shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الداعية بين الإفتاء والقضاء

الداعية الناجح يأخذ "بطوق النجاة" ويلقيه إلى الجماهير

من الخطأ اتخاذ بعض علماء الدين عملهم مجرد “وظيفة” وليس “أمانة”.

لهذا جاءت دعوتهم بلا روح وليس لها تأثير لأنها خرجت من اللسان وليس من القلب.

الداعية يحمل أمانة سيحاسبه الله عليها لأنه جعله من ورثة الأنبياء، فإن فرط فيها فإن عقابه شديد في الدنيا والآخرة.

بعض الدعاة يعشقون أسلوب الترهيب الذي يشعر المتلقي أن مصيره النار لا محالة، مهما اجتهد في العبادة.

 من الخطأ الإغراق في الترهيب فقط، أو حتى الترغيب فقط، لأن الداعية الناجح يجمع بين الأسلوبين، ويزيد أو يقلل من أحدهما حسب قراءته لواقع جمهور المتلقين أمامه.

تأمل هذا الأسلوب القرآني الذي يجمع الترغيب والترهيب “نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ”.

تناقض سلوكيات بعض الدعاة مع أقوالهم أدى إلى افتقادهم المصداقية والتأثير في الجماهير؟.

 لأن تلازم صدق الفعل والقول أمر ضروري عند كل مسلم مؤمن وفي مقدمتهم بلا شك الدعاة.

ولهذا علينا أن نلاحظ هذا التلازم في قوله تعالى “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”.

وذم الله الذين يقولون ما لا يفعلون فقال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.

مجرد وظيفة

للأسف الشديد فإن كثيرا من الدعاة ينظرون إلى عملهم على أنه مجرد “وظيفة” مهمتهم فيها إلقاء الخطب على المنابر وكفى.

فما هو السبب في وجود مثل هذه الفئة من الدعاة؟. وما خطورتها على الدعوة؟

 لا يقول ذلك إلا داعية غير مسلح بأدوات النجاح في الدعوة وبالتالي فإنه يصبح بلا روح ويخرج كلامه من اللسان ويكاد يصل إلى الآذان فقط دون القلوب.

أمثال هؤلاء كالجنود الذين يدخلون المعركة ولا يعرفون عن أهدافها وخطتها شيئا، بل إنه ذهب إليها مرغما كل مهمته حمل السلاح دون أن يجيد استخدامه، ولهذا يصبح عالة على بقية الجنود، لأنه بلا روح معنوية، ووجوده وسط الجنود ضار بهم، لأنه سيؤدي إلى إحباط عزيمتهم.

فشل الدعاة

كي تنجح الدعوة لا بد من معرفة أبعادها الثلاثة ومدى المتوفر منها وفهم الداعية لما يقوم به ومن يخاطبه. وهذه الأبعاد هي:

- الدعوة: والمقصود بها النصوص الشرعية التي يجب أن يعرفها الداعية ويبلغها للمدعو، وهى المكون الأول للداعية التي بها يكون من ورثة الأنبياء الذين تركوا لنا العلم، وهو خير ميراث في الدنيا الآخرة.

- الداعية: وهو العمود الفقري في العملية الدعوية، لأنه الوسيط القائم بنقل الدعوة إلى المدعو تبليغها له سواء بشكل جيد أو سيئ، وعن طريقه يكون نجاح الدعوة أو فشلها.

وإذا تسلح الداعية بالعلم والأسلوب الجذاب وحسن التفاهم والتعامل مع الجماهير، فهو قائد ماهر يأخذ بطوق النجاة ويلقيه إلى جماهيره.

أما إذا افتقد ذلك فهو أعمى يقود عميانا ومصيرهم جميعا الضياع.

- المتلقي: وواجب المتلقين أن تكون قلوبهم وعقولهم يقظة، وأن يتفاعلوا مع الداعية إلا لو كانوا نياما وأمواتا فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. وهذا ليس وصفي وإنما قال تعالى: “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً”.

 

المفتي هو مَن يتصدى للفتوى بين الناس، ويبين لهم حكم الله تعالى، ويكشف لهم رأي الدين والشرع.

وتختلف الفتوى عن الحكم القضائي في أمرين:

الأول: إن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي، أما القضاء فهو إنشاء للحكم بين المتخاصمين.

الثاني: إن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، أما الحكم القضائي فهو ملزِم.

