الحفاظ على ثوابت الهوية الإسلامية
لا يمكن لأي فكر تجديدي أن يُمَارس بدون الحفاظ على ثوابت الهوية الإسلامية، وإلا كان تجديداً فاسداً، واجتهاداً لا محل له.
فهناك قواعد كلية يجب الحفاظ عليها من قبل المسلمين؛ جماعة أو أفراد، ولعل القرآن الكريم ينبه إلى ذلك في قوله تعالى: ]هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهات[[آل عمران: 7] فهذه الآيات المحكمات: هي الإطار الثابت الذي لا يجوز المساس به بحال، وهي التي شكلت ثوابت الحياة الإسلامية والشخصية الإسلامية على مر العصور.
وفيما يأتي عرض الإطار الكلي الثابت للإسلام.
أولاً: أركان الإسلام:
فالإسلام بني وأُسس على دعائم وأركان خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، كما قال رسول الله e.
وثبات هذه الأركان دعم للهوية الإسلامية، ولا يجوز بحال أن نناقش فرضية هذه الأركان؛ وهي العبادات المحضة، وإن جاز الاجتهاد في معرفة حكمة فرضيتها ومنافع القيام بها.
كما يجوز في باب الزكاة أن يتم الاجتهاد والتجديد في بيان أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة، وكيفية إخراجها، والوجوه الواجب إنفاق الزكاة فيها، كما فعل واجتهد عمر بن الخطاب t وأوقف العمل بدفع الزكاة للمؤلفة قلوبهم؛ يوم أن رأى قوة الإسلام، وعزة المسلمين، ويمكن كذلك الاجتهاد في مدى استمرار سهم (وفي الرقاب)، بمفهوم العبودية الشاملة لإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، كذلك يمكن بحث مدى وجوب الزكاة على صور من الأموال الجديدة التي لم تكن معروفة كأسهم الشركات المساهمة، وريع العمارات الكبيرة التي تبنى وتؤجر.
ثانياً: الثوابت في الفكر الاقتصادي الإسلامي:
استطاع فريق من المفكرين المسلمين في عصر الصحوة الإسلامية أن يجتهدوا في إنشاء مؤسسات إسلامية مهمة، مثل المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، البعيدة عن الربا، واجتهدوا في ابتكار صيغ المعاملات التي تتم في هذه المؤسسات بالصبغة الإسلامية، لدرجة القبول لها والاعتماد عليها من قبل المؤسسات المالية الكبرى.
ويثبت الواقع المالي في العالم اليوم سقوط نظام الفوائد الربوية الذي يخلق نقوداً بدون إنتاج مقابل ذلك، مما يؤدي إلى التضخم، وإلى خلق مشكلات كبيرة في النمو والاستثمار.
ومهمة الثوابت الإسلامية هنا تتمثل في المحافظة على التمييز بين الحلال والحرام، وعدم استغلال الغير، ومن الثوابت التي يجب أن يحترمها أي مفكر وأي مجتهد:
1- الاعتصام بالقاعدة القرآنية الخاصة بحل البيع والشراء وتحريم الربا، حيث يقول سبحانه وتعالى: ]الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطهُ الشيطانُ من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظةٌ من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[ [البقرة: 275].
2- وجود حقوق ثابتة للفقراء في أموال الأغنياء؛ إعمالاً لقوله تعالى: ]وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم[[الذاريات: 19].
وهذا ليس مقتصراً على دفع الزكاة والصدقات فحسب، بل أن تكون مجالات الاستثمار النافعة داخل البلاد الإسلامية لرفع المستوى المعيشي لأفراد الأمة، وليس البحث عن زيادة العائدات أي كان مصدرها، ولو كان في استثمار المال لدى العدو الظاهر والخفي، فأولى الناس بنفع مال المسلم هم المسلمون أنفسهم.
3- وجوب أن يتميز الاجتهاد في مجال المعاملات بقواعد شرعية أساسية مثل قاعدة (المسلمون عند شروطهم إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً). وقاعدة (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
فالمجتهد في مجال الفقه واستنباط الأحكام الشرعية يجب أن يكون دقيقاً للغاية ولا يتسرع في استنباط حكم شرعي للمستجدات المعاصرة في الشأن المالي إلا بعد الإلمام بكل ما يتصل به وبكافة وجوهه.
كما أن تجنب الشبهات من المسائل الأساسية التي تحكم المجتهد؛ عملاً بقوله e: «الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام».
4- قيام المعاملات الإسلامية على القواعد الأساسية؛ مثل: تحريم الاكتناز، وضرورة تداول المال بين المسلمين عموماً، وليس بين الأغنياء منهم.
التكامل الاقتصادي:
في الحديث عن الثوابت الإسلامية التي تحافظ على الهوية في المجال الاقتصادي، فيجب ألا ننسى أن المشكلات التي تحيط بالأمة كبيرة جداً في هذا المجال.
