علي رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا صمات يوم إلى الليل. رواه أبو داود.

ولا يجوز جعل القرآن بدلاً من الكلام؛ لأنه استعمال له في غير ما هو له.

فصل:

ومَن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه، ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه؛ لأنها ليلة تتلو العشر، وقد ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها، فأشبهت ليالي العشر.

 

كتاب الحج

الحج من أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: ]وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[، ولما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتم.

وتجب العمرة على من يجب عليه الحج؛ لقول الله تعالى: ]وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ[، ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت إني أسلمت يا أمير المؤمنين وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأهللت بهما، فقال: هديت لسنة نبيك. رواه النسائي.

ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يدخل مكة إلا محرم، إلا الحطابين. إلا أن يكون دخوله يتكرر.

فإن دخل مَن يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه.

فصل:

شروط الحج والعمرة:

الإسلام، والبلوغ، والعقل، والاستطاعة؛ لقول الله تعالى: ]مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً[. وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى. رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما.

وإن وجد البلوغ في الوقوف بعرفه أو قبله، أجزأه عن حجة الإسلام، وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجع فوقف في الوقت أجزأه أيضاً.

ولو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه، لكن إن كان في حجه تثقيل على الناس لمسألته إياهم كره له.

فصل:

والاستطاعة في حق البعيد: القدرة الجسدية والزاد الاقتصادي، والمركوب الآمن؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه؛ فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج.

ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دَين حالٍّ ومؤجل، ونفقة عياله إلى أن يعود.

وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت قُدِّم الزواج؛ لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه، وإن لم يخف على نفسه وجب الحج، لأن الزواج تطوع فلا يسقط به الحج الواجب.

ومَن كان له عقار يحتاج إليه للسكنى، أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله، أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه ذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب علم يحتاج إليها: لم يلزمه صرفه في الحج.

ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به: لم يلزمه قبوله.

فصل:

والمحرم للمرأة من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها؛ لأنه لا يُستطاع فعله بدونها فكانت شرطاً للوجوب.

فصل:

والمريض الذي لا يرجى برؤه، والكبير، يقيم مَن يحج عنه ويعتمر؛ لما روى أبو رزين أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حُجَّ عن أبيك واعتمر. وهو حديث حسن.

فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن عهدته.

فصل:

في حج المرأة ثلاثة أمور:

أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم، إلا ومعها ذو محرم. متفق عليه.

والمَحْرَم: زوجها، أو مَن تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو رضاع.

وإن مات المحرم في الطريق، مضت إذا كانت قد تباعدت، وإن كانت قريبة رجعت.

وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت، وأجزأها حجها.

الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض؛ لأنه واجب بأصل الشرع، ويستحب لها استئذانه؛ جمعاً بين الحقين.

الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة؛ لأنها واجبة في المنزل تفوت؛ فقُدِّمت على الحج الذي لا يفوت.

فصل:

مَن وجب الحج عليه فمات قبل فعله وجب الحج عنه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن أبيها، مات ولم يحج، قال: حجي عن أبيك. رواه النسائي، ويُحَجُّ عنه من رأس ماله.

فصل:

وإن خرج للحج فمات في الطريق، استنيب عنه من حيث انتهى إليه.

وإن مات بعد فعل بعض المناسك، فُعِل عنه ما بقي؛ لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في جميعه.

فصل:

ولا يجوز أن ينوب في الحج مَن لم يسقط فرضه عن نفسه؛ لما روى ابن عباس قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن شبرمة؟، قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟، قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة. رواه أبو داود.

ولا يجوز أن يعتمر عن غيره مَن لم يعتمر عن نفسه.

باب المواقيت

للحج ميقاتان: ميقات مكان، وميقات زمان.

فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قالك وَقَّت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمَهَلُّه من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها. متفق عليه.

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وَقَّت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود.

وميقات العمرة للمكي ومَن في الحرم: من الحل؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم. متفق عليه.

فصل:

والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة.

فإن أحرم قبله جاز.

ومَن بلغ الميقات مريداً للنسك، لم يجز له تجاوزه بغير إحرام.

فإن تجاوزه غير محرم لزمه الرجوع ليحرم منه.

فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه.

فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه، أو أحرم من موضعه لغير عذر: فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب من مناسك الحج.

فصل:

وميقات الزمان: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة؛ لقول الله تعالى: ]الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ[.

وعن ابن مسعود وجابر وابن الزبير أنهم قالوا: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

ولا يحرم بالحج قبل أشهره.

وأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان، ويجوز الإحرام بها في جميع السنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: عمرة في رمضان تعدل حجه. متفق عليه. واعتمر في ذي القعدة، وفي ذي الحجة مع حجته، رواه أنس. وهو حديث صحيح.

باب الإحرام

يستحب الغسل للإحرام؛ لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه  أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  تجرد لإهلاله واغتسل. حديث حسن.

ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار.

ثم يتجرد من المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين.

ويستحب أن يتطيب في بدنه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وقالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو محرم. متفق عليهما.

ولا يتطيب في ثوبه.

فصل:

ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة؛ لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حين فرغ من صلاته، ثم خرج، فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  راحلته واستوت به قائمة أَهَلَّ، فأدرك ذلك منه قوم، فقالوا: أَهَلَّ حين استوت به راحلته، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى علا البيداء فأَهَلَّ، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين علا البيداء، رواه أبو داود.

فصل:

ولا ينعقد الإحرام من غير نية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الأعمال بالنيات.

فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً، وإن نوى الإحرام من غير تلبية انعقد إحرامه.

ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه، ويشترط فيه: أن محلي حيث يحبسني، فيقول: اللهم إني أريد النسك (حج، عمرة) فيسره لي وتقبله مني، فإن حبسني حابس فمحلي حيث يحبسني؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فمنا مَن أَهَلَّ بعمرة، ومنا مَن أَهَلَّ بحج وعمرة، ومنا مَن أَهَلَّ بحج، وعنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية [مريضة] فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني. متفق عليهما.

ويفيد هذا الشرط شيئين:

أحدهما: أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل.

والثاني: أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره.

فصل:

ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء.

وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان: صح؛ لما روى أبو موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: بم أهللت؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله، قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم أمرني أن أحل. متفق عليه.

ثم إن تبين له ما أحرم فلان فإحرامه مثله، وإن تبين أن فلاناً لم يحرم فله صرفه إلى ما شاء.

فصل:

وهو مخير إن شاء أحرم متمتعاً، أو مفرداً أو قارناً؛ لحديث عائشة.

والتمتع: هو الإحرام بعمرة من الميقات؛ فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه.

والإفراد: الإحرام بالحج مفرداً.

والقران: الإحرام بهما معاً، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف.

فصل:

ويجب على المتمتع دم؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[.

والدم الواجب شاة أو سُبْع بدنة.

ولا يجب الدم إلا بشرط: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: ]ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[.

وفي وقت وجوبه قولان:

أحدهما: إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى: ]فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ[. وبإحرام الحج يفعل ذلك فيجب الدم.

والثانية: إذا وقف بعرفة؛ لأن الحج لا يحصل إلا به.

فأما وقت ذبحه فهو إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته، وإن قدم في العشر نحره بمنى.

فإن لم يجد الهدي فعله صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[.

والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة، ليحصل صومها أو بعضه بعد إحرام.

وإن قدم الصيام على ذلك بعد إحرام العمرة جاز.

ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله.

فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه جاز.

ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة.

فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام أيام منى؛ لقول ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم: لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للممتع إذا لم يجد الهدي.

فصل:

ويجب على القارن دم؛ لأنه يروى عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم، ولأن القران نوع تمتع فيدخل فيه عموم الآية.

ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وحكمه حكم دم المتعة.

فصل:

ويسن للمحرم التلبية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لبى ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها.

وصفتها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . متفق عليه.

وتجوز الزيادة عليها لأن عمر رضي الله عنه  زاد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوباً ومرغوباً إليك، لبيك.

وزاد ابنهرضي الله عنه: لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

وزاد أنس رضي الله عنه: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وسمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فلم ينكر.

ويستحب أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعدها؛ لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان.

ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار.

ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لبيك عمرة وحجاً. متفق عليه.

ويستحب رفع الصوت بها؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال. حديث صحيح.

ولا يجهد نفسه بذلك؛ لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته.

ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها.

ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع: إذا علا نشزاً أو هبط وادياً، أو تلبس بمحظور ناسياً، وفي دُبُر الصلوات المكتوبات، وإذا التقت الرفاق، وفي إقبال الليل والنهار، وبالأسحار.

وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساجد الحرم وبقاعه.

باب محظورات الإحرام

أحدها: الجماع؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ[، وقال ابن عباس الرفث: الجماع.

وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة؛ لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة، ويحرم عليه النظر لشهوة، لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة.

والثاني: عقد النكاح؛ فلا يجوز للمحرم أن يعقد لنفسه ولا لغيره؛ لما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يَنكح المحرم ولا يُنكَح ولا يخطب. رواه مسلم؛ وإن فعل فالنكاح باطل؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه.

ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول، وليس للشاهد فيهما شيء.

وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة؛ للخبر.

ولا يجب بالتزويج فدية.

والثالث: قطع الشعر، لقول الله تعالى: ]وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ[، نص على حلق الرأس، وقسنا عليه سائر شعر البدن.

وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه.

والرابع: تقليم الأظافر يحرم، وإن انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه.

والخامس: لبس المخيط، فيحرم عليه لبس كل ما عُمِل للبدن على قدره أو على قدر عضو منه؛ كالقميص والبرنس والسراويل والخف؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين فيلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيء مسه زعفران أو ورس. متفق عليه.

وتجب الفدية باللبس.

ولا يجوز له عقد ردائه عليه، ولا يجوز له أن يزره عليه، ولا يخله بشوكة ولا غيرها، ولا يغرز طرفيه في إزاره، وله أن يعقد إزاره؛ لأنه يحتاج إليه لستر العورة.

وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل، ولا يعقده، ولكن يدخل بعضه في بعض.

وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته، ويدخل السيور بعضها في بعض، فإن لم يثبت عَقَدَه؛ لقول عائشة رضي الله عنها: أوثق عليك نفقتك.

فأما المحرمة، فلها لبس المخيط كله، إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعدُ ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص أو خف. رواه أحمد بإسناده، وروى البخاري: لا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين.

وإن احتاجت إلى سترة، سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أبو داود.

ويكون ما تسدله متجافياً، ولا يصيب البشرة.

والسادس: تغطية الرأس؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن لبس العمائم، ولقوله في الذي مات محرماً: لا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً.

وفيه الفداء.

فإن حمل عليه طبقاً، أو وضع يده عليه، فلا بأس.

ولا يمنع من تلبيده بصمغ، وعسل؛ ليتلبد ويجتمع الشعر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إني لبدت رأسي. وهو محرم. متفق عليه.

والسابع: الطيب يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الميت المحرم: ولا تقربوه طيباً، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران.

وتجب به الفدية.

وإن شم العود فلا فدية عليه، وإن تعمد شم الطيب، أو حمل مسكاً ليشم رائحته، أو جلس عند العطار لذلك، فعليه الفدية.

والثامن: الصيد؛ يحرم صيده وقتله؛ لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ[، وقوله تعالى: ]وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[.

فإن أخذه لم يملكه، وعليه إرساله من موضع يمتنع فيه.

ويحرم عليه تنفيره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في مكة: لا يُنَفَّر صيدها. متفق عليه.

ويحرم عليه الإعانة على قتله؛ بدلالة قول، أو إشارة، أو إعارة آلة؛ لما روى أبو قتادة رضي الله عنه  أنه كان مع أصحابٍ له، محرمين وهو لم يحرم، فأبصرو حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني، به، وأحبوا لو أني أبصرته، فركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نعينك عليه. وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه، ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها. متفق عليه؛ فإن فعل فقتله حلال فالجزاء على المحرم، وإن قتله محرم آخر، فالجزاء بينهما.

ويحرم عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه، أو كان له أثر في ذبحه، مثل أن يعيره سكيناً.

ويحرم عليه أكل ما صاده، أو صِيْدَ لأجله؛ لما روى جابر رضي الله عنه  قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم. قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب.

وإن ذبح المحرم الصيد، حرم على كل أحد، وما حرم عليه لدلالة، أو إعارة آلة، أو صِيْدَ من أجله، لم يحرم على الحلال.

فصل:

ويحرم عليه شراء الصيد و اتهابه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حماراً وحشياً، فرد عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُمٌ. متفق عليه.

وإن أحرم وفي ملكه صيد، لم يَزُل ملكه عنه، وله بيعه وهبته.

فصل:

والصيد المحرم: ما جمع صفات ثلاث:

أحدها: أن يكون من صيد البر، وأما صيد البحر فحلال؛ لقوله تعالى: ] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ[، وأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم.

والثاني: أن يكون وحشياً، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام، والدجاج، فليس بمحرم؛ لأنه ليس بصيد.

والثالث: أن يكون مباحاً، فلا يحرم قتل غيره، ولا جزاء فيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس من الدواب ليس على المحرم جُناح في قتلهن: الحدأة، والغراب، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور. متفق عليه؛ فثبت إباحة قتل هذه الخمس بالنص، وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى.

وأما غير المأكول مما لا أذى فيه، فيكره قتله ولا جزاء فيه.

فصل:

وما حَرُم من الصيد حرم كسر بيضه؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال في بيض النعام يصيبه المحرم: يضمنه. رواه الدارقطني.

فصل:

وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط، أو تغطية رأسه، أو الطيب لمرض، أو شدة حر: فعله، وعليه الفدية.

وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه.

فصل:

يكره للمحرم حك شعره بأظفاره؛ كيلا ينقطع، فإن انقطع بالحك شعره لزمته فديته.

ويكره الكحل بالإثمد؛ لأنه زينة، والحاج أشعث أغبر، وهو في حق المرأة أشد كراهة، ولا فدية فيه.

ويكره لبس الخلخال، والتزين بالحلي.

ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين.

وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ[، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. متفق عليه.

فصل:

ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء والصابون غير المعطر، ولا فدية عليه.

ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة؛ لقول الله تعالى: ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ[.

فصل:

ومَن جامع، أفسد حجه وعليه ذبح بَدَنَة (جمل، ناقة)، سواء كان عالماً أو جاهلاً، عامداً أو ناسياً.

وإن حلق شعره أو قَلَّم أظفاره ناسياً أو جاهلاً، فعليه الفدية.

وإن تطيب ولبس مخيطاً ناسياً أو جاهلاً، فلا فدية عليه؛ لما روى يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وعليه جبة، وعليه أثر خلوق، فقال: يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك. متفق عليه. ولم يأمره بفدية لجهله، وقسنا عليه الناسي لأنه في معناه.

ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل، فعليه إزالة ذلك، فإن استدامه فعليه الفدية.

وحكم المكره، حكم الناسي، لأنه أبلغ منه في العذر.

وإن حلق رأسه مكرهاً أو نائماً، فالفدية على الحالق.


باب الفدية

من حلق رأسه وهو محرم، فعليه ذبح شاة، أو إطعام ثلاثة آصع (جمع صاع) لستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ[، وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لعلك تؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع تمر، أو نسك شاة. متفق عليه.

فصل:

ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب: فعليه الفدية.

وإن لبس وتطيب وحلق وقَلَم ظفره: فعليه لكل جنس فدية؛ لأنها أجناس مختلفة، فلم تتداخل كفاراتها.

وإن كرر محظوراً واحداً فلبس، ثم لبس أو تطيب، ثم تطيب أو حلق، ثم حلق: ففدية واحدة، ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني.

وأما جزاء الصيد، فلا تداخل فيه، وكلما قتل صيداً حكم عليه.

فصل:

وإذا وطئ المحرم، في الفرج، في الحج، قبل التحلل الأول: فعليه بدنة، يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وإن وُطِئت المحرمة مطاوعة: فعليها بدنة؛ لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة كالرجل.

وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة: فعلى كل واحد منهما بدنة؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال للمجامع: اهد ناقة، ولتهد ناقة.

ومتى وطئ المحرم دون الفرج، أو قَبَّل أو لمس لشهوة، فلم ينزل: فعليه شاة؛ لأنه فعل محرم بالإحرام، لم يفسد الحج، فوجبت به الشاة.

وإن أنزل: فعليه بدنة، لأنه استمتاع بالمباشرة أوجب الغسل، فأوجب البدنة.

وإن نظر فلم ينزل: فلا شيء عليه.

وإن نظر فصرف بصره فأنزل، فعليه شاة.


باب جزاء الصيد

يجب الجزاء في الصيد؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ[.

فما له مِثْل من بهيمة الأنعام، فيجب فيه مثله، فمن ذلك الضبع، والنعامة، وحمار الوحش، والظبي.

وفي كبير الصيد كبير مثله، وفي الصغير صغير مثله، وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله.

فصل:

وما لا مثل له: وهو الطير وشبهه من صغار الصيد: ففيه قيمته.

فصل:

وإن اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد.

وإن اشترك حلال وحرام: فلا شيء على الحلال.

فصل:

و القارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد، وسائر الكفارات؛ لأنهم سواء في الإحرام، فوجب استواؤهم في ذلك.

فصل:

وصيد الحرم حرام على الحلال والحرام؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها. فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الإذخر. متفق عليه.

و حكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام.

فصل:

ويحرم قلع شجر الحرم، وحشيشه كله؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: إلا الإذخر.

ولا بأس بقطع ما يبس؛ لأنه بمنزلة الميت، وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق، أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي.


فصل:

ويجب الجزاء في ذلك، فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة: الكبيرة، والجزلة: الصغيرة.

فصل:

ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كرهاه.

ولا يكره إخراج ماء زمزم؛ لأنه يستخلف.

فصل:

ويحرم صيد مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وشجرها؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أشرف على المدينة فقال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثل ما حرم إبراهيم مكة. وفي لفظ: ولا يقطع شجرها. متفق عليه.

ولا جزاء في صيدها وشجرها؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام.

فصل:

وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد: لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم؛ لقول الله تعالى: ]هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ[.

وكذلك دم التمتع والقران؛ لأنه نسك، فأشبه الهدي.

باب دخول مكة وصفة العمرة

ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل؛ لما روي عن ابن عمر أنه كان يغتسل.

ثم يدخل مكة، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يفعله.

ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لقول جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  دخل مكة ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل المسجد. رواه مسلم.

ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت، ويرفع يديه؛ لما روى ابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزد مَن شرَّفه وكرَّمه ممن حجه واعتمر تشريفاً وتعظيماً وبراً. رواه الشافعي في مسنده.

وعن سعيد بن المسيب: أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام.

وزاد العلماء: الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، الحمد لله الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً، الحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت.

وما زار من الدعاء فحسن.

فصل:

ويبدأ بالطواف؛ لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حين قدم مكة، توضأ، ثم طاف بالبيت. متفق عليه.

والطواف تحية المسجد، وينوي المتمتع به طواف العمرة، وينوي المفرد والقارن الطواف للقدوم.

ويسن الاضطباع فيه، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن، ويتركه مكشوفاً، ويرد طرفيه على منكبه الأيسر؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى. رواه أبو داود.

ويطوف سبعاً، يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه؛ لقول جابر: حتى أتينا البيت معه استلم الركن، فرَمَل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ومعنى استلامه: مسحه بيده، ويستحب تقبيله؛ لما روى أسلم قال: رأيت عمر بن الخطاب قَبَّل الحجر، وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قَبَّلَك ما قَبَّلتك. متفق عليه، فإن لم يمكنه تقبيله، استلمه، وقَبَّل يده؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استلمه وقَبَّل يده. رواه مسلم، فإن استلمه بشيء في يده قَبَّله؛ لما روى ابن عبايس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يطوف في البيت، ويستلم الركن بمحجن عنه ويُقَبِّل المحجن. رواه مسلم، وإن لم يمكنه أشار بيده إليه؛ لما روى ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه، وكَبَّر.

ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال عند استلامه: بسم الله والله أكبر إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

ويحاذي الحجر بجميع بدنه، ليستوعب جميع البيت والطواف.

ثم يأخذ في الطواف ويجعل البيت على يساره، ويطوف سبعاً؛ يرمل في الثلاث الأول منها، وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى، ويمشي أربعاً، روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا طاف بالبيت الطواف الأول خَبَّ ثلاثاً، ومشى أربعاً. متفق عليه.

ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك.

فإن ترك الرَّمل في الثلاث لم يقضه في الأربع، لأنه سنة فات محلها.

ولو فاته الرَمَل والاضطباع في هذا الطواف، لم يقضه فيما بعده.

ويكون حِجْر إسماعيل داخلاً في طوافه؛ لأن الحِجْر في البيت.

ولا يطوف على جدار الحجر، ولا شاذروان الكعبة؛ لأنه من البيت.

ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي؛ لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان لا يستلم إلا الحَجر والركن اليماني، وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يستلمهما في شدة ولا رخاء. رواه مسلم، وقال: ما أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استلم الركنين اللذين يليان الحَجر، إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. متفق عليه.

ويقول بين الركنين: ]رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[؛ لما روى عبد الله بن السائب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول ذلك ما بين ركن بني جمح، والركن الأسود. رواه أبو داود.

ويقول في بقية الطواف: اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعو بما أحب.

ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف؛ لأنه صلاة، والصلاة محل القرآن.

ويستحب أن يدع الحديث كله، إلا ذكر الله، أو قراءة القرآن، أو دعاء، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الطواف في البيت صلاة، إلا أن الله أباحكم فيه الكلام؛ فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير. رواه الترمذي.

فصل:

فإذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما بـ ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[، وسورة الإخلاص؛ لما روى جابر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  طاف في البيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين، قرأ فيهما ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[، و]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[. رواه مسلم، وإن صلاهما في غير هذا الموضع، أو قرأ غير ذلك أجزأه.

فصل:

ويشترط لصحة الطواف:

الطهارة من الحدث والنجس، وسترة العورة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يطوف في البيت عريان. متفق عليه.

والنية، والطواف سبعاً، والموالاة، إلا أنه إذا أقيمت الصلاة، فإنه يصلي، ثم يبني.

وإذا أعيا في الطواف، فلا بأس أن يستريح.

ومَن سبقه الحدث، يتوضأ ويبني إذا لم يطل الفصل.

فصل:

وسنن الطواف: استلام الركن، وتقبيله، أو ما قام مقامه، من الإشارة والدعاء، والذكر في مواضعه، والاضطباع، والرَمَل، والمشي في مواضعه، وركعتا الطواف، وأن يطوف ماشياً، فإن طاف راكباً أجزأه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  طاف على بعيره، ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به.

فصل:

إذا فرغ من الركعتين، سعى بين الصفا والمروة، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه؛ لأن جابراً رضي الله عنه  قال في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ: ]إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ[، نبدأ بما بدأ الله تعالى به، فبدأ في الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله، فوَحَّد الله وكَبَّره وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات.

ويدعو بدعاء ابن عمر، زاد على ما سبق: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم حببني إليك، وإلى ملائكتك، وإلى رسلك، وإلى عبادك الصالحين، اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم إنك قلت: ]ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه، ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام، اللهم لا تقدمني لعذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن. رواه سعيد بن منصور.

ثم ينزل ويمشي، ويسعى بين الميلين الأخضرين، ثم يمشي حتى يصعد المروة؛ فيرقى عليها، ويقول كما قال على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يكمل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع أخرى، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة؛ لأن جابراً رضي الله عنه  قال: ثم نزل، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رَمَل في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، فلما كان آخر طوافه على المروة. وذكر الحديث. رواه مسلم.

ويدعو فيما بينهما، ويذكر الله تعالى.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه  إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله. وهو حديث حسن صحيح.

ويسن فيه الطهارة، والموالاة بينه، ويسن أن يمشي، فإن ركب جاز.

والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة، ولا تسعي سعياً شديداً بين الميلين الأخضرين.

فصل:

فإذا فرغ من السعي، فإن كان متمتعاً، لا هدي معه قَصَّر من شعره، وحَلَّ من عمرته؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مكة قال للناس: مَن كان معه هدي، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومَن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل. متفق عليه.

فصل:

ولا يسن السعي بين الصفا والمروة إلا مرة في الحج، ومرة في العمرة.

فمَن سعى مع طواف القدوم، لم يعده مع طواف الزيارة [الإفاضة]، ومَن لم يسع مع طواف القدوم، أتى به بعد طواف الزيارة.

وأما الطواف بالبيت، فيستحب الإكثار منه، والتطوع به، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة. رواه ابن ماجه.

فصل:

ويستحب أن يشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه؛ فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ماء زمزم لما شُرِب له. رواه الدارقطني.

ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك.

باب صفة الحج

يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  خرج يومئذ، فصلى الظهر بمنى.

فمن كان محرماً، خرج على حاله.

ومن كان متحللاً من المتمتعين والمكيين، أحرم بالحج.

ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها، ووقوفه، مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال جابر: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، ... فسار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أَذَّن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وأين وقف من عرفة جاز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عرفة كلها موقف. رواه أبو داود.

فصل:

ويجتهد في الذكر والدعاء؛ لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة. فيقول: ما أراد هؤلاء. رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.

ويدعو بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أكثر دعاء الأنبياء قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل لي في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري.

فصل:

ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر؛ لما روى عروة بن مضرس بن أوس بن لام قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيىء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجته وقضى تفثه. حديث صحيح.

ومَن حَصَّل عرفة في وقت الوقوف قائماً، أو قاعداً، أو مجتازاً، أو نائماً، أو غير عالم أنه بعرفة، فقد أدرك الحج.

ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا استقبال قبلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لعائشة إذ حاضت: افعلي ما يفعل الحجاج، غير أن لا تطوفي بالبيت، وأمرها فوقفت.

ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وقف كذلك.

ومن وافى عرفة ليلاً أجزأه ذلك، ولا دم عليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه. رواه أبو داود.

فصل:

ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة، ويسير عليه السكينة، وإذا وجد فرجة، أسرع؛ لقول جابر: وأردف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أسامة وسار وهو يقول: أيها الناس السكينة، السكينة، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما [دون صلاة سمة راتبة بين الفريضتين]، وقال أسامة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يسير العَنَق [السير بين الإبطاء والإسراع]، فإذا وجد فرجة، نص يعني: أسرع. متفق عليه.

ويلبي في الطريق ويذكر الله تعالى؛ لما روى الفضل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه.

فإن وصل مزدلفة، نزل، ثم صلى المغرب والعشاء يجمع بينهما؛ لخبر جابر.

وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة أجزأه.

ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر، ثم يصلي الفجر في أول وقتها، ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عليه، ويستقبل القبلة ويدعو، ويكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه، وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق، ]فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ[.

ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى، ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة، فيرميها؛ لقول جابر في حديثه: ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حتى طلع الفجر، فصلى الصبح حين تَبَيَّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره، وهلله ووحده، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل طلوع الشمس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى، حتى أتى الجمرة، يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف.

وأين وقف من مزدلفة جاز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر.

ويستحب أخذ حصى الجمار منها، ليكون مستعداً بالحصى، لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي، ومن حيث أخذه جاز، وعدده سبعون حصاة.

ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف، و يلقطهن لقطاً؛ لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  غداة العقبة: القط لي حصاً، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفيه، ويقول: أمثال هؤلاء، فارموا، ثم قال: أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. رواه ابن ماجه.

والمبيت بمزدلفة واجب، يجب بتركه دم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وقف به، وسماه موقفاً.

ويجوز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل؛ لما روت عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم أفاضت. رواه أبو داود.

ولا بأس بتقديم الضعفة ليلاً؛ لهذا الحديث، ولما روى ابن عباس قال: كنت فيمن قَدَّمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى. متفق عليه.

فصل:

فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم  بدأ بها.

والمستحب رميها بعد طلوع الشمس؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. مسند أحمد.

ويستحب أن يستقبل القبلة في الرمي، ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي؛ لقول الفضل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

ويكبر مع كل حصاة؛ لحديث جابر رضي الله عنه ، ويرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه.

فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة.

فإن أخر الرمي إلى المساء رمى ولا شيء عليه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يُسأل بمنى، قال رجل: رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج. رواه البخاري.

فصل:

ثم ينصرف فيذبح هدياً إن كان معه، وإن كان عليه واجباً عليه، ولا هدي معه، اشتراه فذبحه؛ لقول جابر رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إنه رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده.

فصل:

ثم يحلق رأسه، ويبدأ بشقه الأيمن؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه ثم الأيسر. رواه أبو داود.

ويجوز أن يقصر من شعره.

والحلق أفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حلق وقال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال في الرابعة: والمقصرين.

والمرأة تقصر، ولا تحلق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليس على النساء حلق، إنما على النساء تقصير. رواه أبو داود.

ومَن لا شعر له فلا شيء عليه، ويستحب أن يمر الموسى على رأسه.

فصل:

ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وليقصر وليحلل.

ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لما حلق رأسه، قَلَّم أظفاره.

فصل:

ثم يفيض إلى مكة، فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وهو ركن الحج لا يتم إلا به؛ لقول الله تعالى: ]وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[.

وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، لما روت عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم أفاضت. رواه أبو داود.

والأفضل فعله يوم النحر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   لما رمى الجمرة، أفاض إلى البيت، في حديث جابر.

فإذا فرغ منه، حَلَّ له كل شيء؛ لقول ابن عمر: أفاض بالبيت، ثم حَلَّ من كل شيء حرم منه، يعني: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وعن عائشة: مثله. متفق عليهما.

وإن أفاض قبل الرمي حَلَّ التحلل الأول ووقف التحلل الثاني على الرمي.

ومَن لم يسع قبل عرفة فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة.

قاعدة: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة؛ الرمي والحلق والطواف.

ويحصل التحلل الثاني بالثالث.

فصل:

ثم يرجع إلى منى من يومه، فيمكث بها ليلي أيام التشريق؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق.

وهل المبيت بها واجب أم لا؟ فيه قولان:

أحدهما: ليس بواجب؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت.

والثاني: هو واجب؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته. متفق عليه. فيدل على أنه لا رخصة لغيره.

فصل:

ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى، وهي أبعدها من مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرميها.

ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى، فيقف يدعو الله رافعاً يديه.

ثم يتقدم إلى الوسطى، فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء ما فعل في الأولى.

ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر، ولا يقف عندها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية، فيطيل المقام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. رواه أبو داود.

وإن ترك الوقوف والدعاء، فلا شيء عليه.


فصل:

ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه؛ لأن جابراً رضي الله عنه  قال: لبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم.

فصل:

وإذا كان رمي اليوم الثاني، وأحب أن ينفر، نفر قبل غروب الشمس، وسقط عنه المبيت تلك الليلة، والرمي بعدها.

وإن غربت وهو في منى، لزمته البيتوتة، والرمي من الغد بعد الزوال؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه. رواه الترمذي.

فصل:

فإذا أراد الخروج من مكة لم يجز له ذلك حتى يودع البيت بطواف؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. متفق عليه.

ويجعل الوداع في آخر أمره، ليكون آخر عهده بالبيت؛ فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته إعادته.

وإن خرج ولم يودع، لزمه الرجوع ما كان قريباً يمكنه الرجوع، فإن لم يفعل، أو لم يمكنه الرجوع، فعليه دم.

والمرأة كالرجل، إلا إذا كانت حائضاً، أو نفساء، خرجت ولا وداع عليها، ولا فدية، إلا أنه يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام فتدعو في دعاء المودع.

فصل:

ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن [الحجر الأسود] والباب؛ كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا، وبسطها بسطاً، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يفعله. رواه أبو داود.

ويدعو فيقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي،غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغباً عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.

وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن، ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

فصل:

ومن ترك طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، أجزأ عن طواف الوداع؛ لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه.

وإن نوى بطوافه: الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإنما لكل امرئ ما نوى.

فصل:

فإذا رجع إلى بلده قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان يقول ذلك إذا قفل[أي: رجع]. متفق عليه.

ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصاحبيه رضي الله عنهما، وقبور بقيع الغرقد؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً. رواه أبو داود والطيالسي.

ويصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى. متفق عليه.

باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار

من وطئ في الفرج، فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول، فقد فسد حجه، وعليه المضي في فاسده؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأله، فقال: إني واقعت امرأتي، ونحن محرمان، فقال: أفسدت حجك، انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون، واحلق إذا حلقوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك، واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم.

ومن وطئ دون الفرج أو قَبَّل أو لمس فلم يُنزل، لم يفسد حجه.

وإن أنزل ففيه قولان: أحدهما: يفسد حجه، والأخرى: لا يفسد.

فصل:

ومن وطئ بعد التحلل الأول، وقبل التحلل الثاني، لم يفسد حجه.

وإن وطئ المعتمر في عمرته، أفسدها، وعليه إتمامها وقضاؤها.

باب الهدي

يجوز الأكل من هدي التمتع والقران؛ لأن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كن متمتعات إلا عائشة، فإنها كانت قارنه لإدخالها الحج على عمرتها، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، قالت: فدخل علينا بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن أزواجه. رواه مسلم.

ولا يجوز الأكل من واجب سواها، لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه.

وما ساقه تطوعاً، استحب الأكل منه، سواء عينه أو لم يعينه؛ لقول الله تعالى: ]فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ[.

فصل:

مَن وجب عليه دم، أجزأه ذبح شاة، أو سُبُع بدنة أو بقرة؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: في هدي المتعة شاة.


باب الأضحية

هي سنة مؤكدة؛ لما روى أنس رضي الله عنه  قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بكبشين أملحين [الأملح: الأبيض الذي فيه سواد] أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما. متفق عليه.

وروت أم سلمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي. رواه مسلم.

وهذا نهي كراهية لا تحريم؛ بدليل قول عائشة رضي الله عنها: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي. متفق عليه.

فصل:

ولا يجزئ في الأضحية إلا بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى: ]لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ[.

ولا يجزئ إلا الجَذَع عن الضأن، والثني من غيره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن. رواه مسلم، والثنية من البقر هي المسنة، ومن الإبل ما كمل لها خمس سنين.

ويستحب استحسانها، وأفضلها البياض، لأنه صفة أضحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ثم ما كان أحسن لوناً.

فصل:

وتجزئ البدنة عن سبعة، وكذلك البقرة؛ لقول جابر رضي الله عنه: كما نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها. رواه مسلم.

فصل:

يستحب لمن استناب في ذبح أضحيته أن يحضرها؛ لما روى أبو سعيد رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لفاطمة: أحضري أضحيتك، يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها.

ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، وإن قال: اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني أو من فلان، فحسن؛ لما روى جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال على أضحيته: اللهم هذا منك، ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر، ثم ذبح، وفي رواية قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محم، ثم ضحى. رواه مسلم.

فصل:

وأول وقت الذبح في حق أهل المصر، إذا صلى الإمام وخطب يوم النحر؛ لما روى البراء رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن صلى صلاتنا، ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومَن ذبح قبل أن يصلي فليُعِد مكانها أخرى. متفق عليه.

وآخر وقتها آخر أيام التشريق.

فصل:

ولا يجزئ في الأضحية معيبة عيباً ينقص لحمها؛ لما روى البراء قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البَيِّن عورها، والمريضة البَيِّن مرضها، والعرجاء البَيِّن ظلعها، والعجفاء التي لا تنقى. رواه أبو داود، يعني: [الهزيلة] التي لا مخ فيها.

ولا تجزئ العضباء؛ لما روى علي رضي الله عنه  قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يضحى بأعضب الأذن، أو القرن. رواه النسائي. [والعضب النصف فأكثر من ذلك].

فصل:

ويستحب أن يؤكل الثلث من الأضحية، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الأضحية قال: ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث.

وإن أطعمها كلها أو أكثرها فحسن.

وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز.

فصل:

ولا يجوز بيع شيء من الهدي، والأضحية، ولا إعطاء الجازر شيئاً منها بأجرته؛ لما روي عن علي رضي الله عنه  قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أن أقوم ببُدْنِه، وأن أقسم جلودها وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا. متفق عليه، ويجوز أن ينتفع بجلدها.

ويدخر منها؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم. رواه مسلم.


باب العقيقة

وهي الذبيحة عن المولود، وهي سنة؛ لما روى سمرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى ويحلق رأسه. رواه أبو داود.

ويستحب ذبحها يوم السابع.

ويجزئ فيها من بهيمة الأنعام ما يجزئ في الأضحية، ويمنع فيها من العيب ما يمنع فيها، وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها.

ويأكل ويطعم و يتصدق.

فصل:

ويستحب حلق رأس الصبي يوم السابع، وتسميته؛ لحديث سمرة.

وإن سماه قبل ذلك جاز؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بأخ له حين ولد، فحَنَّكَه بتمرة، وسماه عبد الله. متفق عليه.

وسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ولده إبراهيم ليلة وُلِد. متفق عليه.

ويستحب تحسين اسم المولود؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إنكم تُدْعَون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم. رواه أبو داود.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن. حديث صحيح رواه مسلم.


باب الذبائح

لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة؛ لقول الله تعالى: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ[.

إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء، فإنه يباح بغير ذكاة، وإن طفا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في البحر: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.

والجراد، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحل لنا ميتتان ودمان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال.

وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة.

فصل:

وللذكاة أربعة شروط:

أهلية المذكي؛ بأن يكون مسلماً أو كتابياً؛ لقول الله تعالى: ]إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ[، وقول سبحانه: ]وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ[، يعني: ذبائحهم.

والآلة؛ وهو أن يذبح بمحدد، من حديد أو حجر أو خشب أو قصب؛ إلا السن والظفر، فإنه لا يباح الذبح بهما؛ لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوا ليس السن والظفر، وسأخبركم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة. متفق عليه، ويجب تحديد الآلة؛ لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإن قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته. رواه مسلم.

وأن يسمي الله؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ[، وحديث رافع، فإن تركها عمداً لم تحل ذبيحته، وإن تركها سهواً حلت؛ لما روى راشد بن سعد رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يعتمد. أخرجه سعيد بن منصور، وإن شك في تسمية الذابح حلَّ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا أنتم وكلوا. رواه البخاري.

والمحل؛ وهو الحلق واللبة؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه نادى: النحر في اللبة والحلق لِمَن قدر. أخرجه سعيد.

ويشترط قطع الحلقوم، وهما مجرى الطعام والنفس، ويشترط فري الودجين، أو أحدهما، وهما عرقان محيطان بالحلقوم؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن شريطة الشيطان، وهي التي تُذبح فيُقطع الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود.

فصل:

ويكره أن يَبِيْن الرأسَ بالذبح.

ويكره قطع عضو مما ذكى، أو سلخه حتى تزهق نفسه.

فصل:

وإذا ذبح حاملاً، فخرج جنينها ميتاً، أو فيه حركة كحركة المذبوح أبيح؛ لما روى أبو سعيد رضي الله عنه  قال: قيل يا رسول الله: إن أحدنا ينحر الناقة، ويذبح البقرة والشاة؛ فيجد في بطنها الجنين، أيأكله أم يلقيه؟ قال: كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه. رواه أبو داود.

ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه.

وإن خرج وفيه حياة مستقرة لم يبح إلا بالذكاة.

فصل:

وإذا نَدَّ [شرد] بعيره فلم يقدر عليه، صار حكمه حكم الصيد؛ لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه  قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في غزاة، فأصاب القومُ غنماً وإبلاً، فنَدَّ بعير من الإبل، فرماه رجل بسهم، فحبسه الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا. متفق عليه.


باب الصيد

وهو مباح لقول الله تعالى: ]وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ[، وقوله تعالى: ]أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ[.

فصل:

من صاد صيداً فذكاه، حل بكل حال، لحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما صدت بكلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل.متفق عليه.

وإن أدركه ميتاً، حل بشروط سبعة:

أحدها: أهلية الصائد؛ بأن يكون مسلماً أو كتابياً؛ لقول الله تعالى: ]إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ[، وقول سبحانه: ]وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ[، يعني: ذبائحهم، والاصطياد كالذكاة.

والثاني: التسمية عند إرسال الجارح أو السهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسلتَ كلبك وسميت فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل؛ فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر. متفق عليه.

والثالث: إرسال الجارح؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسلت كلبك، وسميت فكل، فإن استرسل الكلب بنفسه، لم يبح صيده.

والرابع: أن يكون الجارحُ مُعَلَّماً؛ لقول الله تعالى: ]وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ[، ولحديث أبي ثعلبة.

والخامس: أن يرسله على صيد، فإن أرسله على غير شيء، أو على إنسان، أو بهيمة، فأصاب صيداً: لم يحل.

والسادس: أن يجرح الصيد؛ فإن قتله بخنقه، أو صدمته، لم يحل.

والسابع: أن يترك الأكل من الصيد؛ فمتى أكل الجارح من الصيد لم يحل؛ لما روى عدي بن حاتم رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: فإذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، وإن قتل؛ إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه. متفق عليه.

فصل:

ويباح الصيد بما كان محدداً؛ كالسهم والسيف، وكذا آلات الصيد الحديثة، إذا اجتمعت فيه شروط المعلم من الجوارح.

وما لم يكن محدداً؛ كالشباك، والأشراك، والعصي، والحجارة، فما أدرك ذكاته حل، وما لم يدرك ذكاته لم يحل.

فصل:

إذا ضرب صيداً فأبان منه عضواً، وبقيت فيه حياة مستقرة، فالعضو حرام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أُبِين من حي فهو ميت. رواه أبو داود.

وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه حلَّ جميعه.


باب ما يحل ويحرم

الحيوان ثلاثة أقسام:

والخيل كلها؛ لما روى جابر رضي الله عنه  قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل. وقالت أسماء: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأكلناه، ونحن بالمدينة. متفق عليهما.

والدجاج؛ لما روى أبو موسى رضي الله عنه  قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يأكل لحم الدجاج. متفق عليه، ويلحق به الإوز والبط.

وتحرم الحمر؛ لحديث جابر، وتحرم البغال؛ لأنها متولدة منها، وتحرم الكلاب والقطط، لأنها تأكل الخبائث.

فصل:

القسم الثاني:

الوحشي؛ فيباح منه الحمر؛ لحديث أبي قتادة.

والأرانب؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أنه أخذ أرنباً، فذبحها أبو طلحة رضي الله عنه ، وبعث بوركها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقَبِلَه. متفق عليه.

والضباب؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بضب، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، فاحتزه خالد فأكله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ينظر إليه. متفق عليه.

ويباح البقر والظباء والنعام واليرابيع، والزرافة.

ويباح من الطير: الحمام وأنواعه، والعصافير، والقنابر، والحجل، والقطا، والحبارى والكركي، والكروان، وأشباهها مما يلتقط الحب، وكذا كل طير لا يصيد بمخلبه، ولا يأكل الجيف، ولا يستخبث، فهو حلال.

ويحرم الخنزير؛ لنص الله تعالى على تحريمه.

ويحرم كل ذي ناب من السباع؛ كالأسد، والفهد، والنمر، والذئب، وابن آوى، والنمس، وابن عرس؛ لما روى أبو ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن كل ذي ناب من السباع. متفق عليه.

وتحرم سباع الطير؛ كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة، والبومة؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. رواه مسلم وأبو داود.

ويحرم ما يأكل الجيف؛ كالنسر، وغراب البين، والأبقع، والعقعق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، ذكر منها الحدأة والغراب.

وتحرم الخبائث كلها؛ كالفأر، والجراذين، والأوزاغ، والقنفذ، والحرباء، والصراصير، والجعلان، والخنافس، والحيات، والعقارب، والدود، والوطواط، والخفاش، والزنابير، واليعاسيب، والذباب، والبق، والبراغيث، والقمل، وأشباهها؛ لقول الله تعالى: ]وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ[، وروى أبو هريرة رضي الله عنه  أن القنفذ ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: هو خبيثة من الخبائث. رواه أبو داود.

فصل:

القسم الثالث:

حيوان البحر؛ يباح جميعه؛ لقول الله تعالى: ]أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ[.

فصل:

ويكره أكل لحوم الجلالة وألبانها، وهي مَن كان أكثر علفها النجاسة، فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن أكل الجلالة وألبانها. رواه أبو داود.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة. رواه الخلال.

ويزول تحريمها وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات.

ويحبس البعير أربعين ليلة؛ للخبر، والبقرة في معناه.

ويحبس الطائر ثلاثاً؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً.

فصل:

فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه، أبيح تناوله؛ لقول الله تعالى: ]وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[.

وفي قدر ما يباح قولان:

أحدهما: قدر ما يسد رمقه، وعندها يخرج عن كونه مضطراً، فتزول الإباحة بزواله.

والثاني: له الشبع؛ لأنه طعام جاز له سد الرمق منه، فجاز له الشبع؛ كالحلال.

فصل:

ومَن مَرَّ بثمرة لا حائط لها، ولا ناطر، ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: له الأكل إن كان جائعاً، ولا يأكل إن لم يكن جائعاً؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: ما أصاب منه ذي الحاجة، غير متخذ خُبْنَة فلا شيء عليه، ومَن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه، والعقوبة. هذا حديث حسن.

والثاني: يباح ما سقط من الثمر فقط، فلا يرمي بحجر ولا يضرب؛ لما روى رافع رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا ترم، وكل ما وقع. حديث صحيح.

والثالث: أنه يأكل ولا يحمل؛ لما روي عن أبي زينب، قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي بزرة رضي الله عنهم، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم، وقال عمر رضي الله عنه: يأكل ولا يتخذ خُبْنَة [ما يُحمل في الحُضن].

وفي لبن الماشية قولان:

أحدهما: هو كالثمرة؛ لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها، فليستأذنه؛ فإن أذن فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوِّت ثلاثاً، فإن لم يجب، فليحتلب وليشرب، ولا يحمل. حديث صحيح.

والثانية: لا يحل له الحلب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحلبن أحدٌ ماشيةَ أحد إلا بإذنه. متفق عليه.

أهلي؛ فيباح منه بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى: ]أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ[.

 

 

 

 

 

 

كتاب البيع

البيع حلال؛ لقول الله تعالى: ]وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ[.

ويشترط له الرضى، لقول الله تعالى: ]إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ[.

ولا يصح من غير عاقل؛ كالطفل، والمجنون، والسكران، والنائم.

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز

كل عين مملوكة يباح نفعها واقتناؤها يجوز بيعها؛ كالمأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، والعقار؛ لقوله تعالى: ]وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ[، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من جابر بعيراً، ومن أعرابي فرساً، ووَكَّل عروة بن الجعد رضي الله عنه  في شراء شاة، وباع حِلساً وقدحاً، وأَقَرَّ أصحابه على بيع هذه الأعيان وشرائها.

ويجور بيع كل ما منتفع به شرعاً.

فصل:

ولا يجوز بيع الخمر والميتة، والخنزير والأصنام؛ لما روى جابر رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: إن الله ورسوله حرم بيع الخمرة والميتة، والخنزير والأصنام. متفق عليه.

ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه، وما لا يؤكل من الطير، و لا بيضه، لأنه لا نفع فيها.

ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك.

ولا يجوز بيع شحم الميتة، ففي حديث جابر قيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه تدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام. متفق عليه، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله إذا حَرَّم شيئاً، حرم ثمنه. رواه أبو داود.

فصل:

ولا يجوز بيع معدوم؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم، والغرر الجهالة بالمبيع.

ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

فصل:

ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه؛ كالطير في الهواء، والسمك في الماء، والجمل الشارد، والمغصوب في يد الغاصب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم، ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف، ولا يمكن ذلك فيما لا يقدر على تسليمه.

فإن باع طيراً له في برج مغلق الباب، أو سمكاً له في بركة معدة للصيد، وكان معروفاً بالرؤية مقدوراً على تناوله بلا تعب: جاز بيعه، لعدم الغرر فيه.

فصل:

ولا يجوز بيع ما تُجْهَل صفته؛ كالحمل في البطن، واللبن في الضرع، والبيض في الدجاج، والنوى في التمر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع المضامين والملاقيح، الملاقيح: أجنة الحيوانات، والمضامين: ما في أصلاب الفحول، وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى أن يُباع صوفٌ على ظهر، أو لبنٌ في ضرع. رواه ابن ماج.

فصل:

ولا يجوز بيع الأعيان من غير رؤية أو صفة يحصل بها معرفة المبيع؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم، ولأنه مجهول عند العاقد.

ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين جميعاً.

فإن رأيا المبيع، ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه: صح البيع، وإن عقد بعد الرؤية بزمن يفسد فيه المبيع: لم يصح البيع.

ويصح البيع بالصفة إذا ذكر جنس المبيع ونوعه وصفته ومقداره؛ لأنه لمَّا عُدِمت المشاهدة للمبيع وجب استقصاء صفاته.

ثم إذا وُجد المبيع على الصفة: لزم العقد، وإن وجده على خلافها: فله الفسخ، والقول المشتري عند تغير المبيع عن الوصف.

وبيع الأعمى وشراؤه بالصفة، كبيع البصير بها؛ فإن عدمت الصفة، وأمكنه معرفة المبيع بذوق أو شم: صح بيعه، وإلا لم يصح، لأنه مجهول في حقه.

فصل:

ولا يجوز بيع شاة من قطيع، ولا ثوب من أثواب؛ لأنه غرر، ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع.

ويجوز بيع رطل زيت من دن أو ركوة؛ لأن أجزاءه لا تختلف؛ فلا يفضي إلى التنازع.

وما لا تختلف أجزاؤه، يكتفى برؤية بعضه؛ لأنها تزيل الجهالة، لتساوي أجزائه، ولأنه تتعذر رؤية جميعه؛ فاكتفي ببعضه.

وما تشق رؤيته، كالذي مأكوله في جوفه، يكتفى برؤية ظاهره.

فصل:

ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن؛ لأنه أحد العوضين.

فيشترط العلم به، وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد بلد معين: انصرف إليه.

وإن باعه سلعة بما باع به فلان، وهما لا يعلمان ذلك، أو بما ينقطع به السعر: لم يصح؛ لأن الثمن مجهول.

وإن باعه بعشرة نقداً أو بخمس عشرة نسيئة، دون اتفاق على أحدهما قبل التفرق: لم يصح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيعتين في بيعة. حديث صحيح، وإذا كان ذكر الأسعار على سبيل البيان والمساواة، ثم اتفقا على أحد الثمنين نقداً أو نسيئة: صح العقد.

ومن معاني (بيعتين في بيعة) أن يقول: بعتك هذا بمئة على أن تبيعني دارك بألف.

فصل:

ولا يجوز بيع العنب والعصير لمن يتخذه خمراً، ولا السلاح لأهل الحرب، أو لمن يقاتل به في الفتنة، ولا الأقداح لمن يشرب فيها الخمر؛ لأنه معونة على المعصية.

ولا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها؛ لما رواه حكيم بن حزام رضي الله عنه  قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي، فأمضي إلى السوق، فأشتريه ثم أبيعه منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبع ما ليس عندك. حديث صحيح.

باب بيع النجش وبيعه على بيع غيره والعينة

وهي بيوع محرمه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لبادٍ. متفق عليه.

ومعنى النجش: أن يزيد في سعر السلعة مَن لا يريد شراءها ليغتر به المشتري ويقتدي به فهو حرام، لأنه خداع، والشراء صحيح.

وللمشتري الخيار إن غُبِن غبناً يخرج عن العادة، سواء كان بمواطأة من البائع، أو لم يكن.

فصل:

وأما البيع على بيع أخيه؛ فهو أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار، أنا أبيعك مثله بأقل من هذا الثمن، أو أبيعك أجود من هذه البضاعة بهذا الثمن، فيفسخ العقد الأول، ويشتري من الآخر: فيحرم؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لبادٍ. متفق عليه، ولأن فيه إفساداً.

وشراؤه على شراء أخيه، كبيعه على بيعه.

ومثله سومه على سوم أخيه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يسم الرجل على سوم أخيه. رواه مسلم.

فصل:

وأما بيع العينة، فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها من المشتري بأقل من الثمن حالاً: فلا يجوز؛ لأن ذلك ذريعة إلى الربا، فقد أدخل السلعة ليحصل على السيولة النقدية فيستبيح بيع ألف بخمسمائة.

وإن اشتراها من غير المشتري: جاز.

وإن نقصت السلعة لتغير صفتها: جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن؛ لأن نقص الثمن لنقصان السلعة.

وكذا إن باعه سلعة بثمن حالٍّ (نقداً)، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة: لم يجز؛ لأنها في معنى التي قبلها سواء.

باب تفريق الصفقة

إذا باع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة، كخل وخمر، أو دار له ولغيره ففيه قولان:

أحدهما: تفريق الصفقة، فيصح فيما يجوز بيعه بحصته وقسطه من الثمن، ويبطل فيما لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما له حكم منفرد، فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما.

والثاني: يبطل فيهما؛ لأنه عقد واحد جمع حلالاً وحراماً فبطل.

وإن اشترى معلوماً ومجهولاً بطل العقد فيهما، لأن ما يخص المعلوم من الثمن مجهول.

فصل

فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم؛ كبيع وإجارة، بعوض واحد: صح فيهما؛ لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة.

باب الثنيا

إذا باع بستاناً واستثنى شجرة بعينها، أو قطعياً واستثنى شاةً بعينها: صح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن الثنيا، إلا أن تعلم. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وإن باعه شاة إلا شحمها، أو فخذها، أو حملها: لم يصح؛ لأنه مجهول.

وإن باع حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه وجلده: صح؛ لأنها ثنيا معلومة.

فصل:

ومن باع شيئاً واستثنى منفعته مدة معلومة؛ كجمل اشترط ركوبه إلى موضع معين، أو داراً استثنى سكناها شهراً: صح؛ لما روى جابر رضي الله عنه: أنه باع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  جملاً واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه.

باب الشروط في البيع

وهي على أربعة أضراب:

أحدها: ما هو من مقتضى البيع؛ كالتسليم أو الرد بالعيب فهذا لا أثر له؛ لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد.

الثاني: ما هو من مصلحته؛ كالخيار، أو الأجل، أو الرهن، أو الضمين، فهذا شرط صحيح لازم.

الثالث: شرط ينافي مقتضى العقد؛ كشرط أن لا يملك، أو لا يتصرف، أو متى نفق المبيع دفع الثمن، وإلا رد البضاعة: فهذا شرط باطل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعائشة لما أرادت شراء بريرة، واشترط أهلها ولاءها: اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قال: مَن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. متفق عليه.

والرابع: ما لا ينافي مقتضى العقد، ولا هو من مصلحته، وهو نوعان:

أحدهما: أن يشترط عقداً آخر؛ مثل أن يبيعه بشرط أن يبيعه عيناً أخرى، أو يؤجره، أو يسلفه، أو يشتري منه، أو يستسلف: فهذا شرط فاسد يَفْسُد العقدُ به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

الثاني: أن يشترط المشتري منفعة للبائع: فيصح إذا كانت المنفعة معلومة؛ مثل أن
يشتري ثوباً، ويشترط على بائعه خياطه قميصاً، أو حطباً ويشترط حمله، أو بضاعة ويشترط إيصالها، ولأنه بيع، وإجارة: فصح.

فإن شرط شرطين، مثل أن اشترط خياطة الثوب وقصارته، وفي الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط المشتري منفعة البائع، واشترط البائع منفعة المبيع مدة معلومة: فسد العقد، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا شرطان في بيع.

فصل:

ولا يحل البيع بعد النداء للجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ[؛ فإن باع، لم يصح للنهي.

ويجوز ذلك لمن لا تجب عليه الجمعة؛ لأن الخطاب بالسعي لم يتناوله، فكذلك النهي.

والنداء الذي به السعي والنهي هو الثاني الذي يكون عند صعود الإمام المنبر.

فصل:

ولا يحل التسعير؛ لما روى أنس رضي الله عنه  قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر؛ فسَعِّر لنا، فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق إني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد يطلبني بمظلمة. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

ولأنه ظلم للبائع بإجباره على البيع سلعته سلعته بغير حق، أو منعه من بيعها بما يتفق عليه المتعاقدان.

فصل:

والاحتكار محرم؛ لما روى معمر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن احتكر فهو خاطئ رواه مسلم وأبو داود.

والاحتكار المحرم: ما جمع أربعة أوصاف: أن يشتري قوتاً يضيق به على الناس في بلد فيه ضيق.

باب الخيار في البيع

وهو على ضربين:

أحدهما: خيار المجلس، فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا بأبدانهما؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. متفق عليه.

فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما، أو قالا: بعد البيع اخترنا إمضاء العقد، أو أجزنا العقد؛ فلا خيار لهما؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خَيَّر أحدهما صاحبه، فتبايعا على ذلك: فقد وجب البيع، وفي لفظ: أو يقول أحدهما لصاحبه اختر. رواه البخاري.

والضرب الثاني: خيار الشرط، نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة: فيجوز؛ بالإجماع.

ويثبت فيما يتفقان عليه من المدة المعلومة، وإن زادت على ثلاث، لأنه حق يعتمد الشرط: فجاز ذلك فيه، كالأجل.

فصل:

وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار؛ لأنه ليس بملك للبائع؛ فيتصرف فيه، ولا انقطعت عنه علاقته؛ فيتصرف فيه المشتري.

فصل:

وإن مات أحد المتبايعين: بطل خياره، ولم يثبت لورثته؛ لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث.

باب بيع الثمار

لا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. متفق عليه، وفي لفظ: نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. رواه مسلم.

وبدو الصلاح في ثمرة النخل أن يحمر، أو يصفر.

وفي العنب أن يسود أو يتموه.

وفي الحب أن يشتد أو يبيض.

وفي سائر الثمار أن يبدو فيه النضج، أو يطيب أكله؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب. متفق عليه.

ونهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل: وما تزهو؟ قال: تحمار، أو تصفار، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود. رواه الترمذي.

فصل:

إن تلف الثمر بجائحة من السماء، فهي من ضمان البائع؛ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بوضع الجوائح، وفي لفظ قال: إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟. رواهما مسلم.

وإن أتلفها آدمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمساك ومطالبة المتلِف بالقيمة.

باب الرد بالعيب

مَن علم بسلعته عيباً، لم يحل له بيعها حتى يبينه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له. رواه ابن ماجه.

فإن باع ولم يبين، فالبيع صحيح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  صحح بيع المُصَرَّاة مع نهيه عنه.

ومَن اشترى معيباً أو مصراة أو مدلساً يعلم حاله: فلا خيار له؛ لأنه بذل الثمن فيه راضياً به، وإن لم يعلم، فله الخيار بين رده وأخذ الثمن، وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه، لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن. ومعنى الأرش: أن ينظر بين قيمته سليماً ومعيباً فيؤخذ قدره من الثمن.

فصل

فإن نما المبيع المعيب نماء متصلاً كالسِمَن والكِبَر، والحمل والثمرة قبل الظهور، وأراد الرد، رده بزيادته؛ لأن الزيادة لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها.

وإن كانت الزيادة منفصلة، كالولد المنفصل، والثمرة الظاهرة: رَدَّ الأصلَ وأمسك النماء.

لما روت عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيباً فرده، فقال يا رسول الله: إنه استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخراج بالضمان. رواه أبو داود.

