الدور الحضاري للأمة المسلمة
إن الدور الحضاري للأمة المسلمة يتجلى حين توضع في موضع القدوة الحسنة على مستوى العالمين، وتقدم بديلاً إيجابيًا، مقابل ما يواجه العالم من مشكلات كبرى، من أخطرها: تكريس ثقافة الانحلال واحتقار كل ما له صلة بالأخلاق.
يظل كل حديث عن الدور الحضــاري للأمة المسلمة في عالم الغد، ضربًا من ضـروب التدخل في شـــؤون الغيب، يقـول الله تبارك وتعالى: ]وما كان الله يطلعكم على الغيب[ (آل عمران:179)، فالغد دائمًا في حكم الغيب، هذا من حيث المبدأ والأساس، وهذا ما يستدعي أن نكون شديدي الحذر والتحوط عند ولوج هذا الطريق.
ولكن الذي يسمح بأن يجترئ المرء على التوقع المستقبلي أو استشفاف بعض ما سيحمله الغد إنما هي السنن، التي وضعها عالِم الغيب تبارك وتعالى في الإنسان، وفي الآفاق، وفي الكون والمجتمعات.
فما دام الحراك في المادة يتم عبر السنن التي وضعها الله فيها ولها، فهذا يعني إمكان توقع الحراك القادم، بهذا القدر أو ذاك، وبإذن الله، من خلال معرفة السنن الحاكمة لهذا الحراك.
وما دامت ولادة الظواهر الجديدة أو المكونات الجديدة تتمان عبر سنن تمسك بالأسباب والنتائج، فهذا يعني إمكان إعادة توليد الظاهرة أو مكونات محددة اعتمادًا على تلك السنن والأسباب والنتائج، أي تدخل في شؤون الغد، استنادًا إلى سنن الله سبحانه وتعالى وتسليمًا لمشيئته أن يسمح بالتكرار للحراك أو الظاهرة، بالمعنيين الآلي البسيط أو المركب المعقد، يقول الله جل جلاله: ]سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً[ (الأحزاب:62).
أين مكمن الخلل في واقع الأمة?
إنه العامل الذاتي في الأمة، أي في الوعي، أو في العقيدة، أو في التربية، أو في الأخلاق، أو في (جمود الفكر و الفقه)، أو في البني الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك بنية القبيلة والعشيرة والعائلة والنظرة إلى المرأة وما إلى ما هنالك من مدارس.
ولا يختلف في وضع الإشكال الأساسي في هذا العامل الذاتي أو ذاك كثير من الإسلاميين والعلمانيين، وإن اختلفوا في العلاج.
فبينما يرى الإسلاميون الجواب بالتمسك بالإسلام والاعتصام بحبل الله، يرى العلمانيون -وهم أطياف متعددة- الجواب بالأخذ بالتغريب والعلمنة والحداثة، وتهديم البني التقليدية وبناء مجتمع مدني حديث ودولة حديثة.
عندما تكون أمة في حالة من الضعف والتفكك والتدهور في أغلب المجالات، يصبح من المشروع البحث في أسباب ذلك ومن ثم محاولة وضع استراتيجية لمعالجة تلك الأسباب والانتقال إلى حالة النهوض.
الأمة المسلمة والدور الحضاري في عالم الغد
لا ينفصل الدور الحضاري الذي يمكن أن تلعبه الأمة الإسلامية في العالم عن المشروع النهضوي الذي تحتاج إليه من أجل إنقاذها مما هي فيه، ووضعها على (السكة) لحل المشكلات الرازحة تحتها، ورفع المعوقات التي تشدها إلى أسفل، ومن ثم انطلاقها لبناء حياتها الإسلامية التي تجعلها تعيش بمرضاة الله وللـه.
مـما يفـترض أن تقوم أخلاق أبنائها وبناتها وفقًا للإسلام، وأن تحقق العدالة الاجتماعـيـة في مجـالات الاقتـصـاد وتكافــؤ الفرص، وإقـامة العـدل بلا محـاباة لأحد أو مجموعة معينة، ولكن هذا لا يكون على مستوى الأمة ودولتـها (وفي العصر يجب أن نقول دولها) إلا إذا تضامنت مختلف دولها وبلدانها وتعاونت وتكاملت. والله سبحانه وتعالى يريدها أكثر من ذلك متحدة، تظل أمة واحدة تحت ظلالها.
على أن هذا لا يتحقق بالصورة الفاعلة إلا إذا خرجت من حالة التبعية للخارج.
المهم أن المعالجة أو الاستراتيجية أو كيفية تحقيق الانتقال إلى دور حضاري عالمي رائد، يتطلب اختراقًا أو عبورًا معقدًا متعرجًا طويل الأمد لهذه المعادلة العالميـة، ولا يتم ذلك بناء على تجربة خمسين السنة الفائتة إلا عبر حسن استقاء العبر من التجارب المريرة، وحسن قراءة الواقع العالمي وموازين قواه، ومن ثم حسن وضع الاستراتيجية الإسلامية على مستوى كل بلد وفقًا لظروفه في إطار استراتيجية عامة على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي أو ما شابه.