فالإسلام يأمرنا بأن نتحد، ويمنعنا من الفرقة، وهو أمر يحتاج إلى أن يدخل المسلمون في أشكال وصيغ سياسية وقضائية تقربهم من إطار الوحدة المنشودة بما يلائم روح العصر، فالعالم اليوم يعيش عصر التكتلات الاقتصادية المختلفة والتي ارتقت بالإنتاج في الدول التي أخذت بها – كالاتحاد الأوروبي – إلى حد كبير.
ومل هذه التكتلات هي أقل ما يطلبه الإسلام من المسلمين، يقول الله تعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون[[آل عمران: 103].
ثالثاً: الثوابت الحضارية للأمة:
ومن أخطر ما يواجه الهوية الإسلامية في المرحلة المقبلة، مشكلة العولمة، والاجتهاد الواجب بذله يجب أن يتسع لتقوم به مختلف المنظمات والمؤسسات الدولية الإسلامية فضلاً عن الجامعات والمؤسسات التعليمية.
إذا كان علينا أن نفتح الأبواب لاستقبال العلوم والثقافة والمعارف، بل والترفيه أحياناً، إلا أننا في الواقع وفي هذا الجانب مغبونون ويجب أن نوقف الغبن الذي نتعرض له، فهذا الاستقبال يحمل ثقافة وفكراً يحاول تهميش الشخصيات التي تستقبله، ويجعلها أداة طيعة في يده.
فالعولمة تغليب إرادة على إرادة، وثقافة على ثقافة.
لذا فإن جهداً كبيراً يجب أن يبذل في هذا الاتجاه، وفي الأمة الإسلامية قيادات فكرية قادرة على التعبير عن الفكر والحضارة الإسلامية، ولكن قد تعوزها الوسائل للوصول إلى الأجهزة وإلى المجالات التي يجب أن تعمل فيها.
وأرى أنه قد آن الأوان لتبذل جهود كبيرة في سبيل حماية اللغة والثقافة العربية وإظهار ذخائرها، إنه لا سبيل إلى حماية التراث إلا بالاهتمام باللغة وعاء الدين والعقيدة والحضارة.
فعلى المسؤولين عن المحطات الفضائية دولاً وشركات وأفراداً أن يشاركوا في إنتاج أعمال علمية وإعلامية تعبر عن تاريخ الأمة وقيمها ومنابع حضارتها.
ولا شك بأن تخلف الرسالة الإسلامية الإعلامية تحتاج إلى جهود لإعادة النظر فيها وتوجيهها لحماية ثقافة الأمة وإخراج كنوزها وبثها في كافة وسائل الإعلام.
رابعاً: الثوابت في تطوير التعليم:
وإذا كنا نعاني من التخلف في مجال التعليم، ونطمح إلى وضع برامج لتجاوز التخلف، إلا أن هناك ثوابت نكاد نهملها بالمرة.
فليس تعلم اللغة الأجنبية لأطفالنا منذ نعومة أظفارهم هو أسلوب الرقي في التعليم، بل أن تكون السمة الإسلامية للطفل المسلم: التركيز على لغته العربية وثقافته الإسلامية في السن المبكرة مع الاهتمام بتعلم لغة أجنبية بعد ذلك.
كذلك تحتاج إلى أن يظل الطالب – مهما كان تعليمه – على صلة بمصادر عقيدته وثقافته وحضارته، وتدريس مناهج طوال فترات دراسته تؤكد هذه الصلة.
ويتم ذلك بمراعاة الآتي:
1- إقامة تعاون قوي بين كل الجامعات في العالم الإسلامي كي تستفيد كل جامعة مما تحققه الأخرى من تقدم، وجعل كل ما ينجز من عمل علمي مباحاً أو متاحاً لكي يكون أمام كل العلماء والباحثين في كل الدول الإسلامية.
ثم إن البحوث المشتركة بين كل الجامعات وسيلة يجب أن نسارع بتحقيقها بشكل عاجل، كما إن التعاون في مجال النشر المشترك من أهم ما يجب أن تقوم به بشكل عاجل.
2- تنقية المناهج من كل ما يتعارض مع حقائق الدين، ويخالف أصول العقيدة.
3- التعاون في تعريب العلوم خاصة العلوم الطبية والهندسية وسائر العلوم التي لم تعرب حتى الآن.
4- إقامة تعاون وثيق بين جامعات العالم لتحقيق الاستفادة المتبادلة من كل وجوه الإنجازات والتقدم العلمي.
5- إحياء إسهامات العلماء المسلمين في مختلف المجالات والتكملة عليها وإيجاد اجتهادات في مجالات يحتاج العالم إلى الاجتهاد الجديد فيها، مثل مجالات الطب البديل وإيجاد عقاقير من الطب النباتي الذي نجح المسلمون في التعامل به وعلاج مختلف الأمراض بها.
خامساً: القيم العليا في المنهج الإسلامي:
إن الإسلام يقيم منهجاً للحياة لا تستقيم الأمور بتجاهله وإذا بعدنا عنه فشلنا، يجب أن نعض بالنواجذ على ما جاء في القرآن الكريم وفي سنة نبيه e، وكما يجب أن نركز على الجانب العملي من العقيدة والشريعة والذي أخرج للعالم أمة قوية ذات أخلاق.