خطر الفتوى والأمراض التي تصيبها

هناك أعراض مَرَضِيَّة تنتاب الفتوى، وبعض الأوبئة تحيط بها، وبعض المشاكل تعتريها، وشوائب تعكر صفوها، وتزيل هيبتها، وتضيِّع مكانتها، وتفقدها عظمتها.

فإذا كان الكذب والافتراء على الناس فاحشة كبيرة، وذنباً عظيماً، فكيف بالكذب والافتراء على الله؟!!!.

وإذا كانت الخيانة وسوء الائتمان في أموال الناس وحقوقهم جريمة بشعة يعاقب صاحبها، ويستحق اللوم والازدراء، وهي من أرذل الأخلاق وأسوأ الصفات، فكيف بالخيانة وسوء الائتمان في قضايا الشرع وأحكام الدين؟!!!.

وإذا كانت الفتاوى في الزمن الماضي لا تتعدى مجال قائلها في مسجد أو بين مجموعة من الأشخاص، فإن الفتوى في هذا الزمان تطير في الآفاق بأسرع من لمح البصر، عير وسائل الأعلام المختلفة؛ من صحف، ومجلات، وإذاعة، وتلفزة، وعبر شبكات الاتصال العالمية.

ويظهر خطر الفتوى من خلال بيان الأمراض والأعراض التي تصيبها، وهي:

  • قد يتصدى للفتوى غير المختصين بعلوم الشريعة.
  • وقد يقوم بأعبائها مَن يفقد الأهلية لها، بفقد شروط المفتي.
  • وقد ينبري لها مَن لا يعرف إلا القليل في الدين والشرع، أي أنصاف العلماء.
  • وقد يتطاول عليها مَن يبتعد عن الالتزام بقواعد الفقه.
  • وقد يتولاها مَن يفرِّط بأركان الدين.
  • وقد يتعرض لها المختص ولكن بالتساهل وعدم المبالاة.
  • وقد يستغلها بعض الناس لأهواء شخصية، وأغراض مادية، وأهداف وضيعة.
  • وهناك مَن يعمل رأيه وفكره أكثر من الوقوف عند النصوص الشرعية.
  • وهناك مَن يغلِّب جانب الأعراف والعادات على قواعد الشريعة المحكَمة.

ثقافة المفتي

إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي e بل يوقع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضًا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.

ولا يجوز أن يفتي الناس مَن لم يتمرس بعلم أحوال الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز، كما لا يجوز أن يفتي مَن لم يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!!! ([1]).

ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة (برج عاجي) حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم.

ولا بد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتُطْلِعُه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة وهو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها.

إن من أسوأ الأشياء خطرًا على المفتي أن يعيش في الكتب، وينفصل عن الواقع، والمطلوب من المفتي أن يعرف الجد والهزل، والنفع والضر في أمور الحياة.

إن المفتي البصير يجب أن يكون واعيًا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورًا معينة، ويضع قيودًا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة.

وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم ومشكلات عيشهم، يقع المفتي في متاهات، أو يتيه في خيالات، ويظل في واد والناس في واد، فهو لا يعرف إلا ما يجب أن يكون، دون ما هو كائن، مع أن الواجب شيء، والواقع شيء آخر.

الجانب الأخلاقي في المفتي

أعرض فيما يلي بعض الملاحظات التي ينبغي مراعاتها في المفتي:

1- إن العلم مع فرضيته والثقافة مع حتميتها للمفتي، ليسا كل شيء، فلا بد مع العلم من عمل، ولا بد مع العمل من خشية، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق. يقول الله تعالى: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{ [ فاطر: 28]، وإن آفة الحياة ليست من فساد العقول، بقدر ما هي من فساد الضمائر، وإن أزمة الناس ليست أزمة معرفة بقدر ما هي أزمة أخلاق.

ولم تفسد الأديان السابقة على الإسلام بسبب الجاهلين بحقائقها، بقدر ما فسدت من علماء السوء، المتاجرين بها، المحرفين لها.

ولا عجب أن حمل القرآن بقوة على الذين يخونون علمهم، يشترون به متاعًا زائلاً، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.

ونقرأ كذلك قوله سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ{، [البقرة:174،175].

من هنا أكد علماء الإسلام على الجانب الأخلاقي للمفتي، ولم يكتفوا منه بسعة العلم والتبحر فيه، حتى يزين علمه بالتقوى ومكارم الأخلاق.

2- ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يُحِيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجًا في صدره، سئلت عائشة أم المؤمنين([2]) عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليّاً([3])، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي r.

3- ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادًا وكبرًا، أو خجلاً من الناس والله لا يستحيي من الحق، ففي كتاب سيدنا عمرt ([4]) إلى أبي موسى الأشعري t([5]):" لا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهُديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء،"([6]).

4- ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يُرْضِى الله تبارك وتعالى، وكل الذي فوق التراب تراب.

5- ويجدر بمن عَرَّض نفسه للفتوى أن يشعر بالافتقار إلى الله I، وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعًا داعيًا أن يوفقه للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى.

مزالق الفتوى ومطباتها

قد يقع المفتي ببعض المشاكل والأخطاء بأسباب قد تعود إلى تكوينه العلمي، أو الضغوط التي تمارس ضده، لذا، ينبغي أن يكون حذراً من تلك المزالق، وهي:

1- الجهل بالنصوص أو الغفلة عنها:

فمما يعرض المفتي للخطأ: الغفلة عن النصوص الشرعية أو الجهل بها، وعدم الإحاطة بها وتقديرها حق قدرها وخصوصًا إذا كان من يتعرض للفتوى من الجرآء المتعجلين، كالذين يريدون أن يملئوا أنهار الصحف أو المجلات بأي شيء، دون أن يجشم نفسه عناء الرجوع إلى المصادر، والبحث عن الأدلة في مظانها، ومراجعة الثقات من أهل العلم.

وأكثر ما تقع الغفلة عنه هنا هو: نصوص السنة، فقد فشا الجهل بها في هذا العصر فشوا مخيفًا، حتى أن بعضهم ليفتي بما يناقض أحاديث الصحيحين أو أحدهما مناقضة صريحة بينة، لأنه لم يقرأ هذه الأحاديث ولم يسمعها فجعل جهله حجة على دين الله.

2- سوء التأويل:

للنصوص، وفهمها على غير وجهها، اتباعًا لشهوة، أو إرضاءً لنـزوة، أو حبًا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين.

فليس المقصود بالتحريف تبديل لفظ مكان لفظ فحسب، بل يشمل تفسير اللفظ بغير المراد منه، فهذا هو التحريف المعنوي، والأول هو التحريف اللفظي.

3- عدم فهم الواقع على حقيقته:

من أسباب الخطأ في الفتوى عدم فهم الواقع الذي يسأل عنه السائل فهمًا صحيحًا، ويترتب على ذلك الخطأ في "التكييف"، أعني في تطبيق النص الشرعي على الواقعة العملية.

فمن الناس من يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، وأعمال المصارف (البنوك)، والأسهم والسندات، وأصناف الشركات، فيُحَرِّم أو يُحَلِّل، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرًا، ويدرسها جيدًا.

4- الخضوع للأهواء:

ومن أشد المزالق خطرًا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الحكام وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعًا لأهوائهم، وإرضاء لنـزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم، ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق.

ويندد القرآن بعلماء السوء الذين يتبعون الهوى، ويستحبون العمى على الهدى في أكثر من موقع في كتاب الله كقوله تعالى في سورة الجاثية: }أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{، [الجاثية: 23].

ولهذا يكمن الخطر في ضعاف النفوس، ومرضى القلوب، من علماء الدنيا، الذين يزينون للناس سوء أعمالهم فيرونه حسنًا، وبلية هذا الصنف، أن ظهوره بمظهر أهل العلم والدين، يفقد كثيرين من الناس الثقة بالعلماء الحقيقيين الذين أخلصوا دينهم لله، وأخلصهم الله لدينه، فيأخذون البريء بالمسيء.

ومما يدخل في اتباع الهوى: الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتباينة، بغير مرجح من دليل نقلي، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، ولعله أضعف الأقوال حجة، وأسقطها اعتبارًا، أو لعله من زلات العلماء، وزيغات الحكماء، التي جاء التحذير منها في غير ما حديث.

قال ابن القيم: "وبالجملة، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض. فيطلب القول الذي يوافق غرضه، وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر"([7]).

5 - الخضوع للواقع المنحرف:

ومن المزالق التي تزل فيها أقدام المفتين في عصرنا: الخضوع لضغط الواقع الماثل بما فيه من انحراف عن الإسلام، وتحد لأحكامه وتعاليمه.