الدور الحضاري من جانب الأمة المسلمة يتجلى أفضل ما يتجلى حين تُوضع في موضع القدوة الحسنة على مستوى العالمين، وفي مختلف المجالات حيث تقدم بديلاً إيجابيًا فيه خير كل البشر، مقابل ما يواجه العالم من مشكلات كبرى مثل ما يجري من سيطرة عالمية على إرادة الشعوب، ومن نهب عالمي لخيرات البلدان المستضعفة، ومن استخدام سياسة القوة في العلاقة بين الدول، ومن اتجاه للتطور راح يعمق الهوة أكثر فأكثر بين الأغنياء والفقراء ويزيد من معدلات البطالة والجريمة والانحرافات زيادة مطردة، ومن تكريس لثقافة الانحلال والتفسخ واحتقار كل ما له صلة بالأخلاق الحميدة والقيم العليا، مع إعلاء لقيم الأنانية المستندة إلى شريعة الغاب والغرائز البدائية، وهو يستخفي وراء حرية الفرد، بينما في التطبيق العملي يخنق الفرد ويحرفه عن فطرته ويشوه علاقته الإنسانية بالأفراد الآخرين.. إنها فلسفة المادية في أقصى حالات غلوها وفي أقصى ابتعادها عن الدين وقيمه ومثله العليا.
إن المشروع الحضاري الذي يمكن أن تحمله الأمة المسلمة في عالم الغد، لا يقتصر على تقديم الإسلام للعالم تقديمًا سليمًا صحيحًا معتدلاً يتسم بالحكمة والرشد فحسب، وإنما أيضًا تقديم نظام عالمي بديل يجسد المصلحة العليا لكل الشعوب، قويها وضعيفها، غنيها وفقيرها، نظام على مبادئ عالمية وعادلة وسليمة تنظم العلاقات فيما بين الدول، وترفع من كرامة الإنسان وحقوقه المختلفة، على الضد مما يمثله النظام العالمي الراهن.
خــلاصــة
ألا نستصغر أي جهد مهما كان متواضعًا في عملية إنهاض الأمة، فننظر بالتقدير لكل جمعية خيرية، ولكل حركة دعوية، ولكل تربية لإنسان، ولكل دفع لمنكر أو ضلال، ولكل أمر بمعروف، ولكل ما يمكن أن يسد ثغرًا من الثغور، التي يأتي منها الأعداء والأمراض أو الانحرافات، لأن في كل ذلك جهدًا مقدرًا في عملية الانتقال المرجوة، ذلك لأن عملية الانتقال ستأتي من بعض أوجهها عبر محصلة عامة لكل هذه الجهود، على مستوى الأمة، وليس عبر جهد واحد، على مستوى فرد بعينه أو جماعة بذاتها أو دولة بعينها.
من التوصيات والمقررات
1- تعميق الروح الإيمانية بالله عز وجل، ونشر العلوم الشرعية لمواجهة الضغوطات النفسية وتحصين المجتمع من كل الآثار النفسية التي خلفتها الهزائم المتكررة على الأمة، وتعزيز القيم والمثل العليا، لأن الضوابط الأخلاقية تحمي المجتمع من الفساد والانهيار.
2- العمل على تزكية النفس إيمانياً، وتصحيح مفهوم الإسلام في عقول أفراد هذه الأمة وإعادة سلطانه الحقيقي إلى الأفئدة.
3- الدعوة إلى الاعتدال ونبذ التطرف والغلو في الدين، وعدم التعصب للمذاهب الفقهية أو الجماعات الإسلامية على اختلافها والنظر إلى المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي بعين الرضا واعتبارها رحمة بالأمة.
4- الحرص على فهم مقاصد الشريعة لحفظ مصالح الناس، وتقديم الأولى فالأولى في القضايا الفكرية المطروحة على الساحة الإسلامية، والتزام الحوار الهادئ ، والمجادلة بالتي هي أحسن، واحترام رأي المخالفين ما دامت آراؤهم تستند إلى أدلة صحيحة في نظرهم، وتحسين الظن بهذه الأمة المرحومة والحرص على الألفة والمودة بين المؤمنين.
5- العمل على إعداد الأجيال الناشئة الصالحة التي تتمتع بالحصانة الفكرية، ومعالجة مشكلات الشباب والأسرة والمرأة للقضاء على الفقر، والجهل والمرض وتدعيم الوضع الاقتصادي للحد من حالات البؤس والفقر، ووضع خطة جماعية واضحة المعالم وبذل كل الطاقات لتحقيقها، مع تحديد الهدف خارج ذواتنا، ومعرفة ماذا نعلم؟ ولماذا نتعلم؟
عدد القراء : 1049