إن ما يميز الإسلام والحضارة الإسلامية، الجانب المعنوي فيها، ذلك الجانب الذي يخاطب الروح والقلب والنفس ويهديها إلى صراط العزيز الحميد، إن هذا الجانب يجب ألا ننساه أبداً ونحن نقدم اجتهاداتنا للعالم، لأنه هو الذي يميزنا عن غيرنا.
لقد بعث الله النبي e برسالة خاتمة جعلت للمسلمين العقل الجديد الذي وضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل وجعلهم ينبعثون من حدود دينهم وفضائله لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإنهم إذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه، أغمدوه بقانون، إنهم تقدموا في الدنيا حاملين السلام والأخلاق فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم، وبذلك فإن أسلحتهم نفسها ذات أخلاق.
لقد اندفع الدين الإسلامي بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء، طبيعة تعمل في طبيعة إننا لا ينبغي أن نفهم متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه والحاجة إلى حلاله وحرامه، ومن ثم نندفع إلى الدنيا ونتكالب عليها، وإنما فهم المسلمون دائماً متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، لقد أوجد النبي e أمة طبيعية بفطرتها كأن عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم[1].
إننا أصحاب رسالة وحاملوا دعوة للناس جميعاً لهدايتهم إلى معرفة الإله الواحد والسمو بالنفس الإنسانية وتعويدها الضبط، وعمل صلة وثيقة بين الأرض والسماء لمعرفة الخالق والخشوع له ومعرفة حلاله وحرامه وبذل النفس في سبيل رفعة الإنسانية ورقيها وإخراجها من الظلمات إلى النور، إننا نسعى إلى بث قيم عليا في حياة البشر تقوم على احترام العدالة والإنصاف ونصرة المظلوم وتحقيق المساواة بين الناس والتراحم بينهم وسيادة التكامل الاجتماعي بين الناس والتجديد يحتاج إلى إحياء هذا الفكر في حياتنا المعاصرة، وإنقاذ العالم الذي نعيش فيه من ظلمات الضلال والجهل والفتنة.
إن العالم الذي نعيشه تجتاجه رياح عاصفة تجعل القوة هي المعيار الحقيقي للتميز وتجعل حيازة هذه القوة هي هدف الحياة، وعلى حساب كل شيء، مما يهدد الحياة على هذه الأرض، لذا فإن رسالتنا هي إبدال ذلك بعناصر معنوية تعلو بالإنسان وباهتماماته وتجعل متطلباته تتصل بتحسين الحياة على الأرض، وابتغاء وجه الله والآخرة في كل ما نقوم به من أعمال.
خاتمة:
تحتاج المجتمعات الإسلامية إلى التجديد في كافة نواحي الحياة، تجديد الفكر والفقه والعلم والسلوك، فلا بد من التسليم بأن التخلف والفرقة هي أوضح السمات التي تميزنا الآن، ولقد أوضح البحث أن التجديد يجب أن يشمل الاجتهاد في الفقه الإسلامي لوصل ما انقطع من قانون الأمة، ومواصلة استنباط الأحكام التي تحكم المشكلات المستجدة والمستمدة في حياتنا.
ومع ذلك فقد أوضحنا أننا نحتاج إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية في إطار هذا التجديد، وتستمد الهوية الإسلامية مصادر الحفاظ عليها من القرآن والسنة واللغة والحضارة الإسلامية، وقد أوضحت هذه الأوراق أننا في حاجة ماسة إلى إخراج القيم العليا والمثل التي شكلت الشخصية الإسلامية من هذه المصادر، كما أثبتت ذاتية الحضارة الإسلامية روحية ونفسية تهتم بالارتقاء بالإنسان وتهذيب سلوكه ورفع معنوياته وكلها أسس تفتقدها الحضارة الغربية وتحتاج إليها بشكل قوي.
إننا نحتاج إلى بعث تراثنا العلمي والفكري وأن نواصل البحث فيه وتكملته، كما أننا نحتاج إلى ضبط السلوك الاقتصادي للعالم المتردي بالثوابت الإسلامية التي تحقق عدالة التوزيع وسلامة العامل الاقتصادي كما أثبتت الأوراق أهمية الوحدة الاقتصادية في الحياة المعاصرة.
وأخيراً أثبتت الأوراق أهمية رفع راية الحضارة الإسلامية في مواجهة العولمة ومحاولة تذويب السمات الإسلامية، وعاءُ هذه الحضارة اللغةُ العربية التي أهملت بيننا الآن إهمالاً شديداً، وكذا نادينا بجعل اللغة تدرس إجبارياً في كل مراحل التعليم الجامعي، وكذلك أوضحنا أهمية أن يظل الطالب على صلة بأصول العقيدة والشريعة والثقافة الإسلامية في كل مراحل تعليمه، وهو مطلوب من الإنسان المسلم في كل مراحل حياته.
[1] نقل بنص من كتاب وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي مكتبة الإيمان بالمنصورة طبعة 1999 ص12 ومابعدها.
عدد القراء : 1924