ومن المعلوم أن هذا الواقع إنما صنعه الاستعمار الغربي أيام سطوته وسيطرته على بلاد المسلمين ومُقَدَّرَاتِهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ثم استمر بل نما، على أيدي عملائه وتلامذته من بعده، ممن تَخَرَّجُوا على يديه، وصُنِعُوا على عينيه.

ولا ريب أن كثيرًا من الناس، ممن يتصدون للحديث عن الإسلام وأحكامه يعانون هزيمة روحية أمام هذا الواقع، ويشعرون بالضعف البالغ أمام ضغطه القوي المتتابع.

فلا عجب أن تأتي أحاديثهم وفتاويهم "تبريرًا" لهذا الواقع المنحرف، وتسويغًا لأباطيله، بأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من برهان.

6 - تقليد الفكر الغربي:

ومن الأسباب الجوهرية وراء انحراف كثير من الفتاوى في عصرنا: التقليد أو التبعية - وإن شئت قلت: العبودية - للفكر الغربي، وللمدنية الغربية.

إن نفرًا من الناس يعانون ما يسمونه (عقدة النقص) تجاه الغرب وحضارته وفكره، ويعتبرون الغرب إماما يجب أن يتبع، ومثالاً يجب أن يحتذى، وما كان من أفكارنا وقيمنا وتقاليدنا ونظمنا مخالفًا للغرب، اعتبروا ذلك عيبًا في حضارتنا، ونقصًا في شريعتنا، ما عليه الغرب إذن هو الصواب، وما يخالفه هو الخطأ !، ويستدلون صواب الغرب: ما بلغه من إبداع مادي، وتقدم عمراني، وتفوق علمي، سخر به قوى الطبيعة، وجعل الإنسان يغزو الفضاء، ويضع أقدامه على سطح القمر.

ونحن لسنا ملزمين أن نبيحَ الفائدة الربوية، أو نُحِلَّ الخمور والميسر، لأن الغرب يحلها.

وليس علينا أن نمنع الطلاق وتعدد الزوجات لمجرد أن الغرب يمنعها.

وليس من واجبنا أن نسوي بين الذكر والأنثى في كل شيء وقد خالفت بينهما فطرة الله، لأن الغرب هذه فلسفته.

7 - الجمود على الفتاوى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة:

ومن مزالق الفتوى: الجمود على ما سطر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوى منذ عدة قرون، والإفتاء بها لكل سائل دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعرف والحال، مع أن هذه كلها تتغير وتتطور، ولا تبقى جامدة ثابتة أبد الدهر.

من ذلك ما يذكره بعض أهل الفتوى مما نصت عليه كتب الفقه: أن حليق اللحية لا تقبل شهادته، ومهما يكن رأينا في حلق اللحية وتأثيم فاعلها - وهو أمر اختلف فيه المعاصرون - فنحن لا نستطيع رد شهادة الحليق، لعموم البلوى به، وعموم البلوى من أسباب التخفيف والرخص كما هو معلوم.

ولو أخذنا بالرأي المدون في الكتب لأوشكنا أن نعطل المحاكم في أداء وظيفتها في الفصل في الخصومات والقضاء بين الناس بالعدل، فقد الفقهاء أن الأكل في الطريق يسقط المروءة، وبالتالي يسقط الشهادة.

ومن ذلك ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في مختلف المذاهب المتبوعة من منع المرأة من الذهاب إلى المسجد للصلاة وبخاصة الشابة، سدًا للذريعة، وخوفًا من الفتنة: أي خشية أن تَفْتِنَ أو تُفتن، فمثل هذا إذا كان له ما يبرره في العصور الماضية لم يعد له ما يبرره اليوم، فقد خرجت المرأة بالفعل إلى المدرسة، وإلى الجامعة وإلى العمل وإلى السوق وإلى غيرها، فلا يجوز أن يبقى المسجد وحده هو المكان المحظور عليها، في حين أن الحديث الصحيح ورد بقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ r:"لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ"([8]). ولا سيما أن المرأة لا تستفيد من المسجد الصلاة فقط، بل تستفيد معها حضور المواعظ والدروس الدينية، وتتعرف على غيرها من صالحات النساء، فيتعارفن على الخير، ويتعاونَّ على البر والتقوى.

ولهذا يجب أن يلاحظ المفتي في فتواه الظروف الشخصية للمستفتي - نفسية واجتماعية - والظروف العامة للعصر والبيئة.