فصل

وإن تعيب المبيع عند المشتري، ففيه قولان:

أحدهما: له أرش العيب وليس له رده؛ لأن في رده ضرراً، فلا يزال الضرر بالضرر.

والثاني: يرده، وأرشَ العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بِرَدِّ المصراة بعد أخذ لبنها، ورَدِّ عوضه.

فإن دَلَّس البائعُ العيبَ فتعيب عند المشتري، فإن المشتري يرجع بالثمن على البائع، ولا شيء عليه.

فصل

فإن لم يعلم المشتري بالعيب حتى هلك المبيع، بأن باعه، أو وهبه: فله الأرش؛ لتعذر الرد.

وإن باعه أو وهبه مع علمه بالعيب: فلا أرش له؛ لرضاه به معيباً.

وإن باع بعضه أو وهبه: فله أرش الباقي.

ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيباً، فله ردهما معاً أو إمساكهما، وأخذ الأرش.

والعيوب هي النقائص المعدودة عيباً، فما خفي منها، رجع إلى أهل الخبرة به.

فصل

وإن شرط في المبيع صفة مقصودة، فبان خلاف ذلك: فله الرد؛ لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه، فملك الرد، كما لو وجده معيباً.

فصل

وإن اشترى ثوباً وصبغه ثم وجده معيباً: فله الأرش لا غير.

باب اختلاف المتبايعين

 إذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، والسلعة قائمة: تحالفا؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع. رواه ابن ماجه، وفي لفظ: تحالفا.

فصل

وإن اختلفا بعد تلف المبيع، ففيه قولان:

أحداهما: يتحالفان ويفسخان البيع، ويجب رد قيمة السلعة؛ فإن اختلفا في قيمتها: وجب قيمة مثلها، فإن اختلفا في الصفة، فالقول قول المشتري مع يمينه.

والثاني: القول قول المشتري مع يمينه؛ لقوله في الحديث: فالبيع قائم بعينه، فمفهومه أن لا يشرع التحالف مع تلفها، ولأنهما اتفقا على انتقال المبيع إلى المشتري بثمن، واختلفا في الزائد الذي يدعيه البائع وينكره المشتري، والقول قول المنكر.

فصل

وإن اختلفا في قدر المبيع، فقال: بعتك هذه البضاعة، فقال: بل هي وغيرها، فالقول قول البائع.

وإن قال: بعتك هذه البضاعة، فقال: بل بعتني تلك البضاعة: حلف كل واحد منهما على ما أنكره خاصة.

فصل

وإن اختلفا في أجل، أو شرط، أو رهن، أو ضمين ونحوه، ففيه قولان:

أحدهما: القول قول مَن ينكره مع يمينه، لأنه منكر فأشبه منكر العقد من أصله.

والثاني: يتحالفان لأنهما اختلفا في صفة العقد.

فصل

وإن باعه بثمن معين، وقال: كل واحد منهما لا أسلم ما بعته حتى أقبض عوضه، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما معاً.

وإن كان البيع بثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن.

باب بيع المرابحة والمواضعة والتولية

 

بيع المرابحة: أن يخبر برأس ماله ثم يبيع به ويربح، فيقول: رأس مالي فيه مائة، بعتكه بها وربح عشرة، فهذا جائز غير مكروه، لأن الثمن معلوم.

فصل:

فإن بان للمشتري أن البائع أخبر بأكثر من رأس المال، فالبيع صحيح، ويرجع عليه بالزيادة ونصيبها من الربح.

فصل:

وبيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الذي اشترى به، وحكمه حكم المرابحة فيما ذكرنا.

ولا بأس ببيع الرقم، وهو الثمن الذي يكتب على البضاعة، ولا بد من علمه حال العقد، ليكون معلوماً؛ فإن لم يعلم فالبيع باطل.

فصل:

وبيع المواضعة: أن يخبر برأس المال، ثم يبيع بثمن أقل، وحكمه حكم المرابحة في تفصيله.

فإذا قال: رأس مالي فيه مئة بعتك بها ووضيعة عشرة بالمئة، فالثمن تسعون.

باب الإقالة

وإقالة النادم في البيع مستحبة؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن أقال نادماً بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة. أخرجه أبو داود.

وهي في أصح الأقوال: فسخ بمثل ما تم الاتفاق عليه.

وقول: إنها بيع جديد، بمساومة وثمن جديد.

وبيع السلم لا يجوز قبل قبضه.

 

 

باب الربا

الربا محرم، لقول الله تعالى: ]وَحَرَّمَ الرِّبَا[، وما بعدها من الآيات، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لعن الله آكل الربا، وموكله وشاهديه وكاتبه. متفق عليه.

وهو على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة.

والأعيان التي تم الاتفاق على جريان الربا فيها ستة مذكورة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، فمَن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد. رواه مسلم.

واختلف الفقهاء في علة تحريم الربا على ثلاث أقوال:

الأول: أن علته في الذهب والفضة: الوزن والجنس، وفي غيرهما: الكيل والجنس.

وعلى هذا يحرم التفاضل في كل مكيل، أو موزون بِيْعَ بجنسه.

والثاني: العلة في الذهب والفضة: الثمينة، وفيما عداهما كونه مطعوماً.

وعلى هذا يحرم التفاضل في كل ثمن بِيْعَ بجنسه، كما يحرم التفاضل في كل مطعومٍ بِيْعَ بجنسه.

والثالث: العلة في الذهب والفضة: الثمينة، وفيما عداهما كونه قوتاً.

وعلى هذا يحرم التفاضل في كل ثمن بِيْعَ بجنسه، كما يحرم التفاضل في كل قوت بِيْعَ بجنسه.

فصل:

والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والعملة الجديدة والقديمة سواء في جواز البيع متماثلاً وتحريمه متفاضلاً؛ لما ورد في الحديث: الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها. رواه أبو داود. وفي لفظ: جيدها ورديئها سواء.

فصل:

ويحرم التفاضل في الجنس الواحد.

وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة، فهما جنس، كأنواع التمر، وأنواع البر.

وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة، فهما جنسان، كالستة المذكورة في الحديث؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم، وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم، فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس، وما اختلفا فيه جنسان.


كتاب السَّلَم

 

السَّلَم: نوع من البيع، يتم فيه دفع ثمن البضاعة التي ستُسَلَّم له بعد حين.

وينعقد بلفظ البيع والسلف.

وتعتبر فيه شروط البيع، ويزيد بشروط ستة:

أحدهما: أن يكون المبيع مما ينضبط بالصفات، فيصح السَّلَم في كل ما يباع كيلاً أو وزناً أو ذرعاً؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قدم المدينة، وهم يُسلفون الثمار السنتين والثلاث، فقال: مَن أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم. متفق عليه.

ولا يصح السَّلَم فيما لا ينضبط؛ كالجوهر واللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها؛ لأنها تختلف اختلافاً متبايناً بالكبر والصغر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها.

الشرط الثاني: معرفة قدره بالكيل إن كان مكيلاً، وبالوزن إن كان موزوناً، وبالذرع إن كان مذروعاً؛ لحديث ابن عباس.

والمعدود يقدر بالعدد، وقيل بالوزن، لأنه يتباين، والأولى أولى، لأنه يُقَدَّر به عنده العامة، ولهذا لا تقع القيمة بين الجوزتين والبيضتين، فإن كان يتفاوت كثيراً، كالرمان والبطيخ والسفرجل والبقول، قَدَّرَه بالوزن؛ لأنه أضبط لكثرة تفاوته وتباينه.

الشرط الثالث: أن يجعلا له أجلاً معلوماً.

ويشترط في الأجل ثلاث أمور:

أحدها: كونه معلوماً؛ لقوله تعال: ]إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى[، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قدم المدينة، وهم يُسلفون الثمار السنتين والثلاث، فقال: مَن أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم. متفق عليه، وإن جعلا الأجل إلى مدة معلومة؛ كشهر معين: تعلق بأولها.

الأمر الثاني: أن يكون مما لا يختلف، فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والموسم، لم يصح؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم.

الأمر الثالث: أن تكون مدةً لها وَقْعٌ في الثمن؛ كالشهر ونصفه ونحوه، فأما اليوم ونحوه، فلا يصح التأجيل به.

الشرط الرابع: أن يكون المُسْلَم فيه عامُ الوجود في محله، مأمون الانقطاع فيه؛ لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك.

ولا يصح السَّلَم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة؛ لما روي أن زيد بن سعنة أسلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثمانين ديناراً في تمر مكيل مسمى من تمر حائط بني فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى. رواه ابن ماجه، ولأنه لا يؤمن تلفه، فلم يصح.

الشرط الخامس: أن يضبط بصفاته؛ فيذكر الجنس والنوع، والجودة والرداء، والكبر والصغر، والطول والقِصَر، والعرض والسمك، والنعومة والخشونة، واللين والصلابة، والرقة والصفاقة، واللون والبلد، والرطوبة واليبوسة.

الشرط السادس: أن يقبض رأس ماله السَّلَم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أسلف فليسلف في كيل معلوم، ولأنه إنما سمي سلماً وسلفاً، لما فيه من تقديم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً: فلم يصح، ولأنه يصير بيع دين بدين‏، فإن تفرقا قبل قبضه، بطل.

فصل:

ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يذكر في حديث ابن عباس، ولا في حديث زيد بن سعنة.

ويكون الإيفاء في مكان العقد، فإن كان موضع السَّلَم لا يمكن الوفاء فيه، كالبرية، تعين ذكر مكان الإيفاء، وإن كان في موضع يمكن الوفاء فيه، فشرطه كان تأكيداً.

فصل:

ويجب تسليم السَّلَم عند المحل سليماً من العيوب والغش.

وإن أحضره بصفته: وجب قبوله.

وإن جاءه بأردأ من حقه: لم يجب قبوله، وجاز أخذه.

وإن أعطاه عوضاً عن الجودة الفائتة: لم يجز.

وإن أعطاه غير المُسْلَم فيه: لم يجز أخذه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره. رواه أبو داود.

وإن أعطاه غير نوع السَّلَم: جاز قبوله، ولا يلزم.

فصل:

فإن أحضره قبل محله، أو في غير مكان الوفاء، فاتفقا على أخذه: جاز.

فإن أعطاه عوضاً عن ذلك، أو نقصه من السَّلَم: لم يجز؛ لأنه بيع الأجل والحمل.

وإن عرضه عليه، فأبى أخذه لغرض صحيح، مثل أن تلزمه مؤنة لحفظه أو حمله أو عليه مشقة، أو يخاف تلفه، أو أَخْذَه منه: لم يلزمه أخذه.

وإن أباه لغير غرض صحيح: لزمه؛ لأنه زاد خيراً؛ فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم، ليأخذه.

فصل:

وإن تعذر تسليم السَّلَم عند المحل، فللمسلم الخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد، وبين فسخ العقد، والرجوع برأس ماله، إن كان موجوداً، أو مثله، إن كان مثلياً، أو قيمته إن يكن مثلياً.

وقيل: ينفسخ العقد بالتعذر لأن المُسْلَم في ثمرة هذا العام وقد هلكت، فانفسخ العقد.

وتجوز الإقالة في السَّلَم كله إجماعاً وتجوز في بعضه؛ لأن الإقالة إحسان ومعروف، جاز في الكل، فجاز في البعض.

وإذا فسخ العقد، رجع بالثمن، أو ببدله إن كان معدوماً.

وليس له صرفه في عقد آخر قبل قبضه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره.

فصل:

ولا يجوز بيع السَّلَم قبل قبضه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيع ما لم يضمن. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ولا يجوز التولية فيه، ولا الشركة، ولا الحوالة به، لأنها إنما تجوز بدين مستقر، والسَّلَم بعوض الفسخ.

ولا يجوز بيع السَّلَم من بائعه قبل قبضه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أسلم من شيء، فلا يصرفه إلى غيره.

فصل:

وإذا قبضه فوجده مبيعاً: فله رده وطلب حقه؛ لأن العقد يقتضي السلامة.


باب القرض

 

ويسمى سلفاً، أجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرِض، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة. رواه ابن ماجه.

ويثبت الملك في القرض بالقبض، ويصح شرط الرهن فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رَهَن درعه على شعير أخذه لأهله. متفق عليه.

وإن شرط فيه الأجل: لم يتأجل، ووقع حالاً.

ولو أقرضه تفاريق، ثم طلب به جملة: لزم المقترض ذلك.

فصل

ويصح قرض كل ما ينضبط، ويضبط بالصفة، لأن القرض يقتضي رد المثل.

ولا يجوز القرض إلا في معلوم القدر.

فصل:

ولا يجوز أن يشترط في القرض شرطً يجر به نفعاً، مثل:

أن يشترط رد أجود منه أو أكثر، أو أن يبيعه، أو أن يشتري منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يهدي له، أو يعمل له عملاً، ونحوه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع وسلف. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة.

وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة إلى بلد ولم يكن لحمله مؤنة، جاز.

فصل:

وإن وفى خيراً من القدر، أو الصفة من غير شرط، ولا مواطأة: جاز لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استسلف من رجل بَكْراً، فقدمت عليه إبل للصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع، فقال: يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن من خير الناس أحسنهم قضاء. رواه مسلم.

وإن أهدى له قبل الوفاء من غير عادة، أو استأجر منه بغير الأجرة، أو أَجَّرَه شيئاً بأقل، أو استعمله عملاً، فهو خبيث إلا أن يحسبه من دينه.

روى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه  أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضاً فأُهْدِي إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك.

فإن كان بينهما عادة بذلك قبل القرض، أو كافأه: فلا بأس، لهذا الحديث.

فصل:

وإذا قال المقرِض: إذا متُ، فأنت في حِلٍّ: فهي وصية صحيحة.

وإن قال: إنْ متَ، فأنت في حل: لم يصح؛ لأنه إبراء علق على شرط.

وإن قال: اقترض لي مائة ولك عشرة: صح؛ لأنها جعالة على ما بذله من جاهه.

وإن قال: تكفل عني بمئة ولك عشرة: لم يجز؛ لأنه يلزمه أداء ما كفل به، فيصير له على المكفول، فيصير بمنزلة مَن أقرضه مئة، فيصير قرضاً جر نفعاً.

 


باب الرهن

وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين.

ويجوز في السفر؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ[.

ويجوز في الحضر؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه. متفق عليه.

فصل:

وإن قبض الدائنُ المرتهنُ الرهنَ، فوجد معيباً: فله الخيار، فإن رضيه معيباً: فلا أرش له.

وإن حدث العيب، أو تلف الرهن في يد المرتهن: فلا خيار له.

فصل:

ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي المدينُ الراهنُ جميعَ ديونه؛ لأنه وثيقة به، فكان وثيقة بكل جزء منه.

فصل:

والرهن أمانة في يد المرتهن، إن تلفت من غير تعد منه: لم يضمنه، ولم يسقط شيء من دَينه.

فصل:

إذا حَلَّ الدين فوفاه الرهنُ: انفك الرهن.

وإن لم يوفه، وكان قد أذن في بيع الرهن، بيع واستوفي الدين من ثمنه، وما بقي فللمدينِ الراهنِ المالكِ.

باب ما يصح رهنه وما لا يصح

يصح رهن كل عين يصح بيعها؛ لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدَّين باستيفائه من ثمنه عند عدم استيفاء من الراهن.

إن اتفقا الراهن والمرتهن على جعل المرهون في يد المرتهن، أو في يد عدلٍ وديعةً للمالك، أو بأجره: جاز.

وإن اختلفا، جعله القاضي في يد عدلٍ وديعةً لهما.

فصل:

ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه؛ لأنه لا يمكن إيفاء الدَّين منه وهو المقصود.

ولا يصح رهن ما لا يقدر على تسليمه.

ولا يصح رهن المجهول الذي لا يجوز بيعه؛ لأن الصفات مقصودة في الرهن لإيفاء الدَّين.

ولا يصح رهن مالِ غيره بغير إذنه.

باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل، وما يملكه الراهن، وما لا يملكه، وما يلزمه وما لا يلزمه:

جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه؛ لأنه عقدٌ واردٌ على الأصل، فثبت حكمه في نمائه.

لو ارتهن أرضاً، فنبت فيها شجر، دخل في الرهن؛ لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن.

ويدخل في الرهن صوف الأنعام، لدخوله في البيع.

وإن رهنه شجراً، لم تدخل أرضه في الرهن، لأنها أصل فلا تدخل تبعاً.

فصل:

ولا يملك المدينُ الراهنُ التصرفَ في الرهن؛ باستخدام ولا سكنى، ولا إجارة، ولا إعارة، ولا غيرها بغير رضا المرتهن.

ولا يملك الدائنُ المرتهنُ ذلك بغير رضا الراهن.

وإن اتفقا على إجارته أو إعارته: جاز؛ لأن يد المستأجر والمستعير نائبةٌ عن يد الدائنِ المرتهنِ في الحفظ فجاز؛ كما لو جعلاه في يد عدل.

فصل:

ولا يَمنع المرتهنُ الراهنَ من إصلاح الرهن؛ كمداواته عند حاجته إليه، وإطراق الإناث عند حاجتها؛ لأنه إصلاح لماله من غير ضرر، فلم يُمنع منه.

فصل

ولا يملك المدينُ الراهنُ بيعَ الرهن، ولا هبته، ولا جعله مهراً، ولا أجرةً، ولا وَقْفَه؛ لأن هذه تصرفات يبطل بها حق الدائنِ المرتهنِ من الوثيقة.

فصل

ويُلزَم المدينُ الراهنُ بمؤنة الرهن كلها؛ من نفقة، وكسوة، وعلف، وحِرز، وحافظ، وسقي، وتسوية، وجذاذ، وتجفيف؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الرهن لِمَن رَهَنَه؛ له غُنْمُه، وعليه غُرْمُه. وهذا من غرمه، ولأنه مِلْكُه فكانت نفقته عليه.

فصل

وليس للدائنِ المرتهنِ أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرهن لِمَن رَهَنَه؛ له غُنْمُه، وعليه غُرْمُه. ومنافعه مِن غُنْمِه، ولأن المنافع مِلكٌ للمدينِ الراهن، فلم يجز أخذها بغير إذنه.

فإن كان المرهون مركوباً أو محلوباً ففيه قولان:

أحدهما: هو كغيره.

والثاني: للمرتهنِ الإنفاقُ عليه، ويَركب الدائنُ المرتهنُ، ويَحلب بقدر ما أنفقَ؛ متحرياً العدل في ذلك؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرهن يُركَب بنفقته، ولبن الدَّر يُشرَب بنفقته إذا كان مرهوناً؛ وعلى الذي يَركب ويَشرب النفقة. رواه البخاري. وفي لفظ: فعلى المرتهن عَلْفُها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يَشرب نفقته، ويركب.

فصل

وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعاً: لم يرجع على الراهن بما أنفق.

وإن أنفق المرتهن على الرهن بإذن الراهن بنية الرجوع: رجع عليه بما أنفق؛ لأنه نائب عنه.

وإن أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن الراهن، معتقداً للرجوع: نظرنا؛ فإن كان الإنفاق مما لا يلزم الراهن؛ كعمارة الدار: لم يرجع بشيء، وإن كان مما يلزمه؛ كنفقة الحيوان، فهل يرجع به؟ قولان.

فصل

فإذا أذن المدينُ الراهنُ للدائنِ المرتهن في الانتفاع بالرهن بغير عوض: لم يجز؛ لأنه يصير قرضاً منفعة.

وإن أذن المدينُ الراهنُ للدائنِ المرتهن في الانتفاع بعوض؛ مثل أن أَجَّرَه إياه؛ فإن حاباه في الأجرة: فهو كالانتفاع بغير عوض، وإن لم يحابه فيها: جاز.

فصل

وإن انتفع الدائنُ المرتهنُ بالرهن بغير إذن المدينِ الراهنِ: فعليه أجرة ذلك.

باب الشروط في الرهن

 يصح شرط جعل الرهن في يد عدل، فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن؛ لأنه قبض في عقد فجاز التوكيل فيه.

وليس للراهن ولا المرتهن ولا للحاكم نقله عن يد العدل؛ لأنهما رضياه ابتداء.

وإن اتفق الراهن والمرتهن معاً على نقله من يد العدل: جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما.

وإن تغيرت حال العدل بفسق، أو ضَعُفَ عن الحفظ، أو عداوة لهما، أو لأحدهما: فمَن طلب نقله منهما فله ذلك؛ لأن العدل المتغير أصبح متهماً في حقه، ففي بقاء الرهن في يده ضرر.

وإن اختلف الراهن والمرتهن في تغير حال العدل: بعث القاضي وعمل بما يظهر له.

وإن مات العدل: لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما؛ لأنهما ما ائتمناه.

وإن رده العدل عليهما: لزمهما قبوله؛ لأنه متطوع بحفظه، فلم يلزمه المقام عليه.

فإن تغيبا، أو كانا غائبين: نصب القاضي شخصاً أميناً يقبض الرهن لهما، لأن للقاضي ولاية على الغائب الممتنع من الحق.

فصل

وكل مَن جاز توكيله، جاز جعل الرهن على يديه؛ مسلماً كان أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً، ذكراً أو أنثى، لأنه جاز توكيله في غير الرهن، فجاز فيه.

فصل

إذا شرط أن يبيعه المرتهن، أو العدل عند حلول الحق: صح الشرط؛ لأن ما صح توكيل غيرهما فيه صح توكيلهما فيه.

فصل

وإن أذن الراهن والمرتهن للعدل في بيع الرهن بنقد: لم يكن له أن يخالفهما؛ لأنه وكيلهما.

وإن أطلقا دون بيان البيع نقداً أو نسيئة، أو اختلفا: باع العدل بنقد البلد؛ لأن الغرض تحصيل الحظ.

فصل

فإن شرط الراهن ما ينافي مقتضى الرهن، نحو:

أن يشترط أن لا يسلمه الرهن، أو لا يباع عند حلول أجل الدَّين، أو لا يُستوفى الدَّين من ثمن الرهن، أو شَرَط أن لا يبيعه إلا بما يرضيه: فسد الشرط؛ لأن المقصود مع الوفاء به مفقود.

وإن شرط المرتهن أنه متى حَلَّ الحق، ولم توفني؛ فالرهن لي بالدَّين: فسد؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا يُغْلَق الرهن من صاحبه. ومعناه: منع استحقاق المرتهن للرهن لعجز الراهن عن فكاكه.

وإن شرط أن ينتفع المرتهنُ بالرهن: لم يجز.

باب اختلاف المتراهنين

إذا قال المرتهن: رهنتني كذا فأنكر الراهن، أو اختلفا في قدر الدين، أو قدر الرهن، فقال المرتهن: رهنتني هذين، قال الراهن: بل هذا وحده، أو قال المرتهن: رهنتني هذا بجميع الدين قال الراهن: بل نصفه: فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر.

فصل:

وإن كان لرجل على آخر ألف برهن، وألف بغير رهن؛ فقضاه ألفاً، وقال: قضيتُ دَين الرهن، فقال المرتهن: هي عن الألف الآخر: فالقول قول الراهن.

فصل:

وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط: فالقول قوله؛ لأنه أمين.

وإن ادعى الرد ففيه قولان:

أحدهما: يقبل قوله لذلك.

والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفسه، فلم يقبل قوله في الرد.


كتاب التفليس

 

مَن لزمه دَين مؤجل: لم يجز مطالبته به قبل الأجل، ولا يجوز الحجر عليه به.

فإن أراد سفراً يَحِلُّ دَينه قبل قدومه منه: فلغريمه منعه، إلا برهن أو ضمين مليء؛ لأنه ليس له تأخير الحق عن محله، وفي السفر تأخير.

وإن كان الدَّين حالاًّ، والغريم معسراً: لم تجز مطالبته؛ لقول الله تعالى: ] وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ[، ولا يملك حبسه ولا ملازمته.

وإن كان موسراً: فلغريمه مطالبته، وعليه قضاؤه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَطْلَ الغني ظلم. متفق عليه.

فإن أبى: فله حبسه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعِرضه. مسند أحمد.

فإن لم يقضه: باع القاضي مالَه وقضى دَينه؛ لما روي أَنَّ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَ يَسْبِقُ الْحَاجَّ فَيَشْتَرِي الرَّوَاحِلَ فَيُغْلِي بِهَا ثُمَّ يُسْرِعُ السَّيْرَ فَيَسْبِقُ الْحَاجَّ؛ فَأَفْلَسَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه  فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ سَبَقَ الْحَاجَّ؛ أَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ دَانَ مُعْرِضًا [اشترى بالدَّين، ولم يهتم بسداده] فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ [أحاط الدَّين بماله]؛ فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالْغَدَاةِ نَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَهُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ، وَآخِرَهُ حَرْبٌ [فقر وخسارة]. رواه مالك في الموطأ.

فإن غَيَّب المدينُ مالَه، حسبه وعزره حتى يظهره.

ولا يجوز الحجر عليه مع إمكان الوفاء، لعدم الحاجة إليه.

وإن تعذر الوفاء، وخيف من تصرفه في ماله: حجر عليه إذا طلبه الغرماء، لئلا يدخل الضرر عليهم.

فصل

فإن كان ماله لا يفي بدينه، فسأل غرماؤه القاضي الحجرَ عليه: لزمته إجابتهم؛ لما روى كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حَجَرَ على معاذ، وباع ماله. رواه سعيد بن منصور، ولأن فيه دفعاً للضرر عن الغرماء، فلزم ذلك كقضائهم.

ويستحب الإشهاد على الحجر، ليعلم الناس حاله؛ فلا يعاملوه إلا على بصيرة.

ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام:

أحدها: منع تصرفه في ماله؛ فلا يصح بيعه، ولا هبته، ولا وقفه.

والثاني: أنه يتعلق حقوق الغرماء بعين ماله،وإن ادعى مالاً له به شاهد: حلف وثبت المال، وتعلقت حقوق الغرماء به.

والثالث: أن للقاضي بيع ماله، وقضاء دينه.

ويستحب أن يحضره عند البيع؛ لأنه أعرف بثمن ماله، وجيده ورديئه، فيتكلم عليه، ويحضر الغرماء؛ لأنه أبعد من التهمة، وربما رغب بعضهم بشراء شيء، فزاد في ثمنه، أو وجد عين ماله فأخذها.

ويقيم منادياً ينادي على المتاع؛ فإن عَيَّن المفلس والغرماء منادياً ثقة: أمضاه القاضي، وإن لم يكن ثقة: رده، وإن اختلفوا في المنادي: قدم الحاكم أوثقهما وأعرفهما.

ومن وجد من الغرماء عين ماله، فهو أحق بها.

ومن اكترى من المفلس داراً، أو مركوباً بعينه قبل الحجر عليه: فهو أحق به؛ لأنه استحق عينه قبل إفلاسه.

وإن كان في المتاع رهن، قُدِّم الراهن بثمنه؛ لأن الدائنَ المرتهنَ لم يرض بمجرد الذمة؛ بخلاف سائر الغرماء.

والرابع: أن مَن وجد عين ماله عنده، فهو أحق به؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس: فهو أحق به. متفق عليه.

فصل

وإن أفلس، وعليه دَينٌ مؤجل: لم يحل؛ لأن التأجيل حق له، فلم يبطل بفَلَسه، كسائر حقوقه.

فصل

فإن مات إنسان، وعليه دَين مؤجل، ففيه قولان:

أحدهما: لا يصبح حالاًّ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن ترك حقاً فلورثته. والتأجيل حق له، فينتقل إلى ورثته لأنه لا يحل له ماله، فلا يحل ما عليه كالجنون.

والثاني: يصبح حالاًّ؛ لأن بقاءه ضرر على الميتِ لبقاء ذمته مرتهنة به، وله ضرر على الوارث لمنعه التصرف في التركة، وضرر على الغريم تأخير حقه.

وعلى كلا القولين يتعلق الحق بالتركة، ويمنع الوارث من التصرف فيها إلا برضى الغريم.

فصل

وإذا حُجِر على المفلس، وهو ذو كسب ولم يف كسبه بمؤنته، كملناها من ماله.

وإن لم يكن ذا كسب، أنفق عليه وعلى مَن تلزمه مؤنته من ماله بالمعروف في مدة الحجر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول.

ولا تباع دار المحجور عليه التي لا غناء له عن سكناها، فإن كانت واسعة، يكفيه بعضها بِيْعَ الفاضل منها إن أمكن وإلا بيعت كلها، واشْتُرِيَ له مسكن مثله.

وإن لم يكن له مسكن: استؤجر له مسكن، ورُدَّ الفضل على الغرماء.


باب الحَجْر

 

يحجر على الإنسان لحق نفسه لثلاثة أمور؛ صغر، وجنون، وسفه؛ لقول الله تعالى: ] وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ[، فدَلَّ على أن لا تسلم إليهم قبل الرشد، وقوله تعالى: ]وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ[، ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم، وفيه ضرر عليهم.

ويتولى الأبُ مالَ الصبي والمجنون، ثم وصيه بعده، لأنه نائبه، ثم القاضي.

فصل:

وليس لوليه التصرف في ماله بما لا نصيب له فيه؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر ولا ضرار. مسند أحمد.

ويجوز أن يشتري له العقار، بل هو أحظ من التجارة، وأقل غرراً، وله أن يبنيه، لأنه في معنى الشراء.

ولا يملك الولي مال اليتيم، ولا يأكل من ماله إن كان غنياً؛ لقوله سبحانه: ]وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ[، ومن كان فقيراً جاز لقول الله تعالى: ]وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ[، وليس له إلا أقل الأمرين من أجرته، أو قدر كفايته.

فصل:

وله أن يتجر بماله؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن ولي يتيماً فليتجر بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة. رواه الترمذي.

ولا يتجر إلا في المواضع الآمنة، والربح كله لليتيم.

ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة؛ لما فيه من تفويت الحظ الحاصل به، ويجوز للحاجة.

ولا يجوز للولي أن يُوْدِع ماله بلا استثمار إلا لحاجة، ولا يقرضه إلا عند الحاجة؛ مثل أن يخاف هلاكه، أو نقصانه ببقائه، فيقرضه ليستوفيه كاملاً، ولا يقرضه إلا لمليء يأمن جحده، أو مطله، ويأخذ بالعوض رهناً استيثاقاً له.

فصل:

وينفق الولي على الصغير والمجنون والسفيه نفقة مثله بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[.

ويعمل على تدريسه العلم بغير إذن القاضي، ولو بكلفة؛ لأن العلم من مصالحه العامة فجرى مجرى نفقته.

فصل:

وإن بلغ الصبي، وعقل المجنون، ورشد السفيه: انفك الحجر عنهم من غير قاضي؛ لقول الله تعالى: ]وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ[.

فصل:

ويستوي الذكر والأنثى في أنه ينفك عنه الحجر برشده وبلوغه.

فصل:

والرشد: الصلاح في المال؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: ]فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ[، قال: إصلاحاً في أموالهم.

وإنما يعرف رشده: باختياره؛ لقول الله تعالى: ]وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى[، يعني: اختبروهم.

فصل:

ومَن لم يُؤْنَس من رشد: لم يدفع إليه ماله، ولم ينفك الحجر عنه؛ وإن صار شيخاً.

فصل:

ويستحب الإشهاد عليه بالحجر؛ لتجتنب معاملته.


كتاب الصلح

وهو ضربان:

أحدهما: الصلح في الأموال، وذلك نوعان:

أحدهما: الصلح على الإنكار؛ مثل أن يدعي على إنسان عيناً في يده، أو دَيناً في ذمته؛ لمعاملة أو جناية، أو إتلاف أو غصب، أو تفريط في وديعة، أو مضاربة ونحو ذلك، فينكره ثم يصالحه بمال، فإنه يصح إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى، فيدفع المال افتداءً ليمينه، ودفعاً للخصومة عن نفسه، والمدعي يعتقد صحتها، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له.

والنوع الثاني: الصلح مع الاعتراف، وهو ثلاثة أقسام:

أحدهما: أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه، ويستوفي باقيه، فلا بأس بذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه، ولا من استيفائه.

القسم الثاني: أن يعترف له بعين في يده، فيهب له بعضها، ويستوفي باقيها: فيصح.

القسم الثالث: أن يعترف له بعين، أو دَين، فيصالحه على غيره، وذلك ثلاثة أضرب:

أحدهما: أن يعترف له بنقد، فيصالحه على نقد، فهذا صرف يعتبر له شروطه.

الثاني: أن يعترف له بنقد، فيصالحه، على عرض، أو بعرض فيصالحه على نقد، أو عرض، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها.

الثالث: أن يعترف له بنقد أو عرض، فيصالحه على منفعة؛ كسكنى دار، أو خدمة، فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها.

باب الصلح فيما ليس بمال

يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد على الدية وينقص عنها.

والصلح في الدم إسقاط، فلم يعد بعد سقوطه، ورجع ببدل العوض وهو القيمة.

فصل:

إذا أراد أن يجري في أرض غيره ماء، له غنى عن إجرائه فيها: لم يجز إلا برضاه؛ لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه: فلم يجز.

فإن صالحه على موضع القناة: جاز، إذا بَيَّنَا موضعها وطولها وعرضها.

وإن صالح رجلاً على أن يجري على سطحه، أو أرضه ماء المطر: جاز، إذا كان السطح الذي يجري ماؤه معلوماً؛ لأن الماء يختلف بصغره، وكبره، ومعرفة موضع الميزاب الذي يجري الماء إليه، لأن ضرره يختلف.

ومَن كانت له أرض، لها ماء، لا طريق له، إلا في أرض جاره، وفي إجرائه ضرر بجاره: لم يجز إلا بإذنه؛ لأنه لا يملك الإضرار به، وإن لم يكن فيه ضرر، ففيه قولان:

أحدهما: لا يجوز.

والثاني: يجوز؛ لما روي أن الضحاك بن الخليفة ساق خليجاً من العريض، فأراد أن يمر به على محمد بن مسلمة فمنعه، فقال له عمر: لِمَ تمنع جارك ما ينفعه ولا يضرك؛ تشربه أولاً وآخراً؟ فقال له محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرنَّ به ولو على بطنك، فأمره عمر رضي الله عنه  أن يمر به، ففعل. رواه سعيد بن منصور.

فصل:

ولا يجوز أن يشرع إلى الطريق النافذ جناحاً [الروشن]، على أطراف خشب مدفونة في الحائط، ولا ساباطاً [المستولي على هواء الطريق على حائطين]، لأنه بناء في ملك غيره، بغير إذنه: فلم يجز؛ كالبناء في أرض الطريق، ولا ميزاباً، ولأنه يضر بالمارة.

فصل:

إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره؛ فطالبه بإزالتها: لزمه ذلك، لأن هواء مِلكِه ملكُه؛ فإن لم يزله، فلمالك الأرض إزالتها.

لو دخلت بهيمةُ جارِه دارَه: فله إخراجها؛ فإن صالحه على تركها بعوض: جاز.

فصل:

ليس للإنسان أن يفتح في حائط جاره طاقاً، ولا يغرز فيه وتداً، ولا مسماراً، ولا يُحْدِث عليه حائطاً، ولا سترة بغير إذنه؛ لأنه تصرف في ملك غيره، بما يضر به، فلم يجز.

وليس له وضع خشبة عليه، إن كان يضر بالحائط، أو يضعف عن حمله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرار ولا ضرار.

وإن كان لا يضر، وبه غنى عنه: لم يجز، لأنه تصرف في ملك غيره، بما يستغني عنه.

وإن احتاج إليه، بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به: جاز؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يمنع أحدكم جاره، أن يضع خشبة على جداره. متفق عليه.

فصل:

إذا كان بين جارين حائط مشترك، فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى عمارته؛ فأبى: أجبر؛ لأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما.

فإن لم يفعل، باع القاضي ماله، وأنفق عليه.

فإن لم يكن له مال: اقترض عليه وأنفق.

وإن أنفق الشريك بإذنه، أو إذن القاضي: رجع عليه بالنفقة، والحائط بينهما، كما كان قبل انهدامه.

فصل:

وإن كان السفل لأحدهما، والعلو للآخر، فانهدم السقف الذي بينهما؛ فالحكم فيه كالحائط المشترك سواء.

وإن انهدمت حيطان صاحب السفل، لم يملك إجبار صاحب العلو على مباناته؛ لأنه ملكه خاصة.

فصل:

ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره؛ نحو أن يبني حماماً بين الدور، أو مخبزاً بين العطارين، أو يجعله مصنعاً يهز الحيطان، أو يحفر بئراً تجتذب ماء بئر جاره؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر ولا ضرار. رواه ابن ماجه والدارقطني بنحوه.


باب الحوالة

 

الحوالة: نقل الدَّين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

والأصل فيها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَطْلُ الغني ظلمه، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع. متفق عليه.

ولا تصح إلا بشروط أربعة:

أحدها: أن يحيل على دَين مستقر.

والثاني: تماثل الحقين‏، ويعتبر التماثل في:

أ - جنس الدَّين، عملة محلية بعملة محلية، ولا تجوز الحوالة لعملة أجنبية بعملة محلية إلا بعد عقد صرف، ثم يتم التحويل بالعملة المتماثلة.

ب- الحلول والتأجيل؛ فإن كان أحد الدَّينين حالاًّ، والآخر مؤجلاً، أو أُجِّلَ أحدُهما مخالفاً لأَجَل الآخر: لم يصح.

والثالث: أن يكون بمال معلوم على مال معلوم.

والرابع: أن يحيل برضاه؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها، ولا يعتبر رضى المحال عليه؛ لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض: فلزم المحال عليه الدفع إليه، كما لو وكله في الاستيفاء منه.

وأما المحتال، فإن كان المحال عليه مليئاً، وهو الموسر غير المماطل: لم يعتبر رضاه؛  لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع. وإن لم يكن مليئاً: لم يلزمه أن يحتال؛ للحديث.

فصل:

إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين؛ لأنه قد تحول من ذمته.

فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه ـ لموت، أو فَلَس حادث، أو مَطْل ـ لم يرجع على المحيل.


كتاب الضمان

 

وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دَينه.

فإذا قال لرجل: أنا ضامن مالك على فلان، أو أنا به كفيل أو قبيل أو حميل، أو هو عليَّ: صار ضامناً له، وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين.

ولصاحب الدين مطالبة مَن شاء منهما؛ لقول الله تعالى: ] وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الزعيم غارم. حديث حسن رواه أبو داود والترمذي.

وروى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أتي برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دَين؟، قالوا: نعم، ديناران، قال: هل ترك لهما وفاء، فقالوا: لا، فتأخر، فقيل: لِمَ لا تصلي عليه؟، فقال: ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه، فقام أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه رسول الله. رواه البخاري.

ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء برئ الضامن؛ لأنه تبع، فزال بزوال أصله.

وإن أبرأ الضامن، لم يبرأ المضمون عنه.

إذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه: رجع عليه؛ لأنه قضى دَينه بإذنه، فهو كوكيله.

إذا ادعى الضامن القضاء؛ فأنكره المضمون له: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل معه، وله مطالبة مَن شاء منهما.


باب الكفالة

 

تصح الكفالة ببدنِ كل مَن يلزمه الحضور في مجلس القاضي بحقٍ.

ولا تصح بمَن عليه حد أو قصاص؛ لأنه تراد للاستيثاق بالحق، وهذا مما يدرأ بالشبهات.

فصل:

إذا قال: أنا كفيل بفلان، أو بنفسه، أو بدنه، أو وجهه: صحت الكفالة.

وتصح الكفالة ببدن الكفيل، وتجوز حالَّة ومؤجلة إلى أجل معلوم.

وتجوز الكفالة مطلقة ومقيدة بالتسليم في مكان بعينه.

فإن أطلق، ففي أي موضع أحضره سلمه إليه على وجه لا ضرر فيه: برئ، فإن كان عليه ضرر لم يبرأ بتسليمه.


كتاب الوكالة

 

يصح التوكيل في الشراء؛ لما روى عروة بن الجعد رضي الله عنه  قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ديناراً أشتري له به شاة. رواه البخاري.

وتجوز في سائر عقود المعاملات؛ قياساً على الشراء، وفي تمليك المباحات؛ كإحياء الموات، والاصطياد.

وتجوز الوكالة في عقد النكاح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وَكَّلَ عمرو بن أمية الضمري، فتزوج له أم حبيبة رضي الله عنها.

وتجوز الوكالة في الطلاق والرجعة؛ لأنها في معنى النكاح.

وتجوز الوكالة في إثبات الأموال والترافع القضائي فيها، حاضراً كان الموكِّل أو غائباً؛ لما روي أن علياً رضي الله عنه  وَكَّل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنهم وقال: وما قضى عليه فعليَّ، وما قضي له فلي.

ويجوز التوكيل في الإقرار.

ويجوز التوكيل في إثبات القصاص، وفي حد القذف، وفي استيفائهما في حضرة الموكِّل وغيبته.

ويجوز التوكيل في حقوق الله تعالى المالية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بَعَثَ عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وفي إثبات الحدود واستيفائها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: واغْدُ يا أنيس على امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها. متفق عليه.

ولا تجوز الوكالة في العبادات البدنية، إلا في الحج.

ولا تجوز في الأيمان  والنذور.

ولا تجوز الوكالة في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان.

ولا تجوز الوكالة في الشهادة؛ لأن غيره لا يقوم مقامه في مشاهدته.

ولا تجوز الوكالة في الالتقاط؛ لأنه بأخذه يصير لملتقطه.

فصل:

ولا يصح التوكيل في شيء مما لا يصح تصرفه فيه؛ لأن مَن لا يملك التصرف بنفسه، فبنائبه أولى.

فصل:

وتصح الوكالة بكل لفظ دل على الإذن، وبكل قول أو فعل دل على القبول.

ويجوز القبول على الفور والتراخي.

ويجوز تعليقها على شرط، نحو أن يقول: إذا قدم الحاج، فأنت وكيلي في كذا، أو فبع ثوبي.

فصل:

لا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم.

فإن وَكَّله في كل قليل وكثير: لم يصح؛ لأنه يدخل فيه كل شيء، فيعظم الغرر.

وإن كان وَكَّله في بيع ماله كله، أو ما شاء منه، أو قبض ديونه كلها، أو الإبراء منها، أو ما شاء منها: صح؛ لأنه يعرف ماله ودينه، فيعرف أقصى ما يبيع ويقبض؛ فَيَقِلُّ الغرر.

وإن قال: اشتر لي ما شئت: لا يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن؛ لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر الغرر.

وإنْ قَدَّر له أكثر الثمن وأقله: صح؛ لأنه يقل الغرر.

فصل:

فإن وَكَّله في البيع في وقت: لم يملك البيع قبله، ولا بعده؛ لأنه قد يختص غرضه به في زمن لحاجته فيه.

وإن وَكَّله في بيعه لشخص: لم يملك بيعه لغيره؛ لأنه قد يقصد نفعه، أو نفع المبيع بإيصاله إليه.

وإن قَدَّر له الثمن في البيع: لم يملك البيع بأقل منه، ويملك البيع بأكثر منه.

وإن وَكَّله في شراء شيء: لم يملك شراء بعضه؛ لأن اللفظ لا يقتضيه.

وإن أمره بالبيع بصفقة واحدة: لم يملك الوكيل تفريق الصفقة.

وإن وَكَّله في البيع، وأطلق: لم يملك البيع بأقل من ثمن المثل.

وإن وَكَّله في الشراء، وأطلق: لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل، وإن اشترى بأقل من ثمن المثل، أو بأقل مما قدر له: صح؛ لأنه مأذون فيه عرفاً.

وإن وَكَّله في الشراء نسيئة، فاشترى نقداً: لم يلزم الموكل.

وإن وَكَّله في الشراء بنقد، فاشترى بنسيئة أكثر من ثمن النقد: لم يجز؛ وإن كان بمثل ثمن النقد، وكان فيه ضرر، فكذلك، وإن لم يستضر به: لزمه؛ لأنه زاده خيراً.

وإن أذن له في البيع بنقد: لم يملك بيعه نسيئة، وإن أذن له في البيع نسيئة، فباع بنقد، فهي كمسألة الشراء سواء.

وإن قَدَّر له أجلاً: لم تجز الزيادة عليه، لأنه لم يرض بها.

وإن وَكَّله في شراء موصوف: لم يجز أن يشتري معيباً؛ لأن إطلاق البيع يقضي السلامة.

فإن اشترى معيباً يعلم عيبه: لم يقع للموكِّل؛ لأنه مخالف له، وإن لم يعلم بالعيب: فالبيع صحيح.

فإن علم الموكِّل بالعيب فرضي به: فليس للوكيل رده.

إذا وَكَّله في قبض حقه من زيد، فمات زيد: لم يملك القبض من وارثه؛ لأنه لم يتناوله إذنه نطقاً، ولا عرفاً، وإن قال: اقبض حقي الذي قِبَل زيد: فله القبض من وارثه؛ لأن لفظه يتناول قبض الحق من غير تعرض للمقبوض منه.

وإن وَكَّله في قضاء دين بالإشهاد، فإن قضاه بغير بينة، فأنكر الغريم: ضَمِن لتفريطه.

فصل:

والوكالة عقد جائز في الطرفين، لكل واحد منهما فسخها؛ لأنه إذن في التصرف، فمَلَك كلُ واحد منهما إبطاله.

وإن أذن لوكيله في توكيل آخر: فهما وكيلان للموكل؛ لا ينعزل أحدهم بعزل الآخر، ولا يملك الأول عزل الثاني، لأنه ليس بوكيله.

وإن أذنه في توكيله عن نفسه، فالثاني وكيل الوكيل ينعزل ببطلان وكالة الأول وعزله له؛ لأنه فرعه، وللموكل عزله وحده؛ لأنه متصرف له فملك عزله كالأول.

فصل:

إذا خرج الموكِّل عن أهلية التصرف؛ لموت، أو جنون، أو حجر، أو فسق في ولاية النكاح: بطلت الوكالة؛ لأنه فرعه، فيزول بزوال أصله.

فإن وجد ذلك، أو عزل الوكيل، فهل ينعزل قبل علمه؟ فيه قولان:

أحدهما: ينعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى علمه.

والثاني: لا ينعزل؛ لأنه أمرٌ فلا يسقط قبل علمه بالنهي، كأمر الشارع.

وإن أزال الموكِّّل ملكه عن ما وكله فيه، ببيع: بطلت الوكالة؛ لأنه أبطل محل الوكالة.

فصل:

ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والإغماء، ولا بالردة؛ لأنها لا تُمْنَع ابتداءً وكالته، فلا تمنع استدامتها.

فصل:

ويجوز التوكيل بأجر أو جعل؛ لأنه تصرف لغير لا يلزمه، فجاز أخذ العوض عنه.

وإذا وَكَّله في البيع بأجر أو جعل فباع، استحق الأجر أو الجعل قبل قبض الثمن؛ لأن البيع يتحقق قبل قبض الثمن.

فإذا قال في التوكيل: فإذا سلمت إلي الثمن، فلك كذا: وقف استحقاقه على التسليم إليه؛ لاشتراطه إياه.

وإن قال: بع هذا بعشرة، فما زاد فهو لك: صح، وله الزيادة؛ لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً.

فصل:

وليس للوكيل في بيع شيء بيعه لنفسه، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه؛ لأن العرف في العقد أن يعقد مع غيره، فحمل التوكيل عليه، ولأنه تلحقه تهمة ويتنافى الغرضان: فلم يجز.

فصل:

والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف تحت يده بغير تفريط، بأجر أو بغير؛ لأنه نائب المالك، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، وعدم تفريط، والقول قوله في الرد، إن كان متطوعاً، لأن قبض المال لنفع مالكه، وإن كان بأجر؛ ففيه قولان: أحدهما: يُقبل قوله؛ لأنه أمين، والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفع نفسه.

وإن اختلفا في أصل الوكالة، فالقول قول مَن ينكرها؛ لأن الأصل عدمها.

وإن اختلفا في صفة الوكالة، فقال: وكلتني في بيع هذا، فقال: بل في بيع هذا، أو قال: وكلتني في بيعه بعشرين، قال: بل بثلاثين، أو قال وكلتني في بيعه نسيئة، قال: بل نقداً؛ فالقول قول الموكِّل.


باب الشركة

 

يجوز عقد الشركة في الجملة؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: قال الله تعالى: أنا ثالث الشركين ما لم يخن أحدهما صاحبه؛ فإذا خان أحدهما صاحبه، خرجت من بينهما. رواه أبو داود.

فصل:

والشركة على أربعة أضراب:

أحدها: شركة العنان؛ وهي أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما، والربح بينهما.

فإذا صحت، فما تلف من المالين فهو من ضمانهما، وإن خسرا، كانت الخسارة بينهما على قدر المالين؛ لأنهما صارا كمال واحد في ربحه، فكذلك في خسرانه، والربح بينهما على ما شرطاه.

فصل:

وتصح الشركة على الدراهم والدنانير، لأنهما أثمان البياعات، وقيم الأموال.

وتجوز في المختلفين، فيكون لأحدهما عملة محلية وللآخر عملة أجنبية؛ لأنهما أثمان، فصحت الشركة بهما كالمتفقين، ويرجع كل واحد منهما عند المفاضلة بمثل ماله، لأنها أثمان.

ولا تصح بالعروض؛ لأن قيمة أحدهما ربما تزيد قبل بيعه، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه.

ولا تجوز الشركة بمجهول؛ لأنه لا يمكن الرجوع به عند المفاضلة، ولا بدَين ولا غائب، لأنه مما لا يجوز والتصرف فيه، وهو مقصود الشركة.

فصل:

ومبناها على الوكالة والأمانة؛ لأن كل واحد منهما بتفويض المال إلى صاحبه وقد أمنه، وبإذنه له في التصرف وقد وَكَّله.

وحكمها في جوازها وانفساخها حكم الوكالة.

فصل:

فإن مات أحدهما، فلوارثه إتمام الشركة، فيأذن للشريك، ويأذن له الشريك في التصرف؛ لأن هذا إتمام للشركة، وليس بابتداء لها، فلا تعتبر شروطها.

وكذلك إن مات رب المال في المضاربة: فلوارثه إتمامها، إن كان المال ناضاً [سائلاً].

وإن مات عامل الضاربة: لم يجز إتمامها إلا على الوجه الذي يجوز ابتداءها؛ لأنه لم يخلف أصلاً يبنى عليه.

فصل:

ولكل واحد من الشريكين: أن يبيع ويشتري مساومة، ومرابحة وتولية ومواضعة، ويقبض المبيع والثمن، ويقبضهما ويطالب بالدَّين ويخاصم فيه، ويرد بالعيب العقدَ الذي وليه هو أو صاحبه، ويستخدم عقد الحوالة، والإجارة، ويفعل كل ما هو من مصلحة التجارة بمطلق الشركة.

فصل:

وليس له المشاركة بمال الشركة، ولا المضاربة به، ولا خَلْطَه بماله، ولا بمال غيره، ولا يأخذ به سُفتجة ولا يعطيها؛ لأن فيه خطراً، ولا يستدين على مال الشركة، ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه.

وإنْ أَقَرَّ على مال الشركة: قُبِلَ في حقه دون حق صاحبه، لأن الإقرار ليس من التجارة.

وليس له التبرع والحطيطة والقرض؛ لأنه ليس بتجارة، وإنما فُوِّضَ إليه العمل برأيه في التجارة.

فصل:

الضرب الثاني: شركة الأبدان، وهي: أن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما، كالصانعين يشتركان على أن يعملا في صناعتهما، فما رزق الله يكون بينهما: فهو جائز؛ لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نُصِيْبُ يوم بدر، قال: فلم أجئ أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منها وكيل صاحبه، وما يتقبله كل واحد من الأعمال، فهو من ضمانهما، يطالب به كل واحد منهما، ويلزمه عمله.

وتصح مع اتفاق الصنائع واختلافها؛ لأنهما اتفقا في مكسب واحد.

فصل:

والربح بينهما، على ما شرطاه من مساواة أو تفاضل؛ لأنهما يستحقان الربح بالعمل، والعمل يتفاضل: فجاز أن يكون الربح متفاضلاً.

ولكل واحد منهما طلب الأجرة، وللمستأجر دفعها إلى أيهما شاء.

وإن تلفت في يد أحدهما بغير تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه وكيل.

فصل:

وإن عمل أحدهما دون صاحبه: فالكسب بينهما؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه  حين جاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران.

و إن ترك أحدهما العمل لعجز أو غيره: فللآخر مطالبته بالعمل، أو بإقامة مَن يعمل عنه أو يفسخ.

فصل:

إذا كان لرجلين سيارتان، فاشتركا على أن يحملا عليهما، فما رزق الله تعالى من الأجرة، فهو بينهما: صح.

والشركة تنعقد على الضمان.

فصل:

فإن دفع سيارة إلى رجل يعمل عليها، ويكون ما يحصل بينهما نصفين، أو أثلاثاً: صح؛ لأنها عين تنمى بالعمل عليها: فجاز العقد عليها ببعض نمائها؛ كالشجر في المساقاة.

وإن دفع ثياباً إلى خياط ليخيطها ويبيعها، وله جزء من ربحها، أو غزلاً لينسجه ثوباً بثلث ثمنه، أو ربعه: جاز.

فصل:

الضرب الثالث: شركة الوجوه، وهي: أن يشترك رجلان فيما يشتريان بجاههما، وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهما على ما اتفقا عليه من مساواة، أو تفاضل، ويبيعان فما رزقهما الله تعالى من الربح، فهو بينهما على ما اتفقا عليه: فهو جائز.

ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه فيما يشتريه ويبعه.

وحكمهما في جواز ما يجوز لكل واحد منهما، أو يمنع منه حكم شركة العنان.

فصل:

الضرب الرابع: شركة المفاوضة، وهي: أن يشتركا في كل شيء يملكانه، وما يلزم كل واحد منهما من ضمان، وفي ما يجدان من ركاز أو لقطة: فلا يصح؛ لأنه يكثر فيها الغرر.

وفي قول: جائزة إذا كانت ببيان وتوضيح ما بين الشريكين.


باب المضاربة

 

وهو أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه، والربح بينهما.

وهي جائزة بالإجماع، وتسمى مضاربة وقراضاً.

وحكمها حكم شركة العنان في جوازها وانفساخها، وفي ما يكون رأس المال فيها، وما لا يكون، وكون الربح بينهما على شرطاه.

فصل:

ويشترط تقدير نصيب العامل، ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عامل أهل خيبر بشَطْر ما يخرج منها.

فصل:

وإن لم يذكر الربح، أو قال لك جزء من الربح، أو شركة: لم تصح المضاربة، لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب.

ولا يصح أن يشرط لأحدهما قدراً معلوماً من المال؛ لأنه يحتمل أن لا يربحها، أو لا يربح غيرها.

فصل:

وإن قال: خذ المال مضاربة والربح كله لك، أو قال: لي: لم يصح؛ لأن موضوعها على الاشتراك في الربح.

وإن قال: خذه فاتجر به، والربح كله لك، فهو قرض، لأن اللفظ يصح للقرض، وقد قرن به حكمه، فتعين له. وإن قال: والربح كله لي، فهو إبضاع، لأنه قرن به حكمه.

فصل:

فإن قال لغريمه: ضارب بالدَّين الذي عليه: لم يصح؛ لأن ما في يد الغريم لنفسه لا يصير لغريمه إلا بقبضه.

وإن كانت له وديعة، فقال للمودَع عنده: ضارب بها: صح؛ لأنه عين ماله.

وإن كان المال عَرَضَاً فقال: بعه وضارب بثمنه: صح؛ لأن الثمن عين مال رب المال.

وإن قال: اقبض ما لي على فلان، فضارب به ففعل: صح؛ لأنه وكيل في قبضه فيصير كالوديعة.

فصل:

ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال، ولا يتجر به إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه، أو لا يعامل إلا رجلاً بعينه؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة.

ويصح توقيت الشركة، فيقول: ضاربتك بهذه الدراهم سنة؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة.

ويصح أن يشرط نفقة نفسه حضراً وسفراً قاسياً على الوكيل.

فصل:

ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، نحو:

أن يشرط لزوم المضاربة، أو لا يعزله مدة بعينها، أو لا يبيع إلا برأس المال، أو أقل؛ لأنه يفوت المقصود من العقد.

فصل:

وكل شرط يؤثر في جهالة الربح يبطل المضاربة؛ لأنه يمنع التسليم الواجب.

وما لا يؤثر فيه: لا يبطلها.

فصل:

وعلى العامل عمل ما جرت العادة بعمله له؛ من نشر وطي، وإيجاب وقبول، وقبض ثمن، ووزن ما خف؛ لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف.

وإن استأجر العامل مَن يفعل ما يستطيع القيام به بنفسه: فعليه الأجرة في ماله؛ لأنه بذلها عوضاً عما يلزمه.

وأما ما جرت العادة أن يستنيب فيه؛ كحمل المتاع ووزن ما يثقل، والنداء: فله أن يستأجر من مال القراض من يفعله؛ لأنه العرف، فإن فعله بنفسه ليأخذ أجرةً: لم يستحقها؛ لأنه تبرع بفعل ما لم يلزمه.

فصل:

وليس له دفع المال مضاربة؛ لأنه إنما دُفِعَ إليه المال ليضارب به، وبدفع المال لآخر يخرج عن كونه مضارباً.

وإن ربح، فالربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله ولا أجرة لواحد منهما، لأن الأول لم يعمل، والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه.

فصل:

إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له: فهو ضمان، لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن، والربح لرب المال ولا أجرة له.

فصل:

ونفقة العامل على نفسه؛ حضراً وسفراً.

وإن اشترط نفقته: فله ذلك؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمنون على شروطهم.

فصل:

وليس للمضارب ربح حتى يوفي رأس المال؛ لأن الربح هو فاضل عن رأس المال.

فلو ربح في سلعة، وخسر في أخرى: جبرت الوضيعة من الربح.

فصل:

ويملك العاملُ الربحَ بالظهور، وفي وقل: بالقسمة.

فصل:

ولكل واحد منهما فسخ المضاربة؛ لأنها عقد جائز.

فإذا فسخ والمال عَرَض فاتفق على قسمه، أو بيعه: جاز.

وإن طلب العاملُ البيعَ وأبى رب المال وفيه ربح: أُجْبِر عليه؛ لأن حقه في الربح لا يظهر عليه إلا بالبيع.

فصل:

والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد؛ لأنه متصرف في المال بإذن المالك لا يختص بنفعه، فأشبه الوكيل.

والقول قول العامل فيما يدعيه من تلف، أو يدعى عليه.

إن اختلفا في نهي رب المال له عن شرائه: فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم النهي، وهو أعلم بنيته في الشراء.

وإن اختلفا في رد المال: فالقول قول المالك، لأن العامل قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله في الرد.

وإن اختلفا فيما شرط له من الربح، ففيه قولان:

أحدهما: القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم ما اختلفا فيه.

والثاني: إن ادعى العامل أجرة المثل، أو قدراً يتغابن الناس به؛ فالقول قول العامل؛ لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر، فالقول قول المالك؛ لأن الظاهر صدقة.

فصل:

فإن قال المالك: دفعت إليك المال قرضاً، قال: بل قرضاً، أو بالعكس، أو قال: غصبتنيه قال: بل أودعتنيه، أو بالعكس، أو قال: أعرتكه قال: أجرتنيه، أو بالعكس؛ فالقول قول المالك، لأنه ملكه.

وإن قال العامل المضارب: شرطتَ لي النفقة فأنكره المالك؛ فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل عدمه.


باب المساقاة

 

تجوز المساقاة على النخل، وسائر الشجر بجزء معلوم، يُجعل للعامل من الثمر؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عَامَل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. متفق عليه.

