يتيم ولا مال له
يتيم ولا مال له([1]):
عن يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ السَّعْدِيُّ قَالَ: قَدِمَ مَكَّةَ عَشْرُ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ يَطْلُبْنَ الرَّضَاعَ.
فَأَصَبْنَ الرَّضَاعَ كُلُّهُنَّ إِلا حَلِيمَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ ... وَكَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ... وَيُكْنَى أَبَا ذُؤَيْبٍ.
وَوَلَدُهَا مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ. وَكَانَتْ تُرْضِعُهُ.
وَأُنَيْسَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَجُدَامَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَهِيَ الشَّيْمَاءُ.
وَكَانَتْ هِيَ الَّتِي تَحْضُنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أُمِّهَا وَتُوَرِّكُهُ. (تعتمد عليه).
فَعُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَتْ تَقُولُ: يَتِيمٌ وَلا مَالَ لَهُ. وَمَا عَسَتْ أُمُّهُ أَنْ تَفْعَلَ؟
فَخَرَجَ النِّسْوَةُ وَخَلَّفْنَهَا.
فَقَالَتْ حَلِيمَةُ لِزَوْجِهَا: مَا تَرَى؟ قَدْ خَرَجَ صَوَاحِبِي وَلَيْسَ بِمَكَّةَ غُلامٌ يُسْتَرْضَعُ إِلا هَذَا الْغُلامُ الْيَتِيمُ. فَلَوْ أَنَّا أَخَذْنَاهُ. فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ نَرْجِعَ إِلَى بِلادِنَا وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا.
فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: خُذِيهِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ خَيْرًا.
فَجَاءَتْ إِلَى أُمِّهِ فَأَخَذَتْهُ مِنْهَا فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَاهَا حَتَّى يَقْطُرَا لَبَنًا.
فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ. وَشَرِبَ أَخُوهُ. وَلَقَدْ كَانَ أَخُوهُ لا ينام من الْغَرَثِ (الجوع).
وَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا ظِئْرُ سَلِي عَنِ ابْنِكِ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ.
وَأَخْبَرَتْهَا مَا رَأَتْ وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ حِينَ وَلَدَتْهُ.
وَقَالَتْ: قِيلَ لِي ثَلاثَ لَيَالٍ: اسْتَرْضِعِي ابْنَكِ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
ثُمَّ فِي آلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ.
قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَإِنَّ أَبَا هَذَا الْغُلامِ الَّذِي فِي حِجْرِي أَبُو ذُؤَيْبٍ. وَهُوَ زَوْجِي.
فَطَابَتْ نَفْسُ حَلِيمَةَ وَسُرَّتْ بِكُلِّ مَا سَمِعَتْ. ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهَا.
فَحَدَجُوا أَتَانَهُمْ (وضعوا مَرْكَب النساء عليها).
فَرَكِبَتْهَا حَلِيمَةُ وَحَمَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيْهَا
وَرَكِبَ الْحَارِثُ شَارِفَهُمْ (الناقة المسنة).
فَطَلَعَا عَلَى صَوَاحِبِهَا بِوَادِي السِّرَرِ (السُّرَر، في مسند أحمد، قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتَ بين الأخْشبين (الأخْشَبَانِ جَبَلاَ مِنًى اللذانِ تحتَ العَقَبَةِ) مِن منًى"، ونَفَح بيده (لوح) نحوَ المشرق، "فإن هنالك وادياً يقال له السُّرَر، به سرْحة سرَّ (أَي قَطَعَتْ سُرَرُهُمْ يَعْنِي أَنهم وُلِدُوا تَحْتَهَا، فَهُوَ يَصِفُ بَرَكَتَهَا) تحتها سبعونَ نبيا". وَهُنَّ مُرْتِعَاتٌ (مسرعات) وَهُمَا يَتَوَاهَقَانِ (يواظبان في السير).
فَقُلْنَ: يَا حَلِيمَةُ مَا صَنَعْتِ؟ فَقَالَتْ: أَخَذْتُ وَاللَّهِ خَيْرَ مَوْلُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَأَعْظَمَهُمْ بَرَكَةً.
قَالَ النِّسْوَةُ: أَهُوَ ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم! قَالَتْ: فَمَا رَحَلْنَا مِنْ مَنْزِلِنَا ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْتُ الْحَسَدَ مِنْ بَعْضِ نِسَائِنَا.
وعن مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ حَلِيمَةَ لَمَّا خَرَجَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِلادِهَا قَالَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ:
أُعِيذُهُ بِاللَّهِ ذِي الْجَلالِ ... مِنْ شَرِّ مَا مَرَّ عَلَى الْجِبَالِ
حَتَّى أَرَاهُ حَامِلَ الْحِلالَ ... وَيَفْعَلُ الْعُرْفَ إِلَى الْمَوَالِي
وَغَيْرِهِمْ مِنْ حِشْوَةِ الرِّجَالِ
وقَالَ: مَكَثَ عِنْدَهُمْ سَنَتَيْنِ حَتَّى فُطِمَ.
وَكَأَنَّهُ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ. فَقَدِمُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرِينَ لَهَا.