فرب فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص في حال، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى.

يقول الإمام القرافي:" إن استمرار الأحكام التي تدركها العوائد، مع تغير تلك العوائد، خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد"([9]).

ويُلاحظ هنا أن كلام القرافي في الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا تلك التي مستندها النصوص المحكمات.

ويعود القرافي إلى هذا الموضوع مرة أخرى فيؤكد أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان، ويقول:

"فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير بلدك يستفتيك، لا تخبره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به، دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين"([10]).

أما عند الحنفية، فيُلاحَظُ أن هناك مجموعة كبيرة من الأحكام الاجتهادية التي قال بها المتقدمون أعرض عنها المتأخرون، وأفتوا بما يخالفها لتغير العرف، نتيجة لفساد الزمن أو لتغير المجتمع، أو لغير ذلك.

ولا غرابة في هذا، فإن أئمة المذهب أنفسهم - أبا حنيفة وأصحابه - قد فعلوا ذلك.

ذكر السرخسي([11]): أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع، من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول([12]).

ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: هو اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان([13]).

فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، ولحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن إحكام ([14]).

منهج معاصر للفتوى

بعد هذا العرض لأهم المزالق التي تزل فيها أقدام الذين يتصدون للفتوى في هذا العصر، الذي تكاثرت مشكلاته، واضطربت معاييره، حتى اختلط فيه الحابل بالنابل، يحسن بنا أن نعرض هنا لمنهج عملي معاصر، عله يكون مفتاح العمل وضياء النور في مسيرة المفتين:

أولاً: التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد الأعمى لزيد أو عمرو من المتقدمين أو المتأخرين، فقد قيل: لا يقلد إلا عصبي أو غبي.

هذا هو التوقير الكامل لأئمتنا وفقهائنا، فعدم تقليدهم ليس حطًا من شأنهم، بل سيرًا على نهجهم، وتنفيذاً لوصاياهم بأن لا نقلدهم، ولا نقلد غيرهم، ونأخذ من حيث أخذوا، كما أن عدم تقليدهم لا يعني الإعراض عن فقههم وتراثهم، بل ينبغي الرجوع إليه والاستفادة منه بمختلف مدارسه، دون تحيز ولا تعصب.

وهذا الموقف لا يتطلب من العالم المسلم المستقل في فهمه أن يكون قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق كالأئمة الأولين، وإن كان هذا غير ممنوع شرعًا ولا قدرًا، ولكن حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور:

( أ ) ألا يلتزم رأيًا في قضية بدون دليل قوي، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيًا معيناً، لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: ]قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[ [البقرة: 111، والنمل: 64]، ولا يسمى العلم علماً إذا كان ناشئًا من غير دليل.

( ب ) أن يكون قادرًا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل، ليختار منها ما كان الأصح بنصوص الشرع، والأقرب إلى مقاصده، والأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق.

وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة.

( ج ) أن يكون أهلاً للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل، وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين، بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية.

ثانياً: تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير، وذلك لأمرين:

الأول: أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرحت به السنة في مناسبات عديدة، يقول تعالى: }مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{، [المائدة: 6]، ويقول سبحانه: }يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ{، [البقرة: 185]، وآيات غيرها.

ورسول الله r يقول: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا"([15])، ويقول r: "...إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"([16])، ويقول r: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"([17]).

والأمر الثاني: طبيعة العصر الذي يعيشه المسلمون اليوم، حيث طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكَثُرَت فيه المغويات بالشر، والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود، وهي تيارات تحركها وتغذيها قوى ضخمة، تمدها بالتمويل والتخطيط والتوجيه، وتسهل لمن اتبعها طريق الشهوات، وربما طريق الوصول إلى المناصب والدرجات!.

والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، فقلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه.

ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا، وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة، ترغيبًا في الدين، وتثبيتًا لأقدامه على طريقه القويم، وقد نقل الإمام النووي([18]) في مقدمات " المجموع " كلمة حكيمة للإمام الكبير - إمام الفقه والحديث والورع - سفيان الثوري([19])، قال فيها: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!".

وهكذا كان علماء السلف: إذا شددوا فعلى أنفسهم، أما على الناس فييسرون ويخففون.