ولأنه مال ينمى بالعمل عليه، فجازت المعاملة عليه ببعض نمائه.

ولا تجوز على ما لا يثمر.

وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يحمل، فيكون له جزء من الثمرة: جاز.

ولا تصح إلا على شجر معين معلوم برؤية، أو صفة؛ لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان.

فصل:

وهي عقد جائز؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها، ويكون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نقركم على ذلك ما شئنا. رواه مسلم؛ فلو كانت لازمة، لقَدَّر مدتها، ولم يجعل إخراجهم إليه إذا شاء.

وإن وقتاها: جاز، وتنفسخ بموت كل واحد منها وجنونه، وفسخه لها.

فإن انفسخت، بعد ظهور الثمرة: فهي بينهما، لأنها حدثت على ملكهما، وعلى العامل تمام العمل.

وإن انفسخت قبل ظهورها، بفسخ العامل: فلا شيء له؛ لأنه رضي بإسقاط حقه.

وإن انفسخت بغير ذلك: فللعامل أجرة مثله؛ لأنه منع إتمام عمله الذي يستحق به العوض، فصار كعامل الجعالة.

وفي قول: المساقاة عقد لازم، وعليه فيفتقر إلى تقدير مدتها، ويجب أن تكون المدة تكمل الثمرة في مثلها.

فصل:

ويجوز عقد المساقاة والإجارة على مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت.

فصل:

وحكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة في:

الجزء المشروط للعامل في كونه: معلوماً مشاعاً من جميع الثمرة.

وفي الاختلاف في قدره.

وفي فساد العقد بجهله، وفي شرط مال بمقدار معلوم لأحدهما، أو ثمرة شجر معين.

وإن قال: إن سقيته سيحاً، فلك الثلث، وإن سقيته بنضح، فلك النصف، وإن زرعت في الأرض حنطة فلك النصف، وإن زرعت شعيراً، فلك الثلث: لم يصح؛ لأنه عقد على مجهول؛ فلم يصح؛ كبيعتين في بيعة.

فصل:

ويلزم العاملَ ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها؛ كالحرث وآلته واستقاء الماء، وإصلاح طرقه وقطع الشوك، والحشيش المضر، واليابس من الشجرة، وتسوية الثمرة، والحفظ، والتشميس، وإصلاح موضعه، ونحو ذلك.

وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل؛ كسد الحيطان، وإنشاء الأنهار، وحفر بئر الماء، وعمل الدولاب ونصبه.

وقيل: ما يتكرر من كل عام فعلى العامل، وما لا يتكرر فعلى رب المال.

والجذاذ والحصاد واللقاط على العامل، وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة.

فصل:

والعامل أمين، والقول قول فيما يدعيه من تلف، أو يدعى عليه من خيانة، أو تفريط.

فصل:

فإن مات العامل، أو رب المال، وقلنا بلزوم العقد: قام الوارث مقامه.

فإن كان الميت العامل، فأبى الوارث الإتمام، أو لم يكن وارث: استؤجر مِن التركة مَن يعمل.


باب المزارعة

 

وهي: دفع الأرض إلى مَن يزرعها بجزء من الزرع.

وتجوز في الأرض البيضاء والتي بين الشجر؛ لخبر ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عَامَل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. متفق عليه.

وأيهما أخرج البذر: جاز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  دفع خيبر معاملة، ولم يذكر البذر، وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان.

وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما دَفَع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم. رواه مسلم.

وفي لفظ: على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها.

وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان يدفع الأرض على أن مَن أخرج البذر: فله كذا، ومَن لم يخرجه: فله كذا.

فصل:

وإن كانوا ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن آخر العمل، ومن آخر البذر، والزرع بينهم، فهي فاسدة.

فصل:

وحكم المزارعة حكم المساقاة في الجواز واللزوم، وما يلزم العاملَ وربَ الأرض.

وإن كانت الأرض شجراً فقال: ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف، أو قال: ساقيتك على الشجر بالنصف، وزارعتك الأرض بالثلث: جاز؛ لأنهما عقدان يجوز إفرادهما، فجاز جمعهما.


كتاب الإجارة

 

وهي بيع المنافع، وهي جائزة في الجملة؛ لقول الله تعالى: ]فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ[.

وتجوز إجارة الظئر للرضاع، والراعي لرعاية الغنم، واستئجار الدليل، ليدل على الطريق؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً [الماهر بالهداية] وهو على دين كفار قريش، وأَمَّنَاه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا. رواه البخاري وأحمد.

وتجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائماً، قياساً على المنصوص عليه.

وتجوز إجارة الذهب للتحلي، واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب، والغنم لتدوس الزرع والطين؛ لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ العوض عنها في غير هذه الأعيان، فجاز فيها.

ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه، ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة؛ كالغناء والنياحة والزمر، ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة، أو يبيع فيها الخمر ونحوه؛ لأنه محرم، فلم تجز الإجارة لفعله.

فصل:

ولا تجوز إجارة الفحل للضراب؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن عَسْب الفحل. أخرجه البخاري.

فصل:

ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به؛ كالمطعوم والمشروب، والشمع ليسرجه، والشجر يأخذ ثمرته، والبهيمة يحلبها؛ لأن الإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين.

فصل:

وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة، كتعليم القرآن، ففيه قولان:

أحدهما: يجوز الاستئجار عليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. رواه البخاري.

والثاني: لا يجوز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعثمان بن أبي العاص واتخِذْ مؤذناً؛ لا يأخذ على أذانه أجراً. رواه أبو داود.

وأما الاستئجار لتعليم الفقه فيجوز.

فصل:

و الإجارة على ثلاثة أضرب: إجارة عين معينة: كالدور، وموصوفة في الذمة: كسيارة للركوب، وعقد على عمل في الذمة: كخياطة ثوب، وحمل متاع.

فإن كانت الإجارة لعين معينة، اشترط معرفتها برؤية أو صفة.

ويشترط معرفة المنفعة؛ فإن كان لها عرف كسكنى الدار: لم يحتج إلى ذكرها.

وإن اكترى أرضاً، احتاج إلى ذكر ما يكتري له؛ من غراس، أو بناء، أو زرع، لأنها تكترى لذلك كله، وضرره يختلف: فوجب بيانه.

وإن أجرها للزرع مطلقاً: صح، وله زرع ما شاء.

وإن اكتراها لزرع معين: فله زرعَه ومثله في الضرر ودونه، كما لو اكترى للسكنى: كان له أن يُسْكِن غيره.

فصل:

وإن اكترى آلة للركوب: اشترط معرفتها برؤية أو وصف، ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة.

وإن اكترى آلة لعمل في مدة؛ كالحراثة والدياس والسقي والطحن، اشترط معرفة الآلة بالتعيين أو الصفة؛ لأن العمل يختلف باختلافه.

وإن اكترى لحمل متاع: لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر، ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة؛ فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه؛ لأن ضرره يختلف، وقَدْره بالوزن أو بالكيل.

ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء: لم يصح.

فصل:

وإن استأجر راعياً مدة: صح، ويشترط معرفة الحيوان؛ لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب الراعي.

وإن استأجر ليحفر بئراً، أو نهراً، اشترط معرفة الأرض؛ لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض، والعمق؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله.

وإن استأجره لبناء حائط، اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه، وآلته من لبن أو طين أو غيره؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله.

فصل:

ويشترط معرفة قدر المنفعة، ولمعرفتها طريقان:

أحدهما: تقدير العمل؛ كخياطة ثوب معين، والركوب، أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين.

والثاني: تقدير المدة كسكنى شهر، ويشترط فيما قدر بمدة: معرفة المدة.

فصل:

ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجر؛ لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره.

ويشترط أن تكون معلومة؛ ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة.

وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة؛ فإن أطلق العقد وجبت به حالة، ويجب تسليمها بتسليم العين، لأنها عوض في معاوضة، فتستحق بمطلق العقد كالثمن، وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة، استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطوا الأجير أجْرَه قبل أن يجف عرقه.

وإن شرطا تأجيلها: جاز.

فصل:

وإذا استوفى المنفعة: استقرت الأجرة؛ لأنه قبض المعقود عليه، فاستقر بدله.

وإن سَلَّم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها: استقرت الأجرة عليه؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يده.

وإنْ عرض عليه العين ومضت مدة، يمكن الاستيفاء فيها: استقرت الأجرة؛ لأن المنافع تلفت باختياره.

وإن كان العقد على عمل في الذمة: لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل، لأنه عقد على ما في الذمة: فلم يستقر عوضه ببذل التسليم.

وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها، ففيه قولان:

أحدهما: لا يجب شيء، لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها، فلم يجب العوض.

والثاني: يجب أجر المثل؛ لأن العقد الفاسد كالصحيح في استقرار البدل.

فصل:

إذا قعد في سيارة عامة، أو حافلة ركاب أو مع ملاح في سفينة: فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه إجارة؛ لأن العرف جار بذلك.

وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط، أو قصار، منتصبين لذلك، أو مناد، أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه: فلهم أجر أمثالهم لذلك.

باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه

 

الإجارة عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها؛ إلا أن يجد العين معيبة: فيملك الفسخ بما يحدث من العيب؛ لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء.

فإن بادر المكتري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر؛ كدار تشعثت فأصلحها: فلا خيار للمستأجر لعدم الضرر؛ وإلا فله الفسخ.

فإن سكنها مع عيبها: فعليه الأجرة علم بوجود العيب أو لم يعلم؛ لأنه استوفى جميع المعقود عليه، فلزمه البدل.

وإن كان عقد على موصوف في الذمة؛ سيارة؛ فردُّ بعيب، لم ينفسخ العقد، ويطالب ببدله، فإن تعذر بدله: فله الفسخ؛ لتعذر المعقود عليه.

فصل:

إذا اكترى أرضاً للزرع، فانقطع ماؤها، أو داراً فانهدمت: انفسخ العقد؛ لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت.

فصل:

إن غصبت العين المستأجَرَة: فللمستأجر الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه.

وإن أَجَّر نفسه ثم هرب، أو اكترى عيناً ثم هرب بها: فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه.

إن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه: بطلت الإجارة.

وإن أَجَّر عيناً، ثم باعها: صح البيع؛ لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع البيع، ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به: رجع على المؤجر.

فصل:

ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين، ولا موت أحدهما؛ لأنه عقد لازم.

باب ما يلزم المتكارين وما لهما فعله

يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين من الانتفاع؛ كمفتاح الدار، وزمام الجمل، ولجام الفرس وسرجه، ورخصة السيارة؛ لأن عليه التمكين من الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك.

وما تلف من ذلك في يد المكتري: لم يضمنه،كما لا يضمن العين، وعلى المكري بدله؛ لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة.

وأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع؛ كالحبل والدلو والغطاء: فهو على المكتري؛ لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدار.

فصل:

وعلى المكري تسليم الدار جاهزة للانتفاع، وعلى المكري إصلاح ما انهدم من الدار، وتكسر من خشب؛ لأنه من التمكين.

وعلى المكتري علف الظهر، وسقيه، ومصروف الوقود وصيانة السيارة؛ لأنه من التمكين.

فصل:

وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف، فصار كالمشروط.

فإذا استأجر داراً للسكنى، فله وضع متاعه فيها لأنه متعارف في السكنى، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك، وليس جعلها مخزناً للطعام؛ لأنه غير متعارف وفيه ضرر.

فصل:

وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء: فله زرعها؛ لأنه أقل ضرراً.

وإن استأجر أرضاً للغراس أو للبناء لم يملك الآخر؛ لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر.

وإن استأجر أرضاً للزرع: لم يغرس، ولم يبين؛ لأنهما أضر منه.

إن استأجرها لزرع نوع معين كالحنطة مثلاً: فله زرعها، وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى؛ كالشعير، والبقلاء، ولا يملك زرع الذرة والقطن؛ لأن ضررها أكثر.

وإن اكترى شاحنة ليحمل عليها قطناً: لم يجز أن يحمل عليها حديداً؛ لأنه أضر على الشاحنة لاجتماعه وثقله، وإن اكتراها للحديد: لم يحمل عليها قطناً؛ لأنه أضر لتجافيه، وهبوب الريح فيه.

وإن اكترى سيارة ليركبها: لم يحمل عليها.

فصل:

وللمكتري أن يستوفي المنفعة بنفسه، وبمثله.

فإن اكترى داراً: فله أن يُسْكَنها مثله، ومن هو دونه في الضرر، ولا يُسكنها مَن هو أضر منه.

وإن اكترى سيارة ليركبها: فله أن يُركبها مثله في الوزن، ومَن هو أخف منه.

فصل:

فإن اكترى أرضاً للزرع مدة: فليس له زرع ما لا يُستحصد في المدة المتفق عليها في الإجارة؛ لأن عليه تسليم الأرض فارغة عند انتهاء المدة، وزرع أجله فوق مدة الإجارة يمنع تسليمها في مدتها، وللمالك منعه من زرعه لذلك.

فإن فعل، وانقضت المدة ولم يحصد: خُيِّر المالك بين أخذ الزرع ودفع نفقته للمكتري، وبين ترك الزرع بالأجرة.

باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين

الأجير على ضربين: خاص ومشترك.

فالأجير الخاص: الذي يؤجر نفسه مدة: فلا ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط، مثل: أن يأمره بالسقي فيكسر الجرة، أو بالحرث فيكسر آلته، أو بالرعي فتهلك الماشية بغير تفريطه.

والأجير المشترك: الذي يؤجر نفسه على عمل: فيضمن ما تلف بعمله، مثل: الخياط دُفِع إليه ثوب فأفسده، والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه.

فصل:

ولا ضمان على المستأجر في العين المستأجَرة إن تلفت بغير تفريط.

وإن تلفت العين بفعله بغير عدوان لم يضمن، وإن تلفت بعدوان، أو لإسرافه فيها: ضمن؛ لأنه جناية عن مال الغير.

وإن حمل عليه أكثر مما استأجره؛ فتلف: ضمنه.

فصل:

إذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو المنفعة: تحالفا، ورَدَّ كل لصاحبه ما كان قد أخذه منه.

وإن اختلفا في العدوان: فالقول قول المستأجر؛ لأن الأصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان.

وإن اختلفا في رد العين، ففيه قولان:

أحدهما: القول قول المؤجر؛ لأن الأصل عدم الرد.

والثاني: القول قول الأجير؛ لأنه أمين.

وإن دفع ثوباً إلى خياط، فقطعه قباء، وقال: بهذا أمرتني، فلي الأجرة، ولا ضمان علي، وقال صاحبه: إنما أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول الخياط؛ لأنه مأذون له في القطع، والخلاف في صفته، فكان القول قول المأذون له كالمضارب؛ لأن الأصل عدم وجوب الغرم، والقول قوله في أصل الإذن، فكذلك في صفته.


باب الجعالة

 

وهي أن يجعل مكافأة لِمَن يعمل له عملاً من بناء، أو خياطة، وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال.

فيجوز ذلك؛ لما روى أبو سعيد رضي الله عنه  أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أتوا حياً من أحياء العرب، فلم يَقْرُوهم [يكرموهم بالضيافة]؛ فبينا هم كذلك إذ لُدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لم تَقْرُونا فلا نفعل، أو تجعلوا لنا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيع شياه، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقة ويتفل فبرئ الرجل، فأتوه بالشياه، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: وما أدراك أنها رقية؟، خذوها، واضربوا لي منها بسهم. متفق عليه.

ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين، وعمل مجهول، ولا يجوز إلا بعوض معلوم.

فصل:

وهي عقد جائز، وأيهما فسخ قبل الشروع في العمل: فلا شيء للعامل.

وإن فسخه العامل قبل تمام العمل: فلا شيء له.

وإن فسخ الجاعل بعد التلبس بالعمل: فعليه أجرة ما عَمِل العامل.

وإن تم العمل: لزم العقد ووجب الجعل.

فصل:

وإن اشترك جماعة في العمل اشتركوا في المكافأة.

وإن اختلفا في الجعل أو في قدره، أو في المجعول فيه الجعل: فالقول قول المالك.


باب المسابقة

 

تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها.

لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق. متفق عليه.

وسابق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عائشة رضي الله عنها على قدميه.

وسابق سلمة بن الأكوع رضي الله عنه  رجلاً من الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ومر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بقوم يربعون حجراً [أي يرفعونه بأيديهم ليعلم الشديد منهم] فلم ينكر عليهم.

ولا يجوز السباق بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر. رواه أبو داود، فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما روينا.

والمراد بالحافر: الخيل، وبالخف: الإبل، وبالنصل: السهام؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله.

فصل:

والمسابقة بعوض لها حكم الجعالة، ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة.

ويجوز بذل العوض من المال العام، ومن شرط العوض كونه معلوماً.

فصل:

إن قال: مَن سبق منكم؛ فله عشرة: صح.

فإن سبق واحد: فهي له، لأنه سبق.

وإن سبق اثنان أو أكثر: اشتركوا في السبق.

فصل:

وإن أخرج المكافأة أحد المتسابقين: جاز؛ لأن فيهما مَن يأخذ ولا يعطي، فلا يكون قماراً.

فإن سبق مَن أخرج المكافأة: أحرز سبقه، ولم يأخذ من صاحبه شيئاً.

وإن سبق الآخر: أحرز الجعل، لأنه سابق.

وإن أخرجا المكافأة معاً: لم يجز؛ لأنه يكون قماراً.

فصل:

ويعتبر في سبق الفرسان سبق رأس الفرس؛ وإن اختلفا في طول العنق.

ويعتبر في سبق الإبل سبق الكتف، ولا عبرة بالعنق.

باب المناضلة

وهي المسابقة بالرمي.

وتجوز بين اثنين وفريقين؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون، فقالوا: يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم. رواه البخاري.

فصل:

ويشترط لصحتها شروط:

أحدهما: تعيين الرماة؛ لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي.

الثاني: تعيين نوع القسي [السلاح]؛ لأن الأغراض تختلف باختلافها.

الثالث: أن يرميا غرضاً، وهو ما يقع فيه السهم المصيب.

الرابع: أن يكون قدر الغرض معلوماً طوله وعرضه وانخفاضه وارتفاعه؛ لأن الإصابة تختلف باختلافه، فوجب علمه كتعيين النوع.

الخامس: أن يكون مدى الغرض معلوماً مقدراً بما يصيب مثلهما وفي مثله عادة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد؛ فاشترط العلم به كالنوع.

السادس: أن يكون الرشق [عدد الرمي] معلوماً؛ لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك.

السابع: التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي.

فإن تفاضلا في شيء منه، أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه: لم يصح؛ لأن القصد معرفة حذقهما، ولا يعرف مع الاختلاف.


باب اللقطة

 

وهي المال المضاع عن صاحبه.

وهي ضربان: ضال وغيره.

فأما غير الضال فيجوز التقاطه بالإجماع.

وهو نوعان: يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف؛ لما روى جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. رواه أبو داود.

والنوع الثاني: الكثير، وترك التقاطه أفضل؛ لأنه أسلم من خطر التفريط وتضييع الواجب من التعريف.

ومَن لم يأمن نفسه عليه، ويقوى على أداء الواجب: لم يجز له أخذه؛ لأنه تضييع لمال غيره، فحرم كإتلافه.

فصل:

إذا أخذها: عَرَّف عفاصها [وعاؤها]، ووكاءها [الذي تشد به]، وجنسها، وقدرها؛ لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن لقطة الذهب والوَرِق [الفضة] فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عَرِّفها سنة؛ فإن لم تُعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك؛ فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه. متفق عليه.

لأنه إذا عرف هذه الأشياء، لم تختلط بغيرها، وعرف بذلك صدق مدعيها، أو كذبه.

ويستحب أن يشهد عليها؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : مَن وجد لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب. رواه أبو داود، ولأن في الإشهاد حفظها من ورثته إن مات، وغرمائه إن أفلس، وصيانته من الطمع فيها.

فصل:

ويجب تعريفها حولاً من حين التقاطها، ويكون التعريف في مجامع الناس؛ كالأسواق، وأبواب المساجد، وأوقات الصلوات، وفي الوقت الذي يلي التقاطها.

ولا يعرفها في المسجد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله تعالى عليك؛ فإن المساجد لم تُبْن لهذا. رواه مسلم.

ويقول: مَن ضاع منه كذا؛ يذكر جنسها، أو يقول: شيء ولا يزيد في صفتها؛ لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها.

فصل:

فإذا جاء مدعيها، فوصفها بصفاتها المذكورة، لزم دفعها إليه؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  به.

فصل:

فإن لم تُعرف دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكماً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث زيد: وإن لم تعرف فاستنفقها، وفي لفظ: وإلا فهي كسبيل مالك.

فصل:

الضرب الثاني: الضوال وهي الحيوانات الضائعة، وهى نوعان:

أحدهما: ما يمتنع؛ إما بقوته كالإبل والخيل، أو بجناحه كالطير، أو بسرعته كالظباء، أو بنابه كالفهد: فلا يجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سئل عن ضالة الإبل، فقال: ما لك ولها، دعها؛ فإن معها حذاءها وسقاءها، تَرِد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها. متفق عليه.

النوع الثاني: ما لا ينحفظ من الصغار؛ كالشاة وصغار الإبل والبقر ونحوها: فيجوز التقاطها؛ لما روى زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سئل عن الشاة، فقال: خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. متفق عليه.

ومتى التقط هذا النوع خُيِّر بين: أكله في الحال، وحفظه لصاحبه، وبيعه وحفظ ثمنه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي لك، ولم يأمره بحفظها، ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة، ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها.

فإن اختار إبقاءها وحفظها لصاحبها: ينفق عليها، فإن لم يفعل فتلفت ضمنها، وإن أنفق عليها متبرعاً لم يرجع على صاحبها، وإن نوى الرجوع على صاحبها، وأشهد على ذلك، ففي الرجوع به قولان.

وإن اختار أكلها، أو بيعها: لزمه حفظ صفتها، ثم يُعَرفها عاماً؛ فإذا جاء صاحبها، دفع إليه ثمنها.

فصل:

فإن التقط ما لا يبقى عاماً؛ كالطعام: لم يجز تركه ليتلف؛ فإن فعل: ضمنه؛ لأنه فرط في حفظه.

فإن كان مما يبقى بالتجفيف؛ كالعنب والرطب: فعل ما فيه الحظ لصاحبه من بيعه وأكله وتجفيفه.

فصل:

فإن وجد اللقطة اثنان: فهي بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في الحكم.


باب اللقيط

 

وهو الطفل المنبوذ، والتقاطه فرض على الكفاية؛ لأنه إنجاء آدمي من الهلاك فوجب؛ كتخليص الغريق.

ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم، وإن وجد في بلد فيه كفار، ولا مسلم فيه فهو كافر، وإن وجد في بلد الكفار، وفيه مسلمون؛ ففيه قولان:

أحدهما: هو كافر؛ لأنه في دارهم.

والثاني: هو مسلم تغليباً لإسلام المسلم الذي فيه.

فصل:

وما يوجد عليه من ثياب أو حلي، أو تحته من فراش أو سرير أو غيره، أو في يده من نفقة: فهو له.

فصل:

ويُنْفَق عليه من ماله، ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم، ويستحب استئذانه؛ أنفى للتهمة، فإن بلغ واختلفا في النفقة: فالقول قول المنفق.

وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال؛ لقول عمر رضي الله عنه: وعلينا نفقته.

فصل:

فإن كان الملتقط أميناً مسلماً: أُقِرَّ في يده؛ لحديث عمر رضي الله عنه ، ولأنه لا بد له من كافل.

وإن التقطه فاسق: نُزِعَ منه، لأنه لا ولاية لفاسق.

وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم؛ فإن التقطه نُزِع منه، وله التقاط المحكوم بكفره، ويُقَرُّ في يده؛ لثبوت ولايته عليه.

فصل:

فإن التقطه موسر ومعسر: قُدِّم الموسر؛ لأنه أحظ للطفل.

فإن تساويا وتشاحا: أُقْرِع بينهما، لأنهما تساويا في الحق، وإن ترك أحدهما نصيبه كُلِّفَه الآخر، والرجل والمرأة في هذا سواء.

فصل:

وإن ادعى نَسَبَه رجلٌ لَحِق به؛ لأنه أُقِرَّ له بحق لا ضرر فيه إلى أحد فقُبِل.

وإن كانت له بينة بولادته على فراشه: أُلْحِق به نسباً وديناً.

وإن ادعت امرأةٌ نسبَه، ففيها قولان:

أحدهما: يقبل قولها؛ لأنها أحد الأبوين، فثبت النسب بدعواها.

والثاني: إن كان لها زوج لم تقبل دعواها؛ لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها نسباً لم يُقِر به.

ومَن حكمنا بإسلامه: فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته.


باب الوديعة

 

قبول الوديعة مستحب لِمَن عَلِم مِن نفسه الأمانة؛ لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته، وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما.

وإن كان عاجزاً عن حفظها، أو خائفاً من نفسه عليها: لم يجز له قبولها.

ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال؛ وهو البالغ العاقل الرشيد.

فصل:

والوديعة أمانة؛ إذا أتلفت من غير تفريط: لم يضمن المودَع؛ بالإجماع؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليس على المستودع ضمان، وكذا إن تلفت من بين ماله.

فصل:

ويلزمه حفظها في حرز مثلها؛ فإن أَخَّر إحرازها فتلفت: ضمنها، وإن تركها في دون حرز مثلها: ضمن.

فصل:

وإذا أراد المودع السفر، أو عجز عن حفظها: ردها على صاحبها أو وكيله.

فإذا سافر بها في طريق مخوف، أو إلى بلد مخوف، أو نهاه المالك عن السفر بها: ضمن؛ لأنه مفرط أو مخالف، وإن لم يكن كذلك: لم يضمن؛ لأنه نقلها إلى موضع مأمون.

وإن لم يرد السفر بها، ولم يجد مالكها: دفعها إلى القاضي؛ لأنه متبرع بالحفظ: فلا يلزمه ذلك في الدوام، والقاضي يقوم مقام صاحبها عند غيبته، وإن لم يجد حاكماً أودعها ثقة.

ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة؛ لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره.

فصل:

وإن خلطها بما لا تتميز منه: ضمنها؛ لأنه لا يمكنه رد أعيانه.

وإن خلطها بما تتميز منه: لم يضمن؛ لأنها تتميز من ماله.

فإن أُوْدَع بهيمة فلم يعلفها ولم يسقها حتى ماتت: ضمنها.

وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها، كإخراج الدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة: لم يضمن؛ لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد.

فصل:

وإن طولب في الوديعة فأنكرها؛ فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها.

وإن أقر بها وادعى ردها، أو تَلَفها بأمر خفي: قُبِل قوله مع يمينه؛ لأن قبضها لنفع مالكها، وإن كان بأمر ظاهر: فعليه إقامة البينة.

وإن طالبه برد الوديعة؛ فأَخَّره لعذر: لم يضمن؛ لأنه لا تفريط من جهته، وإن أَخَّرَه لغير عذر: ضمنها؛ لتفريطه.


باب العارية

 

وهي هبة المنافع، وهي مندوب إليها؛ لقول الله تعالى: ]وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى[، ولأن فيها عوناً لأخيه المسلم وقضاء حاجته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

وتصح في كل عين يُنتَفع بها مع بقاء عينها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استعار من أبي طلحة فرساً فركبها، واستعار من صفون بن أمية أدراعاً. رواه أبو داود، وسئل عن حق الإبل فقال: إعارة دلوها وإطراق فحله، فثبتت إعارة ذلك بالخبر، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه.

فصل:

فإن قبض العين: ضمنها؛ لما روى صفوان بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استعار منه أدراعاً يوم حنين، فقال: أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة، وروي: مؤادة. رواه أبو داود.

فإن شَرَط نفي الضمان: لم ينتف؛ لأن ما يُضمن لا يَنتفى بالشرط.

ولو تلفت: ضمنها بقيمتها يوم تلفها؛ لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون.

فصل:

والعارية عقد جائز؛ لكل واحد منهما فسخها؛ لأنها إباحة.

وعليه ردها إلى المعير، أو مَن جرت عادته أن يجري ذلك على يديه؛ فإن ردها إلى غيرهما، أو إلى دار المالك: لم يبرأ من الضمان.

فصل:

ومن استعار شيئاً: فله استيفاء نفعه بنفسه، ووكيله؛ لأنه نائب عنه، وليس له أن يعيره؛ لأنها إباحة؛ فلا يملك بها إباحة غيره.

فإن أعاره فتلف عند الثاني: فللمالك تضمين أيهما شاء، ويستقر الضمان على الثاني؛ لأنه قبضه على أنه ضامن له، وتلف في يده.

فصل:

وتجوز العارية مطلقة ومعينة.

فإن كانت أرضاً: فله أن يبني ويغرس ويزرع؛ لأنها تصلح لذلك كله.

وإن عَيَّن نفعاً: فله أن يستوفيه ومثله ودونه، وليس له استيفاء أكثر منه.

فصل:

وتجوز مطلقة ومؤقتة؛ فإن أعارها لغراس سنة: لم يملك للغرس بعدها.

فإن غرس بعدها: فحكمه حكم غرس الغاصب؛ لأنه بغير إذنه.

وإن رجع المعير قبل السنة: لم يملك المستعير الغرس بعد الرجوع؛ لأن الإذن قد زال.

فصل:

وإن رجع المعير في العارية؛ وفي الأرض زرع مما يحصد: حصده؛ لأنه أمكن الرجوع من غير إضرار.

وإن لم يكن: لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده.

فصل:

وإن استعار شيئاً يرهنه مدة معلومة على دَين معلوم: صح؛ لأنه نوع انتفاع.

وإنْ حَلَّ الدَّين قبل فكاكه: بيع واستُوفى الدَّين من ثمنه؛ لأن هذا مقتضى الرهن، ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثلياً؛ لأن العارية مضمونة، ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة؛ لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها، وإن بِيع بأكثر من قيمته: رجع به؛ لأن ثمن العين ملك لصاحبها.

وإن تلف في يد المرتهن: رجع المعير على المستعير، ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى؛ وإلا فلا.

فصل:

إذا ركب سيارة غيره ثم اختلفا فقال: أعرتنيها فقال: بل أجرتكها، والسيارة قائمة: فالقول قول الراكب؛ لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة. وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة: فالقول قول المالك؛ لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره.

وإن قال المستعير: أكريتنيها، قال المعير: بل أعرتكها، بعد تلفها أو قبله: فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في صفة القبض، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره: الضمان؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: على اليد ما أخذت حتى ترده. حديث حسن، والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه.

وإن قال المعير: غصبتنيها، قال المعير: بل أعرتنيها أو أكريتنيها: فالقول قول المالك.


باب الغصب

وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق.

وهو محرم بالإجماع، وقد روى جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال في خطبته يوم النحر: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. رواه مسلم.

مَن غصب شيئاً: لزمه رَدُّه؛ لما روى سمرة رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: على اليد ما أخذت حتى ترده.

وإن نقصت قيمتها لتغير الأسعار: لم يضمنها؛ لأن حق المالك في العين، وهي باقية لم تتغير صفتها؛ فلا حق له في القيمة مع بقاء العين.

وإن نقصت القيمة لنقص المغصوب نقصاً مستقراً، كثوب تخرق، وإناء تكسر أو تشقق، وشاة ذبحت، وحنطة طحنت: فعليه رَدُّه وأرش نقصه؛ لأنه نقص عين نقصت به القيمة، فوجب ضمانه.

فصل:

إن زاد المغصوب في يد غاصبه، كشجرة أثمرت، أو طالت، فالزيادة للمالك.

وإن غصب نقوداً (أثماناً)؛ فاتجر بها: فالربح لصاحبها؛ لأنه نماء ماله.

وإن عمل الغاصب في المغصوب عملاً؛ كثوب فَصَّلَه وخاطه، أو قطن غزله، أو غزل نسجه، أو خشب نجره، أو ذهب صاغه: فعليه رده؛ لأنه عين ماله، ولا شيء للغاصب؛ لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه؛ فلم يستحق شيئاً.

وإن نقص بذلك: فعليه ضمان نقصه؛ لأنه حدث بفعله.

فصل:

إن غصب شيئاً؛ فخلطه بما يتميز منه؛ كحنطة بشعير، أو زبيب أحمر بأسود: فعليه تمييزه ورَدُّه؛ لأنه أمكن رده: فوجب.

وإن خلطه بمثله مما لا يتميز؛ كزيت بزيت: لزمه مثل كيله منه؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه، فلم ينتقل إلى البدل.

وإن خلط بأجود منه: لزمه مثله، وإن خلطه بدونه: لزمه مثله.

وإن خلطه بغير جنسه؛ كزيت بشيرج: لزمه مثله من غيره.

فصل:

إن غصب أرضاً؛ فغرسها، أو بنى فيها: لزمه قلعه؛ لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ليس لعرق ظالم حق. قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنه شغل ملك غيره، بملك لا حرمة له في نفسه: فلزمه تفريغه.

وإن وهب الغاصب الغراس، أو البناء: لم يجبر المغصوب منه على قبوله؛ إن كان له غرض في القلع؛ لأنه يفوت غرضه.

فإن حفر بئراً في الأرض المغصوبة؛ فطالبه المالك بطمها: لزمه.

وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر: فله طمها؛ لأنه لا يجبر على إبقاء ما يتضرر به.

فصل:

وإن زرعها، وأخذ زرعه: فعليه أجرة الأرض وما نقصها، والزرع له؛ لأن عين بذره نما.

وإن أدركها صاحبها، والزرع قائم: فليس له إجبار الغاصب على القلع، ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه، ويدفع إلى الغاصب نفقته؛ لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن زرع في أرض قوم بغير إذنهم: فليس له من الزرع شيء، وله نفقته. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

فصل:

وإن غصب أثماناً؛ فطالبه مالكها بها في بلد آخر: لزم ردها إليه؛ لأن الأثمان قيم الأموال، فلم يضر اختلاف قيمتها.

وإن كان المغصوب من المتقومات: لزم دفع قيمتها في بلد الغصب.

وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة: فله مطالبته بمثله؛ لأنه لا ضرر على الغاصب فيه، وإن كانت قيمته أكثر فليس له المثل، لأننا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه، وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب.

فصل:

إذا تلف المغصوب، وهو مما له مثل؛ كالأثمان والحبوب: فإنه يُضْمَن بمثله؛ لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة، والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد؛ فكان المثل أولى.

فإن تغيرت صفته؛ كرطب صار تمراً، أو سمسم صار شيرجاً: ضَمَّنَه المالك بمثل أيهما شاء؛ لأنه قد ثبت ملكه على واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما.

فإن كان مما لا مثل له: وجبت قيمته؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أعتق شركاً له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد، قَوَّم وأعطى شركاؤه حصصهم. متفق عليه.

فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف: نظرت؛

فإن كان ذلك لمعنى فيه: وجبت قيمته أكثر ما كانت.

وإن كان لاختلاف الأسعار: فالواجب قيمته يوم تلف؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته.

وتجب القيمة من نقد البلد الذي أتلف فيه؛ لأنه موضع الضمان.

فصل:

وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة؛ كسيارة مثلاً؛ فأقام في يد الغاصب مدة لمثلها أجرة: فعليه الأجرة.

فإن تلفت العين: لم تلزمه أجرتها بعد التلف؛ لأنه لم يبق لها أجرة.

ولو غصب داراً؛ فهدمها، أو عرصة؛ فبناها، أو داراً؛ فهدمها ثم بناها وسكنها: فعليه أجرة عوضه.

فصل:

وإن غصب ثوباً فلبسه وأبلاه: فعليه أجرته، وأرش نقصه؛ لأن كل واحد منهما يُضْمَن منفرداً فيضمن مع غيره.

وإن غصب أرضاً فزرعها، فأخذ المالك زرعها: لم تكن على الغاصب أجرة؛ لأن منافع ملكه عادت إليه.

فصل:

إذا غصب عيناً فباعها لعالم بالغصب؛ فتلفت عند المشتري: فللمالك تضمين أيهما شاء، قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري؛ فيضمن الغاصب لغصبه، والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه.

فإن ضمن الغاصب: رجع على المشتري.

وإن ضمن المشتري: لم يرجع على أحد؛ لأنه غاصب تلف المغصوب في يده؛ فاستقر الضمان عليه، كالغاصب إذا تلف تحت يده.

فصل:

وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب، أو أطعمه إياه: استقر الضمان على المتَّهب (الموهوب له).

وإن أَجَّر الغاصبُ العينَ، ثم استردها المالك: رجع المالك على مَن شاء منهما بأجرتها، ويستقر الضمان على المستأجر؛ علم أو جهل.

وإن أعارها، استقر الضمان على المستعير؛ علم أو جهل؛ لأنه دخل معه على أنها مضمونة عليه.

فصل:

وإن أطعم الغاصبُ المغصوبَ لمالكه؛ فأكله عالماً به: برئ الغاصب؛ لأنه أتلف ماله برضاه، عالماً به.

وإن لم يعلم، فإنه يرجع على الغاصب بالقيمة.

فصل:

وإن كسر صليباً أو مزماراً: لم يضمنه؛ لأنه لا يحل بيعه.

وإن كسر أواني الذهب والفضة: لم يضمنها؛ لأن اتخاذها محرم.

فصل:

ومَن أتلف مالاً محترماً لغيره: ضمنه؛ لأنه فَوَّته عليه فضمنه.

وإن فتح قفص طائر فطار، أو حل دابة فشردت، أو رباط سفينة فغرقت: ضمن ذلك كله؛ لأنه تلف بسبب فعله فضمنه.

فصل:

وإن أجج في سطحه ناراً؛ فتعدت فأحرقت شيئاً لجاره، وكان ما فعله يسيراً جرت العادة به: لم يضمن؛ لأنه غير متعد.

وإن أسرف فيه؛ لكثرته، أو كونه في ريح عاصف: ضمن.

فصل:

وإن أطارت الريح إلى داره ثوباً: لزمه حفظه؛ لأنه أمانة حصلت في يده؛ فلزمه حفظها كاللقطة.

فإن عَرَف صاحبَه: لزمه إعلامه.

فإن لم يفعل: ضمنه.

فصل:

إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب: فالقول قول الغاصب مع يمينه.

وإن اختلفا في قيمة المغصوب: فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها.

كتاب الشفعة

 

وهي استحقاق انتزاع الإنسان حصة شريكه من مشتريها مثل ثمنها.

وهي ثابتة بالسنة والإجماع.

أما السنة؛ فما روى جابر رضي الله عنه  قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالشفعة في كل شِرْك لم يقسم، ربعةٍ [الدار والمسكن ومطلق الأرض]، أو حائطٍ [البستان]، لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه؛ فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك؛ فإن باع ولم يستأذنه: فهو أحق به. رواه مسلم.

وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة.

ولا تثبت إلا بشروط:

أحدها: أن يكون المبيع أرضاً.

فأما غير الأرض فنوعان:

أحدهما: البناء والغراس؛

فإذا بيعا مع الأرض: ثبتت الشفعة فيه؛ لأنه يدخل في قوله حائط، ولأنه يراد للتأبيد، فهو كالأرض.

وإن بيع منفرداً: فلا شفعة فيه؛ لأنه يُنْقَل ويُحَوَّل.

النوع الثاني: الزرع والثمرة الظاهرة، والحيوان وسائر المبيعات: فلا شفعة فيه تبعاً، ولا أصلاً؛ لأنها لا تدخل في البيع تبعاً، فلا تدخل في الشفعة تبعاً.

الشرط الثاني: أن يكون المبيع مشاعاً؛ لما روى جابر رضي الله عنه  قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن الشفعة فيما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة. رواه البخاري، ولأن الشفعة، ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك، ولا يوجد هذا في المقسوم.

الشرط الثالث: أن تكون قيمته مما تجب قسمته عند الطلب؛ لما روي عن عثمان رضي الله عنه  قال: لا شفعة في بئر ولا نخل.

الشرط الرابع: الطلب بها على الفور ساعة العلم؛ فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة؛ لأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري.

وإن أَخَّر الطلبَ لمرض، أو حبس، أو غيبة؛ لم يُمَكِّنْه فيه التوكيل ولا الإشهاد: فهو على شفعته؛ لأنه تركه لعذر.

وإن قدر على إشهادِ مَن تقبل شهادته؛ فلم يفعل: بطلت شفعته.

وإن أشهد ثم أَخَّر القدوم: لم تبطل شفعته.

الشرط الخامس: أن يأخذ جميع المبيع؛ فإن عفا عن البعض، أو لم يطلبه: سقطت شفعته؛ لأن أخذ البعض تفريق لصفقة المشتري وفيه إضرار به.

الشرط السادس: أن يكون الشفيع قادراً على الثمن؛ لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري.

فصل:

ويأخذ الشفيعُ المبيعَ بالثمن الذي استقر العقد عليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث جابر: فهو أحق به بالثمن. رواه أبو إسحاق الجوزجاني.

فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه العاقد، فهو أعلم بالثمن.

وإن كان الثمنُ عَرَضَاً؛ فاختلفا في قيمته: رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجوداً، أما إن كان معدوماً فالقول قول المشتري في قيمته.

فصل:

إذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع: لم يخل من أربع أضرب:

أحدها: تصرف بالبيع: فللشفيع الخيار بين أن يأخذه بالعقد الثاني، وبين فسخه ويأخذ بالعقد الأول.

فإن أخذه بالثاني: دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه.

وإن أخذه بالأول: دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به، ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمناً.

وإن كان ثَمَّ ثالث رجع الثالث على الثاني.

الثاني: وهبه أو وقفه، أو رهنه، أو أَجَّره ونحوه: فتسقط الشفعة؛ لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب والموقوف عليه والمرهونة له بالكلية، وفيه ضرر.

الثالث: بناء أو غرس: فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه، وبين أو يقلعه ويضمن نقصه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا ضرر ولا ضرار. رواه ابن ماجه.

الرابع: زرع الأرض: فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد؛ لأنه زرعه بحق، فوجب إبقاؤه له.

فصل:

وإن نما المبيع نماء متصلاً؛ كغراس كبر: أخذ الشفيع بزيادته؛ لأن الزيادة تتبع الأصل في الملك، كما تتبعه في الرد.

وإن كان نماء منفصلاً؛ كالغلة، والثمرة الظاهرة: فهي للمشتري؛ لأنها حدثت في ملكه، وليست تابعة للأصل، وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ.

فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معاً: أخذ الشفيعُ الأصلَ بحصته من الثمن.

فصل:

وإن تلف بعض المبيع: فهو من ضمان المشتري؛ لأنه ملكه تلف في يده، وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ويأخذ أنقاضه؛ لأنه تعذر أخذ البعض فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي.

وإن تلف بعض المبيع بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن أو يترك؛ لأن في أخذه بالبعض إضراراً بالمشتري فلم يملكه.

فصل:

ويملك الشفيع الأخذ بغير القاضي؛ لأنه حق ثبت بالإجماع؛ فلم يفتقر إلى القضاء، ويأخذه من المشتري.

فإن كان في يد البائع، فامتنع المشتري من قبضه: أخذه من البائع.

 

باب إحياء الموات

 

وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك، وهي نوعان:

أحدهما: ما لم يَجْرِ عليه مِلك؛ فهذا يملك بالإحياء؛ لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أحيا أرضاً ميتة فهي له. رواه أحمد والترمذي وصححه.

ولا يحتاج لإذن الإمام؛ للخبر، ولأنه تملك مباح، فلم يفتقر إلى إذن.

الثاني: ما جرى عليه مِلك، وبَاد أهلُه، ولم يُعرف له مالك، ففيه قولان:

أحدهما: يُمْلَك بالإحياء؛ للخبر.

والثاني: لا يملك، لأنه إما لمسلم، أو لذمي، أو لبيت المال: فلم يجز إحياؤه، كما لو تعين مالكه.

فصل:

في صفة الإحياء قولان:

أحدهما: أن يعمر الأرض لما يريدها له، ويرجع في ذلك إلى العرف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أطلق الإحياء ولم يبين، فحُمِل على المتعارف.

فإن كان يريدها للسكنى؛ فإحياؤها ببناء وسقف.

وإن أرادها حظيرة لغنم، أو حطب؛ فبحائط جرت العادة بمثله.

وإن أرادها للزرع؛ فبسوق الماء إليها من نهر، أو بئر، ولا يعتبر حرثها؛ لأنه يتكرر على عام.

وإن كانت أرضاً يكفيها المطر؛ فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع؛ إما بقلع أشجارها، أو أحجارها، أو تنقيتها.

والثاني: التحويط إحياء لكل الأرض؛ لما روى سمرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن أحاط حائطاً على أرض فهي له. رواه أبو داود، ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء.

فصل:

وإذا أحياها: ملكها بما فيها من المعادن، والأحجار؛ لأن الإحياء تملك الأرض بجميع أجزائها، وطبقاتها.

فصل:

ومَن تحجر مواتاً وشرع في إحيائه ولم يتم: فهو أحق به؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به. رواه أبو داود.

فإن نقله إلى غيره: صار الثاني أحق به؛ لأن صاحب الحق آثره به.

فإن مات: انتقل إلى وارثه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن ترك حقاً، أو مالاً فهو لوارثه.

وإن باعه: لم يصح؛ لأنه لم يملكه بعد، فلم يصح بيعه.

وإن شرع في الإحياء وترك، قال له الحاكم: إما أن تُعَمِّر، وإما أن ترفع يدك؛ لأنه ضَيَّق على الناس في حق مشترك، فلم يمكن منه؛ فإن سأل الإمهال: أمهل مدة قريبة؛ كالشهرين ونحوهما؛ فإن انقضت ولم يعمر: فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات.

فصل:

ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة؛ للبيع والشراء؛ لأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار؛ فلا يمنع منه.

ومَن سبق إليه: كان أحق به؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: منى مُناخ مَن سبق. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.

وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة؛ لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره.

وليس له أن يبني دكة ولا غيرها؛ لأنها تضيق، ويعثر بها العابر.

فإن قام وترك متاعه: لم يجز لغيره أن يقعد؛ لأن يده لم تزل.

فصل:

القطائع ضربان: إقطاع وإرفاق.

وهي مقاعد الأسواق والرحاب: فللحاكم إقطاعها لمن يجلس فيها؛ فيصير كالسابق إليها؛ إلا أنه أحق بها.

فإن أقطعه: ثبتت يده عليه بالإقطاع؛ فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.

الضرب الثاني: موات الأرض: فللإمام إقطاعها لمن يحييها؛ لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أقطعه أرضاً فأرسله معاوية: أن أعطه إياها، أو أعلمها إياه. حديث صحيح، وأقطع صلى الله عليه وآله وسلم  بلال بن الحارث المزني، وأبيض بن حمال المازني، وأقطع الزبير حُضْر [قدر ما تعدو عدوة واحدة] فرسه. رواه أبو داود، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ومَن أقطعه الإمام شيئاً: لم يملكه لكن يصير كالمتحجر في إحياء الموات.

ولا يُقطع الإمام من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه؛ لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة؛ وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أقطع بلال بن الحارث العقيقَ؛ فلما كان زمن عمر رضي الله عنه  قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لم يُقطعك لتحتجره على الناس؛ فخذ ما قَدِرت على عمارته ودع باقيه. رواه أبو عبيد في الأموال.

فصل في الحمى:

لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتاً يمنع الناس الرعي فيها؛ لما روى الصعب بن جثامة رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا حمى إلا لله ولرسوله. متفق عليه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار. رواه أبو داود.


باب الوقف

 

ومعناه: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة.

وهو مستحب؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية. رواه مسلم.

ويجوز وقف الأرض؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر رضي الله عنه  أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه؛ فما تأمرني فيها؟ قال: إنْ شئتَ حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث، قال: فتَصَدَّق بها عمر رضي الله عنه  في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف؛ لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف، غير متأثل منه أو غير متمول فيه. متفق عليه.

ووقف السلاح والحيوان جائز؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتادَه في سبيل الله. متفق عليه. وفي رواية: وأَعْتُده.

ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائماً؛ قياساً على المنصوص عليه.

ويصح وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علوها.

فصل

ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه؛ كالأثمان، والمأكول، والمشروب، والشمع، لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه.

ولا يصح وقف ما يسرع إليه الفساد؛ كالرياحين.

ولا يصح وقف ما لا يجوز بيعه؛ كالكلب، والخنزير.

ولا يصح وقف المرهون والحمل المنفرد؛ لأن الوقف تمليك، فلا يجوز في هذه.

ولا يجوز الوقف في غير معين، كأحد هذين؛ لأنه نقل ملك على وجه القربة.

فصل

ولا يصح الوقف إلا على بِرٍ؛ كالمساجد، والقناطر، والفقراء، والأقارب، أو آدمي معين؛ مسلماً كان أو ذمياً.

ولا يصح الوقف على من لا يَملك؛ كالميت؛ لأن الوقف تمليك في الحياة.

ولا يصح الوقف على غير معين؛ كرجل، أو امرأة؛ لأن تمليك غير المعين لا يصح.

فصل

ولا يكون الوقف، إلا على سبيل غير منقطع؛ كالفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمساجد.

فصل

ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه، مثل أن يبني مسجداً، ويَأذن للناس في الصلاة فيه، أو مَقْبُرة ويأذن لهم في الدفن فيها؛ لأن العرف جار به، وفيه دلالة على الوقف.

فصل

ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث عمر: لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، ولأن مقتضى الوقف التأبيد، وتحبيس الأصل، والتصرف في رقبته ينافي ذلك.

فصل

والوقف يزيل ملك الواقف؛ لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة، فأزال ملكه عن الرقبة.

ويزيل الملك بمجرد لفظه؛ لأن الوقف يحصل به، وفي قول: لا يحصل إلا بإخراجه عن يده، ويوكِّل مَن يقوم به؛ لأنه تبرع، فلم يلزم بمجرد اللفظ.

ولا يفتقر الوقف إلى قبول، إلا إنه متى كان على آدمي معين: افتقر إلى القبول.

ويملك الموقوف عليه: غلة الوقف وثمرته، وصوفه ولبنه لأنه من غلته.

وإن أتلف الوقفَ أجنبيُ أو الواقفُ، أو الموقوفُ عليه: فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه.

فصل

وتُصْرَف الغلةُ على ما شرط الواقف؛ من التسوية، والتقديم، والتأخير، والجمع، والترتيب، وإدخال من أدخله بصفة، وإخراج من أخرجه بصفة.

فإذا قال: وقفتُ على أولادي، دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى؛ لأن الجميع أولاد.

وهل يدخل فيه ولد الولد؟ فيه قولان:

أحدهما: يدخلون؛ لأنهم دخلوا في قول الله تعالى: ]يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ[، وفي قوله تعالى: ]وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ[، فيدخل ولد البنين دون ولد البنات؛ لأنهم الذين دخلوا في النص.

والثاني: لا يدخل ولد الولد؛ لأن ولده حقيقةً ولد صلبه؛ والكلام بحقيقته، إلا أن يَقرن بكلامه ما يدل على إدخالهم.

فإن قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولاد أولادي؛ فهو على المساكين: دخل أولاد الأولاد في الوقف؛ لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به.

ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقاً، سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى؛ لاقتضاء لفظه التسوية؛ كقوله تعالى في ولد الأم: ]فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ[.

وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم، فهو كذلك.

وإن وقف على بنيه: لم يدخل فيه بنت، ولا خنثى.

وإن وقف على بناته: لم يدخل فيه ذكر، ولا خنثى.

وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو، اشترك الجميع فيه.

وإن رَتَّب فقال: على أولادي، ثم على أولادهم، أو قال: الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب: وجب ترتيبه.

فصل

وإن وقف على أقرب الناس إليه؛ وله أبوان وولد: فهم سواء فيه؛ لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز، ولأنه جزء والده، وولده جزؤه، وإن عدم بعضهم: فهم للباقين.

وإن عدموا، فهو لولد الابن، أو الجد أبي الأب؛ الأقرب منهم فالأقرب.

فإن عدموا فهو للإخوة؛ لأنهم ولد الأب، ويقدم الأخ من الأبوين، ويسوى بين الأخ من الأب، والأخ من الأم، وكذلك الأخوات.

فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم.

فإن لم يكن له إخوة: فهو للأعمام، ثم بنيهم على ترتيب الميراث.

وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه: صرف إلى ثلاثة منهم.

فصل

وإن وقف نخلة فيبست، أو جذوعاً فتكسرت: جاز بيعها؛ لأنه لا نفع في بقائها، وفيه ذهاب ماليتها، فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى؛ لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء، فلا يجوز استدامة وقفه.

لأن ما كان شرطاً لابتداء الوقف كان شرطاً لاستدامته.

وإذا بيعت صُرِف ثمنها في مثلها.

وكل وقف خَرِب ولم يعد يعطي إيراداً: بِيْعَ واشتري بثمنه ما يحقق إيراداً على أهل الوقف.

فصل

وينفق على الوقف ويُنْظَر فيه من حيث شرط الواقف؛ لأن عمر رضي الله عنه  جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها.


باب أحكام المياه

 

وهي ضربان: مباح وغيره.

الضرب الأول: غير المباح ما ينبع في أرض مملوكة: فصاحبه أحق به؛ لأنه يملكه، وما فضل عن حاجته: لزمه بذله لسقي ماشية غيره؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن منع فضلَ الماء ليمنع به فضل الكلأ: منعه الله فضل رحمته، وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره؟، فيه قولان:

أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه.

والثاني: يلزمه؛ لما روى إياس بن عبد رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن بيع فضل الماء. رواه أبو داود.

الضرب الثاني: الماء النابع في الموات؛ فمَن سبق إلى شيء منه: فهو أحق به؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم: فهو أحق به.

وإن أراد أن يسقي أرضاً وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه: جاز أن يسقي كيف شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد.

وإن كان نهراً صغيراً، أو من مياه الأمطار: بدئ بمَن في أول النهر؛ فيسقي، ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه، كذلك إلى الآخر؛ لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال في سيل مهزور ومذينيب: يُمسِك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل. أخرجه مالك في الموطأ، وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير رضي الله عنه  في شراج الحرة [مسايل الماء] التي يسقون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: إنْ كان ابن عمتك!، فتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثم قال: يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجَدْر[أصل البستان]. متفق عليه.

فصل:

فإن اشترك جماعة في استنباط عين: اشتركوا في مائها، وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها.

فصل:

ومَن سبق إلى مباح؛ كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين، وثمر الشجر المباح، وما ينبذه الناس رغبة عنه: فهو أحق به؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم: فهو أحق به.

فإن استبق إليه اثنان: قسم بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في المملوك به.


باب الهبة

وهي التبرع بتمليك مال في حياته.

وهي مستحبة؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: تهادوا تحابوا.

هي أفضل من الوصية؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الصدقة أعظم أجراً؟، قال: أنْ تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح؛ تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان. رواه البخاري ومسلم.

والهبة للقريب أفضل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الرحم شِجْنَة من الرحمن؛ فمَن وصلها وصله الله، ومَن قطعها قطعه الله. أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.

ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية؛ لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنه  قال: تَصَدَّق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة رضي الله عنها: لا أرضى حتى تُشهد عليها رسول الله، فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ليُشْهِدَه على صدقتي، فقال: أَكُلَّ ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. رواه مسلم، وفي لفظ: لا تشهدني على جور. متفق عليه، فسماه جوراً، والجور حرام، ولأن ذلك يوقع العداوة، وقطيعة الرحم: فمُنِع منه.

فإن مات، ولم يسو بينهم، ففيه قولان:

أحدهما: يثبت ذلك لمن وُهِب له، ويسقط حق الرجوع.

والثاني: يجب رده؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سماه جوراً، والجور يجب رده بكل حال.

والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم؛ لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت، فأشبه الميراث.

فصل:

وما جاز بيعه؛ من مقسوم، أو مشاع، أو غيره: جازت هبته؛ لأنه عقد يُقصد به تمليك العين.

ولا تجوز الهبة في مجهول، ولا في معجوز عن تسليمه، ولا في المبيع قبل قبضه؛ لأنه عقد يُقصد به التمليك في الحياة.

ولا يجوز تعليق الهبة على شرط مستقبل.

فصل:

ولا يثبت المِلكُ للموهوب له إلا بقبضه، فإن مات الموهوب له قبل القبض: بطلت.

فإن وُهِب لابنه الصغير شيئاً، وقبضه له: صح ولزم؛ لأنه وليه.

فصل:

وإن وهب لغير ولده شيء، وتمت الهبة: لم يملك الرجوع فيها؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: العائد في هبته كالعائد في قيئه. متفق عليه.

وإن وهب الرجل لولده: فله الرجوع؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يحل لرجل أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بشيراً برَدِّ ما وَهَب لولده النعمان، ولأن الأب لا يُتَّهَم في رجوعه؛ لأنه لا يرجع إلا لضرورة، أو إصلاح الولد.

فصل:

وللرجوع في الهبة شرطان:

أحدها: أن تكون باقية في ملكه؛ لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره.

الثاني: أن لا يزيد زيادة متصلة؛ كالسِمَن. وإن كانت منفصلة: لم يمنع الرجوع، والزيادة للابن؛ لأنها نماء منفصل في ملكه.

فصل:

وللابن أن يدفع من ماله لأبيه ما يحب ولو مع غناه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك لأبيك. رواه ابن ماجه.

فصل في العمرى:

ولها ثلاث صور:

إحداهن: أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولعقبك من بعدك: فهذه هبة صحيحة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً. رواه أحمد ومسلم.

الثانية: أن يقول: أعمرتكها حياتك، ولم يزد: فترجع بعد موته إلى المُعْمِر؛  لما روى جابر رضي الله عنه  قال: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها. متفق عليه.

الثالثة: أن يقول مع ذلك: فإذا مِتَ عادت إليَّ إن كنتُ حياً، أو إلى ورثتي، والرقبى مثل ذلك، إلا أنه يقول: إن مِتَ قبلي عادت إليَّ، وإن مِتُ قبلك فهي لك، أو يقول: أرقبتك داري هذه؛ ففيها قولان:

أحدهما: هي لازمة لا تعود إلى الأول؛ لعموم الخبر الأول، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ترقبوا؛ فمَن أرقب شيئاً فهو له في حياته وموته.

والثاني: ترجع إلى المُعْمِر والمُرْقِب؛ لحديث جابر، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمنون عند شروطهم.

وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان؛ لأنها نوع هبة: فجازت في ذلك كله؛ كسائر الهبات.

ولو شرط في الهبة شرطاً منافياً لمقتضاها، نحو أن يقول: وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه، أو بشرط أن تبيعه أو تهبه: فسد الشرط، وفي صحة العقد وجهان.

وإن قيدها، فقال: وهبتكها سنة: لم يصح؛ لأن عقد الهبة عقد ناقل للملك في الحياة.

 

كتاب الفرائض

وهو علم المواريث

 

أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بتعلمه، وحث عليه على الخصوص.

روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: تعلموا الفرائض وعلموه الناس؛ فإنه نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي. رواه ابن ماجه.

فإذا مات المرء: يقضى دَينه؛ لقول الله تعالى: ]مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ[، وقال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قضى أن الدَّين قبل الوصية. رواه الترمذي وابن ماجه.

ثم تنفذ وصيته؛ للآية.