وَأَخْبَرَتْهَا حَلِيمَةُ خَبَرَهُ وَمَا رَأَوْا مِنْ بَرَكَتِهِ.
فَقَالَتْ آمِنَةُ: ارْجِعِي بِابْنِي فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ.
فو الله لَيَكُونَنَّ لَهُ شَأْنٌ! فَرَجَعَتْ بِهِ.
كفالة اليتيم
كرم الله اليتيم في السماء والأرض، ورفع شأن البيت الذي يكفل فيه يتيم، وجعل رعايته واجبة على كل المؤمنين.
والمجتمع كله مسؤول إذا أوذي يتيم في ماله أو صحته.
ومن كرم الله على الأيتام أن اختار رسول هذه الأمة وخاتم أنبيائه يتيما بقوله سبحانه لرسوله: (ألم يجدك يتيما فآوى).
إن الإسلام جعل كفالة اليتيم ركنا من أركانه وأساسا من أساسياته، لا يصح التقصير فيه.
والبيت الذي يكرم فيه اليتيم هو بيت يمتلىء بالرحمة والعطف والحنان والبيت الذي يهان فيه اليتيم هو بيت يسكن فيه الشيطان.
لقد تنزلت الآيات في حق اليتيم في أوائل ما تنزل من القرآن المكي، ناهية عن زجره، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9].
وسوى القرآن بين المسيء إلى اليتيم مع الذي يكذِّب بالدين، قال تعالى: {أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 1،2].
وقد وبخ القرآن أقواماً وبين فساد معتقداتهم وسوء مسالكهم؛ لأنهم لا يكرمون اليتامى، ولا يرغب بعضهم بعضا في العطف على الضعيف وإطعام المسكين، قال الله تعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين} [الفجر: 17 – 18].
وقال عز وجل: {فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 11-15].
وفي الحديث: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" [رواه مسلم].
اليتيم فرد من أفراد الأمة ولبنة من لبناتها.
غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله ـ بإذن الله ـ بشراً سوياً، وينشأ فيه إنشاءً متوازناً.
أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان.
كم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها إسعافاً.
إن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرافق، فإنه سيخرج نافر الطبع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة، ولا يفيض بمودة.
وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة غلى قوة هادمة.
من خيار بيوت المؤمنين بيت فيه يتيم يحسن إليه.
خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة.
إن كنت تشكو قسوة في قلبك فأدْن منك اليتامى، وامسح على رؤوسهم، وأجلسهم على مائدتك، وألن لهم جانبك.
إذا رجوت أن تتقي لفح جهنم فارحم اليتامى وأحسن إليهم.
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}.
قال الله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} [البقرة: 220].
اليتامى هم أحق الناس بالإحسان إليهم، وأولاهم بالحب والرعاية، حيث فقدوا المعين وتعرضوا للحرمان المهين.
لذلك أوصى الله سبحانه وتعالى خيرا باليتامى وأمرنا بالعطف عليهم، وحسن التصرف معهم، والمحافظة على أموالهم والقيام على تربيتهم، والعناية بتهذيب نفوسهم، حتى يكونوا أفردا نافعين، وأعضاء في المجتمع الصالح.
فما أجدر اليتيم بالرعاية والعطف والبر، إنه إنسان صغير حرم من حنان الأب وهو في مطلع حياته.
والله الذي حرم إهانة اليتيم بكلمة، حرم أكل ماله، ومال اليتيم أولى بالرعاية والحفظ والاستثمار.
قال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشهده} [الأنعام: 152].
فالآية تنهى عن قربان مال اليتيم بأي نوع أو حال من حالات القربان، إلا عند السعي لاستثمار مال اليتيم واستعماله على وجه هو أحسن الوجوه بما ينفع اليتيم في حاضره ومستقبله.
كالإنفاق منه على تربيته وتعليمه، وكحفظ ماله باستثماره في زراعة أو صناعة أو في تجارة.
أما إهمال شأن اليتيم، وإهمال ماله، وتجميده أو الإسراف فيه بما لا يكسبه خيرا، ولا يدفع عنه شرا؛ فذلك محرم ومنهي عنه.
قال تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبِداراً أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً} [النساء: 6].
وفي التحذير من أكل أموال اليتامى يقول سبحانه: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً} [النساء: 2]. أي إثما عظيماً.
وأوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: يا داود كن لليتيم كالأب الرحيم، كن للأرملة كالزوج الشفيق، واعلم أنك كما تزرع تحصد.
وينذر القرآن الطامعين في أموال اليتامى بنار تتلهب في بطونهم وبتسخين جسومهم بنار جهنم، ولنتدبر قول الحق تبارك تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيراً} [النساء: 10].
إن إكرام اليتيم في بيت مسلم يسبب البركة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير بيت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه".
والعطف على اليتامى يهذب النفوس، ويرفق القلوب القاسية، فقد روى أبو هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: "أمسح رأس اليتيم وأطعم المسكين".
([1]) الطبقات الكبرى، ابن سعد، (1/89).
عدد القراء : 493