ولقد وصفوا الإمام المزني([20]) صاحب الإمام الشافعي([21]) في معرض الثناء عليه، بأنه " كان أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس"([22]).

إننا أحوج ما نكون إلى التوسعة على الناس، أن نيسر في الفروع، على حين نشدد في الأصول.

والتيسير الذي نعنيه، هو الذي لا يصادم نصًا ثابتًا محكمًا، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام.

وعلى العموم: إذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أحوط، والثاني أيسر، فإنه ينبغي إيثار الإفتاء بالأيسر، اقتداء برسول الله r الذي قالت عنه السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:"مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ r بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ r لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا"([23]).

أما الأحوط فيمكن أن يأخذ به المفتي في خاصة نفسه، أو يفتي به أهل العزائم والحريصين على الاحتياط، ما لم يخش عليهم الجنوح إلى الغلو.

ثالثا: أن يخاطب الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبًا وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخيًا السهولة والدقة.

وقد جاء عن الإمام عَلِيٌّ t: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"([24]).

وقال تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ{، [إبراهيم:4]، ولكل عصر لسان أو لغة تميزه، وتعبر عن وجهته، فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.

ولغة عصرنا تتطلب عدة أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها:

( أ ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات، فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن، الذي تحدى الله به، ولم يتحد بالخوارق، مع وقوعها للنبي  e ولم تعرف البشرية ديناً يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام.

( ب ) أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات بالأساليب، فالناس ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والفكر، فمنهم الأستاذ الكبير، ومنهم الطالب الصغير، ومنهم التاجر، ومنهم العامل، وكلهم يجب أن يفهم ويعي، وإفهام المستويات المتفاوتة أمر صعب.

( ج ) أن يذكر الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام، وذلك لأمرين:

الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة، فالقرآن حين يفتي في المحيض - وقد سألوا عنه - يقول: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{، [البقرة:222]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم علة الحكم - وهو الأذى - مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال.

حتى العبادات الشعائرية يأمر بها القرآن مقرونة بعلل وأحكام تقبلها الفطر السليمة، والعقول الرشيدة، ففي الصلاة يقول: }إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{، [العنكبوت:45]، وفي الصيام يقول: }لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{، [البقرة:182]، وفي الزكاة: }تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا{، [التوبة:103]، وفي الحج: }لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ{، [الحج:28].

وأما في السنة، فإن من تأمل فتاوى النبي e رآها مشتملة على حكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته.

من هذا قول رسول الله r:"لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا([25])، وَالْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَالْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا([26])، فإنكم إن فعلتم ذلك قطَّعتُم أرحامَكم"([27]) فذكر لهم الحُكم، ونبههم على حِكمة التحريم، وهو ما يترتب عليه من قطع ما أمر الله به أن يوصل نتيجة الاحتكاك الضروري بين الضرائر.

الثاني: أن الشاكين والمشككين في هذا الزمان كثيرون، ولم يعد أغلب الناس يقبلون الحكم دون أن يعرفوا مأخذه ومغزاه، ويعوا حكمته وهدفه، وخاصة فيما لم يكن من التعبديات المحضة.

رابعاً: الإعراض عما لا ينفع الناس:

ومن القواعد التي ينبغي للمفتي المعاصر التزامها: ألا يشغل نفسه ولا الناس من حوله إلا بما ينفعهم، ويحتاجون إليه في واقع حياتهم.

أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، أو إثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك، فينبغي أن نضرب عنها صفحًا، ولا نلقى لها بالاً، لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع.

ومما قاله في ذلك الإمام شهاب الدين القرافي:

" ينبغي للمفتي إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله r، أو فيما يتعلق بالربوبية، يسأل فيها عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجلف، أو يسأل عن المعضلات، ودقائق الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له، فلا يجيبه أصلاً، ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخض فيما عساه يهلكك، لعدم استعدادك له.

وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه بما يصل إليه عقله، فهداية الخلق فرض على من سئل.

قال: والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة، فإن اللسان يُفهِم ما لا يُفهِم القلم، لأنه حي، والقلم موات، فإن الخلق عباد الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعياله، ولا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد([28]).

وفي الحديث قال رسول الله r:"مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ " ([29]).

خامساً: الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين:

ومن خصائص المنهج: التزام روح التوسط دائمًا، والاعتدال بين التفريط والإفراط، بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، وبين الذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسًا منهم لكل قديم.