ثم ما بقي يُقسم على الورثة.

فصل:

وأسباب التوارث: نسب، ونكاح.

فصل:

المجمع على توريثهم من الذكور: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، والأخ من كل جهة، وابن الأخ إلا من الأم، والعم، وابنه كذلك، والزوج.

والمجمع على توريثهم من النساء: الأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، والزوجة.

والمختلف في توريثهم أحد عشر صنفاً:

ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنو الإخوة من الأم، والعمات، والعم من الأم، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد.

فهؤلاء يرثون عند عدم المجمع على توريثهم.

فصل:

وينقسم الوارث إلى: ذوي فرض، وعصبة، وذوي رحم.

والفرض جزء مقدر.

والعصبة يرث المال كله إذا انفرد، فإن كان معه ذو فرض: بدئ به، والباقي للعصبة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي فلأولى رجل ذكر. متفق عليه.

وإن استغرقت الفروضُ المالَ سقط حق العصبة.

باب ذوي الفروض

وهم عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت من كل جهة، والأخ من الأم.

فأما الزوج: فله النصف إذا لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن، وله الربع إذا كان معه أحدهما.

وللزوجة والزوجات: الربع مع عدم الولد وولد الابن، والثمن مع أحدهما؛ لقوله تعالى: ]وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم[، والأربع من النساء كالواحدة؛ لعموم اللفظ فيهن.

فصل:

وأما الأم: فلها ثلاثة فروض:

الثلث إذا لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابن، أو اثنان من الإخوة والأخوات؛ لقوله تعالى: ]وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ[، وقسنا الأخوين على الإخوة؛ لأن كل فرض تعين بعدد، فكان الاثنان فيه بمنزلة الجماعة.

لها السدس في حال وجود عدد من الإخوة.

لها ثلث الباقي بعد فرض الزوجين، في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين؛ وتسمى هاتان المسألتان: العمريتان؛ لقضاء عمر فيهما.

فصل:

وللأب ثلاثة أحوال.

حال يرث فيها بالفرض المجرد؛ وهي مع الابن أو ابنه؛ حيث يرث السدس؛ لقوله تعالى: ]وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ[.

وحال يرث فيها بالتعصيب المجرد، وهي مع عدم الولد؛ ، لقوله تعالى: ]فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ[، أضاف الميراث إليهما، ثم خص الأم منه بالثلث: فدل على أن باقيه للأب.

والحال الثالث: يجتمع له الأمران: السدس بالفرض، للآية، والباقي بالتعصيب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر، وهي مع إناث الولد.

فصل:

وللجد أحوال الأب الثلاثة؛ وإن اجتمع مع الأم أحد الزوجين: فللأم الثلث كاملاً.

وله حال رابع: وهي مع الإخوة من الأبوين، أو من الأب: فإنه لم يسقطهم، ولكنه يقاسمهم كأخ؛ ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فإن نقصته منه، بأن زاد الإخوة على اثنين، أو الأخوات على أربعة: فله الثلث، والباقي لهم.

فإن كان معهم ذو فرض أخذ فرضه، وجُعِل للجد الأحظ من ثلاثة أشياء: المقاسمة كأخ، أو ثلث الباقي، أو سدس جميع المال.

ولا يفرض للأخوات مع الجد؛ لأنا جعلنا الجد كالأخ فيعصب الأخت كالأخ.

ولا تعول مسائله إلا في مسألة: الأكدرية؛ حيث فرض للأخت معه، وهي: زوج وأم وأخت وجد.

فصل:

وللجدة السدس ـ وإن كثرن، لم يزدن على السدس شيئاً ـ فرضاً؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه  قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه  تطلب ميراثها، فقال: ما لك من كتاب الله شيء، وما أعلم لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فشهد له محمد بن مسلمة رضي الله عنه ، فأمضاه لها أبو بكر رضي الله عنه ، فلما كان عمر رضي الله عنه  جاءت الجدة الأخرى، فقال عمر رضي الله عنه: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا في غيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكن هو ذاك؛ السدس فإن اجتمعتما، فهو لكما، وأيكما خلت به، فهو لها. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

وإن كان بعض الجدات أقرب من بعض: فالميراث لأقربهن؛ لأن الجدات أمهات يرثن ميراث الأم، وكذلك سقطن بها.

فصل:

فأما البنات: فلهن الثلثان وإن كثرن، وللواحدة إذا انفردت: النصف؛ لقوله تعالى: ]فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ[.

وحكم البنتين حكم ما زاد عليهما؛ لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتِل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا يُنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعيد الثلثين وأعط أمهما الثمن، فما بقي فهو لك. رواه أبو داود.

فصل:

وبنات الابن كبنات الصلب سواء؛ إن لم يكن للميت ولد من صلبه:

للواحدة النصف، وللثنتين فصاعداً الثلثان؛ لأنهن بنات.

وإن كان من ولد الصلب بنت واحدة: فلها النصف، ولبنات الابن واحدة كانت أو أكثر: السدس؛ تكملة الثلثين؛ لأن الله تعالى لم يفرض للبنات إلا الثلثين، وهؤلاء بنات، وقد سبقت بنت الصلب فأخذت النصف؛ لأنها أعلى درجة منهن، فكان الباقي لهن السدس.

فصل:

وللأخت للأبوين (الشقيقة) النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان؛ لقوله تعالى: ]إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ[.

وحكم الأخوات من الأب إذا انفردن حكم الأخوات من الأبوين سواء.

وإن اجتمع الأخوات من الجهتين: فحكم ولد الأب مع ولد الأبوين، حكم بنات الابن مع بنات الصلب سواء.

وإن اجتمع الأخوات مع البنات، صار الأخوات عصبة: لهن ما فضل، وليس لهن معهن فريضة مسماة؛ لقوله تعالى: ]إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [؛ فشرط في فرضها عدم الولد، فاقتضى ألا يفرض لها مع وجوده.

فصل:

فأما ولد الأم: فلواحدهم السدس؛ ذكراً كان أو أنثى، وللاثنين السدسان.

فإن كثروا فهم شركاء في الثلث؛ لقوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يعني ولد الأم.

باب من يُحْجَب من ذوي الفروض

يُحْجَب بنات الابن: بالابن، وباستكمال البنات الثلثين.

وتُحْجَب الجدات من كل جهة: بالأم، ويسقط الجد: بالأب.

ويُحْجَب الأخوة الأشقاء: بالابن، وابن الابن، والأب.

ويُحْجَب الأخ لأب: بالابن، وابن الابن، والأب، وبالأخ الشقيق؛ لما روي عن علي رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه، أخرجه الترمذي.

وتُحْجَب الأخوات من الأب: باستكمال الأخوات الشقيقات الثلثين.

ويسقط الأخ لأم بأربعة: الولد ذكراً كان أو أنثى، وولد الابن، والأب، والجد؛  لأن الله تعالى شرط في توريثهم كون الموروث كلالة؛ بقوله تعالى: ]وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ[، والكلالة: مَن لا ولد له ولا والد.

باب أصول سهام الفرائض

المفروض المذكور في كتاب الله تعالى: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

باب تصحيح المسائل

إذا لم تنقسم سهام فريق من الورثة عليهم قسمة صحيحة: ضربتَ عددهم في أصل المسألة وعولها إن عالت، فما بلغ فمنه تصح.

باب الرد

إذا لم تستغرق الفروض المال وفضلت ولم يكن عصبة: فالفاضل من ذوي الفروض مردود عليهم على قَدْر سهامهم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن ترك مالاً فلورثته. رواه أحمد وأبو داود.

إلا على الزوج والزوجة؛ لأنهما ليسا من أولي الأرحام، فلم يدخلوا في قوله تعالى: ]وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ[.

فإن اجتمع من أهل الرد أحد الزوجين: أعطيته فرضه من أصل مسألته، ثم ضربت مسألته في مسألة أهل الرد، فما بلغ: انتقلت إليه المسألة، ثم تصحح بعد ذلك.

باب ميراث العصبة من القرابة

وهم كل ذكر بينه وبين الميت أنثى.

وهم الأب، والابن، ومَن أدلى بهما من الذكور.

فأحقهم بالميراث أقربهم، ويسقط به مَن بَعُد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر.

وأحقهم الابن وابنه وإن نزل، ثم الأب، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم الإخوة، ثم بنوهم وإن نزلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن نزلوا، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن نزلوا.

فصل:

وأربعة من الذكور يعصبون أخواتهم، فيمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما ورثوا؛ للذكر مثل حظ الأنثيين، وهم:

الابن، وابنه، والأخ الشقيق، أو من الأب؛ لقوله تعالى: ]يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[، وقوله: ]وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[.

باب المناسخات

إذا لم تنقسم تركة الميت الأول حتى مات بعض وراثه: تُصحح مسألة الأول، ثم تُصحح مسألة الثاني، وأقسم سهام الثاني من المسألة الأولى على مسألته.

باب ما يمنع الميراث

ويمنع الميراث أشياء:

اختلاف الدين؛ فلا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً بحال؛ لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر.متفق عليه.

والمرتد لا يرث أحداً؛ لأنه ليس بمسلم، فيرث المسلمين، ولا يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه، فيرث أهله، ولا يرثه أحد لذلك، وماله فيء لبيت المال.

فصل:

ومن الموانع: قتلُ الموروث بغير حق يَمنع القاتلَ ميراثَه؛ عمداً كان القتل أو خطأ؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه، وكان حَذَفَه بسيف فقتله، وقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ليس لقاتل ميراث. رواه مالك في الموطأ، ولأن توريث القاتل ربما أفضى إلى قتل الموروث استعجالاً لميراثه.

باب ذكر الطلاق الذي لا يمنع الميراث

إذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً: لم ينقطع الميراث بينهما ما دامت في العدة، سواء كان صحيحاً، أو مريضاً؛ لأن الرجعية زوجة.

وإن طلقها طلاقاً بائناً في صحته: انقطع التوارث بينهما؛ لزوال الزوجية التي هي سبب التوارث.

وكذلك إن كان في مرض غير مرض الموت؛ لأن حكمه حكم الصحة.

وإن طلقها طلاقاً بائناً في مرض موته باختيارها؛ بأن سألته الطلاق، أو عَلَّق طلاقها على فعل لها منه بد؛ ففعلته: انقطع التوارث؛ لزوال الزوجية بأمر لا يُتَّهم فيه.

وإن أبانها في مرض موته على غير ذلك: لم يرثها، وترثه ما دامت في العدة؛ لما روي أن عثمان رضي الله عنه  وَرَّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وكان طلقها من مرض موته؛ فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر؛ فكان إجماعاً، ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل.

وهل ترثه بعد انقضاء العدة ؟ فيه قولان:

أحدهما: ترثه؛ لأنه فَارٌّ من ميراثها فورثته.

والثاني: لا ترثه، لأن آثار النكاح زالت بالكلية: فلم ترثه.

وإن طلق امرأة قبل الدخول فهل ترثه؟، فيه قولان كالتي انقضت عدتها.

 

كتاب الوصايا

 

الوصية: هي التبرع بعد الموت، وهي مستحبة لمن ترك خيراً، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم. رواه ابن ماجه.

وليست واجبة؛ لأنها عطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت.

ويستحب لِمَن كثر ماله الوصية بالثلث، لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه  قال: مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يعودني، فقلت: يا رسول الله لي مال كثير، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت فبالثلثين؟ قال: لا، قلت: فبالشطر، قال: لا، قلت: فبالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. متفق عليه، وأوصى أبو بكر رضي الله عنه  بالخمس، وقال: رضيت نفسي ما رضي الله به لنفسه، وقال علي رضي الله عنه: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث.

أما قليل المال ذو العيال: فلا تستحب له الوصية؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.

فصل:

ويستحب لمن رأى موصياً يحيف [يجور ويظلم] في وصيته أن ينهاه؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سعداً عن الزيادة في الثلث.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ]وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا[، هو أن يرى المريض يحيف على ولده فيقول له: اتق الله، ولا توص بمالك كله.

فصل:

ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سعداً عن ذلك.

فإن فعل: وُقِفَ الزائدُ على الثلث على إجازة الورثة؛ فإن أجازوه: جاز، وإن ردوه بطل.

فأما من لا وارث له، ففيه قولان:

أحدهما: تجوز وصيته بماله كله؛ لأن النهي معلل بالإضرار بالورثة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.

والثاني: الوصية باطلة؛ لأن ماله يصير للمسلمين، ولا مجيز منهم.

فصل:

ويعتبر خروجه من الثلث: بعد الموت؛ لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها.

فلو وصى بثلث ماله؛ وله ألفان، فصار عند الموت ثلاثة آلاف: لزمت الوصية في الألف.

وإن نقصت فصارت ألفاً، لزمت الوصية في ثلث الألف.

وإن وصى ولا مال له؛ ثم استفاد مالاً: تعلقت الوصية به.

وإن كان له مال، ثم تلف بعضه بعد الموت: لم تبطل الوصية.

باب من تصح وصيته والوصية له ومن لا تصح

مَن تثبت له الولاية على مال ولده: فله أن يوصي إلى مَن ينظر فيه؛ لما روي عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، فكان يحفظ عليهم أموالهم، وينفق على أبنائهم من ماله.

فصل:

ومَن عليه حق تدخل النيابة فيه؛ كوفاء الدَّين والحج والزكاة ورد الوديعة: صحت الوصية به، ويجوز أن يوصي إلى مَن يفرق ثلثه في المساكين وأبواب البر.

فصل:

ومَن صح تصرفه في المال: صحت وصيته، ومَن لا تمييز له؛ كالطفل والمجنون، ومَن عاين الموت: لا تصح وصيته؛ لأنه لا قول له، والوصية قول.

ولا تصح الوصية بمعصية؛ كالوصية بالسلاح لأهل الحرب؛ لأن ما لا يجوز في الحياة لا يجوز في الممات.

وتصح الوصية للذمي؛ لما روي أن صفية زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أوصت لأخيها بثلاثمائة ألف، وكان يهودياً، ولأنه يجوز التصدق عليه في الحياة؛ فجاز بعد الممات.

ولا تجوز الوصية لوارث؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا وصية لوارث. وهذا حديث صحيح.

فإن فعل صحت، ووقفت على إجازة الورثة؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يجوز لوارث وصية؛ إلا أن يشاء الورثة.

فإن وصى لغير وارث فصار عند الموت وارثاً: لم تلزم الوصية.

وإن وصى لوارث فصار غير وارث لزمت الوصية؛ لأن اعتبار الوصية بالموت.

باب ما تجوز به الوصية

 تصح الوصية بكل ما يمكن نقل الملك فيه؛ من مقسوم، ومشاع؛ معلوم، ومجهول؛ لأنه تمليك جزء من ماله.

وتجوز الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في الملك؛ بالعقد، والإرث.

وتجوز الوصية بالعين دون المنفعة، وبالعين لرجل، والمنفعة لآخر.

وتجوز بمنفعة مقدرة المدة، ومؤبدة.

فصل:

إن كانت الوصية لغير معين؛ كالفقراء، أو لِمَن لا يعتبر قبوله؛ كسبيل الله: لزمت بالموت.

وإن كانت الوصية لآدمي معين: لم تلزم إلا بالقبول؛ لأنها تمليك، فأشبهت الصدقة، ولا يصح القبول إلا بعد الموت.

فإن مات الموصى له قبل موت الموصي: بطلت الوصية؛ لأنه مات قبل استحقاقها.

باب ما يعتبر من الثلث

 ما وصي به من التبرعات؛ كالهبة والوقف: اعتبر من الثلث سواء كانت الوصية في الصحة، أو المرض؛ لأن لزوم الجميع بعد الموت.

فأما الواجبات؛ كقضاء الدين والحج والزكاة: فمن رأس المال؛ لأن حقَ الورثة يتم بعد أداء الدين؛ لقوله تعالى: ]مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ[، وقال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قضى أن الدَّين قبل الوصية. رواه الترمذي، والواجب لحق الله بمنزلة الدَّين؛ لقول رسول الله: دَين الله أحق أن يقضى.

فإن كان مع الواجبات وصية بتبرع: يُبدأ بالواجب؛ فإن فضل عنه من الثلث شيء: فهو للموصى له بالتبرع؛ فإن لم يفضل شيء: سقط، إلا أن يجيز الورثة.

باب الموصى له

إن أوصى للأيتام: فهو لِمَن لا أب له غير بالغ؛ لأن اليتم فقد الأب من الصغر، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتم بعد احتلام. رواه أبو داود.

ومَن وصى لصنف من أصناف الزكاة: صُرِف إلى مَن يستحق الزكاة من ذلك الصنف.

ومتى كانت الوصية لجمع يمكن استيعابهم: لزم استيعابهم والتسوية بينهم.

وإن لم يكن استيعابهم، صحت الوصية لهم: وجاز الاقتصار على واحد.

وإن قال له: ضع ثلثي حيث يريك الله: لم يملك أخذه لنفسه؛ لأنه تمليك ملكه بالإذن، فلم يملك صرفه إلى نفسه، ولا إلى ولده، ولا إلى والده؛ لأنه بمنزلته.

باب الرجوع في الوصية

يجوز الرجوع في الوصية؛ لأنها عطية لم تُزِل الملك؛ فجاز الرجوع فيها.

ويجوز الرجوع فيها بالقول والتصرف؛ لأنه فسخُ عقدٍ قبل تمامه؛ فجاز بالقول والتصرف.

وإن أوصى بثلث ماله ثم باع ماله: لم يكن رجوعاً؛ لأن الوصية بثلث ماله عند الموت، لا بثلث الموجود.

باب الأوصياء

لا تصح الوصية إلا إلى عاقل، ولا تصح إلى فاسق؛ لأنه غير مأمون.

وتصح وصية الرجل إلى المرأة؛ لأن عمر رضي الله عنه  أوصى إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة: فأشبهت الرجل.

وتصح الوصية إلى الأعمى؛ لأنه من أهل الشهادة والتصرفات؛ فأشبه البصير.

وتعتبر هذه الشروط حال العقد؛ لأنها شروط العقد؛ فاعتبرت حال وجوده، وفي قول: تعتبر حال الموت، لأن المعتبر حال ثبوت الوصية ولزومها.

ويجوز أن يوصي إلى رجل؛ فإن مات إلى آخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال في حبيش مؤتة: أميركم زيد؛ فإن قتل فأميركم جعفر؛ فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة. رواه أحمد والنسائي، والوصية في معنى التأمير.

ولو قال: أنت وصيي؛ فإذا كبر ابني فهو وصيي: صح؛ لأنه إذن في التصرف؛ فجاز مؤقتاً.

وللوصي التوكيل فيما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه.

وللموصي عزل الوصي متى شاء، وللوصي عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي، وبعد موته؛ لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما فسخه.

وإذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة: فالقول قول الوصي؛ لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة عليها.


كتاب النكاح

 

النكاح مشروع، أمر الله به ورسوله، فقال تعالى: ]فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء[، وقال سبحانه: ]وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا معشر الشباب؛ مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج؛ ومَن لم يستطع فليصم؛ فإن الصوم له وجاء، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني أتزوج النساء فمَن رغب عن سنتي فليس مني، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد رَدَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أحله له لاختصينا. متفق عليهما، والتبتل: ترك النكاح.

فصل:

ومَن أراد نكاح امرأة: فله النظر إليها؛ لما روى جابر رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا خطب أحدكم امرأة؛ فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. رواه أبو داود.

وينظر إلى الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن وموضع النظر وليس بعورة.

وإلى الكفين والقدمين.

ويجوز النظر إليها بإذنها، وبغير إذنها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أطلق النظر؛ فلا يجوز تقييده، وفي حديث جابر رضي الله عنه  قال: فخطبت امرأة؛ فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.

وليس له الخلوة بها؛ لأن الحديث إنما ورد بالنظر؛ فبقيت الخلوة على أصل التحريم.

ويجوز للرجل النظر إلى وجه مَن يعاملها؛ لحاجته إلى معرفتها، للمطالبة بحقوق العقد.

ويجوز ذلك عند الشهادة؛ للحاجة إلى معرفتها، للتحمل والأداء.

ويجوز للطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى مداواته من بدنها؛ حتى الفرج، لأنه موضع ضرورة.

فصل:

وله أن ينظر مِن ذوات محارمه، إلى ما يظهر غالباً؛ كالرأس، والرقبة، والكفين، والقدمين؛ لقوله تعالى: ]وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ[، وقال تعالى: ]لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ[.

وذات المحرم: مَن تحرم عليه على التأبيد؛ بنسب أو سبب مباح؛ كأم الزوجة وابنتها.

فصل:

ومَن لا تمييز له من الأطفال: لا يجب التستر منه في شيء؛ لقوله تعالى: ]أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء[، والطفل المميز كذي المحرم لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ[، ثم قال: ]وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ[؛ ففرق بينه وبين البالغ.

وحكم الطفلة التي لا تصلح للنكاح مع الرجال: حكم الطفل من النساء.

وحكم الطفلة التي صلحت للنكاح: كالمميز من الأطفال؛ لما روى أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في ثياب رقاق؛ فأعرض عنها، وقال: يا أسماء؛ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يَصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا؛ وأشار إلى وجهه وكفيه.

والعجوز التي لا تُشتهى مثلها: يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً؛ لقوله تعالى: ] وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ[، قال ابن عباس استثناهن الله تعالى من قوله: ]وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ[، ولأن ما حرم من النظر لأجله معدوم في حقها، فأشبهت ذوات المحارم.

وفي معناها: الشوهاء التي لا تشتهى، ومن ذهبت شهوته من الرجال، لكبر أو مرض: فحكمه حكم ذي المحرم في النظر؛ لقوله تعالى: ]أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ[، أي الذي لا إِرْبَ [حاجة] له في النساء.

فصل:

ويباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه، لأنه أبيح له الاستمتاع به: فأبيح له النظر إليه، وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منا وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا مِن زوجتك أو ما ملكت يمينك. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.

ويكره النظر إلى الفرج.

فصل:

فأما الرجل مع الرجل: فلكل واحد منهما النظر من صاحبه إلى ما ليس بعورة.

والمرأة من المرأة كالرجل من الرجل.

وفي نظر المرأة إلى الرجل قولان:

أحدهما: يحرم عليها من ذلك ما يحرم عليه؛ لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت قاعدة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنا وحفصة، فاستأذن ابن أم مكتوم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احتجبن منه، فقلت: يا رسول لله، ضرير لا يبصر، فقال: أفعمياوان أنتما، ألا تبصرانه. أخرجه أبو داود والنسائي. حديث صحيح.

والثاني: يجوز لها النظر منه إلى ما ليس بعورة؛ لما روت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لها: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى؛ تضعين ثيابك فلا يراك. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. متفق عليهما. وهذا أصح.

وكل مَن أبيح له النظر إلى مَن لا يحل له الاستمتاع به: لم يجز له ذلك لشهوة وتلذذ؛ لأنه داعية إلى الفتنة.

باب شرائط النكاح

 وهي خمسة.

أحدها: الولي؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا نكاح إلا بولي. قال أحمد ويحيى: هذا حديث صحيح، ولما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها: فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل؛ فإن أصابها فلها المهر بما استحل مِن فرجها؛ فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له. رواه أبو داود والترمذي.

ومفهوم الحديث صحة مباشرة عقد زواجها بنفسها بإذن وليها؛ ولأن المنع لحق الولي فجاز بإذنه.

فصل:

وولي المرأة أبوها، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم ابنها، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأخ ثم ابنه، ثم العم ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها على ترتيبهم في الميراث.

فإن استوى وليان في الدرجة، وأحدهما من أبوين، والآخر من أب، كالأخوين، والعمين: يُقَدَّم ذو الأبوين.

فإن استويا من كل وجه: فالولاية ثابتة لكل واحد منهما؛ أيهما زَوَّج صح تزويجه، لكن يستحب تقديم أسنهما وأعلمهما وأتقاهما، فإن استويا وتشاحا: أقرع بينهما.

فإن زوجها الوليان لرجلين دفعة واحدة: فالعقدان باطلان؛ لأن الجمع يتعذر فبطلا.

وإن سبق أحدهما: فالصحيح السابق؛ لما روى سمرة وعقبة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أيما امرأة زَوَّجَها وليان فهي للأول منهما. رواه أبو داود.

فصل:

ويشترط للولي شروط.

أحدها: العقل.

والثاني: الذكروية؛ فلا ولاية لامرأة.

والثالث: البلوغ.

والرابع: اتفاق الدين؛ فلا يلي كافر مسلمة بحال لقوله تعالى: ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ[.

والخامس: العدالة؛ فلا يلي الفاسق نكاح قريبته وإن كان أباً.

والسادس: التعصيب، فلا تثبت الولاية لغيرهم، كالأخ من الأم، والخال.

والسابع: عدم مَن هو أولى منه؛ فلا تثبت الولاية للأبعد مع حضور الأقرب الذي اجتمعت الشروط فيه.

فإن مات الأقرب، أو جُنَّ، أو فَسَق: انتقلت إلى مَن بعده؛ لأن ولايته بطلت، فانتقلت إلى الأبعد.

وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها مِن كفء فعضلها [فمنعهن]: فللأبعد تزويجها، أو السلطان [القاضي]؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن اشتجروا؛ فالسلطان ولي مَن لا ولي له، ولأن التزويج حق على الولي امتنع منه: فقام الحاكم مقامه في إيفائه.

فصل:

ويكفي في إذن المرأة: النطق، أو ما يدل على الرضى تقوم مقام النطق به.

وإذا لم يكن للمرأة ولي، ولا للبلد قاض ولا سلطان. فيجوز لها أن تأذن لرجل عدل يَحتاط لها في الكفء والمهر، ويزوجها.

وإذا أراد ولي المرأة تَزَوُّجَها؛ كابن عمها: جعل أمرها إلى مَن يزوجها منه بإذنها.

فصل:

الشرط الثاني من شرائط النكاح: أن يحضره شاهدان؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل رواه الخلال، وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان. رواه الدارقطني.

ويشترط في الشهود صفات:

أحدها: العقل.

والثاني: السمع؛ لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به.

والثالث: النطق؛ لأن الأخرس لا يتمكن من أداء الشهادة.

الرابع: البلوغ؛ لأن الصبي لا شهادة له.

الخامس: الإسلام.

السادس: العدالة؛ للحديث، ويكفي أن يكون مستور الحال.

فصل:

الشرط الثالث من شروط النكاح: تعيين الزوجين؛ لأن المقصود بالنكاح أعيانهما: فوجب تعيينهما.

فإن كانت حاضرة، فقال: زوجتك هذه: صح؛ لأن الإشارة تكفي في التعيين.

فإن زاد على ذلك فقال: ابنتي أو فاطمة، كان تأكيداً.

وإن كانت غائبة، فقال: زوجتك ابنتي وليس له غيرها: صح؛ لحصول التعيين بتفردها بالصفة المذكورة، وإن سماها باسمها، أو وصفها بصفتها، كان تأكيداً.

وإن كان له ابنتان فقال: زوجتك ابنتي: لم يصح حتى يسميها، أو يصفها بما تتميز به؛ لأن التعيين لا يحصل بدونه؛ فإن قال: ابنتي فاطمة، أو ابنتي الكبرى: صح؛ لأنها تعينت به.

فصل:

الشرط الرابع من شروط النكاح: التراضي من الزوجين، أو مَن يقوم مقامهما؛ لأن العقد لهما فاعتبر تراضيهما به.

ويملك الأب تزويج ابنه الصغير الذي لم يبلغ، ووصي الأب كالأب في تزويج الصغير؛ لأنه نائب عنه.

ويملك الأب تزويج ابنته الصغيرة البكر.

ولا يملك تزويج ابنته الثيب الكبيرة إلا بإذنها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأيم أحق بنفسها مِن وليها. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ليس للولي مِن الثيب أمرٌ. رواهما أبو داود.

وفي البكر البالغة قولان:

أحدهما: له تزويجها؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الثيب أحق بنفسها مِن وليها، والبكر تُستأذن من نفسها، وإذنها صماتها. وإثباته الحق للأيم على الخصوص يدل على نفيه عن البكر.

والثاني: لا يجوز تزويجها إلا بإذنها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تَأذن، قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت. متفق عليه.

فصل:

الشرط الخامس من شروط النكاح: الإيجاب والقبول.

ولا يصح الإيجاب إلا بلفظ النكاح، أو التزويج؛ فيقول: زوجتك ابنتي، أو أنكحتكها.

وأما القبول، فيقول: قبلت هذا النكاح، وإن اقتصر على (قبلت): صح.

ويصح الإيجاب والقبول بالعربية، ويصح بمعناهما الخاص بكل لسان.

وإذا فُهِمت إشارة الأخرس: صح النكاح بها.

فصل:

وفي الكفاءة قولان:

أحدهما: هي شرط لصحة النكاح؛ فإذا فاتت: لم يصح؛ وإن رضوا به؛ لما روى الدارقطني عن جابر رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينكح النساءَ إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء.

والثاني: ليست شرطاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  زَوَّج زيداً مولاه ابنةَ عمته زينب بنت جحش، وزَوَّج أسامةَ فاطمةَ بنت قيس الفهرية القرشية. رواه مسلم.

والكفء: ذو الدين والمنصب.

فلا يكون الفاسق كفءاً لعفيفة؛ لأنه مردود الشهادة والرواية، غير مأمون على النفس والمال.

واختلفت الرواية في:

  • اليسار والغنى، ففيه قولان: أحدهما: هو من شرط الكفاءة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحسب المال، وقال: إن أحساب الناس بينهم هذا المال. رواه النسائي بمعناه، والثاني: ليس منها؛ لأن الغنى واليسار ليس أمراً لازماً في النكاح.
  • الصناعة، وفيها قولان: أحدهما: أن أصحاب الصنائع الدنيئة لا يكافؤون من هو أعلى منهم؛ فالحائك والزبال لا يكون كفءاً لِمَن هو أعلى منه، لأنه تتعير المرأة به، والثاني: ليس هذا شرطاً؛ لأنه ليس بنقص في الدين، ولا هو بلازم في النكاح.

فصل:

ويستحب إعلان النكاح، والضرب عليه بالدف؛ لما روى محمد بن حاطب رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فصل ما بين الحلال والحرام: الدف والصوت في النكاح. رواه النسائي.

فإن أَسَرُّوا وتواصَوا بكتمانه: كره ذلك، وصح النكاح.

ويستحب عقده يوم الجمعة.

ويستحب تقديم الخطبة بين يدي النكاح؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ( الحمد لله ) فهو أقطع.

ويستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه  التي قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  التشهد في الحاجة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ويقرأ ثلاث آيات: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[، و]وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[، و]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[ رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

ويستحب أن يقال للمتزوج ما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج – قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير. رواه أبو داود.

وإذا زُفَّت إليه قال: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا تزوج أحدكم امرأة، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه. رواه أبو داود.

فصل:

ويستحب لِمَن أراد التزوج أن يختار ذات الدين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك. متفق عليه.

ويختار الجميلة؛ لأنه أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح، وروى سعيد بن منصور بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه: امرأة جميلة، تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها.

ويتخير الحسيبة؛ لنجب ولدها، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم.

ويختار البكر؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: عليكم بالأبكار؛ فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير. رواه ابن ماجه.

ويختار الولود؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم يوم القيامة. رواه سعيد.

ويختار ذات العقل، ويجتنب الحمقاء؛ لأنه ربما تعدى ذلك إلى ولدها.

باب ما يحرم من النكاح

 المحرمات في النكاح:

أحدها: المحرمات بالنسب، وهن سبع ذكرهن الله سبحانه وتعالى بقوله: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ[

فالأمهات: كل امرأة انتسبت إليها بولادة؛ وهي: الأم، والجدات من جهة الأم وجهة الأب وإن علون.

والبنات: كل مَن انتسب إليك بولادة؛ وهي ابنة الصلب وأولادها، وأولاد البنين وإن نزلت درجتهن.

والأخت: من الجهات الثلاث (الشقيقات، ولأب، ولأم).

والعمات: كل مَن أدلت بالعمومة مِن أخوات الأب وأخوات الأجداد وإن علون من جهة الأب والأم.

والخالات: كل مَن أدلى بالخؤولة من أخوات الأم وأخوات الجدات وإن علون من جهة الأب والأم.

وبنات الأخ: كل مَن ينتسب ببنوة الأخ من أولاده وأولاد أولاده الذكور والإناث وإن نزلت درجتهن.

وكذلك بنات الأخت.

فصل:

النوع الثاني: المحرمات بالرضاع؛ وهن مثل المحرمات بالنسب سواء؛ لقوله تعالى: ]وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ[، نص على هاتين، وقسنا عليهما سائر المحرمات بالنسب، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. متفق عليه.

فصل:

النوع الثالث: المحرمات بالمصاهرة؛ وهن أربع:

أمهات النساء؛ لقوله تعالى: ]وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ[، فمتى عَقَد النكاحَ على امرأة حرم عليه جميع أمهاتها من النسب والرضاع وإن علون، سواء دَخَلَ بالمرأة أو لم يدخل؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أيما رجل نكح امرأة دخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها. رواه ابن ماجه.

الربائب؛ وهن بنات النساء، ولا تحرم ربيبته إلا أن يَدخل بأمها؛ فإن فارق أمها قبل أن يدخل بها: حلت له ابنتها؛ لقوله تعالى: ]وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ[.

حلائل الأبناء؛ وهن زوجات أبنائه، وأبناء أبنائه وبناته وإن سفلوا؛ من نسب أو رضاع؛ لقوله تعالى: ]وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ[، ويحرمن بمجرد العقد؛ لعموم الآية فيهن.

زوجات الأب القريب والبعيد من قبل الأب والأم؛ من نسب أو رضاع يحرمن؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ[، وسواء دخل بهن أو لم يدخل؛ لعموم الآية.

فصل:

كل المحرمات؛ من النسب والرضاع: تحرم ابنتها وإن نزلت درجتها؛ إلا بنات العمات والخالات: فإنهن محللات؛ لقول الله تعالى: ]وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ[، وكذلك بنات مَن نَكَحُهن الآباء والأبناء: فإنهن محللات؛ فيجوز للرجل نكاح ربيبة أبيه أو ربيبة ابنه؛ لقوله تعالى: ]وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ[.

فصل:

النوع الرابع: تحريم الجمع، وهو ضربان:

1- جَمْعٌ حَرُم لأجل النسب بين المرأتين؛ وهو ثابت في أربع:

بين الأختين؛ لقوله تعالى: ]وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ[، وسواء كانتا شقيقتين، أو من الأب أو من الأم، أو من نسب أو رضاع؛ لعموم الآية في الجميع.

بين الأم وبنتها؛ لأن تحريم الجمع بين الأختين تنبيه على تحريم الجمع بين الأم وبنتها.

بين المرأة وعمتها.

بين المرأة وبين خالتها؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها. متفق عليه، ولأنهما امرأتان لو كانت إحداهما ذكراً حرمت عليه الأخرى؛ فحرم الجمع بينهما، ولأنه يُفْضِي إلى قطيعة الرحم المحرم؛ لما بين الزوجات من التغاير، والتنافر.

وإن تزوج امرأة، ثم طلقها: لم تحل له أختها، ولا عمتها ولا خالتها حتى تنقضي عدتها؛ رجعية كانت أو بائنة؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين.

فصل:

2- تحريم الجمع؛ لكثرة العدد.

فلا يحل الجمع بين أكثر من أربع زوجات؛ لقوله تعالى: ]فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ[، يعني اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعاً وفارق سائرهن. رواه الترمذي.

فصل:

النوع الخامس: المحرمات لاختلاف الدين؛ فلا يحل لمسلم نكاح كافرة غير كتابية؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ[، وقوله تعالى: ]وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ[.

ويباح نكاح الكتابيات؛ لقوله تعالى: ]وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ[، وهم اليهود والنصارى ومن وافقهم من أصل دينهم ودان بالتوراة والإنجيل.

ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال؛ كتابياً كان أو غير كتابي؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ[، وقوله تعالى: ]فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ[.

فصل:

النوع السادس: المشغولة بالغير؛ المنكوحة، والمعتدة منه؛ لقوله تعالى: ]وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[، ولقوله تعالى: ]وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ[.

ولا يحل التعريض بخطبة المطلقة طلاقاً رجعياً؛ لأنها زوجته.

ويجوز التعريض بخطبة المعتدة من الوفاة، والطلاق الثلاث البائن؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء[.

فأما البائن بخلع: فلزوجها التصريح بخطبتها والتعريض، لأنه يحل له نكاحها في عدتها.

ويحرم التصريح؛ لأن تخصيص التعريض بالإباحة دليل على تحريم التصريح.

والتصريح أن يقول: زوجيني نفسك إذا انقضت عدتك ونحو.

والتعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، وما أحوجني إلى مثلك ونحوه.

ومَن خطب امرأة فأجيب: حَرُم على غيره خطبتها إلا أن يأذن، أو يترك؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. متفق عليه.

النوع الثامن: الملاعنة؛ وهي التي تم بينها وبين زوجها لعان بعد اتهام بالزنى أو نفي ولدها، تحرم على الملاعن.

النوع التاسع: الزانية؛ يحرم نكاحها حتى تتوب؛ لقوله تعالى: ]وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ[.

فصل:

النوع العاشر: التحريم للإحرام؛ فلا يجوز نكاح مُحْرِم بحج أو عمرة ولا محرمة، ولا يجوز عقد المحرم نكاح غيره.

والعقد باطل إن تم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يَنكِح المحرم ولا يُنكَح ولا يَخطب. رواه مسلم.

باب الشروط في النكاح

وهي قسمان: صحيح وفاسد.

فالصحيح نوعان:

أحدهما: شرط ما يقتضيه العقد؛ كتمكنه من استمتاعها: فهذا لا يؤثر في العقد، ووجوده كعدمه.

والثاني: شرط ما تنتفع به المرأة؛ كزيادة معلومة على مهرها، أو أن لا يتزوج عليها، أو لا يسافر بها ولا ينقلها عن دارها ولا بلدها: فهذا صحيح يلزم الوفاء له؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أحق الشروط أن يُوَفَّى به ما استحللتم به الفروج. متفق عليه.

فإن لم يف به: فلها فسخ النكاح؛ لأنه شرط لازم في عقد؛ فثبت حق الفسخ بفواته.

فصل:

القسم الثاني: فاسد، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يبطل في نفسه، ويصح النكاح، مثل: أن يشرط عليها أنه لا مهر لها، أو لا نفقة لها عليه، أو أن نفقته عليها، أو يَقسم لها [في المبيت] دون قَسْم صاحبتها [ضرتها]، أو ألا يَقسم لها إلا في النهار، أو ليلة في الأسبوع ونحوه.

فهذه الشروط باطلة في نفسها؛  لأنها تتضمن إسقاط حق يجب بالعقد قبل انعقاده: فلم يصح.

النوع الثاني: ما يفسد النكاح من أصله، وهو أمور:

أحدها: أن يشرطا تأقيت النكاح، وذلك نكاح المتعة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو نحوه: فالنكاح باطل؛ لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن المتعة في حجة الوداع، وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حَرَّم متعة النساء. رواه أبو داود.

ولو اشترط أن يطلقها في وقت بعينه: لم يصح النكاح؛ لأنه شرط يمنع بقاء النكاح، فأشبه التأقيت.

الأمر الثاني: أن يزوجه وليتَه بشرط أن يزوجه الآخرُ وليتَه؛ فهذا نكاح الشغار.

ولا خلاف في فساده؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن نكاح الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه.

فإن سميا صداقاً، فقال: زوجتك أختي على أن تزوجني أختك، ومهر كل واحدة مائة: فعقد صحيح.

وإن سمي لإحداهما مهراً، دون الأخرى، فالنكاح فاسد فيهما.

الأمر الثالث: أن يشرط عليه إحلالها لزوجٍ قبله، ثم يطلقها فيكون النكاح حراماً باطلاً؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لعن الله المحلِّل والمحلَّل له. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه لفظاً: فالنكاح باطل أيضاً.

وإن شُرِط عليه سباقاً إحلالها؛ فنوى غير ذلك: صح؛ لأنه خلا عن نية التحليل وشرطه.

وإن قصدت المرأة ووليها التحليل دون الزوج: لم يؤثر في العقد؛ لأنه ليس إليهما إمساك ولا فراق، فلم يؤثر بينهما.

فصل:

النوع الثالث: الشرط فاسد، وفي فساد النكاح بفساد الشرط قولان.

وهو أن يتزوجها إن رضيت أمها، أو إنسان ذكره، وقد فسد الشرط؛ لأن عقد النكاح يجب أن يكون ثابتاً لازماً.

باب الخيار في النكاح

 وأسبابه:

أحدها: أن يجد أحدهما بصاحبه عيباً يمنع الوطء.

والعيوب سبعة:

ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي: الجنون، والجذام، والبرص.

واثنان في الرجل: الجب [مقطوع الذكر] والعنة [عدم القدرة على الوطء].

واثنان في المرأة: الرتق [انسداد الفرج]، والفتق [انخراق ما بين مخرج البول والمني، أو انخراق ما بين القُبُل والدُبُر].

فمن وجد بصاحبه عيباً منها: فله الخيار في فسخ النكاح؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  تزوج امرأة من بني غفار فرأى بكشحها [ما بين الخاصرة والضلع من الخلف] بياضاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البسي ثيابك والحقي بأهلك، فثبت الرد بالبرص، وقسنا عليه سائر العيوب.

واختلف الفقهاء فيما عدا ذلك من العيوب؛ فما كان منها منفِّراً ثبت الخيار، وما كان غير ذلك فلا خيار.

كالبخر [نتن الفم]، والذي لا يستمسك بوله أو خلاه، والباسور والقروح السيالة في الفرج، والعفل [رغوة في الفرج يمنع لذة الوطء].

وأما القرع والعمى والعرج فلا يثبت به خيار، لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه.

ومَن علم العيب وقت العقد: فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة بالعيب.

ولا يجوز الفسخ بالعيوب إلا بقضاء القاضي؛ لأنه مختلف فيه: فافتقر إلى القاضي.

فصل:

السبب الثاني: الغرر؛ فلو تزوجت المرأة رجلاً مطلقاً: فلها الخيار في فسخ النكاح.

وإن شرطها بكراً؛ فبانت ثيباً، أو شرطها نسيبة أو جميلة أو بيضاء؛ فبانت بخلافه: فله الخيار؛ لأنها صفات مقصودة: فصح شرطها.

فصل:

والسبب الثالث: الإعسار بالنفقة ونحوها، ومخالفته شرطها اللازم؛ كاشتراطها دارها ونحوها.

كتاب الصداق

يستحب أن يُعقد النكاح بصداق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يتزوج ويزوج بناته بصداق.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إزارك إن أعطيتها إياه جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئاً آخر، فقال: لا أجد، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل معك شيء من القرآن؟، قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسورة يسميها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن. متفق عليه.

ويجوز أن يكون الصداق قليلاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: التمس ولو خاتماً من حديد.

ويجوز أن يكون كثيراً، لقوله تعالى: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً.

ويستحب تخفيفه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة. رواه أحمد.

وكل ما جاز ثمناً في بيع، أو عوضاً في إجارة؛ من دَين وعين، وحالٍّ مؤجل، ومنفعة معلومة، من حر أو عبد، كرد عبدها من مكان معين، وخدمتها في شيء معلوم، جاز أن يكون صداقاً، لأن الله تعالى أخبر عن شعيب أنه قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فجعل الرعي صداقاً، و لأنه عقد على المنفعة فجاز ما ذكرنا، كالإجارة.

وإن تزوجها على طلاق زوجته الأخرى: لم يصح الصداق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها ولتنكح فإنما رزقها على الله. رواه البخاري ومسلم.

وإن أصدقها تعليم شيء مباح؛ كصناعة، أو كتابة، أو فقه، أو حديث، أو لغة، أو شعر؛ لها أو لغلامها: صح.

فإن أصدقها تعليم شيء لا يحسنه: نظرت.

فإن قال: أحصل لك تعليمه: صح.

وإن قال، على أن أعلمك: ، فلا يصح.

وإن أصدقها تعليم القرآن أو شيء منه، فيجوز لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن، ومِن شرطه تعيين ذلك البعض.

فصل:

ويصح أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً.

فإن أطلق ذكره: كان حالاًّ.

فإن شرطه مؤجلاً إلى مدة معلومة: فهي إلى أجله.

وإذا تزوج على العاجل والآجل: لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة.

فصل:

وإذا تزوجها على صداقين، سر وعلانية: فيؤخذ بالعلانية قضاءً، وبصداق السر ديانة.

وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة.

فإن زادها في صداقها شيئاً بعد انبرام العقد: جاز؛ وكان الجميع صداقاً؛ لقوله تعالى: ]فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ[.

فصل:

وتملك المرأة المسمى بالعقد إذا كان صحيحاً.

ونماؤه وزيادته لها، وزكاته عليها، ونقصانه بعد قبضها إياه عليها.

وإن نقص قبل القبض لمنعه إياه من قبض فهو من ضمانه.

فصل:

ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها المعجل، ولها النفقة إذا امتنعت؛ لأنه امتناع بحق.

وإن قبضت صداقها فوجدته معيباً فردت: فلها منع نفسها حتى يبذله.

وإن كان صداقها مؤجلاً: فليس لها منع نفسها قبل قبضه؛ لأن رضاها بالتأجيل رضى منها بتسليم نفسها قبله.

باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر وحكم التراجع

يستقر الصداق بثلاثة أمور:

أحدها: الخلوة بعد العقد؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أن مَن أغلق باباً، أو أرخى ستراً: فقد وجب المهر، ووجبت العدة.

والثاني: الوطء، أما إن استمتع بغير الوطء؛ كقبلة، أو مباشرة في الفرج، أو نال منها ما لا يحل لغيره؛ كالنظر إليها عريانة، فلا يكمل به الصداق.

الثالث: موت أحد الزوجين قبل الدخول؛ سواء مات حتف أنفه، أو قتل نفسه، أو قُتِل؛ لما روى معقل بن سنان رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قضى في بروع بنت واشق؛ وكان زوجها مات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقاً: فجعل لها مهر نسائهم، لا وكس [نقص] ولا شطط [زيادة]. رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي.

فصل:

وإن افترقا قبل استقراره، لم يخل من أقسام:

أحدها: أن يكون بسبب من المرأة؛ كردتها، وإسلامها، وفسخها لعيب في الزوج، أو إعساره: فيقسط مهرها.

الثاني: أن يكون بسبب من الزوج؛ كطلاقه، وخلعه، وإسلامه، وردته: فيسقط نصف المسمى، ويجب نصفه؛ لقوله تعالى: ]وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ[، وقِيْسَ عليه سائر ما استقل به الزوج؛ لأنه في معناه.

الثالث: افترقا بسبب من أجنبي؛ كرضاع أو غيره: فيجب نصف المهر، ويرجع الزوج بما لزمه على الفاعل.

ومتى سقط المهر، أو نصفه بعد تسليمه إليها: فله الرجوع عليها.

ولا يخلو المهر؛ إما أن يكون تالفاً، أو غير تالف.

  • فإن كان تالفاً: رجع مثله إن كان مثلياً، أو بقيمته إن لم يكن مثلياً؛ أقل ما كانت من حين العقد، إلى حين القبض.
  • وإن كان باقياً، لم يخل من خمسة أحوال:

أحدها: أن يكون باقياً بحاله لم يتغير، ولم يتعلق به حق غيرها: فإن الزوج يرجع فيه، ويدخل في ملكه حكماً؛ لقوله تعالى: ]وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ[.

الحال الثاني: أن يجده ناقصاً، باستهلاك جزء من عينه: فالزوج بالخيار بين أخذه ناقصاً، وبين تركه ومطالبتها بقيمته.

الحال الثالث: أن يجده زائداً؛ فلا تخلو:

إما أن تكون الزيادة منفصلة؛ كولد النعام، وثمرة الشجر، ونحو ذلك: فللزوج نصف الأصل، والزيادة لها؛ لأنها زيادة متميزة حادثة من ملكها، فلم تتبع الأصل في الرد.

وإما أن تكون متصلة؛ كسِمَن الأنعام، وكبر سنها، والحمل في البطن، والثمرة على الشجرة، ونحو ذلك: فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائداً؛ فيلزمه قبوله، وبين دفع قيمة حقه يوم وقع العقد عليه.

وإن أصدقها أرضاً فبنتها، أو ثوباً فصبغته: فحكمها حكم الأرض المزروعة.

فإن بذل الزوج لها نصف قيمة البناء والصبغ لتملكه: يلزمها قبوله، ويصير له نصف الجميع.

الحال الرابع: وجده زائداً من وجه ناقصاً من وجه، كحلي كسرته ثم صاغته على غير ما كان: فإذا تراضيا على أخذ نصفه جاز، وأيهما امتنع من ذلك: لم يجبر عليه، لأن عليه ضرراً.

الحال الخامس: أن يتعلق به حق غيرهما، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يزيل ملكها؛ كبيع العين، وهبتها المقبوضة ووقفها: فحكم ذلك حكم تلفها.

النوع الثاني: ما ليس بلازم؛ كالهبة قبل القبض، والوصية قبل الموت: فله الرجوع في نصفها؛ لأنه حق غير لازم.

النوع الثالث: ما لا يزيل الملك؛ كإجارة المهر: فيخير بين الرجوع في نصفه مع بقاء الإجارة، وبين الرجوع بنصف القيمة؛ لأنه نقص رضي به.

فصل:

والزوج هو الذي بيده عقد النكاح.

فإذا طلق قبل الدخول، فأي الزوجين عفا لصاحبه عما وجب له من المهر: برئ منه صاحبه.

وفي قول: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب؛ فيصح عفوه عن نصف مهر ابنته البكر التي لم تبلغ إذا طُلِّقت قبل الدخول؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق هو الولي.

ولا يجوز عفو الأب ولا غيره من الأولياء؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ولي العقدة الزوج. رواه الدارقطني، ولأن الله تعالى قال: ]وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[، وليس عفو الولي عن صداق ابنته أقرب للتقوى.

باب الحكم في المفوضة

وهو أن يزوج الرجل ابنته بغير صداق برضاها أو رضى أبيها؛ سواء سكتا عن ذكره، أو شرطا نفيه: فالعقد صحيح؛ لقوله تعالى: ]لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً[، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟، قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟، قالت: نعم؛ فزَوَّج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يعطها شيئاً؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقاً، ولم أعطها شيئاً؛ فإني أُشهدكم أني قد أعطيتها سهمي بخيبر، فأخذت سهماً فباعته بمائة ألف. رواه أبو داود.

ويجب لها مهر نسائها بالعقد؛ لأنه لو لم يجب لما استقر بالدخول، ولا ملكت المطالبة بفرضه قبله.

ولها المطالبة بفرضه قبل الدخول وبعده، ويلزمه إجابتها إليه.

فإن ترافعا إلى الحاكم: لم يفرض لها إلا مهر المثل، لأنه الواجب لها.

وإن تراضى الزوجان على فرضه: جاز.

فإن فرض لها مهر مثلها: فليس لها غيره؛ لأنه الواجب لها.

وإن فرض لها الحاكم أكثر منه: جاز؛ لأن له أن يزيدها في صداقها.

وإن فرض لها أقل منه؛ فرَضِيَتْه: جاز؛ لأن الحق لها؛ فملكت تنقيصه.

وإن دخل بها قبل الفرض: استقر مهر المثل.

وإن مات أحدهما قبل الفرض: وجب لها مهر نسائها؛ لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه  سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات؛ فقال ابن مسعود رضي الله عنه: لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في بروع ابنة واشق؛ امرأة منا مثل ما قضيت. أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

فصل:

ومهر نسائها: هو مهر نساء عصباتها المساويات لها؛ ويعتبر الأقرب فالأقرب منهن.

فأقربهن الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم العمات، ثم بنات الأعمام، ثم من بعدهن الأقرب فالأقرب.

ولا يعتبر ذوات الأرحام؛ كالأم والخالة؛ لأن المهر يختلف بالنسب.

ويعتبر بمَن يساويها في صفاتها من سنها وبلدها وعقلها وعفتها وجمالها ويسارها [غناها] وبكارتها وثيوبتها.

باب اختلاف المزوجين في الصداق

إذا اختلف الزوجان في قدر الصداق؛ ولا بينة على مبلغه: ففيه قولان:

أحدهما: القولُ قولُ مَن يدعي مهر المثل منهما؛ لأن الظاهر أن صداقها مهر مثلها.

فإن ادعى أقل من مهر المثل، وادعت أكثر من مهر المثل: رُدَّا إلى مهر المثل؛ وينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه؛ لأن دعوى كل واحد منهما محتملة، فلا تدفع بغير يمين.

والثاني: القولُ قولُ الزوج بكل حال؛ لأنه منكِر فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ولكن اليمين على المدعى عليه.

وإن اختلفا في قبض الصداق، أو إبرائه منه: فالقولُ قولها؛ لأن الأصل معها.

باب الوليمة

وهي: الإطعام في العرس.

وهي مستحبة؛ لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه  حين تزوج: أَوْلِم ولو بشاة. متفق عليه.

وإجابة الداعي إليها واجبة؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دُعِي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ومَن لم يحب فقد عصا الله ورسوله. رواهما البخاري.

وتجوز إجابة غير المسلم؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن يهودياً دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى خبز شعير وإهالةٍ [الشحم الذائب] سَنِخَة [متغيرة الرائحة والطعم]، فأجابه. رواه أحمد.

وإن دعا ثلاثة أيام: وجبت الإجابة في اليوم الأول، واستحب في الثاني، ولم تستحب في الثالث؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، الثالث رياء وسمعة. رواه أبو داود.

فصل:

وإذا دعي الصائم: لم تسقط الإجابة؛ فإذا حضر:

وكان الصوم واجباً: لم يفطر.

وإن كان تطوعاً: استحب له الفطر؛ لِيَسُر أخاه ويجبر قلبه، ولا يجب؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعي أحدكم فليجب؛ فإن كان صائماً، فليدع، وإن كان مفطراً فليَطْعَم. رواه مسلم، وأبو داود.

فصل:

وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر؛ كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار: حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين.

وإن لم يمكنه: لم يحضر؛ لأنه يرى المنكر ويسمعه اختياراً.

وإن حضر فرأى المنكر أو سمعه: أزاله.

فإن لم تمكنه إزالته: انصرف.

فصل:

فأما سائر الدعوات غير وليمة العرس؛ كدعوة الختان، والخرس والخرسة عند الولادة، والوكيرة: دعوة البناء، والنقيعة: لقدوم الغائب، والحذاق: عند حذق الصبي، والمأدبة: اسم لكل دعوة لسبب كان أو لغير سبب: ففعلها مستحب.

وتستحب الإجابة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا دعي أحدكم فليجب عرساً، كان أو غير عرس. رواه أبو داود، ولأن فيه جبر قلب الداعي وتطييبه.

باب عشرة النساء

يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف؛ لقول الله تعالى: ]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وقال سبحانه: ]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[.

فصل:

وله الاستمتاع في كل وقت من غير إضرار بها، ولا منعها من فريضة؛ وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع. متفق عليه.

ولا يجوز وطؤها في الحيض، ولا في الدبر؛ لقوله تعالى: ]فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ[، وروى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن الله لا يستحيي من الحق؛ لا تأتوا النساء في أعجازهن.

ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، ووطؤها في الفرج مقبلة ومدبرة، وكيف شاء لقوله تعالى: ]نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ[، قال جابر: من بين يديها ومن خلفها غير ألا يأتيها إلا في المأتي. متفق عليه.

فصل:

وإذا أراد الجماع: استحب أن يقول: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فوُلِد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً. متفق عليه.

ويستحب التستر عند المجامعة؛ لما روى عتبة بن عبيد رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتى أحدكم أهله؛ فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين. رواه ابن ماجة.

ولا يجامعها بحيث يراها إنسان، أو يسمع وجسهما.

وإذا فرغ قبلها: كُرِه له النزع حتى تفرغ؛ لما روى أنس رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جامع الرجل أهله، فليصدقها؛ ثم إن قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها: فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها.

فصل:

ويكره العزل، وهو: أن ينزل الماء خارج الفرج؛ لما فيه من تقليل النسل، ومنع المرأة من كمال استمتاعها.

فصل:

وإذا كان له زوجتان: لم يجمع بينهما في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن عليهما فيه ضرراً، ويؤدي إلى الخصومة.

ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن فيه دناءة، وسوء عشرة، وإثارة للغيرة.

باب القَسْم

يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من كل أربع، ووطؤها مرة في كل أربعة أشهر، إذا لم يكن عذر.

فصل:

فإن كان له امرأتان أو أكثر: وجب التسوية بينهن في القَسْم؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل. رواه أبو داود.

وإذا قسم للمرأة ليلة: كان لها ما يليها من النهار تبعاً لليل، والأولى أن يَقْسِم بين زوجاته ليلة وليلة؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنه أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق؛ فإذا زاد على ذلك، لم يجز إلا برضاهن.

والأولى أن يطوف على نسائه في منازلهن؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنه أحسن في العشرة وأصون لهن.

وإن كانت له امرأتان في بلدين: فعليه العدل بينهما؛ لأنه حق لهما: فلا يسقط بتباعدهما.

ويستحب التسوية بين الزوجات في الاستمتاع؛ لأنه أكمل، ولا يجب ذلك؛ لأن الداعي إليه الشهوة والمحبة، ولا سبيل إلى التسوية فيه، قال الله تعالى: ]وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ[، قال ابن عباس رضي الله عنهما: في الحب والجماع، وقالت عائشة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يَقْسِم بين نسائه ويعدل، ثم يقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. رواه الترمذي وابن ماجه.

والكتابية كالمسلمة في القَسْم؛ لأنه من حقوق النكاح فاستويا فيه؛ كالنفقة والسكنى.

فصل:

وللمرأة أن تهب حقها من القَسْم لزوجها؛ فيجعله لِمَن شاء من زوجاته، إذا رضي الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه؛ فإذا رضي: جاز؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة رضي الله عنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يَقْسِم لعائشة يومها ويوم سودة. متفق عليه.

وإن بذلت ليلتها بمال: لم يصح.

فصل:

وإن تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة: قطع الدور لحق الجديدة.

فإن كانت بكراً: أقام عندها سبعاً.

وإن كانت ثيباً: أقام عندها ثلاثاً؛ ثم دار؛ لما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه  قال: من السنة أن مَن تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، ثم قَسَم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . متفق عليه.

فصل:

يكره أن يزف امرأتين في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في إيفاء حقهما، وتستضر التي يؤخر حقها وتستوحش.

فصل:

وإذا أراد السفر بجميع نسائه: قَسَم لهن كما يقسم في الحضر.

وإن أراد السفر ببعضهن: لم يسافر بهن إلا بقرعة؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه؛ فأيَّتَهن خرج سهمها: خرج بها معه. متفق عليه.

ولا يلزمه القضاء للحاضرات؛ لأن عائشة لم تذكر قضاء.

ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر: فاختصت بالقسم.

والسفر الطويل والقصير سواء في هذا.

باب النشوز

وهو نوعان.

أحدهما: نشوز المرأة؛ وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح.

فمتى ظهر منها إمارات النشوز؛ مثل أن يدعوها فلا تجيبه، أو تجيبه مكرهة متبرمة: وَعَظَها وخَوَّفَها الله تعالى وما يلحقها من الإثم والضرر بنشوزها من سقوط نفقتها وقَسْمِها وإباحة ضربها؛ لقوله تعالى: ]وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ[.

فإن أظهرت النشوز: فله هجرها في المضاجع؛ لقوله تعالى: ]وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ[.

فإن ردعها ذلك، وإلا فله ضربها؛ لقوله تعالى: ]وَاضْرِبُوهُنَّ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه؛ فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح. رواه مسلم.

غير مبرح أي: غير شديد.

وعليه اجتناب المواضع المخوفة، والمستحسنة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف والتشويه.

النوع الثاني: نشوز الرجل عن امرأته، وهو: إعراضه عنها؛ لمرضها، أو كِبَرها، أو غيرهما: فلا بأس أن تضع عنه بعض حقها تسترضيه بذلك؛ لقوله تعالى: ]وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا[، قالت عائشة رضي الله عنها: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها؛ فيريد طلاقها، ويتزوج عليها، تقول له: أمسكني لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من النفقة عليَّ والقسمة لي. رواه البخاري.

فصل:

وإذا ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه وعدوانه: بعث القاضي حَكَمَاً من أهله، وحَكَمَاً من أهلها؛ ليفعلا ما يرياه المصلحة: من التفريق بعِوَض، أو الإصلاح بترك بعض الحقوق؛ لقوله تعالى: ]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[.

ويجوز أن يكون الحَكَمَان أجنبيين.

ويجب أن يكونا ذَكَرَين، عدلين، فقيهين.

ويعمل الحَكَمَان على أن لا إسقاط لشيء من الحقوق إلا بتوكيلهما أو رضاهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة؛ فلم يجز إلا بإذنهما.

 

كتاب الخلع

ومعناه: فراق الزوج امرأته بعِوَض.

والخلع على ثلاثة أضرب:

مباح: وهو أن تَكْرَه المرأة زوجها، وتخاف ألا تؤدي حقه، ولا تقيم حدود الله في طاعته: فلها أن تفتدي نفسها منه؛ لقوله تعالى: ]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ[، وروى البخاري قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقالت: يا رسول الله ما أَنْقِم على ثابت مِن دِين ولا خُلُق، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته؟، قالت: نعم، فرَدَّت عليه، وأَمَرَه؛ ففارقها.

الثاني: المخالعة لغير سبب مع استقامة الحال؛ وهي صحيحة مع الكراهة؛ لقوله تعالى: ]وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا[.

الثالث: أن يعضل الرجل زوجته بأذاه لها، ومنعها حقها ظلماً؛ لتفتدي نفسها منه: فهذا محرم؛ لقوله تعالى: ]وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ[؛ فإن طلقها في هذه الحال بعوض: لم يستحقه؛ لأنه عوض أُكْرِهت على بذله بغير حق، ويقع الطلاق رجعياً.

فصل:

ويصح الخلع من كل زوج يصح طلاقه.

ويصح الخلع من كل زوجة رشيدة.

ويصح بذل العوض في الخلع من الأجنبي؛ فإن قال: طَلِّق زوجتك بمهرها، وأنا ضامن؛ ففعل: بانت وعليه مهرها، ولا يرجع به على أحد.

فصل:

وألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح وكناية.

فالصريح ثلاثة ألفاظ: خالعتك، وفاديتك، وفسخت نكاحك.

وما عدا هذا، مثل: بارأتك، وأبرأتك، وأبنتك؛ فكناية.

فصل:

وتبين بالخلع؛ فلا يملك رجعتها.

فإن طلقها بعوض، وشرط الرجعة: فإنه يصح الخلع ويسقط الشرط.

فصل:

وكل ما جاز صداقاً: جاز جعله عوضاً في الخلع؛ قليلاً كان أو كثيراً.

ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ لأنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه أَمَرَ ثابتَ بن قيس أن يأخذ من زوجته حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجه.

فصل:

ويجوز التوكيل في الخلع من الزوجين، ومن كل واحد منهما، مع تقدير العوض، وإطلاقه.

فصل:

إذا ادعى الزوج خلعها فأنكرته: بانت بإقراره، والقول قولها في نفي العوض مع يمينها، لأنها منكِرة.

وإن ادعت المرأة الخلع فأنكرها: فالقول قوله، ولا شيء عليه، لأنه لا يدعيه.

وإن اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر العوض، أو جنسه أو صفته، أو حلوله: فالقول قول المرأة.

 

كتاب الطلاق

وهو على خمسة أضرب:

واجب، هو: طلاق المؤلي [الحالف على زوجته أن لا يقربها] بعد التربص [أربعة أشهر] إذا أبى الفيئة، وطلاق الحَكَمَين في الشقاق.

ومكروه، وهو: الطلاق من غير حاجة؛ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أبغض الحلال إلى الله الطلاق. رواه أبو داود.

ومباح، وهو: عند الحاجة إليه؛ لضرر بالمقام على النكاح، فيباح دفعاً للضرر.

ومستحب، وهو: عند تضرر المرأة بالنكاح، فيستحب إزالة الضر عنها، وعند كونها مفرطة في حقوق الله الواجبة عليها؛ كالصلاة ونحوه.

ومحظور، وهو: طلاق المدخول بها في حيضها، أو في طهر أصابها فيه، ويسمى: طلاق البدعة؛ لمخالفته أمر الله تعالى في قوله: ]يَا أَيُّهَا رسول الله إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[، وروى ابن عمر أنه طَلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مُرْه فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طَلَّق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء. متفق عليه.

فأما غير المدخول بها: فلا يحرم طلاقها في الحيض.

والصغيرة، والآيسة: لا يحرم طلاقهما.

والحامل التي استبان حملها لا يحرم طلاقها؛ لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً. أخرجه مسلم.

فصل:

والأولى أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها؛ لقول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا رسول الله إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا* فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا[.

وهل يحرم جمع الثلاث؟ فيه قولان:

أحدهما: يحرم؛ لمخالفته أمر الله في الطلاق واحدة، وروى محمود بن لبيد قال: أُخْبِر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن رجل طَلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فغضب وقال: أَيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟‍‍‍!، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ رواه النسائي.

والثاني: لا يحرم؛ لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات، ولم ينقل إنكاره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنه طلاق يجوز تفريقه: فجاز جميعه.

فصل:

ويصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار.

فأما غير الزوج: فلا يصح طلاقه؛ لقول رسول الله e: الطلاق لمن أخذ بالساق.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله e قال: لا طلاق إلا فيما تملك. رواه أبو داود والترمذي.

وأما الطفل، والمجنون، والنائم، وزائل العقل؛ لمرض، أو شرب دواء، أو إكراه على شرب الخمر: فلا يقع طلاقه؛ لقول رسول الله e: رفع القلم عن ثلاثة؛ عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المحنون حتى يفيق، فيثبت في الثلاثة بالحديث، وفي غيرهم بالقياس عليهم.

فأما السكران لغير عذر، والشارب لما يزيل عقله لغير حاجة، ففيه قولان:

أحدهما: يقع طلاقه، لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي و طلحة والزبير وعبد الرحمن، فقلت: إن خالداً يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا عقوبته، فقال عمر: هؤلاء عندك، فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قالوا.

فجعلوه كالصاحي في فريته، وأقاموا مظنة الفرية مقامها، ولأنه مكلف فوقع طلاقه، كالصاحي.

والثاني: لا يقع طلاقه؛ لأنه زائل العقل، أشبه المجنون.

وأما المكره على الطلاق بحق؛ كالذي وجب عليه الطلاق، فأكرهه القاضي عليه: صح منه؛ لأنه قول حمل عليه بحق: فصح.

وإن أكره بغير حق: لم يقع طلاقه؛ لقول رسول الله e: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولأنه قول حمل عليه بغير حق، أشبه الإكراه على كلمة الكفر.

ولا يكون مكرهاً إلا بشروط ثلاثة:

أحدها: أن يكون المُكْرِه قادراً على فعل ما توعده به، ولا يمكن دفعه عنه.

الثاني: أن يغلب على ظنه فعل ما تُوِعِّد به إن لم يفعل.

الثالث: أن يكون ضرره كبيراً غير محتمل؛ كالقطع، والقتل، والحبس الطويل، والإخراج من الديار، وأخذ المال.

فصل:

إذا طلق جزءاً من زوجته؛ كثلثها وربعها، أو عضواً منها، كيدها وإصبعها: طلقت؛ لأنه لا يتبعض، فإضافته إلى البعض إضافة إلى الجميع.

وإن أضافه إلى الشعر والسن والظفر: لم يقع؛ لأن هذه تزول، ويخرج غيرها، فلم يقع بإضافته إليها.

وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق: لم يقع؛ لأنه ليس من ذاتها، إنما هو مجاور لها.

وإن أضافه إلى سوادها أو بياضها: لم يقع؛ لأنه عَرَض ليس من ذاتها.

باب صريح الطلاق وكنايته

لا يقع الطلاق بمجرد النية، ولا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية.

فالصريح: لفظ الطلاق وما تصرف منه؛ لأنه موضوع له في اللغة على الخصوص، يثبت له عرف الشرع والاستعمال.

فإذا قال: أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك، أو يا مطلقة: فهو صريح.

ولو قيل له: أطلقتك امرأتك؟ قال: نعم: كان صريحاً؛ لأن الجواب يرجع إلى السؤال، فصار كالملفوظ به.

وإن قال: أنت الطلاق: فهو صريح.

والفراق والسراح صريح.

وما عدا هذا فليس بصريح؛ لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال.

فصل:

وإذا أتى بصريح الطلاق وقع: نواه أو لم ينوه، جاداً كان أو هازلاً؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله e قال: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة. رواه الترمذي، وقال حديث حسن.

فصل:

والكناية فيه؛ إن نوى به الطلاق: وقع؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله.

وإن لم ينو شيئاً، ولا دلت عليه قرينة: لم يقع؛ لأنه ظاهر في غير الطلاق، فلم يصرف إليه عند الإطلاق، كما لا ينصرف الصريح إلى غيره.

فصل:

ومن الكنايات:

خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأمرك بيدك، الحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، واعتدي، ولا سبيل لي عليك.

فصل:

فإن قال: أنت علي حرام، ففيه ثلاثة أقوال:

أحداها: أنها ظهار؛ نوى الطلاق أو لم ينوه، يروى ذلك عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهم، ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهاراً كقوله: أنت علي كظهر أمي.

والثاني: هو كناية في الطلاق، يروى ذلك عن علي وزيد وابن مسعود وأبي هريرةرضي الله عنهم، ولأن الطلاق تحريم فصحت الكناية عنه بالحرام.

والثالث: أنه يرجع فيه إلى نيته؛ فإن نوى اليمين كان يميناً، يروى ذلك عن الصديق وعمر وعائشة رضي الله عنهم.

فصل:

ويجوز للرجل تفويض الطلاق إلى زوجته؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله e بتخيير أزواجه، بدأ بي، فقال: إني لمخبرك خبراً فلا عليك ألا تعجلي؛ حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله تعالى قال: ]يَا أَيُّهَا رسول الله قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا[ حتى بلغ: ]فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[، فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج رسول الله e مثل ما فعلت. متفق عليه.

وهو على ضربين:

أحدهما: تفويضه بلفظ صريح؛ فيقول: طلقي نفسك: فلها أن تطلق نفسها واحدة، ليس لها أكثر منها؛ لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، ولها أن تطلق بلفظ الصريح والكناية مع النية لأن الجميع طلاق فيدخل في لفظه. ولها أن تطلق متى شاءت؛ لأنه توكيل في الطلاق مطلق.

والثاني: تفويضه إليها بلفظ الكناية، وهو نوعان:

أحدهما: أن يقول: أمرك بيدك: فيكون لها أن تطلق نفسها ما شاءت، ومتى شاءت؛ لأنه نوع توكيل بلفظ يقتضي العموم في جميع أمرها.

والثاني:أن يقول لها: اختاري: فليس لها أن تختار أكثر من واحدة، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته، وإن جعل إليها أكثر من ذلك بلفظه، أو نيته، أو قرينة: فهو على ما جعل إليها؛ لأن رسول الله e قال لعائشة: فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك.

وللزوج الرجوع فيما فوضه إليها قبل تطليقها؛ لأنه نوع تفويض، فملك الرجوع فيه.

وإن قالت: قبلت: فليس بشيء؛ لأن ذلك ينصرف إلى قبول التفويض.

وإن قالت: اخترت نفسي، أو أهلي، أو أبوي، أو الأزواج، أو ألا تدخل علي، ونحو هذا مما يحتمل إرادة الطلاق: فهو كناية يفتقر إلى النية، فإن نوت به الطلاق، كان طلاقاً، وإلا فلا، ويقع به واحدة إلا أن ينوي الثلاث، إذا جعل إليها ثلاثاً.

وإن قال: اختاري؛ فاختارت نفسها، ونويا ثلاثاً: وقع الثلاث.

وإن نوى أحدهما طلقة، والآخر أكثر منها: وقعت طلقة.

فصل:

ويصح تفويض الطلاق إلى غير الزوجة.

فإن قال لرجل: طلق زوجتي، أو أمرها بيدك: فالحكم فيها كالحكم في جعل ذلك إلى الزوجة على ما مضى.

فصل:

لا يقع الطلاق بغير اللفظ إلا في موضعين:

أحدهما: الأخرس: إن أشار بالطلاق وقع طلاقه؛ لأنه يحتاج إلى الطلاق، فقامت إشارته فيه مقام نطق غيره، ويقع في العدد ما أشار إليه؛ لأن إشارته كلفظ غيره.

وأما غير الأخرس: فلا يقع الطلاق بإشارته؛ لأنه لا ضرورة به إليها: فلم يصح منه بها.

والثاني: إذا كتب طلاق زوجته ونواه: وقع؛ لأن الكتابة حروف يُفهم منها صريح الطلاق، أشبه النطق.

وإن كتب صريح الطلاق من غير نية، فلا يقع؛ لأن الكناية تحتمل الطلاق وامتحان الخط وغيره، فإن قصد بالكناية امتحان الخط أو غير الطلاق: لم يقع، وإن قصد غم أهله: فالظاهر من كلام الفقهاء أنه يقع.

باب ما يختلف به عدد الطلاق

إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً: فهي ثلاث؛ وإن نوى واحدة، لأن لفظه نص في الثلاث لا يحتمل غيرها.

وإن قال: أنت طالق واحدة: فهي واحدة؛ وإن نوى ثلاثاً، لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها.

وإن قال: أنت طالق طلاقاً، أو الطلاق: وقع ما نواه؛ لأنه صَرَّحَ بالمصدر، وهو يقع على القليل والكثير.

وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو جميعه، أو أكثره، أو منتهاه: طلقت ثلاثاً؛ لأن ذلك هو الطلاق الثلاث.

وإن قال: أنت طالق كعدد الماء، أو الريح، أو التراب، أو كألف: طلقت ثلاثاً؛ لأنه يقتضي العدد.

وإن قال: أنت طالق ملء الدنيا، أو أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله أو أعرضه: طلقت واحدة؛ لأن ذلك لا يقتضي عدداً، فإن نوى ثلاثاً وقعت، لأن اللفظ يحتملها.

وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث: طلقت طلقتين؛ لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها بمقتضى اللفظ، وإن احتمل دخوله: لم نوقعه بالشك.

وإن قال: أنت طالق طلقة في طلقتين ونوى الثلاث: وقع؛ لأن (في) تستعمل بعنى (مع) كقوله تعالى: ]فَادْخُلِي فِي عِبَادِي[، وإن نوى واحدة: لم يقع أكثر منها، لأنه إنما أوقع واحدة.

فإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين: وقع طلقتان.

وإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقة: طلقت واحدة، وهكذا إن قال: أنت طالق، بل طالق.

وإذا طلقها جزءاً من طلقة: طلقت واحدة؛ لأن ذكر بعض ما لا يتبعض، كذكر جميعه.

باب ما يختلف به حكم المدخول بها وغيرها

إذا قال: أنت طالق، لغير مدخول بها: طلقت واحدة، وكذلك كل طلاق يترتب في الوقوع، كقوله: أنت طالق ثم طالق، أو طالق فطالق، أو طالق بل طالق وطالق، أو طالق طلقة فطلقة، أو طلقة قبل طلقة، أو بعد طلقة، أو بعدها طلقة: لم يقع إلا واحدة.

فصل:

إن قال: أردت بقولي: أنت طالق أنت طالق التأكيد بالثانية: قُبِلَ منه؛ لأنه محتمل لما قاله.

وإن أطلق: طلقت طلقتين؛ لأنه اللفظ الثاني كالأول، فيقتضي من الوقوع ما اقتضاه اللفظ الأول.

وإن قال: أنت طالق طالق: فهي واحدة؛ لأن اللفظ الثاني لا يصلح وحده للاستئناف، فينصرف إلى التأكيد، وإن قصد بالثاني الإيقاع: طلقت طلقتين.

وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق: فهي ثلاث.

فإن قال: أردت بالثانية التوكيد؛ قُبِلَ منه ديانة بينه وبين ربه، ولم يُقْبَل منه في القضاء؛ فإن رُفِع الأمر إلى القاضي أوقعه، وإلا فلا يقع.

وإن أراد بالثالثة التوكيد: قُبِلَ منه في القضاء؛ لأنها مثل الثانية في لفظها.

وكذلك إذا قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو قال: أنت طالق ثم طالق، ثم طالق.

وإن قال: أنت طالق وطالق، فطالق، أو قال: طلق فطالق ثم طالق، وقال: أردت التوكيد: لم يُقْبَل؛ لأنه غاير بين الحروف.

وإن غاير بين الألفاظ فقال: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وقال: أردت بالثاني والثالثة التوكيد: قُبِلَ، لأنه لم يغاير بين الحروف العاملة في الكلام، بخلاف التي قبلها.

باب الشروط في الطلاق

يصح تعليق الطلاق بشرط؛ كدخول الدار، ومجيء زيد، ودخول سنة.

فإن علقه بشرط؛ تعلق به، فمتى وجد الشرط: وقع.

وإن لم يوجد: لم يقع.

وأدوات الشرط المستعملة في الطلاق ستة: إن، ومن، وإذا، ومتى، وأي، وكلما.

وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا (كلما).

فإذا قال: إن قمت، أو إذا قمت، أو متى قمت، أو أي وقت قمت، أو مَن قام منكن، فهي طالق؛ فقامت: طلقت.

وإن تكرر القيام: لم يتكرر الطلاق؛ لأن اللفظ لا يقتضي التكرار.

وإن قال: كلما قمت، فأنت طالق؛ فقامت: طلقت.

وإن تكرر القيام: تكرر الطلاق؛ لأن اللفظ يقتضي التكرار.

فصل:

وإن قال: إن دخلت الدار، أنت طالق: لم تطلق حتى تدخل.

كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار.

وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق: طلقت في الحال؛ لأن الواو ليست جواباً للشرط.

فإن قال: أنت طالق وإن دخلت الدار: طلقت؛ لأن معناه: ولو دَخَلْتِ.

وإن قال: أنت طالق لو دخلت الدار: طلقت؛ لأن (لو) تستعمل بعد الإثبات لغير المنع، فإن قال: أردت الشرط: قُبِل؛ لأنه محتمل.

فصل:

إذا قال: إن حضت فأنت طالق: طلقت بأول جزء من الحيض.

وإذا قال لحائض: إذا حضت، فأنت طالق: لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض؛ لأن (إذا) اسم لزمن مستقبل، فتقضي فعلاً مستقبلاً.

وإن قال لها: إذا طهرت فأنت طالق: طلقت بانقطاع الدم؛ لأنه ثبت لها أحكام الطهر من وجوب الغسل، والصلاة، وصحة الصوم.

وإن قال لطاهر: إذا طهرت فأنت طالق: لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق: لم تطلق حتى تحيض، ثم تطهر.

فصل:

إذا قال لزوجته: أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه: طلقت في الحال؛ لوجود الصفة.

وإن كانت حائضاً، أو في طهر أصابها فيه: لم تطلق في الحال؛ لعدم الصفة.

وإذا قال لمن لطلاقها: أنت طالق أحسن الطلاق، وأجمله، وأعدله، وما أشبه هذا من الصفات الجميلة: طلقت للسنة.

فصل:

إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق: حَرُم وطؤها.

وإن قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق: حَرُم وطؤها قبل استبرائها [التأكد من كونها غير حامل]؛ لأن الأصل عدم الحمل.

ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر: فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى: فأنت طالق اثنتين؛ فولدت ذكراً وأنثى: طلقت ثلاثاً.

وإن قال: إن كان حملك، أو ما في بطنك ذكراً؛ فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى؛ فأنت طالق اثنتين؛ فولدت ذكراً وأنثى: طلقت ثلاثاً.

وإن قال: إن كان حملك أو ما في بطنك ذكراً؛ فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى؛ فأنت طالق اثنتين؛ فولدت ذكراً وأنثى: لم تطلق؛ لأن الشرط أن يكون جميع حملها أو ما في بطنها ذكراً أو أنثى، ولم يوجد.

فصل:

إذا قال: إذا ولدت ولداً فأنت طالق؛ فولدت ولداً حياً أو ميتاً، ذكراً أو أنثى، أو خنثى: طلقت؛ لأنه ولد.

وإن قال: كلما ولدت ولداً؛ فأنت طالق؛ فولدت ثلاثة دفعة واحدة: طلقت ثلاثاً؛ لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة.

وإن ولدتهم واحداً بعد واحد، من حمل واحد: طلقت بالأول طلقة، وبالثاني أخرى، وبانت بالثالث، ولم تطلق به× لأن العدة انقضت بوضعه، فصادفها الطلاق بائناً: فلم يقع.

لو قال: إن ولدت ذكراً؛ فأنت طالق واحدة، وإن ولدت أنثى؛ فأنت طالق اثنتين؛ فولدتهما دفعة واحدة: طلقت ثلاثاً، فإن ولدتهما واحداً بعد واحد: وقع بالأول ما علق عليه، وبانت بالثاني ولم تطلق به.

ولو قال: إن كان أول ما تلدين ذكراً؛ فأنت طالق واحدة، وإن كانت أنثى؛ فأنت طالق اثنتين: فولدتهما دفعة واحدة: لم تطلق، لأن لا أول فيهما.

فصل:

إذا قال لمدخول بها: إذا طلقتك؛ فأنت طالق، ثم طلقها: طلقت طلقتين، واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة.

وإن قال: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال: إن قمْتِ، فأنت طالق: فقامت: طلقت طلقتين، واحدة بقيامها، وأخرى بالصفة.

وإن قال مبتدئاً: إن قمتَ فأنت طالق، ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق؛ فقامت: طلقت واحدة بقيامها، ولم تطلق الأخرى؛ لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع، ووقوع الطلاق هاهنا بالقيام، إنما هو وقوع بصفة سابقة لعقد الطلاق شرطاً.

ولو قال: إذا قمتَ فأنت طالق، ثم قال: إذا قمت فأنت طالق؛ فقامت: طلقت اثنتين؛ لأن قوله: أوقعت عليك الطلاق، كقوله: طلقتك.

وإن قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق: طلقت طلقتين، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى بالصفة، ولا تقع الثالثة؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، ولم يتكرر، فلم يتكرر الطلاق.

وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة، أو صفة: طلقت ثلاثاً؛ لأن الثانية طلقة واقعة عليها، فتقع عليها الثالثة.

فصل:

إذا قال: أنت طالق إن شئت، أو متى شئت، فقالت: قد شئت طلقت، سواء شاءت على الفور، أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط، فأشبه سائر التعليق.

وإن قالت: قد شئت إن شئتَ، أو إن شاء أبي: لم تطلق وإن شاء؛ لأنها لم تشأ، إنما علقت مشيئتها بمشيئته.

فصل:

إذا علق الطلاق بعد النكاح بوقت: طلقت بأوله؛ لأنه إذا علق بشيء، تعلق بأوله.

لو قال: أنت طالق إذا دخلت الدار: طلقت بدخولها أول جزء منها.

لو قال: أنت طالق في رمضان: طلقت بغروب شمس شعبان.

وإن قال: أنت طالق اليوم: طلقت في الحال.

وإن قال: أنت طالق غداً: طلقت بطلوع فجره.

وإن قال: أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان: طلقت بأول جزء منه؛ لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله، بدليل قول رسول الله e: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن قال: أردت إذا رأيته بعينيك: قبل؛ لأنه فسر اللفظ بموضوعه، ويتعلق لحكم برؤيتها إياه بعد الغروب، لأن هلال الشهر ما كان في أوله.

فصل:

إذا قال: أنت طالق بعد موتي: لم تطلق؛ لأنها بعد موته بائن، فليست محلاً للطلاق.

وإن قال: أنت طالق مع موتي: لم تطلق؛ لأن زمن البينونة زمن الطلاق، فلم يمكن إيقاعه.

إذا قال: أنت طالق أمس، أو قبل أن أتزوجك: لم يقع الطلاق.

فصل:

إن علق الطلاق على مستحيل، كقوله: أنت طالق إن طرت، فلا تطلق؛ لأنه علقه على صفة لم توجد.

فصل:

إذا كتب إليها: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق؛ فأتاها الكتاب: طلقت إذا أتاها.

باب الشك في الطلاق

إذا شك هل طلق أم لا؟ لم تطلق؛ لأن النكاح متيقن، فلا يزول بالشك.

وإن طلق فلم يدر، أواحدة طلق أم ثلاث؟ بنى على اليقين كذلك؛ لقول رسول الله e: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

 

كتاب الرجعة

إذا طلق زوجته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث: فله ارتجاعها ما دامت في العدة؛ لقول الله سبحانه: ]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ[ إلى قوله تعالى: ]وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[، يريد الرجعة عند جماعة أهل التفسير.

وقال تعالى: ]الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[، وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: طلقت امرأتي وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه  رسول الله e فقال: مره فليراجعها. متفق عليه. وعن عمر رضي الله عنه  أن رسول الله e طلق حفصة وراجعها. رواه أبو داود.

فإذا ما انقضت عدتها: لم يملك رجعتها؛ لقوله سبحانه: ]أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[.

وإن طلق قبل الدخول: فلا رجعة له؛ لأنه لا عدة عليها: فلا تربص في حقها يرتجعها فيه.

فصل:

ويملك رجعتها دون ولي ولا صداق لأن الرجعة إمساك، ويُشهِد على الرجعة؛ لقول الله تعالى: ]وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ[، وظاهر الأمر الوجوب.

فصل:

والرجعية: زوجة، مباحة لزوجها: فلها التزين والتشرف له، وله السفر بها، والخلوة معها، ووطؤها؛ لقوله الله تعالى: ]وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[، وهذه زوجة.

فصل:

وتحصل الرجعة بالوطء؛ قصد، أو لم يقصد.

ولا تحصل باستمتاعٍ سواه؛ من قُبْلَةٍ، أو لمس، أو نظر إلى محرم منها.

وأما الخلوة بها: فليست رجعة بحال.

فصل:

وألفاظ الرجعة: راجعتك، وارتجعتك؛ لورود السنة بهما في حديث ابن عمر.

ورددتك وأمسكتك؛ لورود الكتاب بهما، في قوله تعالى: ]أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ[، وقوله تعالى: ] فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ[.

فصل:

وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها بالقروء في زمن يمكن انقضاؤها فيه، أو بوضع الحمل الممكن؛ فأنكرها الزواج: فالقول قولها، لقول الله تعالى: ]وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ[؛ فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه.

فصل:

وإن ادعى الزوج رجعتها في عدتها؛ فأنكرته: فالقول قوله، لأنه يملك رجعتها، فقبل قوله فيه، كالطلاق.

فصل:

إذا طلق زوجته ثلاثاً، حرمت عليه، ولم تحل له.

فإذا ما نكحت زوجاً غيره بعقد صحيح ودخول وطلاق وانقضاء عدة حلت للزوج الأول؛ لقوله تعالى: ]فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[، ولما روت عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبَتَّ طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت رسول الله e، فقالت: إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير، فقالت: والله ما معه إلا مثل هدبة الثوب [أي لا ينتشر ذكره، ولا يتم الدخول الكامل]، فتبسم رسول الله e وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته. متفق عليه، فقد عُلِّق الحكم بذواق العسيلة.

واشترط أن يكون الوطء حلالاً؛ فلو وطئها في حيض، أو نفاس، أو صوم مفروض، أو إحرام: لم تحل.

فصل:

وإذا عادت المطلقة ثلاثاً إلى زوجها الأول، بعد زوج من الزوج الثاني وإصابة: ملك عليها ثلاث تطليقات.

 

كتاب الإيلاء

وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر؛ لقول الله تعالى: ]لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ[.

ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء.

ولا يصح من غير زوج، كمَن يولي من أجنبية ثم يتزوجها؛ لقوله تعالى: ]مِن نِّسَآئِهِمْ [.

فأما الإيلاء العاجز عن الوطء؛ فإن كان لسبب يرجى زواله؛ كالمرض، والحبس: صح إيلاؤه، وإن كان لسبب غير مرجو الزوال؛ كالجب، والشلل: لم يصح إيلاؤه.

فصل:

ويشترط لصحته أربعة شروط:

أحدها: الحلف بالله تعالى؛ لقوله تعالى: ]لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ[، والإيلاء: الحلف.

الشرط الثاني: أن يحلف على ترك الوطء بالفرج. وإن حلف على ترك الوطء في الدبر، أو دون الفرج، فليس بمؤل.

وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام:

أحدها: صريح في الظاهر والباطن، وهي قوله: والله لا آتيك، أو لا أدخل، أو أغيب، أو أولج ذكري، أو حشفتي، فهذه صريحة.

والقسم الثاني: صريحة في الحكم. وهي عشرة ألفاظ: لا وطئتك، لا جامعتك، لا أصبتك، لا باشرتك، لا مسستك، لا قربتك، لا أتيتك، لا اغتسلت منك، فهذه صريحة في الحكم.

القسم الثالث: كناية هو: ما عدا هذه الألفاظ، مما يحتمل الجماع وغيره، كقوله: لا جمع رأسي ورأسك شيء، فهذا لا يكون مؤلياً بها، إلا بالنية.

الشرط الثالث: أن يكون الحالف زوجاً مكلفاً، قادراً على الوطء.

الشرط الرابع: أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر؛ فإن حلف على أربعة فيما دونها: لم يكن مؤلياً؛ لقول الله تعالى: ]لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ[، فدل على أنه لا يكون مؤلياً بما دونها.

فإذا قال: والله لا وطئتك، كان مؤلياً، لأنه يقتضي التأبيد.

وكذلك إن قال: حتى تموتي أو أموت، لأنه للتأبيد.

وكذلك إن علقه على مستحيل فقال: حتى تطيري، ويشيب الغراب، ويبيض القار؛ لأن معناه التأبيد.

وإن علقه على فعل يقين، أو يغلب على ظنه، أنه لا يوجد في أربعة أشهر؛ كقيام الساعة، وخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، أو موت زيد، فهو مؤل؛ لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهراً، فأشبه ما لو صرح به.

وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي؛ فهو مؤل، لأنها لا تحبل من غير وطئه.

وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر؛ كجفاف بقل، أو ما يغلب على الظن وجوده قبلها؛ كنزول الغيث في أوانه، وقدوم الحاج في زمانه، أو ما يحتمل الأمرين على السواء، كقدوم زيد من سفر قريب: لم يكن مؤلياً؛ لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط، فلا يثبت حكمه.

فصل:

ولا يُطالَب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر، للآية.

وابتداء المدة من حين اليمين.

وإن وطئها: حنث وسقط الإيلاء؛ لزوال اليمين عنها، ولزمته الكفارة؛ لقول رسول الله e: مَن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. متفق عليه.

فصل:

وإن انقضت المدة ولم يطأ: فلها المطالبة بالفيئة، أو الطلاق؛ لقوله تعالى: ]لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[.

فإن سكتت عن المطالبة: لم يسقط حقها.

وإن عفت عنها: سقط حقها.

فصل:

وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين، فليس بمؤل، لأن الإيلاء من شرطه الحلف، فلا يثبت بدونه.

 

كتاب الظهار

وهو قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو ما أشبهه.

وهو محرم؛ لقول الله تعالى: ]الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا[.

ويصح من كل زوج يصح طلاقه.

فإن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها، أو قال: كل امرأة أتزوجها هي عليَّ كظهر أمي، ثم تزوجها: لم تحل له حتى يُكَفِّر.

وإن قال: أنت عندي، أو معي، أو مني، كظهر أمي: فهو ظهار.

وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال: أنت عليَّ كفرج أمي، أو يدها أو رأسها فهو ظهار؛ لأن غير الظهر، كالظهر في التحريم.

وإن شبه عضواً منها بظهر أمه، أو عضواً من أعضائها فقال: ظهرك عليَّ كظهر أمي، أو رأسك عليَّ كرأس أمي: فهو مظاهر؛ لأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فجاز تعليقه على يدها ورأسها.

فصل:

فإن قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي: فهو مظاهر.

فإن نوى به التشبيه في الكرامة، أو نحوها فليس بظهار، لأنه يحتمل مقاله.

وإن قال: أنت كأمي، أو مثلها: فليس بظهار إلا أن ينويه، وهكذا يتخرج في قوله: رأسك كرأس أمي، أو يدك كيدها، وما أشبه.

إلا إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار، كقوله: إن خرجت من الدار فأنت عليَّ كأمي، وشبهه: فهو ظهار؛ لأن القرينة صارفة إليه، وإلا لم يكن ظهاراً؛ لتردد الاحتمالات فيه.

فصل:

وإذا قالت المرأة لزوجها: أنتَ عليَّ كظهر أبي، لم تكن مظاهرة؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ[؛ فعلقه على الزوج.

فصل:

وإذا صح الظهار، ووُجِدَ العود: وجبت الكفارة؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[، والعود: العزم على الوطء، لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التماس بقوله سبحانه: ]ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا[.

باب كفارة الظهار

الواجب فيه تحرير رقبة.

فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين.

فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[.

وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة، قالت: تظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله e أشكو إليه، ورسول الله e يجادلني فيه، فما برحت حتى نزل القرآن: ]قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا[ فقال رسول الله e: يعتق رقبة قلت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين قلت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً.

فصل:

مَن قدر على الصيام: لزمه صيام شهرين متتابعين.

فإن شرع في أول شهر، أجزأ صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا، أو ناقصين.

فإن أفطر يوماً لغير عذر: لزمه استئناف الشهرين.

وإن حاضت المرأة وأنفست أو أفطرت لمرض مخيف، أو جنون، أو إغماء: لم ينقطع التتابع؛ لأنه لا صنع لها في الفطر.

وإن أفطر لسفر، لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر أشبه المرض.

وإن أفطر يوم فطر أو أضحى، أو أيام التشريق: لم ينقطع به التتابع، لأنه فطر واجب.

وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان، لم ينقطع التتابع، لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة.

فصل:

وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم: لزمه الاستئناف؛ لقول الله تعالى: ]فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا[، أمر بهما خاليين عن التماس، ولم يوجد.

فصل:

ومَن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال: لزمه إطعام ستين مسكيناً، لأن سلمة بن صخر لما أخبر رسول الله e بشدة شبقه، أمره بالإطعام، وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته: إنه شيخ كبير ما به من صيام.

فإن قدر على ستين مسكيناً: يطعم كل مسكين وجبتان؛ سحور وفطور.

كتاب اللعان

متى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى، فقال: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين: لزمه حد القذف؛ إلا أن يأتي ببينة، أو يلاعنها؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدةً[ إلى قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ[.

 دلت الآية الأولى على وجوب الحد، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء.

ودلت الآية الثانية: على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد.

روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال رسول الله e: البينة، وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ[. رواه البخاري.

فصل:

ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين؛ لعموم قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ[، ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف، ونفي النسب الباطل.

فصل:

ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول؛ لعموم قوله تعالى ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ[.

وبعد الطلاق الرجعي، لأن الرجعية زوجته، فتدخل في العموم.

ولا يصح من غير الزوجين، للآية.

باب صفة اللعان

وصفته: أن يقول الرجل بمحضر من القاضي أو نائبه: أشهد بالله إني لمن الصادقين، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، ويسميها مع ذكر نسبها إن كانت غائبة، ثم يقول: وإن لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا.

ثم تقول المرأة أربع مرات: أُشْهِد الله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، فإن كان غائباً سمته ونسبته، ثم تقول: وإنَّ غَضَبَ الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا.

لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ[. الآيات.

وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال رسول الله e: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت، فتلا عليهم آية اللعان، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب، فقال رسول الله e: لاعنوا بينهما، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتق الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ ففرق رسول الله e بينهما وقضى أن لا بيت لهما من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها.

فصل:

وشروط صحة اللعان ستة:

أحدها: أن يكون بمحضر من القاضي، أو نائبه.

الثاني: أن يكون بطلب واستحلاف من القاضي.

الثالث: كمال لفظاته الخمس.

الرابع: الترتيب على ما ورد به الشرع.

الخامس: الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع.

السادس: الإشارة من كل واحد إلى صاحبه، إن كان حاضراً، أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً، ليحصل التميز عن غيره.

فصل:

فإن كان بينهما ولد يريد نفيه: لم ينتف إلا بذكره في اللعان.

وتذكره المرأة في لعانها؛ لأنهما يتحالفان عليه، فاشترط ذكره في تحالفهما.

ولا بد من ذكره في كل لفظة، فإذا قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، يقول: وما هذا الولد ولدي، وتقول هي: هذا الولد ولده، في كل لفظة.

باب ما يوجب اللعان من الأحكام

وهي أربعة أحكام:

أحدها: سقوط الحد، أو التعزير الذي أوجبه القذف، لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها.

وإن نكل عن اللعان، أو عن تمامه، فعليه الحد.

فإن ضُرِب بعض الحدِّ، ثم قال: أنا ألاعن، سُمِعَ ذلك منه؛ لأن ما أسقط جميع الحد، أسقط بعضه.

ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها، سُمِعت منها؛ كالرجل.

وإن قذف امرأته برجل سماه: سقط حكم قذفه بلعانه؛ لأن اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بينة في الآخر كالشهادة.

الحكم الثاني: نفي الولد؛ وينتفي عنه بلعانه للحديث السابق.

الحكم الثالث: الفرقة، وفيها قولان:

أحدهما: لا تحصل، حتى يفرق الحاكم بينهما؛ لقول ابن عباس في حديثه: ففَرَّق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بينهما، وفي حديث عويمر: أنه قذف زوجته، فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . متفق عليه؛ فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان.

فعلى هذا: إن طلقها قبل التفريق، لَحِقَها طلاقه، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فَرَّق بينهما من غير استئذانهما.

والثانية: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما، لأن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على تفريق الحاكم.

وتفريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بينهما بمعنى: أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان.

وعلى كلا القولين: ففرقة اللعان فسخ.

الحكم الرابع: التحريم المؤبد يثبت؛ لما روى سهل بن سعد قال: مضت السنة في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً. رواه الجوزجاني.

وإن لاعنها في نكاح فاسد، أو بعد البينونة لنفي نسب: ثبت التحريم المؤبد؛ لأنه لعان صحيح، فأثبت التحريم.

فصل:

وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان: لزمه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، ويلحقه النسب، ولا يرتفع التحريم المؤبد.

فصل:

فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان: فلا حد عليها؛ لأن زناها لم يتثبت، ولأن الحد لا يقضى فيه بالنكول، بل يُدْرَأ بالشبهات، ولكن تحبس حتى تلتعن، أو تقر.

فصل:

أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لما روي أن عثمان رضي الله عنه  أُتِيَ بامرأة ولدت لدون ستة أشهر، فتشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس: أنزل الله تعالى: ]وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا[، وأنزل: ]وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[، فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر.

وأكثرها: سنة.

وغالب الحمل تسعة أشهر.

فصل:

وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني: فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان.

وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني: لم يلحق به، ولا بالأول، وانتفى عنهما بغير لعان.

فصل:

ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر: لحقه نسب ولدها، ولم يحل له نفيه؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال ـ حين نزلت آية الملاعنة ـ: أيما رجل جحد ولده ـ وهو ينظر إليها ـ: احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين. أخرجه أبو داود.

فصل:

وإن رآها تزني: فله قذفها.

وله أن يسكت، وفراقها ممكن بالطلاق، فيستغني عن اللعان.

وإن أقرت عنده بالزنا، فوقع في نفسه صدقها، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب: فله قذفها.

وإن لم ير شيئاً، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً يخرج من عندها من غير استفاضة: لم يكن له قذفها؛ لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً، أو سارقاً، أو ليراودها عن نفسها فمنعته؛ فلم يجز قذفها بالشك.

 

كتاب العدد

إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة: فلا عدة عليها بالإجماع؛ لقول الله سبحانه: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا[، ولأن العدة تجب لاستبراء الرحم، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل.

فإن فارقها بعد الدخول: فعليها العدة بالإجماع؛ لقول الله تعالى: ]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ[، ولأنه مظنة لاشتغال الرحم بالحمل؛ فتجب العدة لاستبرائه.

وإن طلقها بعد الخلوة: وجبت العدة؛ لما روى الإمام أحمد عن زرارة بن أبي أوفى رضي الله عنه  قال: قضى الخلفاء الراشدون أن مَن أرخى ستراً، أو من أغلق باباً: فقد وجب المهر، ووجبت العدة.

فصل:

والمعتدات ثلاثة أقسام:

الأول: معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه، مفارقة في حياة، أو بوفاة، لقول الله تعالى: ]وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[.

وروت سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما انقلبت من نفاسها، تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك، فقال: لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إذا بدا لي. متفق عليه.

ولأن براءة الرحم، لا تحصل في الحامل إلا بوضعه: فكانت عدتها به.

وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان: انقضت به عدتها؛ لأنه ولد.

ولا تنقضي العدة بما دون المضغة.

فصل:

القسم الثاني: معتدة بالقروء: وهي كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ـ غير حامل ـ ممن تحيض.

وعدتها ثلاثة قروء؛ لقول الله تعالى: ]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ[.

وفي القروء قولان:

أحدهما: الحيض، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تدع الصلاة أيام أقرائها. رواه أبو داود، وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: فإذا أتي قرؤك فلا تصلي، وإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء. رواه النسائي، ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء، فالظاهر أنها تكون كاملة، ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض.

والثاني: القروء: الأطهار؛ لقول الله تعالى: ]فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ أي في عدتهن، وإنما يطلق في الطهر.

فإذا قلنا: هي حيض، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة، لقوله تعالى: ]وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ[؛ فيتناول الكاملة.

وإن قلنا: هي الأطهار، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً، ولو بقي منه لحظة؛ لقوله تعالى: ]فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ[ أي في عدتهن، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به.

ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض، كيلا يضر بها، فتطول عدتها.

ومتى قلنا: القرء: الحيض فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة؛ لأن ذلك آخر القروء.

فصل:

القسم الثالث: المعتدة بالشهور، وهي نوعان:

أحدها: الآيسة من المحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها: فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقول الله تعالى: ]وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ[.

النوع الثاني: المتوفى عنها زوجها، إذا لم تكن حاملاً: فعدتها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول بها؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً. متفق عليه.

فصل:

وإن مات زوج المعتدة الرجعية: فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت، وتنقطع عدة الطلاق؛ لأنها زوجة متوفى عنها، فتدخل في عموم قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا[.

وإن كانت بائناً ـ غير وارثة لكونها مطلقة في صحته ـ بَنَت في حساب عدتها على عدة الطلاق؛ لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه؛ فلم يلزمها الاعتداد من وفاته، كما لو انقضت عدتها قبل موته.

وإن كانت وارثة كالمسلمة يطلقها زوجها في مرض موته: فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء، أو أربعة أشهر وعشر؛ لأنها مطلقة بائن؛ فتدخل في الآية، ومعتدة ترث بالزوجية؛ فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية.

فإن كان طلاقه قبل الدخول، أو موته بعد قضاء عدتها: فلا عدة عليها؛ لقول الله سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[، ولأن الأجنبية تحل للأزواج، فلم تلزمها العدة منه، كما لو تزوجت غيره.

فصل:

إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها: لم يخل من حالين:

أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة؛ كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة: فلا تزول الزوجية ما لم يُتَيَقَّن موتُه؛ لأن الزوجية كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك.

الثاني: أن يكون ظاهرها الهلاك، كالذي في مفازة هلك فيها بعض رفقته، أو يحدث حادث في مركب بري أو بحري أو جوي فيهلك بعض رفقته، وأشباه ذلك، فتتربص الزوجة أكثر مدة الحمل ـ إلا إذا علمت موته يقيناً ـ، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج.

وهل يعتبر ابتداء المدة من حين حكم الحاكم، أو من حين ينقطع خبره؟ على قولين:

أحدهما: من حين حكم الحاكم؛ لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم.

والثاني: من حين انقطع خبره؛ لأن ذلك ظاهر في موته.

فصل:

فإن قدم المفقود قبل تزوجها: فهي زوجته؛ لأننا تبينا حياته.

وإن قدم بعد تزوجها، وقبل دخوله بها، فكذلك.

وإن قدم بعد دخول الثاني بها: خُيِّر بينهما وبين صداقها؛ لإجماع الصحابة عليه.

فإن اختارها، فهي زوجته بالعقد الأول، ولم يحتج الثاني إلى طلاق؛ لأننا بينا بطلان عقده.

وإن اختار صداقها، فله ذلك، ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول.

وإن رجع الأول بعد موت الثاني: ورثت من الثاني، واعتدت، ورجعت إلى الأول.

فصل:

فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره: فلها النفقة والمسكن أبداً، سواء ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها، أو لم يضربها، لأنها باقية على حكم الزوجية.

وإن حكم لها القاضي بالفرقة: انقطعت نفقتها، لمفارقتها الزوجية حكماً.

فصل:

إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب، فعدتها من يوم مات، أو طلق.

وإن بلغها خبره، فعدتها من حين بلغها الخبر.

باب اجتماع العدتين

إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلاً آخر: لم تنقطع عدتها بالعقد؛ لأنه عقد فاسد.

فإن وطئها: انقطعت عدة الأول؛ لأنها صارت فراشاً للثاني، فلا تبقى في عدة غيره.

فإن فُرِّق بينهما: لزمها إتمام عدة الأول، وعدة الثاني، وتُقَدَّم عدة الأول لسبقها.

لما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، ولم يدخل بها الذي تزوجها: فُرِّقَ بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطباً من الخُطَّاب، وإن كان قد دخل بها: فَرَّق الحاكم بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولم ينكحها أبداً. رواه الشافعي في مسنده.

فإن كانت حاملاً من الأول، انقضت عدتها بوضع الحمل، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء.

وإن حملت من وطء الثاني، انقضت عدتها منه بوضع الحمل، ثم أتمت عدة الأول بالقروء، وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول.

فصل:

وتحرم على الزوج الثاني على التأبيد؛ لقول عمر رضي الله عنه: ثم لا ينكحها أبداً.

وروي أن علياً رضي الله عنه  قال: إذا انقضت عدتها، فهو خاطب من الخطاب، يعني الزوج الثاني، فقال عمر رضي الله عنه: رُدوا الجهالات إلى السنة، ورجع إلى قول علي رضي الله عنه .

فعلى هذا: كل معتدة من وطء في نكاح فاسد، أو وطء شبهة، لا يجوز للواطئ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها؛ لأنها معتدة من وطء، فحرمت قبل انقضاء عدتها.

فصل:

إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً رجعياً، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانياً، بَنَت على ما مضى من العدة؛ لأنهما طلاقان لا يتخللهما وطء ولا رجعة، فأشبه الطلقتين في وقت واحد.

وإن طلق الرجل زوجته، ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها، ففيه قولان:

أحدهما: تبني على العدة الأولى؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء، فأشبه ما لو لم يرتجعها.

والثاني: تستأنف عدة كاملة؛ لأنه طلاق نكاح صحيح، وطئ فيه، فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق.

وإن طلقها بعد دخوله بها، استأنفت العدة، وسقطت بقية الأولى.

وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها، وقلنا: ذلك رجعة، فقد عادت الزوجة، فإن طلقها بعد ذلك، استأنفت العدة، وسقط حكم العدة الأولى. وإن قلنا: ليس هو برجعة، فعليها أن تعتد للوطء، لأنه وطء بشبهة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من رجل واحد.

وإن كانت حاملاً، فهل تتداخل العدتان؟ فيه قولان:

أحدهما: يتداخلان؛ لأنهما من رجل واحد، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء، بوضع الحمل.

والثاني: لا تتداخلان؛ لأنهما من جنسين، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء.

وإن كانت حائلاً، فحملت من الوطء، وقلنا: يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل.

وإن قلنا: لا يتداخلان، انقضت عدة الوطء بالوضع ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء.

باب مكان المعتدات

وهن ثلاثة:

إحداهن: الرجعية، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها؛ لأنها تجب لحق الزوجية.

الثانية: البائن بفسخ، أو طلاق، تعتد حيث شاءت؛ لما روت فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فذكرت له ذلك، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم. متفق عليه.

الثالثة: المتوفى عنها زوجها، عليها أن تعتد في بيتها الذي كانت ساكنة به، حين توفي زوجها؛ لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أَعْبُدٍ ـ جمع عبد ـ له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن أرجع إلى أهلي؛ فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه، ولا نفقة، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً، فلما كان عثمان رضي الله عنه  أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به. رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.

فإن خافت هدماً أو غرقاً أو عدواً، أو حَوَّلها صاحب المنزل، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة: فلها الانتقال حيث شاءت؛ لأن الواجب سقط للعذر.

فصل:

ولا سكنى للمتوفى عنها، إذا كانت حائلاً.

وإن كانت حاملاً: فعلى قولين:

أحدهما: لا سكنى لها؛ لأن المال انتقل إلى الورثة؛ فلم تستحق عليهم السكنى.

والثانية: لها السكنى؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ[، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر فريعة بنت مالك بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها.

فإذا قلنا: لا سكنى لها، فتبرع الوارث بإسكانها، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها: لزمها السكنى به، وإن لم يوجد ذلك: سكنت حيث شاءت.

وإن قلنا: لها السكنى، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء، ولا يباع في دَينه حتى تنقضي عدتها، لأنه حق تعلق بعينه، فقُدِّمَت على سائر الغرماء، وإن تعذر ذلك المسكن، أو كان المسكن لغير الميت: استؤجر لها من مال الميت.

وللورثة إخراجها لطول لسانها، وأذاها لأحمائها بالسب؛ لقول الله تعالى: ]وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ[، فسره ابن عباس بما ذكرنا.

فصل:

وليس لها الخروج من منزلها ليلاً، ولها الخروج نهاراً لحوائجها؛ لما روى مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا، بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإن أردتن النوم، فَلْتَؤُب ـ أي ترجع ـ كلُ امرأة إلى بيتها.

وليس لها الخروج للحج؛ لأنه لا يفوت، والعدة تفوت.

فإن خرجت للحج، فمات زوجها وهي قريبة: رجعت؛ لأنها في حكم الإقامة.

وإن تباعدت، مضت في سفرها، لأن عليها في الرجوع مشقة؛ فلم يلزمها.

وإن خافت في الرجوع: مضت في سفرها ولو كانت قريبة؛ لأن عليها ضرراً في الرجوع.

وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها، ثم مات وخافت فواته: مضت فيه، لأنه أسبق.

وإن لم تخف فوته: مضت في العدة في منزلها؛ لأنه أمكن الجمع بين الواجبين، فلزمها ذلك.

وإن أحرمت بعد موته: لزمها الإقامة؛ لأن العدة أسبق.

فصل:

إذا أذن لها في السفر بغير نقلة؛ فخرجت، ثم مات: فحكمه حكم الخروج للحج.

وإن كانت لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان، فهي مخيرة بين البلدين؛ لأنه ليس واحد منهما مسكناً لها؛ لخروجها منتقلة عن الأول، وعدم وصولها إلى الثاني.

وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة: لزمها الإقامة به، وتعتد؛ لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه.

وإن كان سفرها لقضاء حاجة: فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها.

وإن كان لزيارة، أو نزهة وقد قَدَّر الزوج لها مدة الإقامة: أقامت ما قَدَّر لها، لأنه مأذون فيه، وإن لم يقدر لها مدة: فلها إقامة ثلاثة أيام؛ لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام.

باب الإحداد

وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة، وهو واجب في عدة الوفاة؛ لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيباً إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط، أو أظفار. متفق عليه.

وروت أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب ولا تكتحل. رواه أبو داود والنسائي.

ولا يجب الإحداد على الرجعية؛ لأنها باقية على الزوجية: فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها.

وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة قولان:

أحدهما: لا إحداد عليها؛ لأنها مطلقة أشبهت الرجعية.

والثاني: يجب عليها، لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها.

 

كتاب الرضاع

إذا ثاب للمرأة لبن على ولد، فأرضعت به طفلاً دون الحولين: صارت أمه، وهو ولدها في تحريم النكاح، وإباحة النظر، والخلوة، وثبوت الحرمية، وصارت أمهاتها جداته، وآباؤها أجداده، وأولادها إخوته، وأخواتها وإخوتها أخواله، وأخواتها خالاته لقول الله تعالى: ]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ... وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ[، نص على هاتين في المحرمات، فدل على ما سواهما، وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الرضاعة تُحَرِّم ما تحرم الولادة. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في ابنة حمزة: لا تحل لي، مَن يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة. متفق عليهما.

فصل:

وإن كان الولد الذي ثاب اللبن بولادته، ثابت النسب من رجل، صار الطفل ولداً له، وأولاده أولاد ولده، وصار الرجل أباً له، وآباؤه أجداده، وأمهاته جداته، وأولاده إخوته، وإخوانه وأخواته أعمامه وعماته؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أخيه، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك. متفق عليه.

فصل:

وتنتشر الحرمة من الولد إلى أولاده وإن سفلوا؛ لأنهم أولادُ أولادِ المرضعة.

ولا تنتشر إلى مَن هو في درجته وأعلى منه، كإخوته وأخواته، وأمهاته وآبائه، وأعمامه، وعماته، وأخواله، وخالاته: فللمرضعة نكاح أب الطفل وأخيه، ولزوجها نكاح أمه وأخته، ولإخوته وأخواته من النسب نكاح إخوته وأخواته من الرضاع؛ لأن حرمة النسب تختص به وبأولاده، دون إخوته وأخواته، ومن أعلى منه، كذلك الرضاع المتفرع عليه.

فصل:

ولا تثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين؛ لقول الله تعالى: ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ[؛ فجعل تمامها في الحولين، فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

فصل:

واختلفت أقوال الفقهاء في قدر المحرم من الرضاع، فروي:

أن قليله وكثيره يحرم؛ لقول الله تعالى: ]وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

وروي: أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا تحرم المصة ولا المصتان، وعن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتين. رواهما مسلم.

وروي: لا يتثبت التحريم إلا بخمس رضعات؛ لما روي عن عائشة قالت: أنزل في القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخ من ذلك خمس، وصار الأمر إلى خمس رضعات يحرمن، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  والأمر على ذلك. رواه مسلم.

فصل:

واختلف الأقوال في الرضعة.

ـ فمتى شرع في الرضاع وخرج الثدي من فيه، فهي رضعة؛ سواء قطع اختياراً، أو لعارض في تنفس، أو أمر يلهيه، أو انتقال من ثدي إلى آخر، أو قطعت المرضعة عليه؛ فإذا عاد: فهي رضعة ثانية.

ـ حد الرضعة: أن يمص ثم يمسك عن الامتصاص؛ لنَفَس، أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحرم المصة ولا المصتان، والإملاجة ولا الإملاجتان، يدل على أن لكل مصة أثراً.

ـ إن قطع لعارض، أو قُطِع عليه ثم عاد في الحال: فهما رضعة واحدة، وإن تباعدا، أو انتقل من امرأة إلى أخرى، فهما رضعتان؛ لأن الآكل لو قطع الأكل للشرب، أو عارض، وعاد في الحال، كان أكلة واحدة، فكذلك الرضاع.

فصل:

ويثبت التحريم بالوجور، وهو: أن يُصَب اللبن في حلقه؛ لأنه ينشز العظم وينبت اللحم، فأشبه الارتضاع.

ويثبت التحريم بالسعوط، وهو: أن يصب على أنفه؛ لأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلاً للتحريم بالرضاع، كالفم.

وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم. رواه أبو داود.

فصل:

إذا حلبت في إناء دفعة واحدة، أو في دفعات، ثم سقته صبياً في أوقات خمسة: فهو خمس رضعات.

وإن سقته في وقت واحد: فهو رضعة واحدة؛ لأن الاعتبار بشرب الصبي.

وإن سقته الجميع في وقت واحد جرعة بعد جرعة، فعلى القول الثاني هو رضعة واحدة.

وإن حلبت امرأتان في إناء واحد، وسقتاه صبياً في خمسة أوقات: صار ابنهما؛ لأن ذلك لا يزيد على اللبن المشوب، وهو ينشر الحرمة.

فصل:

واللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة.

فإن صُبَّ في ماء كثير لم يتغير به: لم يثبت التحريم؛ لأن هذا لا يسمى لبناً مشوباً، ولا ينشز عظماً، ولا ينبت لحماً.

فإن غلب اللبنُ: حَرَّم.

وإن غلب خلطًه: لم يُحَرِّم؛ لأن الحكم للأغلب، ويزول حكم المغلوب.

فصل:

ويحرم لبن الميتة، لأنه لبن آدمية ثابت على ولد، فأشبه لبن مَن هي على قيد الحياة.

وإن حلبته في إناء ثم سقي منه صبي بعد موتها، كان حكمه كحكم ما لو سقي في حياتها؛ لأنه انفصل عنها في الحياة.

فصل:

إذا ثاب للمرأة لبن من غير حمل، وقلنا: إنه ينشر الحرمة، فأرضعت به طفلاً، صار ابناً لها، ولم يصر ابناً لزوجها؛ لأنه لم يثبت بوطئه، فلم يكن منه.

فصل:

وإن طلق الرجل زوجته وهي ذات لبن منه، فتزوجت آخر، ولم تحمل منه، فاللبن للأول، سواء زاد اللبن بوطء الثاني، أو لم يزد؛ لأن اللبن للولد.

وإن ولدت من الثاني، فاللبن له وحده: انقطع لبن الأول أو اتصل، زاد أو لم يزد، لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره.

وإن لم تلد من الثاني، واتصل لبن الأول، وزاد بالحمل من الثاني: فاللبن منهما؛ لأن اتصال لبن الأول دليل على أنه منه، وزيادته عند حدوث الحمل، دليل على أنها منه، فيضاف إليهما.

فصل:

إذا أقر الزوج أن زوجته أخته من الرضاع: انفسخ نكاحه؛ لأنه مُقِرٌّ على نفسه.

ثم إن صدَّقته وكان قبل الدخول: فلا مهر لها؛ لأنه نكاح باطل لا دخول فيه.

وإن كذبته: لم يسقط صداقها، ولزمه نصفه؛ لأن الأصل الحل وصحة النكاح.

وإن كان بعد الدخول، فلها المهر بما استحل من فرجها.

وإن كانت هي التي قالت: هو أخي من الرضاع، فأكذبها؛ فهي زوجته في الحكم، ولم يُقْبَل قولها في فسخ نكاحه؛ لأنه حق له عليها، لكن إن طلقها قبل الدخول: فلا مهر لها؛ لاعترافها بسقوطه.