التفريط: أما الأولون فهم لا يريدون أن يبقى شيء على حاله، ولا يستمر وضع كما كان وأن يغيروا كل شيء، بحجة أن العالم يتطور، والحياة تتغير، وهم الذين سخر منهم بعض الأدباء بأنهم يريدون أن يغيروا الدين واللغة والشمس والقمر !.

الربا كان حرامًا في الزمن الماضي لأن آخذ الربا - المرابي - كان هو القوي الغني، ومعطي الربا كان هو الضعيف المحتاج، أما الآن، فآخذ الربا هو العامل أو الموظف الضعيف الذي يدخر من دخله دراهم معدودة يودعها في البنك، ليأخذ عليها فائدة محددة، والبنك الذي يعطيه الفائدة هو الغني القوي، الذي يربح من وراء إيداع الكثير، وإذن يقضي التطور بتبديل الحكم في الربا الذي اعتبره القرآن والسنة من أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، وآذن القرآن فاعله بحرب من الله ورسوله !!.

وهذا أمر لا يسيغه عقل، ولا يسمح به نقل: أن ينتقل فعل تكليفي ما من دائرة المحرمات المنصوصة، بل الكبائر المعلومة، إلى دائرة المباحات المشروعة !.

أما المقدمات التي استند إليها هؤلاء التطوريون فغير مسلَّمة، وقائمة على المغالطات فمن أين لهم أن علة تحريم الربا تنحصر فيما ذكروه وصوروه ؟.

 إن تحريم الربا له أكثر من وجه، وأكثر من علة، بعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها سياسي، وبعضها أخلاقي، وقد شرح ذلك أهل الاختصاص في كتب ورسائل وبحوث شتى، ينبغي لكل معنيٍّ بالموضوع  الرجوع إليها، وتصوير آخذ الربا من البنك بأنه الضعيف المستفيد، ليس تصويرًا صحيحًا على إطلاقه، فكم من أصحاب ملايين، يودعون في البنوك أموالهم لعدة سنين، فيأخذون فوائد أكبر، لأن المبالغ كلما كبرت، ومدة الإيداع كلما طالت، كانت الفائدة أكثر، أما الضعيف المحتاج، فلا يودع – إن أودع – إلا مبالغ تافهة، وفائدته عليها أقل، واستفادة البنك منه أكبر، وهو لا يأخذ من البنك المستغل إلا الفتات من الربح العريض، فتصوير هذا بأنه هو المستفيد تصوير غير عادل.

المتزمتون في الفتوى: نجد آخرين يريدون أن يحرموا على الناس كل شيء، فأقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة (حرام) دون مراعاة لخطورة الكلمة، ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سندًا للتحريم.

فعمل المرأة حرام، والغناء حرام، والموسيقى حرام، والتمثيل حرام، والتليفزيون حرام، والسينما حرام، والتصوير كله حرام، والشركات المساهمة حرام، والجمعيات التعاونية حرام !، والحياة كلها اليوم حرام في حرام.

هذا مع تحذير القرآن والسنة والسلف الصالح من إطلاق كلمة (الحرام) إلا ما علم تحريمه جزما من كتاب الله وسنة رسوله r،  يقول الله تعالى: }قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ{، [يونس:59]، ويقول: }وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ{، [النحل116].

عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ([30]) عَنْ أَبِيهِ([31]) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّه،ِ اغْزُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لا"([32]).

سادساً: إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح:

جرت العادة أن يتبع المفتون طريقة بعض العلماء قديما وحديثًا في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز، وهذا حلال وهذا حرام، أو حق وباطل، طلبًا للاختصار، وعدولاً عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف، وإلا لصار المفتي مدرسًا.

ولكن الحق أن المسؤول عن حكم شرعي عند إجابته السائلين ينبغي أن يكون مفتيًا، ومعلمًا، ومصلحًا، وطبيبًا، ومرشدًا.

وهذا يقتضي تفصيل بعض الإجابات وتوسيعها شرحًا وتحليلاً، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علمًا، والمؤمن إيماناً.

وهنا أورد بعض الملاحظات:

( أ ) مما ينبغي للمفتي: التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولا لدى السائلين وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه([33])

(ب) من الفتاوى ما يحرِّم على المستفتي أمرًا كان يظن إباحته، أو يريده ويتمناه لحاجة إليه، أو تعلقه به، فينبغي هنا أن يدله على البديل الحلال، ما دمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام، وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه.