 

كتاب النفقات

باب نفقة الزوجات:

يجب على الرجل نفقة زوجته، وكسوتها بالمعروف إذا سلمت نفسها إليه، ومكنته من الاستمتاع بها؛ لما روى جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. رواه مسلم.

فإن امتنعت من تسليم نفسها، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع، أو في منزل دون منزل، أو في بلد دون بلد: فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد التمكين التام.

فصل:

وإن سلمت نفسها إليه وهو مجبوب، أو مريض لا يمكنه الوطء: وجبت النفقة.

وإن سلمت نفسها إليه وهي رقتاء، أو مريضة لا يمكن وطؤها: وحبت نفقتها؛ لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تُنْسَب إلى التفريط فيه.

فصل:

وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب، أو انتقلت من منزله: فلا نفقة لها.

وإن سافرت بإذنه، أو أحرمت بحج، أو عمرة في الوقت الواجب من الميقات: لم تسقط نفقتها؛ لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع.

فصل:

ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد، لأنه ليس بنكاح شرعي.

باب نفقة المعتدة

وهي سبعة أقسام:

أحدها: الرجعية؛ فلها النفقة والسكنى، لأنها باقية على الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع، أشبه ما قبل الطلاق.

القسم الثاني: البائن بفسخ الطلاق؛ فإن كانت حاملاً: فلها النفقة والسكنى؛ لقول الله تعالى: ]أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[.

وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه قولان:

أحدهما: للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط بعدمه.

والثاني: تجب لها بسببه؛ لأن النفقة على الحامل تجب مع الإعسار، ونفقة الولد لا تجب على معسر.

وإن كانت حائلاً: فلا نفقة لها؛ لدلالة الآية، بدليل خطابها على عدمها.

وفي السكنى قولان:

أحدهما: تجب؛ للآية.

والأخرى: لا تجب؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فذكرت له ذلك، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم. متفق عليه، وهو مفسر للآية.

القسم الثالث: المعتدة في الوفاة.

فإن كانت حائلاً: فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لأن ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع، وقد فات بالوفاة.

وإن كانت حاملاً، ففي وجوبهما قولان:

أحدهما: لا تجبان كذلك.

والثاني: تجبان؛ لأنها معتدة في نكاح صحيح، أشبهت البائن في الحياة.

القسم الرابع: المعتدة في اللعان.

فإن كانت حائلاً، أو منفياً حملها: فلا سكنى لها ولا نفقة؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فَرَّق بين المتلاعنين، وقضى: أن لا بيت عليها ولا قوت. رواه أبو داود.

وإن كانت حاملاً حملاً يلحقه نسبه: فلها السكنى والنفقة؛ لأن ذلك يجب للحمل، أو لسببه، وهو موجود.

القسم الخامس: المعتدة من وطء شبهة، أو نكاح فاسد، إذا فُرِّق بينهما: فلا سكنى لها بحال؛ لأنه إنما تجب بسبب النكاح، ولا نكاح هاهنا، ولا نفقة لها إن كانت حائلاً.

وإن كانت حاملاً، وقلنا بوجوب النفقة للحمل: وجبت؛ لأن الحمل هاهنا لاحق به، فأشبه الحمل في النكاح الصحيح، وإن قلنا تجب النفقة للحامل: فلا نفقة لها؛ لأن حرمته هاهنا غير كاملة.

القسم السادس: الزانية: لا نفقة لها، ولا سكنى بحال؛ لأنه لا نكاح بينهما، ولا يلحقه نسب حملها.

القسم السابع: زوجة المفقود: لها النفقة لمدة التربص، لأنها محبوسة عليه في بيته.

فإذا حكم لها بالفرقة: انقطعت نفقتها؛ لزوال نكاحها حكماً.

فإذا قدم فرُدَّت عليه: فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى، وإن لم ترد إليه: فلا نفقة لها بحال.

باب قدر النفقة

يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. متفق عليه، ولأن الله قال: ]وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، والمعروف: قدر الكفاية، ولأنها نفقة واجبة لدفع الحاجة: فتقدرت بالكفاية.

ويرجع في تقديرها إلى الحاكم: فيفرض لها قدر كفايتها من الطعام.

ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها، والماء والسدر لغسله، وما يعود بنظافتها؛ لأنه يراد للتنظيف: فيجب عليه، ولا يلزمه ثمن الخضاب؛ لأنه للزينة، فأشبه الحلي، ولا يلزمه ثمن الدواء وأجرة الطبيب؛ لأنه ليس من النفقة الراتبة، وإنما يحتاج إليه لعارض.

وتجب الكسوة؛ لأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام فلزمته.

ويجب المسكن، لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف والاستمتاع.

وإن كانت ممن لا تَخْدِم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة: وجب لها خادم؛ لقول الله تعالى: ]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وإخدامها من العشرة بالمعروف.

ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره؛ لقول الله تعالى: ]لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[.

وتعتبر حال المرأة أيضاً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.

وإنفاق الموسر نفقة المعسرين ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه.

فصل:

وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة.

فإن اتفقا على تعجيلها، أو تأخيرها، أو تسليفها النفقة لشهر، أو عام، أو أكثر: جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما، فجاز فيه ما تراضيا عليه.

فإن دفع إليها نفقة يوم؛ فبانت فيه: لم يرجع بما بقي؛ لأنها أخذت ما تستحقه.

وإن أسلفها نفقة أيام، ثم بانت: رجع عليها؛ لأنه غير مستحق لها.

فأما إن غاب عن زوجته زمناً لم ينفق عليها: فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، إن طلقوا: أن يبعثوا بنفقة ما مضى.

فصل:

وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله؛ لأنه العادة.

فإن تلفت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها: لزمه بدلها؛ لأن ذلك من تمام كسوتها.

وإن بليت قبله: لم يلزمه بدلها؛ لأنه لتفريطها، فأشبه ما لو أتلفتها.

فصل:

وإذا دفع إليها النفقة: فلها أن تتصرف فيها بما شاءت من بيع وصدقة وغيرهما؛ لأنها حق لها، فملكت التصرف فيها، إلا أن يعود ذلك عليها بضرر في بدنها، ونقص في استمتاعها، فلا تملكه؛ لأنه يفوت حقه.

فصل:

وإن نشزت المرأة: سقطت نفقتها؛ لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من استمتاعها، وقد فات ذلك بنشوزها.

وإن كان لها ولد: لم تسقط نفقته؛ لأن ذلك حق له، فلا تسقط بنشوزها.

باب قطع النفقة

إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر: فلها فسخ النكاح؛ لقول الله تعالى: ]فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[، وقد تعذر الإمساك بالمعروف، فيتعين التسريح بإحسان.

وإن أعسر ببعضها: فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها.

وإن أعسر بكسوة المعسر: فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، فأشبهت القوت.

فصل:

فإن مَنَع النفقة من يساره وغناه، وقَدِرت له على مال: أخذت منه قدر كفايتها بالمعروف؛ لما روي أن هنداً جاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. متفق عليه.

وإن منعها بعض الكفاية: فلها أخذه، كما لها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير.

فإن لم تجد ما تأخذه، رفعت أمرها إلى القاضي، ليأمره بالإنفاق، أو الطلاق.

فإن أبى، حبسه.

فإن صبر على الحبس، وقدر الحاكم على ماله: أنفق منه.

وإن لم يجد إلا عروضاً: باعها وأنفق منها.

فإن تعذر ذلك: فلها الفسخ.

وإن كان الزوج غائباً: كتب القاضي إليه، كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم.

فإن لم يعلم خبره، أو تعذرت النفقة منه، ولم يوجد له مال: فلها الفسخ.

ومَن كان له دَين يتمكن من استيفائه، فهو كالموسر لأنه قادر عليه.

وإن لم يتمكن من استيفائه فهو كالمعدوم؛ لأنه عاجز عنه.

فصل:

ومتى ثبت لها الفسخ، فرضيت بالمقام معه: ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر؛ من الطعام، والكسوة، والمسكن، والخادم، تطالبه بها إذا أيسر، لأنها حقوق واجبة عجز عنها، فثبتت في ذمته كالدَّين.

وإن اختارت الفسخ، احتاج الأمر إلى حكم قاضٍ.

فصل:

إذا ادعى الزوج، أنه دفع إليها نفقتها؛ فأنكرته: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض.

وإن مضت مدة لم ينفق فيها؛ فادعت أنه كان موسراً، فأنكرها ولم يُعْرَف له مال قبل ذلك: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه، وإن عُرِف له مال: فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاء المال.

وإن ادعت أن مكَّنته من نفسها تمكيناً موجباً للنفقة فأنكرها: فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه.

باب نفقة الأقارب

وهما صنفان:

الصنف الأول: عمود النسب؛ وهم الولدان، وإن علوا، والولد وولده وإن سفل: فتجب نفقتهم؛ لقول الله تعالى: ]وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[، ومن الإحسان الإنفاق عليهما، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، وقال الله تعالى: ]وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.

فثبتت نفقة الوالدين والولد بالكتاب والسنة.

وثبتت نفقة الأجداد، وأولاد الأولاد؛ لدخولهم في اسم الآباء، والأولاد، قال الله تعالى: ]مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ[، وقال تعالى: ]يَا بَنِي آدَمَ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الحسين: إن ابني هذا سيد، وسواء كان وارثاً، أو غير وارث.

ومَن منع دفع الزكاة إليهم لقرابتهم، يجب أن تلزمه نفقتهم.

الصنف الثاني: كل مورث سوى مَن ذكرنا، وسوى الزوج؛ لقول الله تعالى: ]وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ[، فقد أوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي، فيجب أن تلزمه نفقته، وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أبرُ؟ قال: أمك وأبوك، وأختك وأخوك، ومولاك الذي يلي ذاك: حق واجب، ورحم موصول. رواه أبو داود، ولأنها قرابة تقتضي التوريث، فتوجب الإنفاق، كقرابة الولد.

فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفَرْض ولا تعصيب: فلا نفقة عليهم في المنصوص، وامتناع قياسهم على المنصوص؛ لضعف قرابتهم.

فصل:

ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط:

أحدها: فَقْر مَن تجب نفقته؛ فإن استغنى بمال، أو كسب: لم تجب نفقته؛ لأنها تجب على سبيل المواساة؛ فلا تستحق مع الغنى عنها.

الثاني: أن يكون للمنفِق ما ينفِق عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه وزوجته؛ لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ابدأ بنفسك، ثم بمَن تعول. قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأن نفقة القريب مواساة، فيجب أن تكون الفاضلَ عن الحاجة الأصلية، ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية، وكذلك نفقة زوجته، لأنها تجب لحاجته، فأشبهت نفقة نفسه، وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته، تُقَدَّم كذلك.

الثالث: اتفاقهما في الدين؛ فلا يجب على الإنسان الإنفاق على مَن ليس على دينه؛ لأنه لا ولاية بينهما، ولا يرث أحدهما صاحبه.

فصل:

ولا يشترط في وجوب النفقة: نقصان الخلقة؛ بمرض مزمن، أو صغر، أو جنون؛ لعموم الحديث.

ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب النفقة عليه، بل يجب على الصبي والمجنون، نفقة قريبهما إن كانا موسرين، لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما.

فصل:

ومَن كان له أب: لم تجب نفقته على غيره؛ لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى: ]فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ[، وقوله سبحانه: ]وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  هنداً: أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم.

فإن لم يكن لهم أب، ولم يكن له إلا وارث واحد: فالنفقة عليه.

وإن كان له وارثان: فالنفقة عليهما على قدر إرثهما.

فإذا كان لهم أم وجد: فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان.

وإن كان له جدة وأخ: فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ.

وإن كان له أخوان، أو أختان: فالنفقة عليهما نصفين.

وإن كان له أخ وأخت: فالنفقة عليهما أثلاثاً.

وإن كان له أخت وأم: فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة، وعلى الأم الخمسان.

وإن كان له من الورثة ثلاثة، أو أكثر، فنفقته عليهم على قدر إرثهم.

وإن اجتمع أم أم، وأبو أم: فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة.

فصل:

ومَن كان وارثه فقيراً، وله قريب موسر محجوب به، كعم معسر، وابن عم موسر، وأخ فقير، وابن أخ موسر: فلا نفقة على الموسر؛ لأنه علة وجوب النفقة الإرث، فيسقط بحجبه، كما يسقط ميراثه.

فصل:

ومَن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة: بدأ بالأقرب فالأقرب؛ لأنه أولى.

فإذا كان له أب وجد: فالنفقة للأب.

وإن كان له ابن، وابن ابن: فهي للابن.

وإن اجتمع أب وابن صغير: فالنفقة للابن.

وإن كان الابن كبيراً، ففي المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: يقدم الابن.

والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد.

والثالث: هما سواء؛ لتساويهما في القرب لأن كل واحد يدلي بنفسه.

وإن اجتمع أبوان، ففيهما ثلاثة أقوال:

أحدها: هما سواء؛ لتساويهما في القرابة.

والثاني: الأم الأحق؛ لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله مَن أبرُ؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أباك.

والثالث: الأب؛ لأنه ساواه في القرابة وهي الولادة، وانفرد بالتعصيب.

وإن اجتمع أخ وجد، احتمل: أن يقدم الجد؛ لأنه آكد حرمة، وقرابته قرابة ولادة، ويحتمل تساويهما؛ لتساويهما في التعصيب والإرث.

وإن كان مع الجد عم، أو ابن عم: قُدِّم الجد؛ لتقديمه في الحرمة والإرث.

فصل:

وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية.

فصل:

ويلزمه إعفاف أبيه، وجده، وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنه يحتاج إليه ويضره فقده؛ فأشبه النفقة.

وإن أعفه بزوجة فطلقها: لم يلزمه إعفافه ثانياً؛ لأنه ضَيَّع على نفسه.

فصل:

وإن احتاج الطفل إلى الرضاع: لزمه إرضاعه؛ لأن الرضاع من حق الصغير كنفقة الكبير.

ولا يجب إلا في حولين؛ لقول الله تعالى: ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ[.

 فإن امتنعت الأم من رضاعه: لم تجبر؛ سواء كانت في حبال الأب، أو مطلقة؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى[، ولأنها لم تُجْبَر على نفقة الولد مع وجود الأب، فلا تجبر على الرضاع، إلا أن يضطر الرضيع إليها، ويخشى عليه الهلاك: فيلزمها إرضاعه؛ كما لو لم يكن له أحد غيرها.

ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة، أو بأجرة مثلها: فهي أحق به؛ سواء وَجَدَ الأبُ متبرعةً برضاعه، أو لم يجد؛ لقول الله تعالى: ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ[ إلى قوله: ]وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وقوله سبحانه: ]فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ[، ولأنها أحق بحضانته، فوجب تقديمها.

وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها: لم يلزمه ذلك، ويسقط حقها؛ لأنها أسقطته باشتطاطها، ولأن ما لا يوجد بثمن المثل كالمعدوم.

وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل، فمنعها زوجها من رضاع ولدها سقط حقها.

وإن أذن لها: فهي على حقها من ذلك.

فصل:

وتفارق نفقةُ القريبِ نفقةَ الزوجة في أربعة أشياء:

أحدها: أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار؛ لأنها بدل، ونفقة القريب مواساة: فلا تجب إلا من الفاضل الزائد عن الحاجة؛ لقول الله تعالى: ]وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ[.

الثاني: أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي، لأنها بدل، ونفقه القريب لا تجب لما مضى؛ لأنها وجبت لإحياء النفس.

الثالث: إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها، أو كسوة عامها، فمضت المدة ولم تتصرف فيها، فعليه ما يجب للمدة الثانية، والقريب بخلاف ذلك.

والرابع: أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب ليومها، أو لعامها، فسُرِق، أو تلف: لم يلزمه عوضه، والقريب بخلافه.

 

باب الحضانة

إذا افترق الزوجان وبينهما طفل، أو مجنون: وجبت حضانته؛ لأنه إن تُرِك ضاع وهلك فيجب إحياؤه.

وأحق الناس بالحضانة: الأم؛ لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه  قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لأمه أم عاصم، وقال لعمر: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد، واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكر، فكان إجماعاً، ولأن الأم أقرب وأشفق، ولا يشاركها في قربها إلا الأب، وليس له شفقتها، ولا يلي الحضانة بنفسه.

فإن عدمت الأم، أو لم تكن من أهل الحضانة: فأحقهم بها أمهاتها الأقرب فالأقرب، لأنهن أمهات.

ولا يشاركهن إلا أمهات الأب، وهن أضعف منهن ميراثاً.

ثم الأب، لأنه أحد الأبوين، ثم أمهاته وإن علون.

ثم الجد، ثم أمهاته.

وفي قول: أن الخالة، والأخت من الأم، أحق من الأب؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الخالة أم.

فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت إلى الأخت من الأبوين.

ثم الأخت من الأب، لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين، وترث ميراثها.

ثم الأخت من الأم، ثم الأخ للأبوين، ثم الأخ للأب، ثم بنوهم.

ثم العمات، وتقدم التي من الأبوين، ثم التي من الأب، ثم التي من الأم.

ثم الأعمام، ثم بنوهم.

فصل:

ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت أجنبياً من الطفل؛ لما روى عبد الله بن عمر بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحِجْري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي. رواه أبو داود.

ومتى زال المانع بأن طلقت المرأة المزوجة، عاد حقها من الحضانة.

فصل:

وإذا بلغ الغلام سبعاً وهو غير معتوه: خُيِّر بين أبويه؛ فكان مع مَن اختار منهما، لما روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقالت: يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني، وقد سقاني ـ أي ولدي ـ من بئر أبي عنبة ـ كناية عن نضجه ـ، وقد نفعني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به.

فإن لم يختر واحداً منهما، أو اختارهما معاً: قُدِّم أحدهما بالقرعة؛ لأنهما تساويا وتعذر الجمع، فصرنا إلى القرعة.

وإن اختار الأم، أو صار لها بالقرعة: كان عندها ليلاً، ويأخذه الأب نهاراً، ليسلمه في مكتب أو صناعة؛ لأن القصد حظ الولد.

وإن اختار أباه: كان عنده ليلاً ونهاراً، ولا يُمْنَع من زيارة أمه؛ لما في المنع من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم.

وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه صار كالصغير في حاجته إلى مَن يقوم بأمره.

وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر: لم يُمْنَع من عيادته وحضروه عنده.

وإن اختار أحدهما، ثم عاد فاختار الآخر: سُلِّم إليه.

ثم إن اختار الأول: رُدَّ إليه؛ لأن هذا اختيار تَشَهٍ؛ وقد يشتهي أحدهما في وقت دون وقت فأتبع ما يشتهيه، كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب.

وإن لم يكن له أب: خُيِّر بين أمه وعصبته؛ لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي، وأراد أن يأخذني، فاختصما إلى علي رضي الله عنه ، فخيرني علي رضي الله عنه  ثلاث مرات، فاخترت أمي، فدفعني إليها.

فصل:

وإذا بلغت الجارية سبعاً: تركت عند الأب بلا تخيير؛ لأن حظها في الكون عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى الحفظ، والأب أولى به، ولأنها تقارب الصلاحية للتزويج، وإنما تخطب من أبيها، لأنه وليها، وتكون عنده ليلاً ونهاراً، ولا تمنع الأم من زيارتها.

فصل:

وإن كان الولد بالغاً رشيداً: فلا حضانة عليه.

والخيرة إليه في الإقامة عند من شاء منهما.

فصل:

وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر، والآخر الإقامة، والطريق أو البلد الذي يسافر إليه مخوف، أو كان السفر لحاجة ثم يعود: فالمقيم من الوالدين أحق بالولد؛ لأن في السفر ضرراً، وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له، ومشقة عليه.

وإن كان السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن: فالأب أحق بالولد؛ لأن كونه مع أبيه أحفظ لنسبه، وأحوط عليه، وأبلغ في تأديبه وتخريجه.

وإن انتقلا جميعاً: فالأم على حقها من الحضانة.

وإن كانت النقلة إلى مكان قريب؛ بحيث يمكن الأبَ رؤيتُهم كل يوم: فالأم على حضانتها؛ لأن مراعاة الأب له ممكنة.

 

كتاب الأيمان

جمع يمين، وهو الحلف.

لا تنعقد اليمين إلا من مختار.

فأما الصبي، والمجنون، والنائم: فلا تنعقد أيمانهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رُفِع القلم عن ثلاثة. الحديث.

وفي السكران قولان؛ بناء على طلاقه.

ولا تنعقد يمين المكره؛ لأنه قول أكره عليه بغير حق: فلم يصح.

فصل

واليمن على أربعة أضرب.

الأول: يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها: وهي اليمن على مستقبل متصور، عاقداً عليه قلبه؛ فتوجب الكفارة؛ لقول الله تعالى: ]وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ[.

الضرب الثاني: لغو اليمين: فلا كفارة فيه؛ لقول الله تعالى: ]لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْو فِي أَيْمَانِكُمْ[، واللغو: نوعان:

أحدهما: أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد إليها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله. رواه البخاري وأبو داود.

والثاني: أن يحلف على شيء، يظنه كما حلف، فيتبين بخلافه، وفي هذا النوع: الكفارة؛ لأن ظاهر حديث عائشة حصر اللغو في النوع الأول.

الضرب الثالث: يمين الغموس، وهي التي يحلفها كاذباً، عالماً بكذبه: فلا كفارة فيها؛ لأنها يمين غير منعقدة لا توجب براً.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: خمس من الكبائر لا كفارة لهن، ذكر منن: الحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم.

وفي قول: أن الكفارة تجب فيها؛ لأنه حالف مخالف مع القصد: فلزمته الكفارة.

الضرب الرابع: أن يحلف على مستحيل؛ كصوم أمس، وشرب ماء إناء لا ماء فيه: فلا كفارة فيها؛ لأنها غير منعقدة، لعدم تصور البر فيها؛ كيمين الغموس.

وإن حلف على مستحيل عادة؛ كإحياء الميت، وقلب الأعيان: ففيها كفارة؛ لأنه متوهم التصور.

فصل

إن استثنى عقيب يمينه، فقال: إن شاء الله لم يحنث؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن حلف، فقال: إن شاء الله لم يحنث. رواه أبو داود.

ويشترط في الاستثناء أن يكون متصلاً باليمين، ولا ينفصل بينهما بكلام أجنبي، ولا سكوت يُمْكِن الكلام فيه؛ لأن الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به.

وفي قول: يجوز الاستثناء ما لم يطل الفصل؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لأغزون قريشاً، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله. رواه أبو داود.

فصل

ولا تنعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته؛ لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمَن كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت. متفق عليه، وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن حلف بغير الله فقد أشرك. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

فلو حلف بالكعبة، أو بنبي، أو عرش، أو كرسي، أو غير ذلك: لم تنعقد يمينه.

فصل

وأسماء الله ثلاثة أقسام:

أحدها: ما لا يشارك الله تعالى فيه غيره، نحو: الله، والرحمن، ومالك يوم الدين، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت: فالحلف بها يمين بكل حال.

الثاني: ما يسمى به غير الله، وإطلاقه ينصرف إليه؛ كالملك، والجبار، والسلطان، والرحيم، والقادر: فهذا إن نوى اليمين، أو أطلق؛ كان يميناً، لأنه بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله: لم يكن يميناً؛ لأنه نوى ما يحتمله.

وإذا قال: والخالق والرزاق، والرب: كان يميناً بكل حال؛ لأنها لا تستعمل مع لام التعريف، إلا في اسم الله تعالى، فأشبهت القسم الأول.

الثالث: ما لا ينصرف بالإطلاق إلى اسم الله تعالى؛ كالحي، والعالم، والموجود، والمؤمن، والكريم: فهذا إن أطلق؛ لم يكن يميناً، لأنه لا ينصرف مع الإطلاق إليه، وإن قصد باليمين اسم الله، كان يميناً.

فصل

صفات الله تعالى تنقسم قسمين:

أحدهما: ما هو صفة لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها؛ كعظمة الله، وعزته، وجلاله، وكبريائه: فالقَسَم بها يمين منعقدة؛ لأنها صفة من صفات ذات الله لم يزل موصوفاً بها، أشبهت أسماءه.

والثاني: ما هو صفة حقيقية، ويعبر به عن غير ذلك مجازاً؛ كعلم الله وقدرته.

فإن أطلق كان يميناً.

فإن نوى بعلم الله معلومه، وبقدرته مقدوره، فهو يمين؛ لأنه موضوع لليمين، فلا يقبل منه غيره.

وإن أقسم بحق الله: كان يميناً؛ لأنه إذا اقترن به عرف الاستعمال باليمين، انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة، والكبرياء، فأشبه قدرة الله.

وإن قال: لَعَمْرُ الله كان يميناً؛ لأنه أقسم بصفة من صفات الله، فهو كالحالف ببقاء الله، وقد ثبت لها عرف الاستعمال، قال الله تعالى: ]لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[.

وإن حلف بالقرآن، أو بكلام الله: فهي يمين منعقدة؛ لأن كلام الله صفة من صفاته، والقرآن هو كلام الله.

وإن حلف بسورة من القرآن: فهي يمين؛ لأنها من القرآن.

وكذلك إن حلف بالمصحف؛ لأن القرآن فيه، قال الله تعالى: ]إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ[.

وإن حلف بعهد الله، أو ميثاقه، أو أمانته: فهو يمين؛ لأنه يحتمل كلام الله الذي أمرنا به ونهانا؛ كقول تعالى: ]أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ[، وقرينة الاستعمال صارفة إليه.

وإن قال: والعهد، والميثاق، والأمانة؛ ونوى ذلك: كان يميناً.

فصل

وحروف القسم ثلاثة:

الباء، وهي الأصل تدخل على الاسم المظهر والمضمر.

والواو، وهي بدل منها تدخل على الاسم المظهر وحده.

والتاء، هي بدل من الواو، وتدخل على اسم الله تعالى وحده.

فبأيها أقسم كان قسماً صحيحاً.

وإن أقسم بغير حرف، فقال: اللهَ لأقومن ـ بالنصب ـ، أو اللهِ لأقومن ـ بالجر ـ: كان صحيحاً، وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لركانة بن عبد يزيد: اللهَ ما أردت إلا واحدة. قال: الله ما أردت إلا واحدة.

فإن قال: اللهُ ـ بالرفع ـ لأقومن؛ ونوى اليمين: كان يميناً مع لحنه.

وإن لم يرد اليمين لم يكن يميناً؛ لأنه لم يأت بالموضوع، ولا قصده.

وإن قال: أشهد بالله، أو أقسم بالله، أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت بالله، أو أعزم بالله، وعزمت بالله؛ ونوى اليمين، أو أطلق: كان يميناً؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع والاستعمال.

فإن قصد بذلك الخبر عما يفعله ثانياً، أو عما فعله ماضياً: لم يكن يميناً.

وإن قال: قسماً بالله، فهو يمين؛ لأن تقديره: أقسمت قسماً.

فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت: لأفعلن؛ ونوى اليمين بالله: فهو يمين؛ لأنه نوى ما يحتمله مما هويمين.

فصل

وإن حَرَّم على نفسه شيئاً، فقال ما أحل الله عليَّ فهو حرام: فهي يمين؛ سواء أطلق ذلك، أو عَلَّقَه على شرط؛ لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا رسول الله لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[. يعني: التكفير عن الأيمان.

قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يمكث عند زينب، ويشرب عندها عسلاً، فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحدانا، فقالت ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلاً، ولن أعود له، فنزلت: ]يَا أَيُّهَا رسول الله لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ[. متفق عليه.

وإن حلف بالخروج من الإسلام، فقال: هو بريء من الإسلام، أو كافر، أو يهودي، إن فعل: أَثِم؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن حلف بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً؛ فهو كما قال. متفق عليه، وفي لفظ: مَن حلف أنه بريء من الإسلام؛ فإن كان قد كذب فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يرجع إلى الإسلام سالماً.

وهل تنعقد يمينه موجبة للكفارة؟ فيه قولان:

أحدهما: تنعقد؛ لما روى عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، في هذه الأشياء، قال: عليه كفارة يمين.

والثاني: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف باسم الله، ولا صفته.

وإن حلف باستحلال الزنا والخمر، أوترك الصلاة، أو الصيام: فهو كالحالف بالكفر؛ لأن ذلك كفر.

وإن حلف بقتل النفس التي حرم الله ومعصيته في كل ما أمر، أو لعن نفسه: فلا كفارة فيه؛ لأنه لا يوجب الكفر.

فصل

وإن حلف رجل، فقال آخر: يميني في يمينك، يريد أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك: لم تنعقد يمينه؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية.

وإن كان ذلك في الطلاق: انعقدت يمينه؛ لأن الطلاق ينعقد بالكناية.

فصل

والحالف مخير في يمينه بين البر، وبين التكفير.

ولا يحرم المحلوف عليه بها؛ لقول رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها: فأتِ الذي هو خير، وكَفِّر عن يمينك.

وإن فعل المحلوف عليه ناسياً، أو مكرهاً أو جاهلاً: لم يحنث؛ لقول الله تعالى: ]وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. رواه ابن ماجه والدارقطني، ولأنه غير قاصد للمخالفة، فلم يحنث، كالنائم.

باب كفارة اليمين

مَن حلف، فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده، سواء كانت الكفارة صوماً أو غيره؛ لما روى عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة، إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها: فكَفِّر عن يمينك، وأتِ الذي هو خير. متفق عليه، وفي لفظ: ثم أتِ الذي هو خير. رواه أبو داود.

فصل

وهو مخير في أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة.

فإن لم يجد: صام ثلاثة أيام؛ لقول الله تعالى: ]لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[.

وقد شرحنا العتق، والإطعام في كفارة الظهار.

فأما الكسوة: فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين.

وتقدَّر الكسوة بما يجزئ في الصلاة، وهو ثوب للرجل، وللمرأة درع وخمار يستر جميعها.

وتجزئه كسوتهم من القطن، والكتان، والصوف، وسائر ما يسمى كسوة؛ لأن الله تعالى لم يعين جنسها، فوجب أن لا يتعين.

وتجوز كسوتهم من الجديد واللبيس؛ إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس: فلا يجزئ، لأن ذلك معيب.

وإن كسا بعض المساكين من جنس، وباقيهم من جنس آخر، أو أطعمهم من جنس: جاز؛ لأنه قد أطعم وكسا عشرة: فجاز.

وإن أطعم بعضهم، وكسا باقيهم: جاز؛ لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب؛ فأجزأ.

ويشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة، لقراءة أُبَيٍّ وابن مسعود رضي الله عنهم: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)؛ فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون خبراً.

وفي قول: لا يشترط؛ لأن الأمر بها مطلق، فلم يجز تقييده بغير دليل.

فصل

ومَن حلف أيماناً كثيرة على شيء واحد؛ فحنث: لم يلزمه أكثر من كفارة؛ لأنها أسباب كفارات من جنس، فتداخلت.

وإن حلف يميناً واحدة على أفعال مختلفة؛ فحنث في الجميع: أجزأه كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة.

وإن حنث بفعل واحد: انحلت يمينه في الباقي.

وإن حلف أيماناً على أفعال، فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست: ففيه قولان:

أحدهما: يجزئه عن الجميع كفارة واحدة؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت.

والثاني: يجب في كل يمين كفارة؛ لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارتها.

ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة؛ كالظهار، واليمين بالله: لزمته في كل يمين كفارتها؛ لأنها أجناس فلم تتداخل.

باب جامع الأيمان

مبنى الأيمان على النية.

فمتى نوى بيمينه ما يحتمله: تعلقت يمينه بما نواه، دون ما لفظ به، سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: وإنما لكل امرئ ما نوى.

فلو حلف ليأكلن لحماً، أو فاكهة، أو ليشربن ماء، أو ليكلمن رجلاً، أو ليدخلن داراً، أو لا يفعل ذلك؛ وأراد بيمينه شيئاً مُعَيَّناً: تعلقت يمينه به دون غيره.

وإن نوى الفعل، أو الترك في وقت بعينه، اختص بما نواه.

وإن حلف: لا يلبس شيئاً من غزلها، يريد قطع منتها، فباعه وانتفع بثمنه: حنث ولا يتعدى الحكم إلى كل ما فيه منة؛ لأن لكونه من غزلها أثراً في داعية اليمين، فلم يجز حذفه.

وإن حلف: لا يأوي معها في دار، ينوي جفاءها، ولم يكن للدار أثر في القصد، فأوى معها في غيرها: حنث، ولا يحنث بصلتها بغير الإيواء؛ لأن له أثراً فلا يحذف.

وإن قال: إن رأيتك تدخلين الدار، فأنت طالق؛ يقصد منعها الدخول بالكلية: حنث بدخولها وإن لم يرها، وإن لم يرد ذلك: لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعاً للفظه.

وإن حلف: ليقضينه حقه في غد، يريد ألا يتجاوزه بالقضاء، فقضاه قبله: لم يحنث.

وإن حلف: لا يبيع ثوبه بمئة، يريد ألا ينقصه؛ فباعه بأقل: حنث.

وإن حلف لا يتزوج: حنث بالعقد الصحيح.

وإن حلف ليتزوجن: بَرَّ بذلك، إلا أن يقصد بيمينه غيظ زوجته، أويكون سبب يمينه يقتضي ذلك، فلا يبر إلا بتزويج يغيظها.

من حلف ليتزوجن على امرأته: لا يبر حتى يتزوج نظيرتها، ويدخل بها.

فصل

وإن تأول الظالم في يمينه: لم ينفعه تأويله؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يمينك على ما يصدقك به صاحبك. رواه مسلم وأبو داود.

وإن كان مظلوماً: فله تأويله.

وإن كان الحالف ظالماً: فالنية نية الذي أحلفه؛ لما روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدوله، فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت: أنه أخي، فخُلِّى سبيلُه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرنا ذلك له، فقال: أنت كنت أبرَّهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم.

وإن لم يكن ظالماً، ولا مظلوماً، فله تأويله كذلك، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يمزح ولا يقول إلا حقاً، وقال لرجل: إنا حاملوك على ابن ناقة، فقال الرجل: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق‍. رواه أبو داود.

فصل

مَن حلف، لا أكلت هذا الرطب، أو هذا العنب؛ فصار دبساً، أو خلاً، أو ناطفاً، أو: لا أكلت هذا الحمل؛ فصار كبشاً، أو: لا أكلت هذا البر؛ فصار دقيقاً، أو خبزاً، أو هريسة، فأكل منه: حنث.

وإن حلف: لا كلمت هذا الصبي؛ فصار شيخاً، فكلمه، أو: لا دخلت هذه الدار، فصارت فضاء، أو مسجداً؛ فدخلها، أو: لا لبست هذا الرداء؛ فلبسه قميصاً، أو سراويل، أو اعتم به، أو: لا ركبت هذه السفينة؛ فنقضت، ثم أعيدت وركبها، أو: لا كلمت زوجة فلان هذه، ولا عبده هذه، أو: لا دخلت داره هذه، أو: لا كلمت بكراً عند زيد، ولا هنداً زوجته، أو: لا كلمت زيداً سيد بكر، أو زوج هند، أو زيداً، صديق سعد؛ فزال ملكه عنهن، وفعل ما حلف عليه: حنث؛ لأن عين المحلوف عليه باقية؛ فحنث به.

كما لو حلف: لا أكلت هذا الكبش؛ فذبحه، وأكل من لحمه.

وإن استحالت العين؛ مثل أن حلف على هذا البُر؛ فصار زرعاً، أو بيضة؛ فصارت فرخاً، أو على خمر؛ فصار خلاً: لم يحنث؛ لأن الأعيان استحالت، فزال حكم اليمين.

ومتى كانت نية الحالف على شيء مقيد بصفة: تقيدت يمينه بذلك.

فصل

إن عُدِم التعيين: تعلقت يمينه بما تناوله الاسم، والأسماء ثلاثة أقسام:

أحدها: الأسماء العرفية، وهي أسماء اشتهر في العرف استعمالها في غير موضوعها، وهي أربعة أنواع:

أحدها: ما صارت الحقيقة فيه مغمورة، لا يعرفها أكثر الناس؛ كالغائط والعذرة: للفضلة المستقذرة، وحقيقة الغائط: المكان المطمئن، والعذرة: فناء الدار.

فهذا تنصرف اليمين عليه إلى الاسم العرفي دون الحقيقي؛ لأنه يُعْلَم أنه لا يريد غيره، فصار كالمصرح به.

ولو حلف: لا يأكل شواء اختصت يمينه اللحم المشوي، دون المشوي من البيض وغيره، لاختصاص الشوي باللحم المشوي، دون غيره.

وإن حلف: لا استظل بسقف، لم تتناول يمينُه السماءَ، وإن كان الله تعالى قد قال:  ]وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا[.

النوع الثاني: ما يزيل الاسم عن الحقيقي، مثل اسم اللحم، يتناول في الحقيقة لحم السمك، قال الله تعالى: ]وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا[، ولا يفهم ذلك عند إطلاق الاسم.

فإذا حلف: لا يأكل لحماً؛ فأكل من لحم السمك: حنث؛ لأن الله تعالى سماه لحماً، ولأنه لحم حيوان، فأشبه لحم الطير، وفي قول: لا يدخل إلا أن ينويه؛ لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، ولأن الظاهر أن الحالف لم يرده بيمينه، فأشبه النوع الذي قبله.

وإن حلف: لا يدخل بيتاً، فيمينه تتناول المسجد، والحمام، لأن الله سمى المساجد بيوتاً، فقال سبحانه: ]فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[، وفي الأثر: بئس البيت الحمام، وفي قول: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى في العرف بيتاً.

ولو حلف: لا يشم ورداً، ولا بنفسجاً: حنث بشمهما؛ رطبين كانا أو يابسين.

وإن حلف: لا يشتريهما؛ فاشترى دهنهما: لم يحنث.

النوع الثالث: ما يتناوله الاسم حقيقة وعرفاً؛ لكن أضاف إليه فعلاً لم تجر العادة بإضافته إلا إلى بعضه، ففيه قولان:

أحدهما: يتناول الاسم جميع المسمى؛ لعموم الاسم فيه.

والثاني: يختص بما جرت العادة بإضافة الفعل إليه؛ لأن هذا قرينة دالة على اختصاصه بالإرادة؛ فأشبه ما لو خصه بنيته.

فإذا حلف: لا يأكل رأساً، يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم، والطير، والصيد، والحيتان، والجراد؛ لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفاً.

ومَن حلف: لا يأكل خبزاً، حنث بأكل خبز الذرة؛ وإن لم تجر عادة أهل بلد الحالف بأكله.

وإن حلف: لا يأكل بيضاً: يحنث بأكل بيض كل حيوان.

النوع الرابع: أسماء يقصد بها في الغالب معنى؛ فإذا أطلقها في اليمين، تعلقت يمينه بما يحصل ذلك المعنى.

فإذا حلف: لا يضربه؛ فخنفه، أو نتف شعره، أو عصر ساقه: حنث؛ لأنه يقصد ترك تأليمه.

فصل

القسم الثاني: الأسماء الشرعية، وهي التي لها موضوع شرعي؛ كالوضوء، والطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع.

فتعلق اليمين بالموضوع الشرعي؛ لأنه الظاهر.

وتعلق اليمين بالصحيح منه دون الفاسد؛ لأنه المشروع.

فمَن حلف: لا يتزوج؛ لم يحنث إلا بتزويج صحيح.

وإن حلف: ليصلين، وليصومن، فأقل ذلك صوم يوم، وصلاة ركعتين.

وإن حلف: لا يبيع؛ لم يحنث، حتى ينعقد البيع بالإيجاب والقبول.

وإن حلف: لا يهبه، أو لا يعيره، فأوجب ذلك، فلم يقبل الآخر: حنث؛ لأن المقصود من الهبة فعل الواهب.

وإن حلف: لا يتصدق عليه؛ فوهبه: لم يحنث؛ لأن الصدقة تختص بوصف زائد؛ بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو عليها صدقة ولنا هدية.

فصل

القسم الثالث: ما له موضوع لغوي، لم يغلب استعماله في غيره: فتتناوله يمينه.

مثل أن يحلف: لا يأكل لبناً، فيحنث بأكل ما يسمى لبناً، حليباً كان أو مخيضاً مائعاً، أو جامداً، ولا يحنث بأكل الخبز، والزبد، والسمن، والأقط، والكشك؛ لأنه لا يسمى لبناً.

وإن حلف على الزبد: لم تتناول يمينه سمناً، ولا لبناً لم يظهر زبده؛ فإن ظهر زبده تناولته يمينه.

وإن حلف على السمن: لم تتناول يمينه زبداً، ولا لبناً.

وإن حلف لا يأكل حنطة؛ فأكلها خبزاً، أو طبيخاً: حنث؛ لأن الحنطة لا تؤكل حباً عادة، فانصرفت يمينه إلى أكلها في جميع أحوالها.

فصل

وإن حلف لا يأكل فاكهة: تناولت يمينه كل ثمرة مأكولة تخرج من الشجر؛ كالعنب، والزبيب، والرطب، والتمر، والجوز، واللوز؛ لأنه يسمى فاكهة.

فصل

والطعام: اسم لكل مأكول، ومشروب على سبيل الاختيار.

قال الله تعالى: ]كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم.

وفي الماء والدواء قولان:

أحدهما: هو طعام؛ لقول الله تعالى في النهر: ]وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي[، ولأنه مشروب، والدواء مأكول ومشروب، أشبه العسل.

والثاني: ليس بطعام؛ لأنه لا يطلق عليه اسمه، والدواء إنما يؤكل عند الضرورة.

وأما القوت: فما تبقى به البنية؛ كالخبز، والتمر، والزبيب، واللحم، واللبن.

فصل

ومَن حلف على اللحم: تناولت يمينه لحم الأنعام، والطير، وكل ما يسمى لحماً، ولا تتناول يمينه: الشحم، والألية، والمخ، والدماغ، والكبد، والطحال، والقلب، والرئة، والكلية، والكرش، والمصران، والقانصة، والكارع؛ لأنه ليس بلحم، ولا ينفرد عنه باسمه وصفته.

وفي اللسان قولان:

أحدهما: يدخل؛ لأنه لحم حقيقة.

والثاني: لا يدخل، لأنه ينفرد باسمه وصفته.

وفي لحم الرأس قولان:

أحدهما: لا يدخل في يمينه؛ لأن اسم اللحم لا ينصرف عند الإطلاق إليه.

والثاني: يحنث؛ لأنه لحم.

فصل:

مَن حلف على العنب: لم تتناول يمينه حصرماً، ولا زبيباً، ولا ما يتولد من العنب.

ومَن حلف على الزبيب: لم تتناول يمينه عنباً.

فصل

الحين عند إطلاقه: اسم لستة أشهر.

والحقب: ثمانون عاماً.

وإن حلف لا يكلمه وقتاً، أو دهراً، أو ملياً، أو طويلاً، أو قريباً: تناول أقل الزمان؛ لأن الاسم تناوله.

وإن حلف لا يكلمه الدهر، أو الأبد، أو الزمان: تناول الدهر؛ لأن الألف واللام تستغرق الجميع.

وإن حلف على أشهر، أو أيام: فهي ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع.

فصل

وإن حلف لا يدخل داراً؛ فدخلها مختاراً: حنث؛ راكباً كان أو ماشياً، أو محمولاً، أومن فوق جدارها؛ لأنه قد دخلها.

فصل

وإن حلف على زوجته، أن لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو إلى أن يأذن لها، أو إلا أن يأذن لها، أو حتى يأذن لها؛ فخرجت بغير إذنه: حنث وانحلت يمينه.

وإن حلف ألا تخرج إلى غير الحمام؛ فخرجت إلى الحمام وغيره: حنث؛ لأنها خرجت إلى غيره.

فصل

ومَن حلف: لا يسكن داراً هو ساكنها، وأقام فيها زمناً يمكنه الخروج: حنث؛ إلا أن تكون إقامته لنقل متاعه؛ فلا يحنث.

فإن أقام في الدار لإكراه، أو خوف، أو ليل، أو لأنه يَحُول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة، أو لعدم ما ينقل عليه متاعه، أو منزلاً ينتقل إليه أياماً وليالي في طلب النقلة: لم يحنث؛ لأن إقامته لدفع الضرر، وانتظار السكنى.

فصل

وإن حلف لا يساكن فلاناً، فاستدام المساكنة: حنث.

وإن سكنا في دارين متجاورتين: لم يحنث إلا أن ينوي، أو يكون سبب يمينه يقتضي ذلك.

فصل

إذا حلف ليفعلن شيئاً: لم يبر إلا بفعل جميعه.

وإن حلف لا يفعله؛ ففعل بعضه: ففيه قولان:

أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يَبَر بفعل البعض؛ فلا يحنث بفعله.

والثاني: يحنث؛ لأن اليمين على الترك تقتضي المنع من فعله، فاقتضت المنع من فعل البعض، واليمين على الفعل يقتضي فعل الكل، كالأمر.

وإذا حلف لا يأكل رغيفاً؛ فأكل بعضه، أو لا يكلم زيداً وعمراً؛ فكلم أحدهما، أو لا يدخل داراً؛ فأدخل بعض جسده، ففيه قولان.

وإن حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، أو نسجه، أو خاطه، أو من غزل امرأته، أو لا يدخل داره؛ فلبس ثوباً اشتراه زيد وبكر، أو خاطاه، أو نسجاه، أو فيه من غزل امرأته، أو دخل داراً لهما، ففيه القولان.

فصل

وإن حلف لا يفعل شيئين؛ ففعل أحدهما: ففيه القولان.

ومَن حلف لا يفعل شيئاً؛ فوكل مَن يفعله: حنث؛ لأن الفعل يطلق على الموكل فيه، والآمر به؛ فيحنث به.

 

باب النذر

وهو أن يقول: لله عليَّ أن أفعل كذا، أو: إن رزقني الله مالاً لأتصدقن، أو: فَعَلَيَّ صوم شهر.

وهو سبعة أقسام:

أحدها: نذر اللجاج، والغضب، وهو الذي يخرج مخرج اليمين للمنع من شيء، أو الحث عليه؛ كقوله: إن دخلت الدار، فلله علي الحج، أو صوم سنة، أو صدقة مالي: فهذا يمين؛ يخير الناذر بين فعله، وبين كفارة يمين؛ لما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين. رواه سعيد في سننه.

القسم الثاني: النذر المبهم؛ كأن يقول: لله عليَّ نذر؛ فيجب كفارة اليمين، لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: كفارة النذر - إذا لم يسم - كفارة يمين. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

القسم الثالث: نذر المباح؛ كنذر لبس ثوبه، وأكل طعامه، وطلاق زوجته: فيتخير بين الوفاء به وكفارة اليمين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا نذر إلا فيما ابتُغِي به وجه الله. رواه أبو داود.

فإن لم يفِ: فعليه كفارة؛ لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين. رواه أبو داود، وإذا وجبت الكفارة في المعصية ففي المباح أولى.

وإن وفى به: أجزأه؛ لما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك ـ أي بحضورك ـ بالدف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوفِ بنذرك. رواه سعيد في سننه.

فإن جمع بين مباح ومندوب: لزمه الوفاء بالمشروع، وحكمه في المباح.

القسم الرابع: نذر المعصية؛ كنذر شرب الخمر، وقتل النفس المحرمة، وظلم الناس: فلا يحل الوفاء به، ويوجب كفارة يمين؛ لحديث عائشة، ولما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: النذر نذران؛ فما كان مِن نذرٍ في طاعة الله: فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان مِن نذر في معصية الله: فلا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين. رواه الجوزجاني.

وإن نذرت المرأة، صوم يوم حيضها، أو نفاسها، أو صوم يوم العيد، فهو نذر معصية موجبة كفارة.

وإن نذرت صوم يوم الخميس؛ فصادف حيضَها، أو يوم العيد: لم تصمه، وعليها القضاء؛ لأنها إنما قصدت الطاعة في محل يحتمل الطاعة، وهل تلزمها الكفارة مع القضاء؟ فيه قولان:

أحدهما: يلزمها؛ لإخلالها بالمنذر في وقته.

والثاني: لا كفارة عليها؛ لأن المنذور محمول على المشروع.

وإن نذر فعل طاعة على صفة محرمة، أو مكروهة؛ كنذر المرأة الحج حاسرة: وجب فعل الطاعة.

وفي الكفارة لترك المعصية والمكروه قولان:

أحدهما: يجب؛ لما روى عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة؛ فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: مُرْ أختك فلتركب، ولتختمر، ولتصم ثلاثة أيام. رواه الترمذي.

والثاني: لا كفارة عليه، لأن المنذور محمول على المشروع.

القسم الخامس: نذر الواجب؛ كنذر صوم رمضان، وصلاة الفرض: فلا يوجب شيئاً؛ لأنه التزم للازم فلم يصح؛ لاستحالته.

القسم السادس: نذر المستحيل؛ كصوم أمس: فلا ينعقد؛ لأنه لا يتصور انعقاده والوفاء به.

القسم السابع: نذر الطاعة تبرراً: فيلزم الوفاء به؛ سواء نذره مطلقاً، مثل أن يقول: لله عليَّ صوم يوم، أو عَلَّقه على شرط، مثل أن يقول: إن شفاني الله من مرضي فلله عليَّ صدقة درهم؛ فإذا وُجِدَ شرطه لزمه ما نذر.

لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومَن نذر أن يعصي الله، فلا يعصيه. رواه البخاري.

وإن نذر الصدقة بجميع ماله: أجزأته الصدقة بثلثه؛ لما روى كعب بن مالك قال: قلت: يا رسول الله؛ إن مِن توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى صلى الله عليه وآله وسلم: يجزئك الثلث. رواه أبو داود، وفي لفظ: أمسك عليك مالك. متفق عليه.

فإن نذر الصدقة بمال معين، وكان المعين يستغرق ماله كله: فهي كالتي قبلها.

فصل

ومَن نذر هدياً: لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية.

وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو إتيانه: لزمه المشي في حج أو عمرة؛ لأن المشي إلى البيت المعهود شرعاً هو المشي في أحد النسكين؛ فحُمِل النذر المطلق عليه، ويلزمه المشي من دويرة أهله.

وإن نذر المشي إلى غير الحرم، كعرفة وغيرها: لم يلزمه، وكان كنذر المباح.

وكذلك إن نذر إيتان مسجد من المساجد: لم يلزمه الوفاء بالنذر؛ إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمسجد الأقصى؛ فإنه يلزمه إتيانهما، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا. منفق عليه.

فصل

ومَن عين بنذره أو بنيته شيئاً من عدد الصيام، أو الصلاة، أو الهدي، أو الرقاب: أجزأه ما عَيَّنَه؛ صغيراً كان أو كبيراً، صحيحاً أو معيباً، مما يجزئ في الواجب، ومما لا يجزئ.

فصل

وإذا عجز عن الوفاء بالنذر: لم يخل من خمسة أحوال:

أحدها: أن يعجز عجزاً لا يرجى زواله؛ لكبر، أو مرض غير مرجو الزوال أو غيره: فعليه كفارة يمين لا غير؛ لما روى عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فاستفتيته، فقال: لتمش، ولتركب. متفق عليه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: مَن نذر نذراً لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين، ومَن نذر نذراً يطيقه، فليف الله بما نذر.

الثاني: أن يعجز عجزاً مرجو الزوال؛ نحو المرض.

فإذا كان النذر غير موقت: أخره حتى يزول العارض، ثم يأتي به.

وإن كان موقتاً؛ كصوم شهر معين؛ فإذا زال العجز: قضاه؛ لأنه صوم واجب يلزمه قضاؤه كرمضان، وعليه كفارة اليمين؛ لأن النذر كاليمين.

الثالث: أن يمنعه الشرع من الوفاء بنذره؛ مثل أن يصادف عيداً، أو حيضاً ففيه قولان.

الرابع: أن يصادفه النذر وقد أصبح مجنوناً: فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر.

الخامس: أن يموت؛ فإن مات قبل وقت النذر: فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف.

وإن كان مات بعد وقت النذر، أو كان النذر غير موقت: فَعَلَ ذلك وليه؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن مات وعليه صيام، صام عنه وليه. متفق عليه.

وعن ابن عباس قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان عليها دين، أكنتِ قاضيه؟، قال: نعم، قال: فاقضِ الله، فهو أحق بالقضاء. رواه البخاري، فثبت القضاء للصوم، والحج بالنص، وقسنا عليه غيره للمعنى المشترك بينهما.

وفي الصلاة قولان:

أحدهما: تقضي عنه قياساً على الصوم والحج.

والثاني: لا تقضى؛ لأنها لا تدخلها نيابة، ولا كفارة: فلم تقض عنه، كحالة الحياة.

 

كتاب الأقضية

القضاء فرض على الكفاية؛ بدليل قول الله تعالى: ]فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ[، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حكم بين الناس، وبعث علياً إلى اليمن للقضاء.

ولأن الظلم في الطباع؛ فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم.

ويكره له طلب القضاء؛ لما روى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وُكِل إلى نفسه، ومَن أُكْرِه عليه أَنزل الله عليه مَلَكَاً يسدده. قال الترمذي:هذا حديث حسن.

وإن طُلِب فالأفضل له الإجابة.

وأما مَن لا يحسن القضاء؛ فيحرم عليه الدخول فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. إلى قوله: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

فصل

ويجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة.

لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه  لما ولي الخلافة أخذ الذراع، وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي، يضيعون من أجلكم، ففرضوا له كل يوم درهمين.

وبعث عمر رضي الله عنه  إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً، وابن مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وفرض لهم كل يوم شاة؛ نصفها لعمار، والنصف الأخر بين عبد الله وعثمان، وكتب إلى معاذ، وأبي عبيدة في الشام: أن انظروا رجالاً من صالحي من قبلكم، فاستعلموهم على القضاء، وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله.

فأما مع عدم الحاجة؛ ففيه قولان:

أحدهما: الجواز؛ لما ذكرنا، ولأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى، فكذلك القضاء.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة؛ فلم يجز أخذ الأجرة عليه، كالصلاة.

فصل

ويشترط للقضاة أشياء:

أن يكون مسلماً،عدلاً، بالغاً، عاقلاً، متكلماً؛ لينطق بالفصل بين الخصوم، سميعاً؛ ليسمع الدعوى والإنكار والبينة والإقرار، بصيراً؛ ليعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه، مجتهداً، وهو: العالم بطرق الأحكام.

لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به؛ فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم؛ فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل؛ فهو في النار. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

فصل

وينبغي أن يكون قوياً من غير عنف؛ لئلا يطمع فيه الظالم، فينبسط عليه.

ليناً من غير ضعف؛ لئلا يهابه صاحب الحق، فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه.

حليماً ذا أناة.

وفطنة.

ويقظة؛ لا يؤتى من غفلة.

ذا ورع، وعفة، ونزاهة، وصدق.

فصل

فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء؛ فحكماه ليحكم بينهما: جاز؛ لما روى أبو شريح أنه قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحسن هذا. رواه النسائي.

ولأن عمر وأبياً رضي الله عنهما تحاكما إلى زيد بن ثابت.

وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم.

فإذا حكم بينهما: لزم حكمه؛ لأن مَن جاز حكمه لزم.

فصل

ولا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين؛ لقول الله تعالى: ]فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ[، وإنما يظهر له الحق بدليل؛ فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه.

فإن قُلِّد القضاء على هذا الشرط: بطل الشرط.

فصل

وليس له أن يقضي، ولا يولي، ولا يسمع البينة، ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله، ولا يعتد بذلك إن فعله، لأنه لا ولاية له في غير عمله.

فصل

ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها.

ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر.

ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما: فلم يجز حكمه لهما، كنفسه.

ويجوز له استخلاف والده وولده في أعماله؛ لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه.

فصل

ويحرم عليه أن يرتشي في الحكم؛ لما روى عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الراشي والمرتشي. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

ولا يجوز له قبول الهدية مِمَن لم تجر عادته بها قبل الولاية؛ لما روى أبو حميد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  على المنبر، فقال: ما بال العامل نبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهْدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته. متفق عليه.

فأما مَن كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية: فجائز قبولها؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا، يدل على تعليل تحريم الهدية؛ لكون الولاية سببها، وهذه لم تكن سببها الولاية؛ فجاز قبولها؛ إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له، فلا يجوز قبولها، لأنه يتهم، فهي كالرشرة.

فصل

ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ما عدل وال اتجر في رعيته.

ويستحب أن يوكل من لا يُعرف أنه وكيله؛ فإذا عُرف استُبدل به حتى لا يحابى؛ فإن لم يمكنه الاستنابة تولاه بنفسه.

فصل

ويجوز للقاضي حضور الولائم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أمر بإجابة الداعي.

ولا يخص بإجابته قوماً دون قوم؛ لأنه جور.

فإن كثرت عليه وشغلته ترك الجميع؛ لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها.

وله عيادة المرضى، وشهود الجنائز؛ لأنه قربة وطاعة.

فصل

ولا يقضي في حال الغضب، ولا الجوع، والعطش، والحزن، والفرح المفرط، والنعاس الشديد، والمرض المقلق، ومدافعة الأخبثين، والحر المزعج، والبرد المؤلم؛ لما روى أبو بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان. متفق عليه؛ فثبت النص في الغضب، وقسنا عليه سائر المذكور؛ لأنه في معناه، ولأن هذه الأمور تشغل قلبه، فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم، وتأمل الحادثة.

فإن حكم في هذه الأحوال ينفذ حكمه؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للزبير: اسق زرعك، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ثم قال للزبير: اسق زرعك، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر.متفق عليه؛ فحكم في غضبه.

فصل

ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب عن غير عذر؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن وَلِيَ من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم، احتجب الله دون حاجته وفقره. رواه الترمذي.

ويكون موضعاً لا يتأذى فيه ببرد، ولا حَرٍّ، ولا دخان، ولا رائحة منتنة؛ لأن عمر رضي الله عنه  كتب إلى أبي موسى: إياك والقلق والضجر، وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة.

فصل

وينبغي أن يتخذ كاتباً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  استكتب زيداً وغيره، ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة.

ومن شرط الكاتب: أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام، وما يكتبه من المحاضر، والسجلات؛ لأنه إذا لم يعرفه أفسد ما يكتبه بجهله.

وأن يكون عدلاً؛ لأن الكتابة موضع أمانة، ولا تُؤْمَن خيانة الفاسق.

ويستحب أن يكون ورعاً نزهاً؛ لئلا يستمال بالطمع.

جيد الحفظ، ليكون أكمل.

فصل

ولا يتخذ شهوداً معينين لا يقبل غيرهم؛ لأنه مَن ثبتت عدالته وجب قبول شهادته؛ فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم.

فصل

ويجب أن يكونوا عدولاً، برآء من الشحناء، بعداء من العصبية في نسب، أو مذهب؛ كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق، أو جرح عدل.

وأن يكونوا وافري العقول، ليصلوا إلى المطلوب.

فإذا شهد عنده مَن يعرفه بالعدالة؛ قبل شهادته.

وان علم فسقه؛ لم يقبلها.

وإن لم تُعرف عدالته؛ لم يحكم حتى تثبت عدالته؛ روى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر رضي الله عنه ، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك، فائتني برجل يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: بأي شيء تعرفه؟، قال: بالعدالة، قال: فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال عمر: فلست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك.

فإذا أراد أن يعف عدالته: كتب اسمه، ونسبه، وكنيته، وحِلْيِتَه، وصنعته، ومسكنه، ومَن شهد له وعليه؛ لئلا يكون مِمَن لا تقبل شهادته للمشهود له؛ من والد، أو ولد.

ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له، ولا المشهود عليه؛ لئلا يحتالا في تعديل الشهود، أو جرحهم، ولا المسؤولون؛ لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم، وأصدقاؤهم في تعديلهم.

ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض؛ كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح، أوتعديل.

ويأمرهم القاضي أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه، ومسجده، وجيرانه.

فصل

ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين؛ لأنه إخبار عن صفة مَن يُبنى الحكم على صفته.

وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد؛ لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد؛ بخلاف الشهادة.

ويكفي في التعديل قوله: أشهد أنه عدل، ولا يكفي أن يقول: لا أعلم فيه إلا الخير؛ لأنه لم يصرح بالتعديل.

وان شهد بالجرح واحد، وبالتعديل اثنان: ثبتت العدالة؛ لأن بينة الجرح لم تكمل.

وإن شهد بالجرح اثنان، وبالتعديل اثنان: قُدِّم الجرح على التعديل؛ لأن الشاهد به يُخْبِر عن أمر باطني خفي على المُعَدِّل، وشاهد العدالة يُخْبِر عن أمر ظاهر؛ فقُدِّم مَن يُخْبِر عن الباطن، ولأن الجارح مثبِت، والمُعَدِّل ناف؛ فقُدِّم الإثبات.

وإن شهد بالجرح اثنان، وبالعدالة أربعة: قُدِّم الجرح؛ لأن بينته كملت.

ولا يُقْبَل الجرح إلا مفسَّراً؛ بأن يُذْكَر السبب الذي به جرح، ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق، أو أنه ليس بعدل.

ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا مَن يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال؛ كالسرقة، وشرب الخمر، أو بالسماع في الأقوال؛ كالقذف، والبدعة، أو بالاستفاضة بالخبر؛ لأن الجرح شهادة عن علم.

فإن قال: بلغني كذا، أو قيل لي: لم يجز أن يشهد به؛ لقول الله تعالى: ]إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[، ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته بالمشهود له، وطالت صحبته؛ لحديث عمر رضي الله عنه .

فصل

وإن شهد عنده عدول؛ فارتاب بشهادتهم: استحب له تفريقهم، وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل، ومكانه، وزمانه.

فإن اختلفوا سقطت شهادتهم.

وإن اتفقوا وعظهم.

لما روى أبو حنيفة قال: كنت عند محارب بن دثار؛ وهو قاضي الكوفة، فجاءه رجل، فادعى على رجل حقاً، فأنكره، فأحضر المدعي شاهدين؛ فشهدا له، فقال المشهود عليه: والذي تقوم به السموات والأرض كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمي بما في حواصلها، من هول يوم القيامة، وإنَّ شاهدَ الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار؛ فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما، فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطا رؤوسهما وانصرفا.

فصل

ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب، يشاورهم فيما يشكل عليه؛ لقول الله تعالى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[.

روى عبد الرحمن بن القاسم: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار؛ دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر، فكان يدعو هؤلاء النفر رضي الله عنهم.

فإذا اتفق أمر مشكل، شاورهم؛ فإن اتضح له الحق حكم به، وإن لم يتضح له أَخَّرَه، ولم يقلد غيره؛ ضاق الوقت أو اتسع.

وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص، أو إجماع: نقضه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه قال: رُدُّوا الجهالات إلى السنة، وكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه: لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم راجعت نفسك، فهديت لرشدك: أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.

وإن تغير اجتهاده، ولم يخالف نصاً، ولا إجماعاً: لم ينقض حكمه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه حكم في المسألة المشتركة بإسقاط ولد الأبوين، ثم شَرَّك بينهم بعد، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا.

فصل

وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله؛ لأن الظاهر أنه لا يُوَلَّى للقضاء إلا مَن يصلح، والظاهر إصابته الحق.

وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء: نقض مِن أحكامه ما خالف الحق.

وإن كان يصلح للقضاء: لم يجز أن ينقض من قضاياه؛ إلا ما خالف نصاً، أو إجماعاً.

فصل

ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله، ويقول عند خروجه: بسم الله، آمنت بالله، واعتصمت بالله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله،  ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أعوذ بك أن أَزل أو أُزل، أو أَضل أو أُضل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو ُيجهل عليَّ. رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ويسأله أن يعصمه، ويعينه.

ويجلس مستقبل القبلة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير المجالس ما استقبل به القبلة.

ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه، ويجلس الكاتب قريباً منه، ليرى ما يكتبه، فإن غلط رد عليه.

فصل

ويبدأ في نظره بالمحبوسين (الموقوفين على ذمة التحقيق)، لأن الحبس عقوبة، وربما كان فيهم مَن يجب إطلاقه؛ فاستحب البداءة بهم.

فإن وجب إطلاقه: أطلقه، وإن وجب حبسه، أعيد.

فصل

ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء؛ لأنهم يتصرفون في حق مَن لا يملك المطالبة بماله.

باب ما على القاضي في الخصوم

يلزمه أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه، والمجلس، والخطاب، والإقبال عليهما، والسماع منهما؛ لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن ابتلي بالقضاء بين المسلمين: فلْيَعْدِلْ بينهم في لَحْظِه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، ما لا يرفعه على الآخر. رواه عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة.

وكتب عمر رضي الله عنه  إلى أبي موسى رضي الله عنه: واسِ الناس في وجهك، ومجلسك، وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك.

ولأن إيثار أحد الخصمين في بعض ما ذكرنا يكسر خصمه.

والمستحب أن يجلسهما بين يديه؛ لما روى ابن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي. رواه أبو داود، ولأنه أمكن لخطابهما.

ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه؛ لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تَحَوَّل عنا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه.

ولا يُسَارَّ أحدهما؛ أي لا يتحدث معه سراً، ولا يلقنه حجته، ولا يأمره بإقرار ولا إنكار؛ لما فيه من الضرر.

وله أن يشفع لأحدهما إلى الآخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دَينه. متفق عليه.

ولا ينتهر خصماً دون الآخر، لئلا يكسره، إلا أن يظهر منه لدد، أو سوء أدب، فينهاه فإن عاد زجره؛ فإن عاد، عَزَّره.

ولا يزجر شاهداً، ولا يتعيبه؛ لأن ذلك يمنعه من أداء الشهادة على وجهها، ويدعوه إلى ترك القيام بتحملها وأدائها، وفيه تضييع للحقوق.

فصل

وإذا كان بين اثنين خصومة؛ فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم: لزمته إجابته؛ لقول الله تعالى: ]إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا[؛ فإن استدعاه الحاكم: لزمته الإجابة؛ فإن أبى: تَقَدَّم القاضي إلى صاحب الشرطة ليحضره.

وإن تقدم بدعوى على غائب، وكان الغائب في بلد فيه قاضٍ: كتب إليه، لينظر بينهما.

وإن لم يكن هناك قاضٍ، ويوجد مَن يتوسط بينهما: كتب إليه لينظر بينهما.

فإن لم يكن هناك مَن ينظر بينهما: لم يحضره القاضي حتى يتحقق من الدعوى؛ لأنه يجوز أن تكون الدعوى ليس بحق، فلا يكلفه مشقة الحضور.

فإذا حقق الدعوى أحضره؛ بَعُدَت المسافة أو قربت؛ لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه  كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: أن ابعث إليَّ بقيس بن المكشوح في وثاق؛ فأحلفه خمسين يميناً، على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه ما قتل داذويه.

باب صفة القضاء (أصول المحاكمات)

إذا حضر القاضي خصمان؛ فادعى أحدهما على الآخر شيئاً تصح دعواه: فللقاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه قبل سؤاله؛ لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة.

فيقول له الحاكم: ما تقول فيما يُدَّعَى عليك؟، فإن أقر: لزمه الحق.

وإن أنكر، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟.

فإن قال: ما لي بينة، قال القاضي للمدعي: فلك يمينه.

فإن سأل المدعي القاضي إحلاف المدعى عليه: أحلفه.

وإن قال: أبرأتك من اليمين، سقط حقه منها في هذه الدعوى.

وله استئناف الدعوى، والطلب باليمين فيها؛ لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين.

فإذا حلف: سقطت الدعوى؛ لما روى وائل بن حجر: أن رجلاً من حضرموت، ورجلاً من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي، وقال الكندي: أرضي وفي يدي لا حق له فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شاهداك، أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيء، فقال: ليس لك إلا ذلك. رواه مسلم بمعناه.

فإن امتنع عن اليمين، لم يسأل عن سبب امتناعه.

فإن بدا، فقال: أريد أن أنظر في حسابي أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولا يمهل أكثر منها، لأنه كثير.

وإن لم يذكر عذراً لامتناعه، قال له الحاكم: إن حلفتَ وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك، ويكرر ذلك عليه ثلاثاً.

فإن حلف؛ وإلا حكم عليه.

لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابث عبداً، فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد.

ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   قال: اليمين على المدعى عليه.

وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالاً؛ فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: اِحْلِف أنه سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك.

فإن حلف المدعي حُكِم له، وإن نكل سئل عن سبب نكوله؛ لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق؛ بخلاف المدعى عليه.

فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو حساباً أنظر فيه، فهو على حقه من اليمين.

فإن قال: لا أريد أن أحلف، فهو ناكل.

فإن عاد فبذل اليمين: لم تُسْمَع منه في هذه الدعوى؛ لأنه أسقط حقه منها.

فإن عاد في مجلس آخر، واستأنف الدعوى: أعيد الحكم بينهما؛ كالأول، فإن بذل اليمين هاهنا حكم بها؛ لأنها يمين في دعوى أخرى.

فصل

وإن كان للمدعي بينة عادلة: قُدِّمَت على يمين المدعى عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   قال: البينة على المدعي.

فإن شهدت البينة، فقال المدعى عليه: أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يُحَلَّف؛ لأن في ذلك طعناً في البينة.

وإن قال المدعى عليه: قضيته حقه، أو أبرأني منه، أو أحلته به؛ فأنكر المدعي، فسأل المدعى عليه إحلافه: أُحْلِف له؛ لأن ذلك ليس بتكذيب للبينة.

فإن كانت البينة غير عادلة، قال له الحاكم: زدني شهوداً.

فإن قال المدعي: لي بينة غائبة فأَحْلِف المدعى عليه: أُحْلِف؛ لأن البينة الغائبة كالمعدومة، لتعذر إقامتها.

ومتى حضرت بينته وطلب سماعها: وجب سماعها، والحكم بها؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة.

وإن قال: لي بينة حاضرة، ولكني أريد يمينه، ثم أقيم بينتي: لم يُسْتَحْلَف؛ لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة وحدها؛ فلم يشرع معها غيرها، كما لو أقامها.

وإن قال: أحلفوه، ولا أقيم بينتي: حُلِّفَ؛ لأن له في هذا غرضاً، وهو أن يخاف، فيقر، فيثبت الحكم بإقراره، وهوأسهل من إثباته بالبينة.

وإن قال المدعي: ما لي بينة، ثم جاء ببينته: لم تسمع؛ لأنه أكذبها بإنكاره.

فصل

وإذا شهد شاهدان، فلم يعلم خصمه أن له جرحهما، قال له الحاكم: قد أطردتك جرحهما.

وإن كان يعلم فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت.

فإن سأل خصمه الإنظار ليجرحهما: أُنْظِر ثلاثاً؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه قال في كتابه إلى أبي موسى رضي الله عنه: واجعل لِمَن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه؛ فإن أحضر بينة أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه؛ فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى.

فصل

وإن علم الحاكم الحال: لم يجز أن يحكم بعلمه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي، فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد، وقال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً على حد، لم أَحُدَّه حتى تقوم البينة عندي.

وفي قول: يجوز له الحكم بعلمه سواء علمه في ولايته، أو قبلها؛ لأن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني لي ولولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛ فقضى بعلمه، ولأنه حق علمه، فجاز الحكم به، كالتعديل والجرح، وكما لوثبت بالبينة.

فصل

وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل، في المال، أو ما يقصد به المال: حلف المدعي مع شهادته، وحُكِم له به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قضى بشاهد ويمين. رواه مسلم.

فإن أبى أن يحلف، وقال: أريد يمين المدعى عليه أحلفناه؛ فإن نكل المدعى عليه قضي عليه.

فإن سكت المدعى عليه؛ فلم ينكر، ولم يقر: حبسه الحاكم حتى يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلاً.

فصل

ومتى اتضح الحكم للقاضي: لزمه الحكم به، ولم يجز ترديد الخصمين؛ لأن الحكم لازم، وأداء الحق واجب، فلم يجز تأخيره.

وإن كان فيه لبس: أمرهما بالصلح؛ فإن أبيا أَخَّرَهما، ولا يحكم حتى يزول اللبس، ويتضح وجه الصواب، لأن الحكم بالجهل حرام.

باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي

إن حضر رجل يدعي على رجل غائب عن البلد ولا بينة معه: لم تسمع دعواه؛ لأن سماعها لا يفيد.

وإن كانت له بينة: سمع القاضي الدعوى والبينةَ، ولم يحكم بها حتى يحضر الغائب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لعلي رضي الله عنه: إذا تقاضى إليك رجلان: فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فإنك لا تدري بما تقضي. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

ولأنه يحتمل القضاء والإبراء، وكون الشاهد مجروحا: فلم يجز الحكم.

فإن امتنع الخصم في البلد من الحضور عند الحاكم، وتعذر إحضاره: حكم عليه؛ لأنه لو لم يحكم عليه؛ لجعل الامتناع والاستتار طريقاً إلى تضييع الحقوق.

وإن هرب المدعى عليه بعد الدعوى: فهو كما لو هرب قبلها في الحكم عليه.

ولو كانت الدعوى على صبي، أو مجنون: لحكم عليه بالبينة؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو كالغائب.

فصل

ويجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر بما ثبت عنده؛ ليحكم به، وبما حكم به؛ لينفذه.

لما روى الضحاك بن سفيان قال: كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. أخرجه أبو داوود، والترمذي؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك.

فصل

ولا يقبل كتاب القاضي إلى قاضٍ آخر إلا أن يشهد به شاهدان عدلان (تصديق الحكم).

 

باب القسمة

الأصل في القسمة: الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب، فقوله تعالى: ]وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا[.

وأما السنة: فقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق: فلا شفعة.

وقَسَم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الغنائم بين أصحابه.

وأجمعت الأمة على جوازها.

فصل

ويجوز للشركاء:

أن يقتسموا بأنفسهم.

وأن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم.

وأن يسألوا الحاكم قاسماً يقسم بينهم.

ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة؛ ليوصل إلى كل ذي حق حقه.

ويجزىء قاسم واحد إن خلت القسمة من تقويم؛ لأنه حكم بينهما، فأشبه الحاكم.

وإن كان فيها تقويم: لم يجز أقل من قاسمين؛ لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين.

فصل

وعلى الإمام أن يرزق (يعطي) القاسم من بيت المال؛ لأن هذا العمل من المصالح العامة.

فإن لم يعط من بيت المال شيئاً؛ فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم.

فصل

وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء، وأمكنت التسوية؛ بأن يكون الجيد في مقدمها، والرديء في مؤخرها، فيقسمانها نصفين؟ فيحصل في كل قسم من الجيد والرديء مثل ما في الآخر، قسم كذلك.

وإن لم يمكن؛ لكون الجيد في أحد النصفين، وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد: أجبر الممتنع، وأجرة القاسم بينهما سواء، لتساويهما في أصل الملك.

فصل

وإن كان بينهما دور، أو أرض مختلفة في بعضها نخل، وفي بعضها شجر، وبعضها يسقى سيحاً، وبعضها يسقى بالنواضح؛ فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة: قسمت كل عين على حدة؛ لأن لكل واحد منهما حقاً في الجميع، فجاز له طلبه من الجميع.

وإن كانت بينهما دار لها علو وسفل؛ فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما، والسفل للآخر؛ فأبى الآخر: لم يجبر؛ لأن العلو تابع للساحة فلا يجوز جعله في القسمة متبوعاً.

وإن طلب قسمة السفل وحده، أو العلو وحده: لم تجب إجابته؛ لأن القسمة تراد للتمييز، ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز.

وإن طلب قسمة السفل منفرداً، والعلو منفرداً: لم تجب إجابته؛ لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر، أو بعضه؛ فلا يتميز الحقان.

فصل

وإن كان بين ملكيهما ساحة بستان؛ فطلب أحدهما قسمتها طولاً، ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض: يجبر الممتنع، لأنه لا ضرر.

وإن طلب قسمتها عرضاً، ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول، وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط: لم يجبر الممتنع؛ لأنه يتضرر.

فصل

وإن كان بينهما أرض مزروعة؛ فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع: لزم إجابته؛ لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة، فلم يمنع وجوبها، فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد.

وإن طلب قسمة الزرع منفرداً: لم يلزم إجابته؛ لأنه لا يمكن تعديله، ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة.

وإن طلب قسمة الأرض، مع الزرع، وكان مجذوذاً مقطوعاً قصيلاً: لزمته إجابته، وكذا إن كان سنابل مشتداً حبها.

وإن كان بذراً: لم تجز قسمته؛ لأنه مجهول لا يمكن تعديله، فيكون قسمة مجهول ومعلوم.

فصل

إذا كان بينهما ثياب، أو حيوانات، أو خشب، أو عُمُد، أو أحجار متفاضلة؛ فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة: لم تجب إجابته، وإن كانت متماثلة: تجب إجابته.

فصل

إذا كانت بينهما عين؛ فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة، بأن تجعل في يد أحدهما مدة، وفي يد الآخر مثلها: جاز؛ لأن المنافع في القسمة كالأعيان.

وإن امتنع أحدهما: لم يجبر؛ لأن حق كل واحد منهما معجل، فلم يجبر على تأخيره بالمهايأة.

فصل

وإن ادعى أحدهما غلطاً في قسمة الإجبار: لم يقبل إلا ببينة؛ لأن القاسم كالحاكم، فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة.

فإن أقام البينة نُقِضَت القسمة.

وإن لم يكن له بينة، وطلب يمين شريكه: أُحْلِف له.

فصل

وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقاً: بطلت القسمة؛ لأنه بقي له حق في نصيب شريكه؛ فعادت الإشاعة.

وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معيناً: لم تبطل القسمة؛ لأن الباقي مع كل واحد قَدْر حقه.

وإن كان المستحق في نصيبهما مشاعاً: بطلت القسمة؛ لأن صاحب الاستحقاق شريكهما لم يأذن في القسمة، ولم يحضر، فأشبه ما لو علما به.

وإن قسما أرضاً نصفين، وبنى أحدهما في نصيبه داراً، ثم استحق ما في يده، ونُقِضَ بناؤه: رجع على شريكه بنصف البناء.

 

باب الدعاوى

لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار؛ لأن القصد في الحكم فصل الخصومة والتزام الحق، ولا يمكن ذلك في المجهول.

فإن كان المدعى به دَيناً: ذكر الجنس، والنوع، والصفة، والمقدار.

وإن كان المدعى به عيناً باقية: ذكر صفتها؛ وإن ذكر قيمتها كان أحوط.

وإن كانت العين تالفة لها مِثْل: ذكر صفتها؛ وإن ذكر القيمة كان أحوط.

وإن لم يكن للعين التالفة مِثْل: ذكر قيمتها.

وإذا ادعى مالاً: لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به؛ لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة كل درهم منه.

فصل

وإن ادعى عقد نكاح: لزم ذكر شروطه؛ فيقول: تزوجتها بولي، وشاهدي عدل، وإذنها.

وإن ادعى عقداً يستحق به المال؛ كالبيع والإجارة: لم يحتج إلى ذكر شروطه؛ لأن مقصوده المال.

وإن ادعى قصاصاً في نفس، أو طرف: فلا بد من ذكر صفة الجناية، وأنها عمد، منفرداً بها، أو مشاركاً فيها.

فصل

وإذا ادعت المرأة النكاح على رجل، وذكرت معه حقاً من حقوق النكاح، سمعت دعواها؛ لأن حاصل دعواها دعوى الحق؛ من المهر، والنفقة، ونحوهما، وذكر النكاح لبيان السبب.

وكذا تسمع دعواها إن لم تذكر معه حقاً؛ لأن النكاح يتضمن حقوقاً.

فصل

وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سببه، فقال: أقرضته ألفاً، أو أتلف عليَّ ألفاً، فقال: ما أقرضني، وما أتلفتُ عليه: صح الجواب؛ لأنه نفى ما ادعى عليه.

فصل

وإذا ادعى على رجل عيناً في يده، أو دَيناً في ذمته؛ فأنكره ولا بينة له: فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن الناس أُعطوا بدعواهم؛ لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه. رواه البخاري ومسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في قصة الحضرمي والكندي: شاهداك أو يمينه.

وإذا تداعيا عيناً في أيديهما؛ ولا بينة: حلفا، وجعلت بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري: أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة؛ فجعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بينهم. رواه مسلم.

وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما؛ ولا بينة لواحد منهما: أُقْرِع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وسُلِّمت إليه؛ لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يستهما على اليمين، أحبا أم كرها. رواه أبو داود.

وإن كانت للمدعي أو لأحد المتداعيين بينة: حكم له بها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حديث الحضرمي: ألك بينة؟، قال: لا، قال: فلك يمينه.

فصل

وان ادعيا عيناً في يد غيرهما؛ فأقام كل واحد منهما بينة: ففيها ثلاثة أقوال:

 أحدها: تُقَدَّمُ بينة المدعي؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على مَن ادعى، واليمين على من أنكر؛ فجعل البينة للمدعي، ولأن بينة المدعي أكثر فائدة، لأنها تثبت شيئاً لم يكن.

والثاني: تُقَدَّمُ بينة المنكر؛ لأنهما تعارضتا، ومع صاحب اليد ترجيح بها، فقُدِّمَت.

والثالث: إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب؛ من نتاج، أو نسج، أو قطيعة، أو كانت أقدم تاريخاً: قُدِّمَت وإلا فلا؛ لما روى جابر رضي الله عنه  أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في دابة، أو بعير؛ فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  للذي هي في يده.

فصل

وإن تداعيا عيناً في يديهما؛ وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه: تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى رضي الله عنه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في بعير؛ فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالبعير بينهما نصفين. رواه أبو داود.

فصل

وإذا ادعى عيناً في يد إنسان؛ فأقر بها لغيره وصَدَّقه المقَرُّ له: حكم له؛ لأنه مصدق فيما بيده، وقد صَدَّقه المقَرُّ له، فصار كصاحب اليد، وتنتقل الخصومة إليه، وعلى المقِرِّ اليمين؛ لأنه لا يعلم أنها للمدعي.

وإن أكذبه المقَرُّ له، وقال: ليست لي وكان للمدعي بينة: حكم له.

وإن لم يكن له بينة، ففيه قولان:

أحدهما: تدفع إليه؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها؛ أشبه التي في يده، ولأن صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل قضي عليه؛ فمع عدم ادعائه لها أولى.

والثاني: لا تُدْفَع إليه؛ لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى، فلا يحكم بها.

وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين: صار الغائبُ الخصمَ فيها.

فإن أقام المقِرُّ بينةً أنها للغائب: سمعها الحاكم لإزالة التهمة، وإسقاط اليمين عنه، ولم يحكم بها للغائب؛ لأنه إنما يُقْضَى بها إذا أقامها المدعي أو وكيله، وليس المدعي هنا واحداً منهما.

ومتى لم يكن للمدعي بينة: لم يقض له بها؛ لأنه لا يُقْضَى على الغائب بغير حجة؛ فإن أقام بينة: سمعها الحاكم، وقضى بها.

والغائب على خصومته متى حضر؛ فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه: تعارضت البينتان، وأقرت في يد المدعي إن قلنا: إن بينة الخارج مقدمة، لأنه خارج، وإن قلنا: تقدم بينة الداخل، فهي للغائب.

وإن ادعى الحاضر أنها معه بأجرة، أو عارية؛ وأقام بينة: لم يقض له بها؛ لأن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك، ولا يثبت الملك بها، فكذلك فرعها.

فصل

وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية، أو بعد الفرقة، أو تنازع ورثتهما بعد موتهما، أو أحدهما وورثة الآخر؛ ولا بينة لهما: حُكِم بما يصلح للرجال؛ من ثيابهم وعمائمهم وسلاحهم ونحو ذلك: للرجل، وما يصلح للنساء؛ من ثيابهن وحليهن ومغازلهن ونحو ذلك: للمرأة، وما يصلح لهما؛ من الفرش والحصر والآنية ونحو ذلك: فهو بينهما.

باب اليمين في الدعاوى

واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله تعالى؛ لقوله تعالى: ]تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ[، وقال سبحانه: ]فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ[، وقال تعالى: ]وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: الله ما أردت إلا واحدة؟، قال: الله ما أردت إلا واحدة.

 

كتاب الشهادات

تحملها وأداؤها فرض؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ[، وقوله سبحانه: ]وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ[، ولأنها أمانة، فيلزمه أداؤها عند طلبها.

وهي فرض كفاية.

فإن لم يوجد مَن يكتفى به غير اثنين: تعينت عليهما؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما.

وإن قام بها مَن يكفي: سقطت عمن سواهم؛ لأن القصد حفظ الحقوق، وقد حصل.

ويستحب الإشهاد على العقود كلها؛ لقول الله تعالى: ]وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ[، وقوله تعالى: ]وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ[، يعني: في المداينة.

فصل

ومَن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها، لم يشهد حتى يسأله صاحبها؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون. متفق عليه.

وإن لم يعلم بها: استحب إعلامه بها، وله أداؤها قبل إعلامه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها. رواه أبو داود؛ فتعين حمل الحديث على هذه الصورة؛ جمعاً بين الحديثين.

ومن كانت عنده شهادة في حد الله: لم يستحب أداؤها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن ستر عورة مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة.

وتجوز الشهادة به؛ لقول الله تعالى: ]لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ[.

باب من تقبل شهادته ومن ترد

يعتبر في الشاهد خمسة شروط:

أحدها: العقل، فلا تقبل شهادة طفل، ولا مجنون، ولا سكران؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل؛ فعلى غيرهم أولى.

والثاني: البلوغ؛ فلا تقبل شهادة صبي؛ لقول الله تعالى: ]وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ[، والصبي ليس من رجالنا، ولأنه ليس بمكلف.

والثالث: الضبط؛ فلا تقبل شهادة مَن يُعْرَف بكثرة الغلط والغفلة؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، لاحتمال أن يكون من غلطه.

والرابع: النطق؛ فلا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة؛ لأنها محتملة.

وإنما تقبل في أحكامه المختصة به؛ للضرورة.

والخامس: العدالة؛ فلا تقبل شهادة فاسق؛ لقول الله تعالى: ]إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ[، وقوله سبحانه وتعالى: ]وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ[، وقوله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء[ إلى قوله تعالى: ]وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[.

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غِمر ـ الحقد والعداوة ـ على أخيه. رواه أبي داود.

ويعتبر في العدالة شيئان:

أحدهما: اجتناب الكبائر، واجتناب الإدمان على الصغائر.

والكبائر كل ما فيه حد، أو وعيد؛ فمَن فعل كبيرة،  أو أَكْثَر من فعل الصغائر: فلا تقبل شهادته؛ لأنه لا يؤمن مِن مثله شهادة الزور.

والثاني: المروءة؛ فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة؛ كالمغني الماجن، والرقاص الخليع، والطفيلي، والمستهزئ، ومن يكشف عورته أمام الآخرين، وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروءات؛ لأنه لا يأنف من الكذب، بدليل ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

فصل

وتمنع التهمة قبول الشهادة، وهي ستة أنواع:

أحدها: كونه والداً وإن علا، أو ولداً وإن سفل؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء.

فأما شهادة أحدهما على صاحبه فمقبولة؛ لأنه لا يتهم عليه، ولذلك قال الله تعالى: ]كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ[.

الثاني: لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ لأنه ينتفع بشهادته لتبسط كل واحد منهما في مال الآخر عادة، واتساعه سعته، وإضافة مال كل منهما إلى الآخر.

الثالث: الجار إلى نفسه، أو الدافع عنها؛ كشهادة الغرماء للمفلس أو الميت؛ بدَين، أو عين؛ فإنه لوثبت له تعلقت حقوقهم به؛ بخلاف غيرهما من الغرماء فإنه لا يتعلق حق الشاهد بما يشهد به.

وكذلك لا تقبل شهادة الورثة للمورث، ولا شهادة الوصي بمال الميت؛؛ لأنه يثبت له فيه حق التصرف.

وكذلك شهادة الشريك لشريكه بمال الشركة، ولا الوكيل لموكله؛ فيما هو موكل فيه، ولا تقبل شهادة الأجير لمستأجره.

فإن شهد الشريك لشريكه بغير مال الشركة، أو الوكيل بغير ما وُكِّل به: قُبِلَت شهادتهم؛ لعدم التهمة فيهم.

الرابع: مَن تُرَدُّ شهادته لفسقه، ثم أعادها بعد عدالته: لم تقبل للتهمة في أدائها، لكونه تَعَيَّر بردها فربما قصد بأدائها أن تقبل لإزالة العار الذي لحقه بِرَدِّها.

الخامس: مَن شهد بشهادة تُرَدُّ في البعض: رُدَّت في الكل؛ مثل مَن شهد على رجل أنه قذفه وأجنبياً، أو قطع الطريق عليه، أو على أجنبي، أو شهد الأب لابنه وأجنبي بدَين، أو لشريكه وأجنبي: فلا تقبل؛ لأنها شهادة متهم فيها، فلم تقبل.

السادس: العداوة تمنع قبول شهادة العدو على عدوه؛ لأنه يتهم في إرادة الضرر بعدوه.

فصل

ومَن شهد شهادة زور: فُسِّق، وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر!، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور. فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.

ويثبت أنه شاهد زور بأحد ثلاثة أشياء:

أحدهما: أن يقر بذلك.

والثاني: أن تقوم البينة به.

والثالث: أن يشهد بما يَقطع بكَذِبه؛ مثل أن يَشهد بموت مَن تُعْلَم حياته، أو بقتله في مكان، والمشهود عليه في ذلك الوقت في بلد آخر.

ولا يثبت ذلك بتعارض الشهادتين.

ومتى ثبت أنه شاهد زور: عَزَّره الحاكم، بما يراه؛ من الضرب أو الحبس، وشَهَّر به.

فأما الغلط والنسيان فلا يصير به شاهد زور؛ لأنه لم يتعمده.

فصل

ومَن قذف، أو فعل معصية توجب رَدَّ شهادته؛ فتاب: قبلت شهادته؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[، نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب، وقسنا عليه سائر مَن ذكرنا.

والتوبة من الذنب: الاستغفار، والندم على الفعل، والعزم على أن لا يعود، والإقلاع عن الذنب؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[.

وإن كان الذنب مظلمة لآدمي، فالتوبة منه: الإقلاع عنها، والتخلص منها؛ بإيفاء صاحبها، أو التحلل منه، وإن عجز عن ذلك: عزم على إيفائه متى قدر.

وإن كان الذنب قذفاً فإقلاعه عنه: إكذابه لنفسه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه.

باب عدد الشهود

والحقوق تنقسم ستة أقسام:

أحدها: ما لا يكفي فيه إلا أربعة شهداء؛ وهو الزنا؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[، واللواط زناً؛ فلا يقبل فيه إلا أربعة كذلك، ولأنه فاحشة؛ بدليل قول الله تعالى لقوم لوط: ]أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ[؛ فيعتبر فيه الأربعة؛ لقوله تعالى: ]وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ[.

فأما المباشرة دون الفرج، وسائر ما يوجب التعزير: فيُكْتَفى فيه بشاهدين؛ لأنه ليس بزنا موجب للحد.

القسم الثاني: سائر العقوبات؛ كالقصاص وسائر الحدود: فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين؛ لما روي عن الزهري قال: جرت السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تقبل شهادة النساء في الحدود.

القسم الثالث: المال وما يوجبه؛ كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصية له، والضمان، والكفالة: فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء[؛ وقال تعالى: ]يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ[، فالآية الأولى نص على المداينة، والآية الأخرى نص في الوصية،  وقسنا عليه سائر ما ذكرنا.

القسم الرابع: ما ليس بمال ولا عقوبة؛ كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والوكالة، والوصية إليه، والولاية، والعزل وشبهه؛ فيقبل فيه رجل وامرأتان، أو يمين، لأنه ليس بعقوبة، فأشبه المال.

وإن اختلف الزوجان في الصداق: ثبت بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه مال.

وإن اختلفا في الخلع فادعاه الرجل، وأنكرته المرأة: قُبِل فيه رجل وامرأتان؛ لأنه بينة لإثبات المال.

فإن ادعته المرأة وأنكره الرجل: لم يُقْبَل فيه إلا رجلان؛ لأنه بينتهما لإثبات الفسخ.

وإن اختلفا في عوضه خاصة: ثبت برجل وامرأتين؛ لأن الخلاف في المال.

القسم الخامس: ما لا يطلع عليه الرجال؛ من الولادة، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والحيض، والعدة: فيُقْبَل فيه شهادة امرأة عدلة؛ للحديث الذي أخرجه البخاري من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه: كَيْفَ وَقَد زَعَمَتْ أنها قد أرْضَعَتْكُما، وتَرجم له البخاري بقوله: باب شهادة المُرْضِعة.

وتقبل شهادة النساء في الاستهلال، لأنه يكون عند الولادة، ولا يحضرها الرجال.

وتقبل شهادة المرضعة على الرضاع؛ لحديث عقبة.

القسم السادس: ما لا يعرفه إلا أهل الاختصاص في كل فن، كأهل الطب في الضربة على الرأس: فإذا لم يقدر على اثنين: قُبِل فيه قول الواحد العدل من أهل المعرفة؛ لأن مما يعسر عليه إشهاد اثنين، فيقبل فيه قول الواحد، وإن أمكن إشهاد اثنين: لم يكتف بدونهما؛ لأنه الأصل.

باب تحمل الشهادة وأدائها

لا يجوز تحملها، وأداؤها إلا عن علم؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[، وقوله سبحانه: ]إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[.

فإن كانت الشهادة على فعل؛ كالخيانة والغصب: لم تجز إلا عن مشاهدة.

وإن كانت الشهادة على قول؛ كالبيع، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والإقرار: لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول، ومعرفة القائل يقيناً؛ لأن العلم لا يحصل بدونهما.

وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل: اعتبر ذلك؛ لتوقف العلم عليه.

وإن حصل العلم بدونه؛ لمعرفته صوت القائل: كفى؛ لأنه عَلِم المشهود عليه، فجازت الشهادة عليه، كما لو رآه.

فصل

وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة، في ثمانية أشياء: النسب، والنكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والولاية، والعزل.

لأن هذه الأمور، يتعذر في الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة: فجاز أن يُشْهَد عليها بها.

ويكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما؛ فإن الحق يثبت بقول اثنين.

وإن سمع إنساناً يقر بحق: جاز أن يشهد عليه؛ وإن لم يقل له: اشهد عليَّ؛ لأنه سمع إقراره يقيناً: فجاز أن يشهد به، كما يشهد على الفعل برؤيته.

وإن سمعه يقر بسببه؛ كالقرض ونحوه: لم يشهد به؛ لأنه يجوز أن يكون قد وفاه، ولا يجب أداؤه حتى يقول له: اشهد علي؛ فإذا قاله وجب عليه الأداء إذا دعي؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ[.

فصل

ومَن رأى في يد إنسان شيئاً مدة يسيرة: لم يجز أن يشهد له بالملك؛ لأن ملك غيره قد يكون في يده.

فصل

وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة؛ لأنه يحصل له العلم بها كالبصير.

وبالترجمة؛ لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم.

وفيما طريقه السماع إذا عرف القائل يقيناً؛ لأنه تجوز روايته بالسماع.

ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية؛ لأنه لا رؤية له؛ فإنَّ تحمل الشهادة عليها وهو بصير، ثم عمي: جاز أن يشهد إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه؛ لأنه يشهد على ما يعلمه، فإن لم يعرفه إلا بعينه: لم يشهد عليه، إلا أن يتيقن صوته: فيجوز أن يشهد عليه؛ لعلمه به.

فصل

ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه، والمشهود له.

ولا يشهد على امرأة، حتى ينظر إلى وجهها، ويعرف كلامها.

فصل

ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم.

فصل

ويعتبر في أداء الشهادة: الإتيان بلفظها، فيقول: أشهد بكذا.

فإن قال: أعلم وأتيقن، ونحوه: لم يعتد به؛ لأنها مشتقة من اللفظ.

وإذا شهد بأرض، أو دار: فلا بد من ذكر حدودها؛ لأنها لا تعلم إلا بذلك.

وإن شهد بنكاح: اشترط ذكر شروطه؛ من الولي، والشهود، والإيجاب والقبول؛ لأن الناس يختلفون فيها.

وإن شهد بالرضاع: احتاج إلى وصفه، وأنه ارتضع من ثديها، أومن لبن حُلِب منه، وذكر عدد الرضعات، وأنه في الحولين.

وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها؛ فأرضعته: لم يجز أن يشهد برضاعه؛ لأنه يجوز أن يتخذ شيئاً على هيئة الثدي يمتصه غير الثدي.

وإن شهد بالجناية: ذَكَر صفتها، فيقول: ضربه بكذا ـ ويذكر الأداة ـ فقتله، أو أماته، أو فمات منه، أو ضربه فأوضحه.

فصل

ومن شهد بالزنا: فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها؛ لئلا يراه على امرأة تحل له فيعتقده زنا، وأنه رأى ذكره في فرجها، وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان؟ يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يفتقر إلى ذكرهما؛ لأن الأزمنة في الزنا واحد، فلا تختلف.

والثاني: يفتقر إلى ذكره؛ لتكون شهادتهم على فعل واحد، لئلا يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر.

ومَن شهد على سرقة: ذَكَر السارق، والمسروق منه، والحرز، والنصاب؛ لأن الحكم يختلف باختلافها.

ومَن شهد بالردة: بَيَّن ما سمع منه؛ لاختلاف الناس فيما يَصير به مرتداً: فلم يجز الحكم به قبل البيان.

فصل

وكل حق لله تعالى؛ كالحدود، والحقوق المالية، وكذا كل ما كان حقاً لآدمي غير معين؛ كالوقف على الفقراء والمساجد والمقبرة المسبلة: فلا يفتقر أداء الشهادة فيه إلى تقدم دعوى؛ لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها.

وما عدا ذلك: فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم الدعوى؛ لأن الشهادة فيه حق لآدمي، فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه.

باب الشهادة على الشهادة

تجوز الشهادة على الشهادة فيما يثبت بشاهد وامرأتين؛ لأنه مبني على المساهلة: فجازت فيه الشهادة؛ كالأموال.

ولا تُقبل الشهادة على الشهادة في حد الله تعالى؛ لأن مبناه على الدرء بالشبهات، وهذه لا تخلو من شبهة.

فصل

ولها أربعة شروط:

أحدهما: تعذر شهود الأصل؛ لموت، أو مرض، أو غَيْبَة، أو خوف، أو نحوه.

الثاني: أن يتحقق شروط الشهادة؛ من العدالة، وغيرها، في كل واحد من شهود الأصل والفرع؛ لأن الحكم ينبني على الشهادتين معاً.

الثالث: أن يُعَيِّن شهودُ الفرع شهودَ الأصل بأسمائهم، وأنسابهم.

الرابع: أن يسترعي شاهد الأصل شهادة الفرع؛ فيقول: اشهد على شهادتي، آني أشهد لفلان على فلان بكذا، أو أقر عندي بكذا.

ولو سمع رجلاً يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا: لم يجز أن يشهد به؛ لأنه يحتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد: فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال.

بخلاف ما إذا استرعاه؛ لأنه لا يسترعيه إلا على واجب.

وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو سمعه يشهد بحقٍ يعزيه إلى سببه؛ كقوله: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً من ثمن مبيع، ففيه قولان:

أحدهما: لا يشهد به؛ لوجود الاحتمال.

والثاني: يجوز أن يشهد به؛ لأنه لا يحتمل مع ذلك إلا الوجوب، فيزول به الاحتمال، ويرتفع به الإشكال: فجاز أن يشهد به، كما لو استرعاه.

فصل

ويعتبر دوام هذه الشروط إلى حين الحكم.

فلو شهد الفروع عند الحاكم؛ فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل، أو صحوا من المرض: وقف الحكم على سماع شهادتهم؛ لأن الحاكم قَدَر على الأصل قبل العمل بالبدل.

فصل

ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها؛ فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته.

وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو يعزي الحق إلى سبب: ذَكَرَه.

باب اختلاف الشهود

إذا ادعى ألفين على رجل فشهد له شاهد بهما، وشهد له آخر بألف: ثبت له الألف بشهادتهما؛ لاتفاقهما، ويحلف مع شاهده على الألف الأخرى؛ لأن له بها شاهداً واحداً فقط.

وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر.

أو شهد اثنان أنه زنى بها غدوة، وشهد اثنان أنه زنى بها عشياً: فهم قَذَفَة، وعليهم الحد؛ لأنه لم يشهد الأربعة على فعل واحد؛ فأشبه ما لو شهد اثنان على رجل أنه زنا بامرأة، وشهد اثنان أنه زنا بامرأة أخرى؛ فيلزم الشهود الحد، دون المشهود عليه.

وإن شهد اثنان، أنه زنا بها مطاوعة، واثنان أنه زنا بها مكرهة: فلا حد على المرأة، ولا على الرجل؛ لأن الشهادة لم تكمل على واحد من الفعلين؛ فإن زنا المكرَهة غير الزنا من المطاوعة.

وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه قتل خطأ: ثبت القتل؛ لاتفاقهما عليه، ولم يثبت العمد، والقول قول المشهود عليه مع يمينه في أنه خطأ.

وإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشياً، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف، وشهد الآخر أنه قتله بسكين: لم يثبت القتل؛ لأنهما لم يشهدا بفعل واحد.

فإن شهد شاهد أنه قذفه غدوة، وشهد آخر أنه قذفه عشياً، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية: لم تُكْمَل شهادتهما؛ لأن البينة لم تكمل على قذف واحد.

وكذلك إن كانت الشهادة بالنكاح، أو بفعل؛ كالقتل، والسرقة، والغصب؛ فاختلفا في المكان، أو الزمان: لم تكمل البينة كذلك.

وإن شهد أحدهما أنه أقر بقذفه، أو بقتله يوم الجمعة، وشهد الآخر: أنه أقر بذلك يوم الخميس، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر بالعجمية: ثبت المشهود به؛ لأنه المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة.

 وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً غدوة، وشهد الآخر أنه سرقه بعينه عشياً: لم يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على سرقة واحدة.

وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ثمن دينار، وشهد الآخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار: لم تكمل بينة الحد؛ لاختلافهما في النصاب.

باب الرجوع عن الشهادة

إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما: لم يحكم بها؛ لأنها شرط الحكم فيشترط استدامتها إلى انقضائه، كعدالتهما.

فإن رجعا بعد الحكم بها في حد، أو قصاص، قبل الاستيفاء: لم يجز استيفاؤه؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها.

وإن رجعا بعد الاستيفاء في حد، أو قصاص، وقالا: عمدنا ذلك ليقتل: فعليهما القصاص، وإن قالا: عمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه يقتل: فعليهما دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد، وإن قالا: أخطأنا: فعليهما الدية مخففة، وإن اتفقا على أن أحدهما عامد، والآخر مخطىء: فلا قصاص عليهما، وعلى العامد نصف دية مغلظة، وعلى الآخر نصفها مخففة، وإن قال أحدهما: عمدنا جميعاً، وقال الآخر: أخطأنا جميعاً: فعلى العامد القَوَد؛ لإقراره بما يوجبه، وعلى المخطىء نصف الدية مخففاً.

فصل

وإن شهدا بمال ثم رجعا بعد الحكم به: غُرِّماه، ولا يرجع على المحكوم له به سواء كان المال تالفاً، أو قائماً؛ لأنهما حالا بينه وبين ماله بعدوان: فلزمهما الضمان.

فإن رجع أحدهما غُرِّم النصف.

وإن كانوا ثلاثة: فالضمان بينهم على عددهم.

وإن رجع أحدهم: فعليه بقسطه.

وإن شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا: فعلى الرجل النصف، وعلى كل واحدة منهما الربع.

وإن رجع بعضهم: فعلى الراجع بقسطه.

وإن حُكِم له بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد: فعليه غرامة المال كله؛ لأن الحكم بشهادته، وإنما اليمين مقوية له.

فصل

ومَن حُكِم له بمال، أو بضاعة، أو غيرهما بشهادة زور، أو يمين فاجرة: لم يحل له أخذه؛ لما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له بما أسمع، وأظنه صادقاً؛ فمَن قضيت له، بشيء مِن حق أخيه، فإنما أَقطع له قطعة من النار؛ فليأخذها أو يدعها. متفق عليه.

 

كتاب الإقرار

والحكم به واجب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: واغد يا أنيس على امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها.

ورجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ماعزاً والغامدية، والجهنية، بإقرارهم.

ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة فلأن يجب بالإقرار مع بُعْدِه من الريبة أولى.

فإن كان المقَرُّ به حقاً لآدمي، أو لله تعالى؛ لا يسقط بالشبهة، كالزكاة، والكفارة، ودعت الحاجة إلى الإقرار به: لزمه ذلك؛ لقول الله تعالى: ]كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ[، وقوله: ]فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ[، والإملال: الإقرار.

وإن كان حداً لله: لم يلزمه الإقرار به؛ لأنه مندوب إلى الستر على نفسه.

فصل

ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار.

فأما الطفل والمجنون، والنائم: فلا يصح إقرارهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رُفِع القلم عن ثلاثة.

ولا يصح إقرار المكْرَه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. رواه سعيد.

وإن ادعى أنه أقر مكرهاً: لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة.

وإذا ادعى أنه كان مقيداً، أو محبوساً: فالقول قوله مع يمينه؛ لأن هذه دلالة الإكراه.

وإن ادعى أنه كان زائل العقل: لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة.

فإن أكره على الإقرار بشيء؛ فأقر بغيره: لزمه إقراره؛ لأنه غير مكره على ما أقر به.

وكذلك إن أكره على الإقرار لإنسان؛ فأقر لغيره.

فصل

وإقرار المريض بدَين الأجنبي: صحيح؛ لأنه غير متهم في حقه.

وفي قول: لا يقبل في مرض موته؛ لأن حق الورثة تعلق بماله، فلم يقبل إقراره به.

وإن أقر المريض لوارث: لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه إيصال للمال إلى الوارث بقوله فلم يصح؛ كالوصية؛ إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون: فيصح؛ لأن سببه ثابت، وهو النكاح.

فصل

ومِن أقر لرجل بمال في يده، وكذبه المقَرُّ له: بطل إقراره له؛ لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه.

إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، أو أَجَل، أو صدقت، أو إي لعمري: كان مقراً بها؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق.

وإن قال: اقضني الألف التي لي عليك، فقال: نعم: كان مقراً؛ لأنه تصديق.

وإن قال: أنا أُقِرُّ لم يكن مقراً؛ لأنه وعد بالإقرار.

وإن قال: أنا لا أنكر لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل: لا أنكر بطلان دعواك.

وإن قال: لا أنكر أن تكون محقاً لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل أن يريد: محقاً في اعتقادك.

وإن قال: لا أنكر أنك محق في دعواك: كان مقراً؛ لأنه لا يحتمل إلا الدعوى التي عليه.

وإن قال: لعل أو عسى لم يكن مقراً؛ لأنهما للترجي.

وإن قال: أظن أو أحسب لم يكن مقراً؛ لأن هذه وضعت للشك.

وإن قال: لك عليَّ ألف في علمي كان مقراً بها؛ لأن ما عليه في علمه لا يحتمل غير الوجوب.

فصل

إذا قال: له علي ألف قضيتها إياه: لزمه الألف، ولم تسمع دعوى القضاء؛ لأنه أقر أن الألف عليه في الحال، وقوله: قضيتها يرفع ما أقر به كله؛ فلم يقبل، ولأنه بدعوى القضاء يكذب نفسه في الإقرار: فلم تسمع.

باب الاستثناء

لا يصح الاستثناء من غير الجنس، ولا من غير النوع.

فلو قال: له علي عشرة دراهم إلا ثوباً: لزمته العشرة.

وإن قال: له علي طن تمر (معقلي)، إلا مئة كيلو (برنياً): لزمه الطن كله.

فصل

وإن أقر بدار إلا بيتاً منها عَيَّنَه: لم يدخل البيت في إقراره، لأنه استثناه، ولكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل.

وإن قال: إلا ثلثها، أو إلا ربعها: صح؛ وكان مقراً بالباقي.

فإن قال: له هذه الدار إلا نصفها: صح؛ وكان مقراً بالنصف.

وإن قال: له هذه الدار سكناها، أو قال:هي له سكنى، أو عارية: صح.

باب الرجوع عن الإقرار

ومن أقر بحق لآدمي، أو حق لله تعالى: لا تسقطه الشبهة؛ كالزكاة، والكفارة، ثم رجع عن إقراره: لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره فلم يسقط بغير رضاه، كما لو ثبت ببينة.

وإن أقر بحد، ثم رجع عنه: قُبِل رجوعه.

ولو أقيم عليه بعض الحد، ثم رجع: قُبِل رجوعه، ويخلى سبيله؛ لما روي أن ماعزاً هرب في أثناء رجمه، قال جابر: فأدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهلا تركتموه يتوب؛ فيتوب الله عليه.

 

كتاب الجنايات

قتل الآدمي بغير حق محرم، وهو من الكبائر إذا كان عمداً؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[، ويوجب القصاص؛ لقول الله تعالى: ]كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى[، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين؛ إما أن يَقتل، وإما أن يُفْدَى. متفق عليه.

فصل:

والقتل على ثلاثة أضرب.

عمد، وهو: أن يقصده بمحدد، أو ما يقتل غالباً، فيقتله.

والثاني: الخطأ، وهو: أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله: فلا قصاص فيه؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، ولأن القصاص عقوبة: فلا تجب بالخطأ، كالحد.

والثالث: خطأ العمد، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالباً فيقتله: فلا قصاص فيه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مئة من الإبل. رواه أبو داود، ولأنه لم يقصد القتل: فلا تجب عقوبته.

فصل:

يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط:

أحدها: العمد.

والثاني: كون القاتل مكلفاً: فلا يجب على صبي، لا مجنون، ولا نائم، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، ولأنه عقوبة مغلظة: فلم تجب عليهم، كالحد.

فإن وجب عليه القصاص؛ ثم جن: لم يسقط؛ لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بجنونه، كسائر الحقوق.

الثالث: أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل، وهو أن يساويه في الدين؛ فيقتل المسلم بالمسلم، ذكراً كان أو أنثى؛ لقوله تعالى: ]كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى[، ولما روى عمر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كتب إلى أهل اليمن: أن الرجل يقتل بالمرأة. رواه النسائي.

الرابع: انتفاء الأبوة؛ فلا يقتل والد بولده وإن سفل، والأب والأم في هذا سواء؛ لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا يقتل والد بولده. رواه ابن ماجه.

ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين.

فصل:

إذا اشترك جماعة في قتل عمداً: فيجب القصاص على جميعهم، لما روى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحداً، وقال: لم تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً، ولم ينكره منكر؛ فكان إجماعاً.

باب جنايات العمد الموجبة للقصاص

وهي تسعة أقسام:

أحدها: أن يجرحه بمحدد؛ يقطع اللحم والجلد؛ كالسيف، والسكين، والسنان، والقدوم، وما حُدِّد من حجر، أو خشب، أو قصب، أو زجاج، أو نحوه، كالمسلة، والسهم؛ فيموت به: فهذا موجب للقصاص إجماعاً.

وإن غرزه بإبرة في مقتل؛ كالصدر والفؤاد والخاصرة والعين وأصل الأذن؛ فمات: وجب القود.

وإن غرزه في غير مقتل؛ كالألية والفخذ؛ حتى مات: وَجَبَ القود؛ لأن الظاهر موته به.

القسم الثاني: ضربه بمثقل كبير، يَقتل مثله غالباً، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو ألقى عليه حائطاً أو حجراً كبيراً، أو رَضَّ رأسه بحجر: فعليه القود.

وإن ضربه بقلم، أو إصبع، أو شبههما: فلا قود فيه؛ لأنه لم يقتله.

وإن كان مما لا يحتمل الموت به؛ كالعصا والوكزة بيده فكان في مقتل، أو والى الضرب به، أو عصر خصيتيه عصراً شديداً؛ بحيث يقتل غالباً: ففيه القود، وإن لم يكن مثله يقتل غالباً: فهو عمد الخطأ؛ لا قود فيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مئة من الإبل. رواه أبو داود.

القسم الثالث: منع خروج نَفَسِه؛ إما بخنقه بحبل أو غيره، أو غمه بمخدة، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالباً، ونحو هذا: ففيه القود؛ لأنه يقتل غالباً.

وإن خلاه حياً متألماً فمات: فعليه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته.

وإن صح منه ثم مات: لم يضمنه؛ لأنه لم يقتله.

وإن كان ما فعله به، لا يموت منه غالباً؛ فمات: فهو عمد الخطأ.

القسم الرابع: إلقاؤه في مهلكة؛ كالنار، والماء الكثير الذي لا يمكن التخلص منه؛ لكثرته، أو ضعف الملقى، أو ربطه، ونحو ذلك، أو ألقاه من شاهق؛ يقتل غالباً: ففيه القود؛ لأنه يقتل غالياً.

وإن كان لا يقتل غالباً، أو التخلص منه ممكن: فلا قود فيه؛ لأنه عمد الخطأ.

القسم الخامس: أن يُنْهِشه حية، أو سَبُعاً قاتلاً، أو يجمع بينه وبين أسد، أو نَمِر، أو حية، في موضع ضيق، أو ألقاه مكتوفاً بين يدي أسد، أو نحوه مما يقتل غالباً؛ ففعل به السبع فعلاً: ففيه القود.

القسم السادس: سقاه سماً مكرهاً، أو خلطه بطعامه، أو بطعام قَدَّمَه إليه، أو أهداه إليه؛ فأكله غير عالم بحاله: ففيه القود؛ لما روي أن يهودية أهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بخيبر شاة مصلية، فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه، ثم قال: ارفعوها؛ فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة، فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على ما صنعت؟، فقالت: إن كنت نبياً لم يضرك، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، فأكل منها بشر بن البراء بن معرور فمات؛ فأرسل إليها فقتلها. رواه أبو داود.

القسم السابع: قتله بسحر يقتل غالباً: ففيه القود؛ لأنه يقتل غالباً، أشبه السكين.

وإن كان مما لا يقتل غالباً: فهو خطأ العمد.

القسم الثامن: حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالباً؛ فمات: ففيه القود؛ لأنه يقتل غالباً.

وإن كانت المدة لا يموت فيها غالباً: فهو شبه عمد.

وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالباً زيادة تقتله؛ فمات منه: ففيه القود؛ لأنه يقتل غالباً.

وإن كانت الزيادة غير معلومة: فهو شبه عمد.

وإن أمسكه لرجل ليقتله؛ فقتله: ففيه قولان:

أحدهما: عليه القصاص؛ لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالباً؛ فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا.

والثاني: لا قصاص؛ لكن يحبس حتى يموت؛ لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، وقتله الآخر: يُقْتَل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك. أخرجه الدارقطني، ولأنه حبس إلى الموت، فيفعل به مثل فعله.

وإن أمسكه لغير القتل؛ فقُتِل: فلا ضمان على الممسك؛ لأنه لم يقتله، ولا قصد قتله.

القسم التاسع: أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالباً، وهو أربعة أنواع:

أحدها: أن يُكْرِه غيرَه على قتله: فيجب القصاص على المكرِه والمكرَه جميعاً.

النوع الثاني: أن يأمر مَن لا يميز من المجانين والصبيان؛ فيقتله: فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له.

وإن أمر السلطان رجلاً يقتل رجل بغير حق، ولم يعلم الحال؛ فقتله: فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور في قتله، لكونه مأموراً بطاعة السلطان من غير المعصية.

وإن علم أنه مظلوم: فالقصاص عليه وحده؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. مسند أحمد.

وإن أمر غير السلطان بالقتل؛ فقتل: فالقصاص على القاتل وحده؛ علم أو جهل؛ لأنه لا تلزمه طاعته.

النوع الثالث: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب القتل؛ فقتل بغير حق، ثم رجعا عن الشهادة، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل: فعليهما القود.

النوع الرابع: الحاكم إذا حَكَم عليه بما يوجب قتله ظلماً متعمداً؛ فقتل: فعليه القصاص لذلك.

 

باب القصاص فيما دون النفس

يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع؛ لقول الله تعالى: ]وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى الحفظ؛ فكان كالنفس في القصاص.

فصل:

وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة؛ مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملاً واحداً حتى يُبِينوا يده: فعلى جميعهم القصاص.

وإن تفرقت جناياتهم؛ بأن قطع كل واحد من جانب، أو قطع واحد، وأتمه آخر، أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة: فلا قصاص؛ لأن فعل كل واحد في بعض العضو: فلم يجز أخذ جميع عضوه، كما لو لم يقطع الآخر.

فصل:

والقصاص فيما دون النفس نوعان: جروح، وأطراف.

فأما الجروح: فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم.

سواء كان موضحة في رأس، أو وجه، أو ساعد، أو عضد، أو فخذ، أو ساق، أو ضلع، أو غيره؛ لقول الله تعالى: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف، فوجب كما في الطرف.

وما لا ينتهي إلى عظم؛ كالجائفة، وما دون الموضحة من الشجاج، أو كانت الجناية على عظم؛ ككسر الساعد، والعضد، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة: لم يجب القصاص؛ لأن المماثلة غير ممكنة، ولا يُؤْمَن أن يُسْتَوفى أكثر من الحق: فسقط.

ويجب الأرش؛ لأنه لَمَّا تعذر القصاص ننتقل إلى الأرش؛ كما لو تعذر في جميعها.

فصل:

ويجب في الموضحة: قدرها طولاً وعرضاً؛ لقول الله تعالى: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، والقصاص: المماثلة.

ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة.

فإن كانت في الرأس، حُلِق موضِعُها في رأس الجاني، وعُلِم القدر المستحق بسواد، أو غيره، ثم اقتص.

فإن كانت في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو وسطه، فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها: لم يجز غيره.

فصل:

النوع الثاني: الأطراف؛ ويجب القصاص فيها.

فتقلع العين بالعين؛ لقول الله تعالى: ]وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ[، ولأنه يمكن القصاص فيها؛ لانتهائها إلى مفصل: فوجب.

وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء.

كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض.

وإن جنى على رأسه بلطمة؛ فأذهب ضوء عينيه: وجب القصاص؛ لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية، فوجب القصاص فيه بالسراية.

وإن قلع الأعور عين مثله عمداً: ففيه القصاص؛ لتساويهما.

وإن قَلَعَ عين صحيح: فلا قصاص عليه، وعليه دية كاملة؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولأنه لم يذهب بجميع بصره: فلم يجز أن يذهب بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين، ويجب جميع الدية؛ لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته، ضوعفت الدية عليه.