فمن سأل عن إيداع المال في المصارف بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون وهو ما تقوم به الآن المصارف الإسلامية.

ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك، بيَّنا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف.

ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بَيَّنَّا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة الأيام البيض من كل شهر.

ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بينا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات الصليبية واليهودية والشيوعية لطرد الإسلام من الحياة، فهذا من أحد مصارف الزكاة، ألا وهو مصرف (في سبيل الله).

قال العلامة ابن القيم: " وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر مع الله، وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان "([34]).

وفي الحديث عن النبي e أنه قال: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"([35]).

(ج) ومما يحتاج إليه المفتي كثيرًا ربط الحكم المسئول عنه بغيره من أحكام الإسلام، حتى تتضح عدالته، وتتبين روعته، فإن أخذ الحكم منفصلا عن غيره قد لا يعطي الصورة المضيئة لعدل الإسلام، ومحاسن شرعه.

أذكر من أمثلة ذلك: إعطاء البنت نصف نصيب أخيها الذكر من ميراث أبيها، فمن أخذ هذا الحكم وحده، ربما ظن في ذلك إجحافًا بالبنت لأول وهلة، ولكن إذا نظر نظرة شاملة للأعباء العائلية، والالتزامات المالية المنوطة بكل من الابن والبنت، رأى في هذا التشريع العدل كل العدل، لأن العدل ليس هو المساواة دائمًا، بل هو التكافؤ بين الحقوق والواجبات.

إنَّ على الابن إذا أراد أن يتزوج، أن يدفع مهرًا لمن يتزوجها، وعليه أن يقوم بنفقتها كلها، وإن كانت ذات مال وثروة، أما البنت فحين تتزوج تأخذ ولا تدفع، وتعيش في كفاية تامة من مال زوجها، وبهذا نجد ميراث الابن يتناقص بحكم أعبائه، وميراث البنت يبقى سالمًا - إن لم يزد - وبكلمة أخرى: الابن مطلوب منه أن ينفق على امرأة معه، فضلاً عن الأولاد.

أما البنت فليس مطلوبًا منها أن تنفق على أحد. ولو افترضنا أن لا عائل لها، فهي تنفق على نفسها فقط، وبهذا لا يكون صنف النساء مظلومًا، لأن النسبة التي نقصت من حظ الأنثى، أنفقت على أنثى مثلها، هي امرأة أخيها. وهذا هو عدل الله.

ومثل ذلك: قطع يد السارق، فربما نظر ناظر إلى هذه العقوبة مجردة، فاعتبرها جد قاسية، ولكن إذا علم أن الإسلام يضمن لأبنائه العيش الكريم، والكفاية التامة أولاً، لهذا فرض التكافل الاجتماعي من الزكاة وغيرها من موارد بيت المال، وعلم أن العلم في الإسلام فريضة، وحسن التربية واجب، وأن السارق لا تقطع يده إلا بشروط وقيود كثيرة منها: أن تنتفي كل شبهة في ثبوت الجريمة، وإلا فإن الحدود تُدرأ بالشبهات، ومن الشبهات أن يسرق في أيام المجاعة، أو يسرق بدافع الحاجة، أو يسرق من مال له فيه شبهة ملك، أو غير ذلك مما يدرأ عنه العقوبة.

 (د) وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان إلى ترك الإجابة عن سؤال السائل؛ لعدم أهميته... مثل سؤال بعضهم عن القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق ؟

فهذا سؤال لا وزن له في هذا العصر، ولا حاجة إلى إثارته، وقد مضى زمن أصاب المسلمين من ورائه شر مستطير، ومحنة عظيمة أوذي فيها علماء المسلمين وخيارهم وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل([36]).

فإحياء هذه المشكلة التاريخية لا معنى له، ولا جدوى منه، إلا إهدار الطاقات الفكرية للأمة في جدل بيزنطي كما يقولون، فكان الأولى بالسائل عن هذا أن يسأل عن وجه إعجاز القرآن - مثلاً - ليقنع غير المسلمين بأنه من عند الله، وأنه تنزيل من حكيم حميد، أو يسأل عن بعض قصص القرآن، ليأخذ منها العظة، ويلتمس العبرة والذكرى له، ولكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، أو يسأل عن شيء من أحكام القرآن و<

عدد القراء : 925