وإن قَلَع عيني صحيح: خُيِّر بين قلع عينه ولا شيء له سواه؛ لأنه أخذ جميع بصره لجميعه، وبين دية عينيه؛ لأن القصاص لم يتعذر.

وإن قَلَعَ صحيحٌ عينَ الأعور: فله الاقتصاص من مثلها، ويأخذ نصف الدية.

فصل:

ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لقوله سبحانه: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، ولأنه ينتهي إلى مفصل، ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر؛ لأنهما متساويان في السلامة والنقص، وعدم البصر نقص في غيره؛ فلم يمنع جريان القصاص فيه.

فصل:

ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى: ]وَالأَنفَ بِالأَنفِ[، ولا يجب القصاص إلا في المارن، وهو ما لان منه؛ لأنه ينتهي إلى مفصل.

ويؤخذ الشامُّ بالأخشم، والأخشم بالشامِّ؛ لتساويهما في السلامة.

ويؤخذ البعض بالبعض؛ فيقدر ما قطعه بالأجزاء، كالنصف والثلث، ثم يُقتَص من مارن الجاني بمثله، ولا يؤخذ بالمساحة؛ لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه.

ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز.

ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه أو انخرم؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه.

فصل:

وتؤخذ الأذن بالأذن، لقوله تعالى: ]وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ[، ولأنها تنتهي إلى حد فاضل.

وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم، وأذن الأصم بأذن السميع.

والمثقوبة للزينة كالصحيحة؛ لأن الثقب ليس بنقص.

ويؤخذ البعض بالبعض.

ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة، وتؤخذ المخرومة بالصحيحة.

فصل:

وتؤخذ السن بالسن، لقوله تعالى: ]وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ[، وقصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما، حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال: أتكسر ثنية الربيع‏؟، والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أنس! كتاب الله القصاص، يعني: السن بالسن.

ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة.

وإن كسر بعض السن: بُرِدَ من سن الجاني مثله بقدر الإجزاء؛ إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها: فيسقط القصاص؛ لأن توهم الزيادة يسقط القصاص.

فصل:

وتؤخذ الشفة بالشفة، وهي: ما جاوز حد الذقن والخدين علواً وسفلاً؛ لقوله سبحانه: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه: فوجب.

ويؤخذ البعض بالبعض، ويُقَدَّر بالأجزاء.

فصل:

ويؤخذ اللسان باللسان؛ لقوله سبحانه: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، والمعنى: وبعضه ببعضه.

ولا يؤخذ أخرس بناطق؛ لأنه أكثر من حقه.

ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ.

فصل:

وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، وكل إصبع بمثلها، وكل أنملة بمثلها؛ لقوله سبحانه: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[.

فإن قطع يده من الكوع أو المرفق: فله أن يقتص من موضع القطع.

وليس له أن يقتص من دونه؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه فلم يجز أن يستوفي من غيره.

وإن قطعت يد من العضد أو الساعد: لم يجز الاقتصاص من موضع القطع؛ لأنه لا يأمن الزيادة.

وإذا قطعت يده من العضد: لم يملك أن يقطع من الكوع؛ لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصاً فلم يكن له قطع ما دونه,

ولا تؤخذ صحيحة بشلاء؛ لأنها فوق حقه.

ولا تؤخذ كاملة بناقصة؛ فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها، ولا ذات خمس أصابع بذات أربع، ولا بذات خمس بعضها أشل؛ لأنه أكثر من حقه.

فصل:

وتؤخذ الأليتان بالأليتين؛ لقوله سبحانه: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ[، ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل: فوجب فيهما القصاص.

ويؤخذ الذكر بالذكر، ويؤخذ بعضه ببعضه.

ولا يؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي؛ لأنه ناقص، لعدم الإنزال، والإيلاد.

وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين؛ فإن قطع إحداهما، وقال أهل الخبرة: يمكن أخذها من غير تلف الأخرى: اقتص منه، وإن قالوا: يخاف تلف الأخرى: لم يقتص منه؛ لتوهم الزيادة.

ولا قصاص في شفري المرأة؛ لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه: فلم يقتص منه.

فصل:

وإن اختلف العضوان في صغر، أو كبر، أو طول، أو قصر، أو صحة، أو مرض: لم يمنع القصاص؛ لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني يسقط القصاص؛ فيسقط اعتبارها.

فصل:

وما انقسم إلى يمين ويسار؛  كالعينين، والأذنين، والمنخرين، واليدين، والرجلين.

أو إلى أعلى وأسفل؛ كالجفنين، والشفتين: لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك.

باب استيفاء القصاص

لا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان، أو مَن ينوب عنه بشكل مباشر؛ لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي.

ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين؛ لئلا ينكر المقتصُ الاستيفاءَ.

فصل:

وإذا وجب القتل على حامل: لم تقتل حتى تضع؛ لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: إذا قَتلت المرأة عمداً: لم تُقْتَل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً، وحتى تكفل ولدها، وإن زنت: لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها. رواه ابن ماجه.

فإذا وضعت: لم تُقتل حتى ترضعه مدة الرضاع؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: حتى تكفل ولدها.

ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام؛ لأن عليه ضرراً في اختلاف اللبن عليه.

فصل:

وإذا اقتص من الطرف على الوجه الشرعي؛ فسرى: لم يجب ضمان السراية؛ سواء سرى إلى النفس، أو عضو آخر.

وإن تعدى في القطع، أو قطع بآلة مسمومة؛ فسرى: ضمن السراية؛ لأنه سراية قطع غير مأذون فيه.

فصل:

وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه: عولج بما يزيل الضوء، ولا يذهب بالحدقة.

وإن ذهب ضوء إحداهما، غطيت العين الأخرى، و عولج بما يزيل الضوء، ولا يذهب بالحدقة.

لما روى يحيى بن جعدة: أن أعرابياً قدم بحلوبة له المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه  فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أُضْعِف لك الدية، وتعفو عنه؟ فأبى، فرفعهما إلى علي رضي الله عنه ، فدعا عليٌّ بمرآة، فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه، حتى سال إنسان عينه.

باب العفو عن القصاص

وهو مستحب؛ لقول الله تعالى: ]وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ[.

ومن وجب له القصاص: فله أن يقتص، وله أن يعفو عنه مطلقاً إلى غير بدل، وله أن يعفو على المال؛ لقول الله تعالى: ]فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[، أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو.

وروى أبو شريح الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا لقتيل من هذيل، وأنا والله عاقله؛ فمن قتل بعده قتيلاً، فأهله بن خيرتين، إن أحبوا قَتَلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية. رواه أبو داود.

وإذا عفا عن القصاص، أو عن بعضه: سقط كله؛ لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض؛ فإذا سقط بعضه سقط جميعه.

وإن وجب لجماعة؛ فعفا بعضهم: سقط كله.

ثم إن عفا على مال: انتقل حق الجميع إلى الدية.

وإن عفا مطلقاً: انتقل حق الباقين إلى الدية.

فصل:

ويصح العفو بلفظ العفو؛ لقوله تعالى: ]فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ[.

وبلفظ الصدقة؛ لقوله تعالى: ]فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ[.

وبلفظ الإسقاط؛ لأنه إسقاط للحق.

وبكل لفظ يؤدي معناه؛ لأن المقصود المعنى؛ فبأي لفظ حصل ثبت حكمه.

 

كتاب الديات

تجب الدية بقتل المؤمن، والذمي، والمستأمن، ومن بيننا وبينه هدنة؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ[ إلى قوله تعالى: ]وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً[.

فصل:

وإذا اشترك الجماعة في القتل: فعليهم دية واحدة تُقْسم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بين الجماعة على عددهم.

وإن كان القتل عمداً: فالدية واحدة، وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم، ويعفوا عن البعض، ويأخذ الدية من الباقين: فله ذلك، ويأخذ منهم حصتهم من الدية.

فصل:

ومن حفر بئراً في الطريق، أو وضع حجراً أو حديدة، أو قشر بطيخ، أو ماء؛ فهلك به إنسان: ضمنه؛ لأنه تعدى به، ولزم ضمان ما هلك به، كما لو جنى عليه.

فإن دفعه آخر في البئر أو على الحجر، أو الحديدة: فالضمان على الدافع؛ لأنه مباشر، والآخر صاحب سبب.

وإن حفر بئراً، أو نصب حديدة، ووضع آخر حجراً؛ فعثر بالحجر فوقع في البئر، أو على الحديدة؛ فمات: فالضمان على واضع الحجر؛ لأنه الذي ألقاه.

فصل

وإن كان في داره بئر، فدخل إنسان بغير إذنه؛ فهلك بها: لم يضمنه؛ لأن التفريط من الداخل.

وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في موضع يراها الداخل: لم يضمنه.

وإن كانت مغطاة، أو في ظلمة، أو الداخل ضريراً: ضمنه؛ لأنه فرط في ترك إعلامه.

فصل:

وإن بنى حائطاً مائلاً إلى الطريق، أو إلى ملك غيره؛ فسقط على شىء أتلفه: ضمنه؛ لأنه تلف بسبب تعدى به.

وإن بناه في ملكه مستوياً؛ فمال إلى الطريق، أو إلى ملك غيره؛ فأمره المالك أو أي إنسان بنقضه، وأمكنه ذلك فلم يفعل: ضمن ما تلف به؛ لأن ذلك يضر المالك والمارة، فكان لهم المطالبة بإزالته، فإذا لم يزله، ضمن.

فصل:

وإذا رمى إلى الهدف، فمر صبي فأصابه السهم؛ فقتله، أو مرت بهيمة؛ فأصابها: ضمن ذلك؛ لأنه أتلفه.

وإن قَدَّم إنسان الصبي، أو البهيمة إلى الهدف؛ فأصابهما السهم: فالضمان على مَن قَدَّمَهما.

وإن أمر مَن لا يميز أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة؛ فهلك بذلك: ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إتلافه.

وإن أمر مَن يميز بذلك؛ فهلك به: لم يضمنه؛ لأنه يفعل ذلك باختياره.

وإن غصب صبياً؛ فأصابته عنده صاعقة، أو نهشته حية: ضمنه؛ لأنه تلف في يده العادية.

وإن أَدَّب المعلم صبيانه، أو الرجل ولده الأدب المأمور به: لم يضمن ما تلف به؛ لأنه أدب مأمور به.

فصل:

وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها: ضمنه راكبها وقائدها وسائقها.

وما أتلفت برجلها، أو ذنبها: لم يضمنه.

وإن بالت الدابة في الطريق: ضمن ما تلف به؛ لأنه كما لو صبه فيها.

وإن كان على دابة راكبان: فالضمان على الأول منهما؛ لأنه المتصرف فيها.

وإن كان لها قائد وسائق: اشتركا في الضمان؛  لاشتراكهما في تمشيتها.

فصل:

وإذا اصطدم نفسان فماتا: فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه، وإنما هو قَرَّب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد.

فصل:

وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا، وكذا سائر المركبات؛ لتفريط من القيمين، مثل تقصيرهما في آلتهما، وتركهما ضبطهما مع إمكانه، أو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها: ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها.

فإن لم يفرطا: فلا ضمان عليهما؛ لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه، ولا تفريط منهما.

وإن فرط أحدهما دون صاحبه: ضمن المفرط وحده.

وإن فرطا جميعاً، وكان أحدهما منحدراً، ‎والآخر مصعداً: فعلى المنحدر ضمان المصعد.

فصل:

إذا وقع رجل في بئر، ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع؛ فمات الأول: وجبت ديته على الثاني؛ لما روى علي بن رباح اللخمي: أن بصيراً كان يقود أعمى فخرا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير فقتله؛ فقضى عمر بعقل ـ أي ديته ـ البصير على الأعمى.

وإن مات الثاني: هدرت ديته؛ لأنه لا صنع لغيره في هلاكه.

وإن ماتا معاً: فعليه ضمان الأول، ودمه هدر كذلك.

وإن وقع عليهما ثالث: فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته، ودم الثالث هدر.

هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله.

فإن كان البئر عميقاً يموت الواقع بمجرد وقوعه: لم يجب الضمان على أحد؛ لأن كل واحد منهم مات بوقعته، لا بفعل غيره.

فصل:

فإن خر رجل في زبية أسد، فجذب ثانياً، وجذب الثاني ثالثاً، وجذب الثالث رابعاً؛ فقتلهم الأسد: فدم الأول هدر؛ لأنه لا صنع لأحد في إلقائه، وعليه دية الثاني؛ لأنه السبب في قتله، وعلى الثاني دية الثالث كذلك، وعلى الثالث دية الرابع كذلك.

وفيه قول آخر: أن دية الثالث على الأول والثاني نصفين؛ لأن جَذْبَ الأولِ الثاني سببٌ في جذب الثالث، وديةُ الرابع على الثلاثة أثلاثاً كذلك.

لما روي: أن قوماً من أهل اليمين حفروا زبية للأسد فوقع فيها؛ فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب ثانياً، فجذب الثاني ثالثاً، ثم جذب الثالث رابعاً؛ فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه ، فقال: للأول ربع الدية؛ لأنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية؛ لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية؛ لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع الدية كاملة، وقال: وإني أجعل الدية على مَن حفر رأس البئر؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: هو كما قال. رواها سعيد بن منصور بإسناده، وذكرها أحمد.

باب مقادير الديات

دية الإنسان مئة من الإبل؛ لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كتب إلى أهل اليمن، بكتاب فيه الفرائض والسنن: وإن في النفس الديات، مئة من الإبل. رواه مالك في الموطأ والنسائي في السنن.

فصل:

الأصول في الدية ستة أنواع: الإبل، و البقر، والغنم، والذهب، والفضة، والحلل.

لما روي في كتاب عمرو بن حزم: وإن في النفس المؤمنة مئة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار. رواه النسائي.

وعن عمرو بن شعيب أبيه عن جده: إن عمر رضي الله عنه  قام خطيباً فقال: إن الإبل قد غلت، قال: فَقَوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الوَرِق ـ الفضة ـ اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة. رواه أبو داود.

فصل:

وتُغَلَّظ الدية بالقتل في الحَرَم، والإحرام، والشهر الحرام.

وتغلظ بالرحم المَحْرَم.

ومعنى التغليظ: أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث الدية.

فإن اجتمعت الحرمات الثلاث: وجب ديتان.

لما روي عن عثمان رضي الله عنه: أن امرأة وُطِئت في الطواف، فقضى عثمان رضي الله عنه  فيها بستة آلاف، وألفين تغليظاً؛ للحرم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: مَن قتل في الحرم، أو ذا رحم، أو في شهر الحرام: فعليه دية وثلث.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قتل رجلاً في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام، فقال: ديته اثنا عشر ألفاً، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف.

فصل:

ودية الجنين: غرة، قيمتها خمس من الإبل.

لما روي عن عمر رضي الله عنه  أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قضى فيه بغرة، وهو: نصف عشر الدية، قال: لتأتين بِمَن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. متفق عليه.

وروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما، أنهما قالا في الغرة: قيمتها خمس من الإبل.

وإن ألقت جنيناً حياً؛ ثم مات من الضربة، وكان سقوطه لوقت يعيش مثله: ففيه دية كاملة.

فصل:

إذا شربت الحامل دواء؛ فأسقطت جنيناً: فعليها غرة لا ترث منها شيئاً؛ لأن القاتل لا يرث، وتُكَفِّر عن فعلها.

باب ديات الجروح

وهي نوعان: شجاج، وغيرها.

فالشجاج: جروح الرأس والوجه خاصة، وهي عشر.

أولها: الحارصة: وهي التي تشق الجلد قليلاً.

ثم البازلة: وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير، وفيها بعير.

ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، وفيها بعيران.

ثم المتلاحمة: وهي التي تنزل في اللحم، وفيها ثلاثة أبعرة.

ثم السمحاق: وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم تسمى السمحاق؛ فسميت الشجة بها، وفيها أربعة أبعرة.

ثم الموضحة: وهي التي تنهي إلى العظم؛ فتبدي وضحه أي بياضه، وفيها خمس من الإبل.

ثم الهاشمة: وهي التي تهشم العظم بعد إيضاحه، وفيها عشر من الإبل.

ثم المنقلة: وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره، وفيها خمسة عشر من الإبل.

ثم المأمومة: وتسمى الأمَّة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحيط به، وفيها: ثلث الدية.

ثم الدامغة: وهي التي تنتهي إلى الدماغ، وفيها: ثلث الدية أيضاً.

لما روي عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كتب إلى أهل اليمن: في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية. رواه النسائي.

فصل:

النوع الثاني: غير الشجاج، وهي جروح سائر البدن، وذلك قسمان:

أحدهما: الجائفة، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن، أو ظهر، أو ورك، أو صدر أو ثغر نحر: فيجب فيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كتب إلى أهل اليمن: في الجائفة ثلث الدية. رواه النسائي، والكبيرة والصغيرة سواء.

والقسم الثاني: غير الجائفة، مثل إن أوضح عظماً، أو هشمه، أو نقله: فلا يجب سوى الحكومة؛ أي تقدير أهل الخبرة، لأنه لا تقدير ـ شرعياً ـ فيها، ولا يمكن قياسها على المقدر؛ لعدم المشاركة في الشَيْن والخوف عليها منها.

باب دية الأعضاء والمنافع

كل ما في الإنسان منه شيء واحد؛ كاللسان، والأنف، والذَكَر: ففيه الدية كاملة.

وما فيه منه شيئان؛ كالعينين وغيرهما: ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها.

وما فيه منه أربعة؛ كأجفان العينين: ففيهن الدية، وفي إحداهن ربعها.

وما فيه منه عشر؛ كأصابع اليدين والرجلين: ففيها الدية، وفي الواحدة عشرها.

وفي إتلاف منفعة الحس؛ كالسمع، أو البصر، أو الشم، أو العقل، ونحوه: الدية؛ لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي، فجرى مجراه في ديته.

ففي كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لعمر بن حزم: وفي العينين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي العقل الدية، وفي السن خمس من الإبل، ولأنه إجماع، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: وفي العين خمسون من الإبل. رواه مالك في الموطأ، ولما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في الأنف إذا أوعب مارنه جدعاً الدية. رواه النسائي.

فصل

وفي إذهاب النطق والكلام: الدية؛ لأنه من أعظم المنافع.

وإن ذهب بعض الكلام، وجب بقدر ما ذهب؛ لأن ما ضمن جميعه بالدية: ضمن بعضه بقدره منها، ويُقْسَم على حروف اللسان بعددها.

فصل

والأضراس والأنياب والرباعيات في دية الأسنان سواء؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: الأصابع سواء، والأسنان سواء، والثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء. رواه أبو داود.

فصل

وفى اليدين: الدية كاملة؛ لما روى معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: في اليدين الدية، وفي إحداهما نصفها.

سواء قطعهما من الكوع، أو المرفق، أو المنكب، أو مما بين ذلك؛ لأن اليد اسم للجميع.

وفي كل أصبع عُشْر الدية؛ لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفى لفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر. أخرجه البخاري.

وفي كل أنملة: ثلث دية الإصبع إلا الإبهام؛ فإنها مفصلان ففي كل أنملة منها خمس من الإبل.

فصل

وفي الرجلين: الدية، وفي إحداهما: نصفها، وفي كل أصبع: عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام.

فصل

وفي الثديين: الدية، وفي أحدهما: نصفها.

وفي حلمتي الثديين: الدية؛ لأن نفعهما بالحلمتين فبهما يمتص الصبي، فيبطل نفعهما بذهابهما.

وفي الثندوتين: الدية، وهما ثديا الرجل؛ لأن ما وجبت الدية فيه من المرأة وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه.

باب ما تحمله العاقلة و مالا تحمله

في القتل الخطأ وشبه عمد: تجب الدية على عاقلة القاتل؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر؛ فقتلتها، وما في بطنها؛ فقضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بدية المرأة على عاقلتها. متفق عليه.

و لا تحمل العاقلة عمداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً؛ لما روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً.

ولأن حمل العاقلة للتخفيف عن الجاني المعذور، والعامد غير المعذور، ولا يليق به التخفيف.

فصل

وجناية الصبي والمجنون حكمهما حكم خطأ، وتحملهما العاقلة؛ وإن عمداً؛ لأنه لم يتحقق منهما كمال المقصود.

فصل

والعاقلة: العصبة؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن عقل المرأة بين عصبتها مَن كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها. رواه ابن ماجه.

فصل

وليس على فقير من العاقلة، ولا امرأة، ولا صبي، ولا زائل العقل: حمل شيء من الدية؛ لأن وجوبها للنصرة و المواساة.

والحاضر والغائب سواء في العقل؛ لأنهم تساووا في إرثه، فيتساوون في عقله.

ويُقَدَّم الأقرب من العصبات؛ لأنه حكم يتعلق بالعصبات؛ فقُدِّم فيه الأقرب فالأقرب؛ فيُبْدَأ بإخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وبنيهم، وأعمام أبيه وبنيهم كذلك.

ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه.


باب القسامة

إذا وجد قتيل؛ فادعى وليه على إنسان قتله: لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين؛ لأنها دعوى في حق فاشترط لها تعيين المدعى عليه.

فإذا حرر الدعوى، ولم يكن بينهم لَوْث ـ العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه ـ: فالقول قول المدعى عليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعطى الناس بدعاويهم؛ لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه. رواه مسلم، ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله.

و إن كان بينهما لوْث؛ فادعى أنه قتله عمداً: حلف المدعي خمسين يميناً واستحق القصاص؛ لما روى سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج: أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قِبَل خيبر؛ فتفرقا في النخل، فقُتِل عبد الله بن سهل؛ فاتهموا اليهود، فجاء عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كَبِّر الكًبْرَ؛ فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، فقالوا يا رسول الله، قوم كفار ضلال، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من قِبَله. متفق عليه.

وإذا حلف استحق القصاص؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فيدفع إليكم برمته، وفي لفظ: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم، ولأن القسامة حجة يثبت بها القتل العمد: فيجب بها القود؛ كالبينة.

و ليس له القسامة على أكثر من واحد؛ لقوله: يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته، ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه.

و يقسم الورثة دون غيرهم؛ لأنها يمين في دعوى، فلم تشرع في حق غير المتداعيين.

فصل

وإن نكل المدعون: حلف المدعى عليه خمسين يميناً، وبرئ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم.

فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه: فداه الإمام من بيت المال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فدى الأنصاري بمئة من الإبل؛ إذ لم يحلفوا ولم يرضوا بيمين اليهود.

فصل

و تشرع القسامة في كل قتل موجب للقصاص.

ويشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى.

 

باب كفارة القتل

تجب الكفارة على كل من قتل نفساً محرمة مضمونة خطأ بمباشرة أو تسبب؛ كحفر البئر، وشهادة الزور؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ[.

ومَن ضرب بطن امرأة؛ فألقت جنيناً حياً، أو ميتاً: فعليه كفارة؛ لأنه آدمي محقون الدم لحرمته: فوجبت فيه الكفارة كغيره.

وإن قتله وأمه: فعليه كفارتان؛ لأنه قتل نفسين.

فصل

ولا تجب الكفارة بالعمد المحض، سواء أوجب القصاص، أو لم يوجبه؛ لقول الله تعالى: ]وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ[، فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره.

وفي قول: أنها تجب؛ لأنها إذا وجبت في الخطأ مع قلة إثمه؛ ففي العمد أولى.

وأما شبه العمد: فتجب فيه الكفارة؛ لأنه أُجْرِي مجرى الخطأ.

وتجب الكفارة في مال الصبي والمجنون إذا قتلا وإن تعمدا؛ لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه، وهذا من أحكامه.

وتجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله.

فصل

ولا يجب بالجناية على الأطراف كفارة، ولا بقتل غير الآدمي؛ لأن وجوبها من الشرع، و إنما أوجبها في النفس.

فصل

والكفارة: تحرير رقبة مؤمنة.

فمن لم يجد: فصيام شهرين متتابعين.

فإن لم يستطع: يلزمه إطعام ستين مسكيناً؛ لأنها كفارة فيها العتق وصيام شهرين: فوجب فيها إطعام ستين مسكيناً إذا عجز عنهما؛ قياساً على كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان.

وصفة الرقبة والصيام والإطعام كصفة الواجب في كفارة الظهار.

ومَن عجز عن الكفارة: بقيت في ذمته.

 

كتاب قتل أهل البغي

كل مَن ثبتت إمامته: حَرُم الخروج عليه وقتاله.

سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه؛ كإمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .

أو بعهد الإمام الذي قبله إليه؛ كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما.

أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودَعَوْه إماماً.

لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[، وروى أبو ذر وأبو هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة؛ فمات فميتته جاهلية. رواه مسلم.

فصل

والخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام:

قسم لا تأويل لهم؛ فهؤلاء قطاع طريق.

القسم الثاني: الذين يكفرون أهل الحق وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويستحلون دماء المسلمين.

القسم الثالث: قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وراموا خلعه، ولهم مَنَعَة وشوكة، فهؤلاء بغاة، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[.

فصل

وإذا قوتلوا: لم يُتْبَع لهم مدبر، ولم يُجْهَز لهم على جريح، ولم يُقْتَل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم تُؤْذَ لهم ذرية؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال له: يا ابن أم عبد، ما حكم مَن بغى على أمتي؟، فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: لا يُقْتل مُدْبِرهم، ولا يُجْهَز على جريحهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا يُقسم فيئهم.

ومَن أُسِر منهم فدخل في الطاعة: خُلِّي سبيله.

وإن أبى ذلك وكان رجلاً جلداً: حُبِس حتى تنقضي الحرب؛ لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل؛ فإذا انقضت الحرب خُلِّي سبيله، وإن لم يكن من أهل القتال خُلِّي سبيله، ولم يحبس؛ لأنه لا يخشى الضرر من تخليته.

فصل

ولا يجوز قتالهم بالنار، ولا رميهم بالمنجنيق، وما يعم إتلافه؛ لأنه يعم مَن لا يجوز قتله ومَن يجوز.

ولا يستعين على قتالهم بكافر، ولا بِمَن يستبيح قتلهم؛ لأن القصد كفهم، لا قتلهم.

فصل

ومَن أتلف من الفريقين على الآخر مالاً، أو نفساً في غير القتال: ضمنه؛ لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي؛ فكان ضمانه كضمانه قبل البغي.

وما أتلف أحدهما عل الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال: لم يضمنه.

 

باب أحكام المرتد

وهو: الراجع عن دين الإسلام.

ومن ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير، أو شرب خمراً: لم يحكم بردته؛ لأنه قد يأكله معتقداً تحريمه.

فصل

والردة تحصل بجحد الشهادتين، أو إحداهما، أو سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو جحد كتاب الله تعالى، أو شيء منه، أو أحد من الأنبياء، أو كتاب من الكتب السماوية، أو فريضة ظاهرة مجمع عليها؛ كالعبادات الخمسة، أو استحلال محرَّم مشهور أجمع عليه؛ كالخمر، والخنزير، والميتة والدم، والزنى ونحوه.

فصل

ومن ارتد عن الإسلام، وجبت استتابه ثلاثاً يدعى فيها إلى الإسلام.

فإن أصر على كفره قُتِل.

لما روى مالك في الموطأ أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه  رجل من قِبَل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه  فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟، قال: قربناه فضربنا عنقه، فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله، ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرضَ إذ بلغني.

ولو لم تجب الاستتابة لَمَّا تبرأ من فعلهم، ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له؛ فإذا تأنى عليه، وكُشِفَت شبهته رجع إلى الإسلام: فلا يجوز قتله مع إمكان استصلاحه.

وإن ارتد وهو سكران: لم يقتل قبل إفاقته؛ لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره.

فصل

فإذا تاب المرتد: قُبِلت توبته وخُلِّي سبيله؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ[، إلى قوله: ]إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[، وروى أنس رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها.

فصل

ومَن أكره على الإسلام بغير حق: لم يصح إسلامه، ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد الرضا والقبول طواعية.

 

باب الحكم في الساحر

السحر: رقى وعقد تؤثر في الأبدان، والقلوب؛ فيُمْرِض، ويَقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: ]فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ[، وقال الله سبحانه: ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ[، يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة، لم يأمر بالاستعاذة منه.

وروت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سُحِر حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان؛ فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما وَجَع الرجل؟ قال: مطبوب ـ مسحور ـ، قال: ومَن طَبَّه ـ سَحَرَه ـ؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاقة ـ ما يسقط من الشعر حين يمشط ـ في جف ـ وعاء الطلع ـ طلعةٍ ـ ما يكون فيه لقاح النخل ـ ذَكَرٍ في بئر ذروان. رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.

وتعلم السحر، والعمل به: حرام.

 

كتاب الحدود

باب حد المحارب

وهو الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، وعلى الإمام طلبه؛ ليدفع عن الناس شره.

فإن ظفر به قبل أن يقتل، ويأخذ مالاً، فإنه يعزره بما يرى؛ من حبس، وغيره.

وإن شهر السلاح فقتل وأخذ مالاً: قُتِل حتماً.

وإن قتل، ولم يأخذ مالاً: قُتِل حتماً.

وإن أخذ المال ولم يقتل: قُطِعَت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، وخُلِّي.

لقول الله تعالى: ]إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[.

فصل

وإن تاب المحارب قبل القدرة عليه: سقط عنه حد المحاربة؛ لقوله تعالى: ]إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[؛ فيسقط عنه انحتام القتل، والصلب، والقطع، والنفي، ولا يسقط حق الآدمي؛ من القصاص، وغرامة المال، وحد القذف، لأنه حق للآدمي، فلم يسقط بالتوبة.

وإن تاب بعد القدرة عليه: لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه؛ لأن الله تعالى شرط في المغفرة لهم كون التوبة قبل القدرة؛ فيدل على عدمها بعدها.

 

باب حد السرقة

وحد السرقة: قطع اليد اليمنى؛ لقول الله تعالى: ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم[.

ويعتبر في وجوبه أمور تسعة:

أحدهما: السرقة: وهي أخذ المال مختفياً.

فإن اختطفه، أو اختلسه، فلا قطع عليه؛ لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس على المنتهب قطع، وروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ليس على الخائن، ولا المختلس قطع. رواهما أبو داود.

الثاني: أن يكون مكلفاً؛ فلا يجب الحد على صبي، أو مجنون، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، ولأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات، والإثم في المعاصي: فالحد المبني على الدرء والإسقاط أولى.

ولا قطع على مكرَه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه.

الثالث: أن يكون المسروق نصاباً؛ فلا قطع فيما دونه، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً. متفق عليه.

الرابع: أن يكون المسروق مما يتمول في العادة؛ لأن القطع شرع لصيانة الأموال: فلا يجب في غيرها.

وسواء في ذلك ما يبقى زمناً كالثياب، وا يفسده طول بقائه كالفاكهة والأطعمة الرطبة، وما أصله الإباحة كالصيود، وكذا الفخار والآجر، واللَبِن والخشب؛ لأنه مال يتمول به عادة: فوجب القطع بسرقته كالأثمان.

وإن سرق إناء ذهب، أو فضة تبلغ زنته نصاباً: قُطِع؛ لأن جوهره هو المقصود، والصناعة مغمورة فيه؛ فصارت تابعة له.

ويقطع بسرقة الكتب المتقومة المباحة؛ لأنه يجوز بيعها.

فإن كانت محرمة؛ ككتب البدع، والشعر المحرم: فلا قطع فيها؛ لأنها محرمة.

الخامس: أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه؛ لأن الحدود تدراً بالشبهات.

فلا يقطع الوالد والوالدة بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك لأبيك. رواه أبو داود.

ولا يقطع الابن بسرقة مال والديه وإن علا.

و يقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم.

وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه: لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه.

و إن سرق مما أحرزه عنه: يقطع؛ لعموم الآية، ولأنه سرق مالاً محرزاً عنه؛ لا شبهة له فيه.

ولا قطع على مَن سرق مالاً له فيه شَرِكة؛ لأن له فيه حقاً؛ فكان ذلك شبهة.

ولا قطع على الزوجة إذا مُنْعَت نفقتها فأخذت بقدرها؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف.

ولا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة؛ لأنه فعل ما له فعله.

ولا قطع على الغريم إذا جحده غريمه، أو منعه ولم يقدر على استيفاء دينه؛ فأخذ بقدره.

فإن كان غريمه باذلاً له؛ فسرقه: قطع؛ لأنه لا شبهة له في السرقة، لإمكان التوصل إلى أخذه.

السادس: أن يسرق من حرز؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عن الثمار فقال: ما أُخِذ في أكمامه؛ فاحتمل: ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن. رواه أبو داود.

ويعتبر الحرز بما يتعارفه الناس؛ فما عدوه حرزاً فهو حرز، وما لا فلا؛ لأن الشرع لَمَّا اعتبر الحرز ولم يبينه: علمناه أنه رَدَّه إلى العرف.

فحرز الأثمان، والجواهر، ونحوها في المحلات: الصندوق الحديدي.

والدور في العمران دونها الأغلاق والأقفال.

أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه، أو كمه، أو وسطه، أو نحو ذلك.

وحرز متاع الباعة بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق والأقفال، وإن كانت مفتوحة فبحافظ يقظان.

وحرز متاع الباعة بلا دكاكين كونه بين أيديهم؛ لأنه محفوظ بذلك.

فإن نام عنه، أو اشتغل، أو جعله خلفه بحيث تناله اليد: خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ.

وإن كان في فندق مغلق، أو فيه حافظ: فهو محرز.

وإن نام إنسان على ثوبه، أو متاعه: فقد أحرزه؛ فإن تدحرج عنه، خرج من الحرز.

وحرز المواشي الراعية بنظر الراعي إليها؛ فما استتر عنه بحائل، أو نوم الراعي: خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ.

السابع: أن يخرجه من الحرز؛ سواء أخرجه بيده، أو بفيه، أو رماه إلى خارج أو اجتذبه بمحجن، أو بيده، أو تركه على ظهر بهيمة وساقها، أو على ماء جار، أو في مهب ريح فأطارته، أو على ماء راكد وحَرَّكه، أو فَجَّره فخرج به، أو أمر صبياً مميزاً فأخرجه، أو فتح طاقاً فانهال الطعام إليه، أو بط ـ شق ـ جيب إنسان أو كمه فسقط المال؛ فأخذه: فعليه القطع في هذا كله؛ لأنه بسبب فعله، فأشبه ما أخرجه بيده.

الثامن: أن تثبت السرقة عند الحاكم؛ لأنه المتولي لاستيفاء الحدود، فلا يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته، ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار.

فأما البينة فيشترط أن يكون فيها شاهدين عدلين؛ فإذا وجب القطع بشهادتهما، ثم غابا، أو ماتا: لم يسقط القطع.

وأما الإقرار، فيعتبر أن يقر مرتين؛ لما روى أبو أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أُتِيَ بلص قد اعترف، فقال له: ما أَخَالُك ـ ما أظنك ـ سرقت؟، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً؛ فأمر به فقطع. رواه أبو داود، ولو وجب لقطع بأول مرة لم يؤخره.

التاسع: أن يأتي مالك المسروق ويدعيه؛ سواء ثبتت سرقته ببينة، أو إقرار.

فصل

وإذا وجب القطع: قُطِعت يده اليمنى من مفصل الكوع؛ لأن في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  (فاقطعوا أيمانهما)، فإن لم يكن للسارق يد يمنى: قُطِعت رجله اليسرى، وإن كانت اليمنى شلاء: لم تُقْطع، وينتقل إلى الرجل.

فإن سرق ثانياً: قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله.

وإنما قطعت اليسرى؛ للرفق به؛ لأنه يتمكن من المشي على عكاز.

فإن سرق ثالثة، ففيه قولان:

أحدهما: يحبس، ولا يقطع غير يد ورِجل؛ لما روي عن علي رضي الله عنه  أنه قال: إني لأستحيي من الله ألا أدع له يداً يبطش بها، ولا رجلاً يمشي عليها.

والثاني: تقطع يده اليسرى.

فإن عاد فسرق مرة رابعة: قُطعت رجله اليمنى؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: من سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله.

فإن سرق بعد قطع يديه ورجليه: حُبِس وعزر.

فصل

متى تكررت منه السرقة ولم يُقْطَع: أجزأ يده عن جميعها؛ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزئ حد واحد.

وإذا قُطِع؛ فإن كان المسروق قائماً رُدَّ إلى مالكه؛ لأنه ملكه فرُدَّ إليه كما قبل القطع.

وإن كان تالفاً: فعلى السارق ضمانه؛ لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية فوجب ضمانه، ولأن الضمان يجب للآدمي، والحد لحق الله تعالى: فوجبا جميعاً.

 

باب حد الزنا

الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام؛ بدليل قول الله تعلى: ]وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً[، وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك. متفق عليه.

والزنا: هو وطء في فرج مَن لا تَحِلُّ له.

ولا يحب الحد بغير ذلك؛ لما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال لماعز: لعلك قبلت، أو غمزت أو نظرت، قال: لا، قال: أفنِكتَها لا يكني، قال: نعم، قال فعند ذلك رَجَمَه. رواه البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: أَنِكتَها، قال: نعم، قال: حتى غاب ذاك منك في ذاك منها، قال نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر، قال: نعم. رواه أبو داود.

ولو تلوط بغلام: لزمه الحد كذلك، وفي حده قولان:

أحدهما: يجب عليه حد الزنا؛ يرجم إن كان ثيباً، ويجلد إن كان بكراً؛ لأنه زان.

والثاني: حده القتل؛ بكراً كان أو ثيباً؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به. رواه أبو داود، وفي لفظ: فارجموا الأعلى والأسفل.

فصل

ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة:

أحدها: أن يكون الزاني مكلفاً.

فإن كان أحد الزانيين غير مكلف، أو مكرهاً، أو جاهلاً بالتحريم، و شريكه بخلاف ذلك: وجب الحد على مَن هو أهل للحد دون الآخر.

وإن كان أحدهما محصناً، والآخر بكراً: فعلى المحصن حد المحصنين، وعلى البكر حد الأبكار كذلك.

و إن أَقَرَّ أحدهما بالزنا دون الآخر: حُدَّ المقِرُّ وحده؛ لما روى سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه قد زنا بامرأة، فسماها له؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى المرأة فسألها عن ذلك؛ فأنكرت أن تكون قد زنت؛ فجلده الحد و تركها. رواه أبو داود.

الشرط الثاني: أن يكون مختاراً.

فإن أُكْرِهت المرأة: فلا حد عليها؛ لقول سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.

الشرط الثالث: أن يكون عالماً بالتحريم، ولا حد على من جهل التحريم؛ لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما قالا: لا حد إلا على من علمه.

ومَن ادَّعى الجهل بتحريم الزنا، ممن نشأ بين المسلمين: لم يُصَدَّق.

وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين: صُدِّق؛ لأنه يحتمل الصدق.

الشرط الرابع: انتفاء الشبهة.

الشرط الخامس: ثبوت الزنا عند الحاكم.

ولا يثبت إلا بأحد شيئين: إقرار، أو بينة.

ويعتبر في الإقرار ثلاثة أمور:

أحدها: أن يُقِرَّ لأربع مرات، سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  قال: أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: أبك جنون، قال: لا، قال: فهل أحصنت؟، قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارجموه. متفق عليه.

الأمر الثاني: أن يذكر حقيقة الفعل؛ لأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد؛ فيجب بيانه.

الأمر الثالث: أن يكون ثابت العقل.

فإن كان مجنوناً، أو سكراناً: لم يثبت قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال لماعز: أبك جنون، وروي أنه استنكهه ليعلم أبه سُكْر، أم لا؟.

وإن ثبتت ببينة، اعتبر فيهم خمسة شروط:

أحدها: أن يكونوا أربعة؛ لقول الله تعالى: ]لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء[، وقال: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[.

الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم؛ لأن في شهادة النساء شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.

الثالث: أن يكونوا عدولاً؛ لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق، ففي الحد أولى.

الرابع: أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة.

الخامس: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد؛ سواء جاؤوا جملة، أو سبق بعضهم بعضاً؛ لأن عمر رضي الله عنه  لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة: حَدَّهم حد القذف.

فصل

ومن وجب عليه حد الزنا، لم يخل من أحد حالين:

أحدها: أن يكون محصناً، فحده الرجم حتى الموت؛ لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  أنه قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأْتُها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى.

فالرجم حق على من زنى وقد أُحْصِن من الرجال والنساء إذا قامت ببينة، أو الاعتراف.

وقد قرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا؛ فارجموهما البتة. متفق عليه، ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  رجم ماعزاً والغامدية.

وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. رواه مسلم.

الثاني: غير المحصن، فحده مئة جلدة وتغريب عام؛ للآية وحديث عبادة.

فصل

والمحصن من كملت فيه أربعة أشياء:

أحدها: الإصابة في القُبُل؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، ولا يكون ثيباً إلا بذلك.

الثاني: كون الوطء في نكاح؛ للإجماع.

الثالث: كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ، والعقل.

الرابع: أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال.

ولا يشترط الإسلام في الإحصان.

فصل

ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط: حرمت مباشرته فيما دون الفرج وقبلته لشهوة، والتلذذ بلمسه لشهوة، أو نظرة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يخلون رجل وامرأة؛ فإن ثالثهما الشيطان.

فإذا حرمت الخلوة بها، فمباشرتها أولى؛ لأنها أدعى إلى الزنا.

ولا حد في هذا؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه  أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: إني وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت؛ فقرأ عليه: ]وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[. متفق عليه، وعليه التعزير؛ لأنها معصية ليس فيها حد ولا كفارة.

فصل

ويجب أن يحضر حد الزنا مجموعة من الناس؛ لقول الله تعالى: ]وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ[.

 

باب حكم القذف

وهو الرمي بالزنا، وهو مُحَرَّم وكبيرة؛ لقول الله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات. متفق عليه.

فصل

ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة:

أحدها: أن يكون مكلفاً.

والثاني: أن يكون المقذوف محصناً؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[؛ مفهومه أن لا يُجْلَد بقذف غير المحصن.

والثالث: أن لا يكون القاذف والداً؛ فإن قذف والد ولده وإن سفل: فلا حَدَّ عليه؛ أباً كان أو أماً.

والرابع: أن يقذف بالزنا الموجب للحد.

فصل

والقذف صريح وكناية.

فالصريح أن يقول: زنيت أو يا زاني، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف، فهذا يجب به الحد.

وأما الكناية؛ فنحو قوله: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول للرجل: يا مخنث.

والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله.

والمخنث المتطبع بطباع التأنيث.

وحد القذف ثمانين جلدة؛ لقول الله تعالى: ]فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[.

فصل

ومَن وجبت عليه حدودُ قذفٍ لجماعة؛ فأيهم طالب بحده استوفي له.

ثم إذا طالب غيره استوفي له.

وإن قذف واحداً مرات، ولم يُحَدَّ: فحَدٌّ واحد؛ لأنها من جنس واحد لمستحق واحد.

وإذا قال الرجل: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزانية؛ فهو قاذف لأمه.

وإذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة: فعليهم الحد؛ لقول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[، ولأن أبا بكرة، ونافعاً وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بن شعبة، ولم يكمل زياد شهادته؛ فحَدَّ عمر رضي الله عنه  الثلاثة بمحضر من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً.

وإن شهد ثلاثة، وزوج المرأة: حُدَّ الثلاثة؛ لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا؛ لإقراره على نفسه بعداوتها؛ لجنايتها عليه، بإفساد فراشه، وعلى الزوج الحد؛ إلا أن يسقط عنه بلعانه.

وإن شهد أربعة بالزنا؛ ثم رجع أحدهم: فعليهم ـ أي الذين رجعوا ـ الحد؛ لأنه نقص عدد الشهود، فلزمهم الحد.

وإن شهد أربعة، فلم تكمل شهادتهم؛ لاختلافهم في المكان أو الزمان، أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد، أو لم يصفوا الزنا، أو بعضهم: فهم قَذَفَة عليهم الحد.

 

باب الأشربة

كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ[، وكل مسكر خمر، فيدخل في عموم الآية.

و قد روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. رواه مسلم وأبو داود.

وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: ما أسكر الفرق منه؛ فملء الكف منه حرام. رواه أبو داود.

فصل

ومَن شرب مسكراً ـ وهو مسلم مكلف ـ مختار، يعلم أنها تسكر: لزمه الحد؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: مَن شرب الخمر فاجلدوه رواه أبو داود.

وفي قدره روايتان:

إحداهما: أربعون؛ لما روى حصين بن المنذر أن علياً رضي الله عنه  جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكُلٌّ سنة، وهذا أحب إليَّ. رواه مسلم.

والثانية: ثمانون؛ لما روى أنس أن عمر رضي الله عنه  استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود؛ فضرب عمر ثمانين. متفق عليه، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فاتفقوا عليه؛ فكان إجماعاً.

فصل

ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار.

فالبينة شاهدان عدلان.

ولا يُحَدُّ بوجود الرائحة منه؛ لأنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها لا تسكر، والحد يدرأ بالشبهات.


باب إقامة الحد

لا يجوز لأحد إقامة أي حد من حدود الله إلا للإمام، أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى، و يفتقر إلى الاجتهاد.

ولا يلزم الإمام حضور إقامته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها، وأمر برجم ماعز ولم يحضر، وأتى بسارق، فقال: اذهبوا فاقطعوه.

ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد.

وقد روى بريدة: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي، فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحُفِر لها، وأمر بها فرجمت. رواه أبو داود.

ولا يجلد السكران حتى يصحو؛ لأن المقصود زجره و تنكيله، ولا يحصل في حال سكره.

فصل

ولا يقام الحد في المسجد؛ لما روى حكيم بن حزام، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود، ولأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء، فيتلوث به المسجد.

فإن أقيم به سقط الفرض؛ لأن المقصود حاصل.

فصل

وإذا اجتمع عليه حدود من جنس؛ مثل أن زنى مرات، أو شرب الخمر مرات، ولم يحد: فحد واحد؛ لأنها طهرة سببها واحد؛ فتداخلت.

وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها: أقيمت كلها؛ لأن أسبابها مختلفة؛ فلم تتداخل.

ويبدأ بالأخف فالأخف؛ لأننا إذا بدأنا بالأغلظ لم نأمن أن يموت فيموت به سائرها.

وأخفها حد الشرب فيبدأ به، ثم بحد القذف، ثم بحد للزنا، ثم بقطع للسرقة.

ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله.


باب التعزير

وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما لا يوجب الحد، والجناية بما لا يوجب القصاص و نحوه.

لما روي عن علي رضي الله عنه  أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، قال: هن فواحش، فيهن تعزير، ليس فيهن حد.

ويجوز بالضرب، والتوبيخ، وبالحبس.

ولا يجوز قطع شيء من أعضائه، ولا جرحه؛ لأنه لم يرد الشرع بذلك.

 

باب دفع الصائل

كل مَن قصد إنساناً في نفسه، أو أهله، أو ماله، أو دخل منزله بغير إذنه: فله دفعه.

لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: مَن أريد ماله بغير حق فقاتل فقُتِل، فهو شهيد. رواه الخلال بإسناده.

ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به.

فإن أمكن دفعه بيده لم يجز ضربه بالعصا، وإن اندفع بالعصا لم يجز ضربه بحديدة، وإن أمكن دفعه بقطع عضو لم يجز قتله، وإن لم يمكن إلا بالقتل: قتله ولم يضمنه؛ لأنه قَتْل بحق فلم يضمنه.

وإن قُتِل الدافع فهو شهيد، وعلى الصائل ضمانه.

وإن أراد رجل امرأة فقتلته دفعاً عن نفسها: لم تضمنه.

ومن اطلع في بيت غيره من ثقب، أو شق باب، أو باب غير مفتوح؛ فرماه صاحب البيت بحصاة، أو طعنه بعود؛ فقلع عينه: لم يضمنها؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح.

وعن سهل بن سعد: أن رجلاً اطلع في جحر من باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يحك رأسه بمِدْرَى ـ عود يُضم به الشعر، وقيل مشط ـ في يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو علمت أنك تنظرني لطعنت بها في عينك. متفق عليهما.

وليس له رميه بحجر كبير يقتله، ولا بحديدة؛ فإن فعل: ضمنه.

فصل

وإن صالت عليه بهيمة: فله دفعها بأسهل ما تندفع به؛ فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها: لم يضمنها.

ومن قتل إنساناً، أو بهيمة، أو جنى عليهما، وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه، أو حرمته، أو قتل، رجلاً وامرأته، وادعى أنه وجده معها؛ فأنكر الولي: فالقول قول الولي، وله القصاص.

لما روي أن علياً رضي الله عنه  سئل عن رجل قتل امرأته ورجلاً معها، وادعى أنه وجدها معها، وادعى أنه وجده معها، فقال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا دفع برمته ولأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر.

فصل

ومن اقتنى كلباً عقوراً؛ فأطلقه حتى عقر إنساناً أو دابة، أو اقتنى هرة تأكل الطيور، فأكلت طير إنسان: ضمنه؛ لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه.

وما أتلفت البهائم من الزرع ليلاً: فضمانه على صاحبها.

وما أتلفت منه نهاراً: لم يضمنه؛ إلا أن تكون يده عليها.

لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت فيه؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل، فهو مضمون عليهم. رواه أبو داود.

ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك، مثل أن أرسلها غيره، أو فتح بابها لص، أو غيره: فالضمان عليه دون المالك؛ لأنه سبب الإتلاف.


كتاب الجهاد

وهو فرض؛ لقول الله تعالى: ]كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ[، وقوله سبحانه: ]انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ[.

وهو من فروض الكفايات؛ إذا قام به مَن فيه كفاية: سقط عن الباقين؛ لقول الله سبحانه: ]لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[، ولو كان فرضاً على الجميع لما وعد تاركه الحسنى، وقال سبحانه: ]وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً[، ولأنه لو فرض على الأعيان، لاشتغل الناس به عن العمارة، وطلب المعاش، والعلم؛ فيؤدي إلى خراب الأرض، وهلاك الخلق.

و لا يجب إلا بشروط خمسة:

أحدهما: التكليف؛ فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا كافر، وقد روي عن ابن عمر أنه قال: عُرِضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة؛ فلم يجزني في المقاتلة. متفق عليه.

الثاني: السلامة من الضرر؛ لقوله سبحانه: ]غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ[، وهو العمى، والعرج، والمرض، والضعف؛ لقول الله سبحانه: ]لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[، وقوله تعالى: ]لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ[.

ومَن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه، وما يتقيه من سلاح: لم يلزمه الجهاد؛ لأنه في معنى الأعمى، في عدم إمكان القتال، وإن لم يمنعه من ذلك: لم يسقط عنه فرضه.

ولا يجب على أقطع اليد، أو الرجل؛ لأنه إذا سقط عن الأعرج: فالأقطع أولى، ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي، واليدين ليتقي بأحدهما، و يضرب بالأخرى، والأشل كالأقطع.

ومَن أكثر أصابعه ذاهب، أو إبهامه، أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه: فهو كالأقطع.

الثالث: الذكورية، فلا يجب على المرأة؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه؛ الحج و العمرة.

الرابع: الاستطاعة؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ[.

والاستطاعة: وجدان الزاد، والسلاح، وآلة القتال، ومركوب يبلغه؛ لقول الله تعالى: ]وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ[.

فصل:

ويصير الجهاد فرض عين في موضعين:

إحداهما: إذا التقى الجيشان، تعين الجهاد على مَن حضر؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ[، وقوله سبحانه: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ[.

الثاني: إذا نزل الكفار ببلد المسلمين، تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل، والمكان، والمال، ومن يمنعه الأمير الخروج.

فصل

ومَن كان أحد أبويه مسلماً: لم يجز له الجهاد إلا بإذنه؛ لما روى ابن العباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا رسول الله أجاهد؟ قال: لك أبوان!!، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد. قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأن الجهاد فرض كفاية، وبرهما فرض عين؛ فوجب تقديمه.

ومتى تعين الجهاد: فلا إذن لأبويه، بل صار فرض عين؛ فلم يعتبر إذنهما فيه، وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركه؛ لأن تركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى.

وإن أراد سفراً غير واجب؛ فمنعاه منه: لم يجز له السفر؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما. مسند أحمد.

فصل

ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ[، ولأنهم أهم، فتجب البداءة بهم، إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم؛ إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم، أو لمانع من قتال الأقرب؛ فيبدأ بالأبعد.

ويستحب التحريض على القتال؛ لقول الله تعالى: ]فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً[.

ويستحب ذكر الله، والدعاء؛ لقوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ[.

باب ما يلزم الإمام وما يجوز له

يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم، ويقويها بالعدد، والآلات ويؤمر عليهم أميراً ذا رأي، وشجاعة، ودين؛ لأنه إذا لم يفعل: لم يأمن دخول الكفار من بعض الثغور، فيصيبون المسلمين.

ويعبئ الجيش، ويعقد الألوية والرايات، ويجعل لكل فرقة لواء، ويجعل لكل فرقة أميراً، ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، ليحفظهم من البيات.

ويذكي العيون ليعلم أخبار عدوه؛ فيتحرز منهم ويتمكن من الفرصة فيهم.

ويستشير ذوي الرأي؛ لقول الله تعالى: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أكثر الناس مشاورة لأصحابه.

ويمنع جيشه من المعاصي، ويقوي نفوسهم، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه؛ لئلا يعلم به عدوه.

فصل

ويقاتل المقاتلين من الكفار.

ولا يجوز قتل نسائهم.

ولا يجوز قتل صبيانهم؛ لما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه نهى عن قتل النساء والصبيان. متفق عليه.

ولا قتل شيخ فان؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: لا تقتلوا شيخاًفانياً ولا طفلاً ولا امرأة. رواه أبو داود.

ولا قتل زَمِن و لا أعمى؛ لأنهما في معنى الشيخ الفاني.

ولا راهب؛ لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه  أنه أوصى مَن بعثه إلى الشام، فقال: لا تقتلوا الولدان، ولا النساء، ولا الشيوخ، وستجدون قوماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدَعُوْهم وما حبسوا له أنفسهم.

ومَن قاتل مِن هؤلاء كلهم: قُتِل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجراً على محمود بن مسلمة.

ومَن كان ذا رأي يعين به في الحرب: جاز قتله؛ لأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال.

باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام

يلزم الجيش طاعة أميرهم، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه؛ لقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[، وقول رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني. رواه النسائي.

ولا يجوز الخروج إلى الجهاد إلا بإذنه؛ لأنه أعلم بمصالح الحرب، والطرقات، ومكامن العدو، وكثرتهم وقلتهم: فيجب الرجوع إلى رأيه.

 

باب الأنفال والأسلاب

النفل: ما يعطاه زيادة على سهمه.

وهو نوعان:

أحدهما: ما يُستحق بالشرط، وهو ضربان:

أحدهما: ما يُعطى للسرية المغيرة على العدو.

الثاني: أن يجعل قائد الجيش جعلاً لمن يعمل عملاً فيه غناء عن المسلمين.

مثل أن يقول: مَن طلع هذا الحصن، فله كذا أو من نقبه، أو من جاء بأسير فله كذا، وأشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة للمسلمين: فيجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: من قتل قتيلاً فله سلبه.

والنوع الثاني: أن يخص الإمام بعض المقاتلين بشيء؛ لبأسه، أو لمكروه تحمله؛ ككونه طليعة، أو عيناً؛ فيجوز من غير شرط.

 

باب قسمة الغنائم

الغنيمة: ما أخذ من مال الكفار عنوة.

فخُمُسُها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين؛ لقول الله تعالى: ]وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[، فأضاف الغنيمة إليهم ثم جعل خمسها لله؛ فدل على أن أربعة أخماسها لهم.

ثم قال الله تعالى: ]فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا[.

باب قسمة الخمس

يقسم الخمس على خمسة أسهم.

سهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل؛ لقول الله تعالى: ]وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[.

فسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يصرف في مصالح المسلمين؛ لما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  تناول بيده وبرة من بعير، ثم قال: والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله الخمس، والخمس مردود عليكم. فجعله لجميع المسلمين، ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم.

وسهم ذو القربى لبني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف؛ لما روى جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  سهم ذي القربى من بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان، فقلنا: يا رسول الله، إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وم بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية، وإسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، ثم شَبَّك بين أصابعه. رواه أبو داود.

وأما سهم اليتامى، فهو لصغير لا أب له؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يتم بعد احتلام، ويعتبر أن يكون فقيراً.

وسهم المساكين للفقراء، أو المساكين الذين يستحقون من الزكاة.

وسهم ابن السبيل للصنف المذكور في أصناف الزكاة.

باب قسم الفيء

وهو: كل مال أخذ من المشركين بغير قتال؛ كالجزية، والخراج، والعشور المأخوذة من تجارهم، وما تركوه فزعاً وهربوا، أو بذلوه لنا في الهدنة، ونحو ذلك.

فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة؛ لقول الله تعالى: ]مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[.

وفي قول: أنه لا يُخَمَّس؛ لقول الله تعالى: ]وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ[، فجعله كله لجميع المسلمين.

وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم.

 

باب الأمان

يجوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم؛ لقول الله تعالى: ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ[، وروى علي رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم؛ فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل. رواه البخاري.

وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكراً كان أو أنثى.

فصل

ومَن طلب الأمان ليسمع كلام الله، ويعرف الشريعة: وجب أن يعطاه، ثم يرد إلى مأمنه، لقول الله سبحانه: ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[.

فصل

وإن دخل المسلم دار الحرب رسولاً، أو تاجراً وقد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم، صار في أمانهم، وصاروا في أمان منه؛ لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين انعقد من الآخر.

فلا تحل خيانتهم في أموالهم، ولا معاملتهم بالربا؛ لأن مَن حَرُم ماله عليك، ومالك عليه: حَرمت معاملته بالربا.

فصل

وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان: ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه؛ لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره، وأخذ ماله يضره.

 

باب الهدنة

ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين، وتحصيل المصلحة لهم؛ لقول الله تعالى: ]فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ[، ولأن هدنتهم من غير حاجة ترك للجهاد الواجب لغير فائدة.

فإن رأى الإمام المصلحة فيها: جازت؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[، وقوله تعالى: ]إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[.

ولا يجوز عقد الهدنة مطلقاً غير مقدرة بمدة؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد، فيقضي إلى ترك الجهاد أبداً.

ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير.

وإن عقدت الهدنة على مدة: وجب الوفاء بها، ومنع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين؛ لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم.

وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخذ مال: انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى: ]وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ[، وقوله تعالى: ]إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[، وقوله سبحانه: ]فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[، ولأن الهدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه.

وإن خاف الإمام نقض العهد منهم: جاز أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لقول الله تعالى: ]وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ[، ويعني: أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم.

 

 

([1]) شرح جمع الجوامع للمحلي، 1/32، وشرح الإسنوي، 1/24، وشرح العضد لمختصر ابن الحاجب، 1/18، ومرآة الأصول، 1/50، والمدخل إلى مذهب أحمد، ص 58.

([2]) أخرجه البخاري (فتح الباري 1/164) ومسلم (2/719).

([3]) راجع بداية المجتهد لابن رشد الحفيد: 1/5 وما بعدها، وحجة الله البالغة للدهلوي:1/115 وما بعدها، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، الباب الثالث والسادس، الباب الخامس والعشرون، والسادس والعشرون، والموافقات للشاطبي: 4/211 – 214.

عدد القراء : 2520