shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الرفق واللين من أكمل صفات المؤمنين

 

 

الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء علماً، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وستراً، وبعث رسوله وكمل وصفه ليناً ورفقاً وبراً، وبعد:

الإسلام دين الرفقة والرحمة، لا دين العنف والنقمة.

الرفق واللين، واليسر والسماحة من الخصال الحميدة والصفات النبيلة التي جاء الإسلام؛ بالحث عليها، والدعوةِ إلى التحلي بها، والثناء على أهلها والقائمين بها.

إن الرفق واللين أساس المحبة والتعاطف بين الناس، وجالبة السماحة والمودة في التعاملات، وهي كمال الإيمان، وحُسْن الإسلام، وعنوان فلاح العبد وسعادته في الدارين، وصلاحه وحسن خلقه مع الآخرين.

الرفق هو التلطف في الأمور، والبعد عن العنف والشدة والغلظة، أو هو: معاملة الآخرين بالحسنى واللين.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يتحلوا بخلق الرفق في سائر الأمور، فقال:            {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199].

وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

ومما يدل على أهمية الرفق، ما ورد في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْخُرْقِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلا قَدْ حُرِمُوا"([1]).

وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمية الرفق في تعامل الإنسان في الحياة، فعن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ"([2]).

وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:                      "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ"([3]).

وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاه"([4]).

إن القول اللين، والتصرف الراقي الرفيق، أرفع في النفوس، وأبلغ في تحقيق المطلوب، وأدعى إلى الإجابة والقبول.

رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

لقد أمر الله نبيه أشرف الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أن يدعوا قومه بالرفق واللين، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن، قال الله تعالى:              {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل، الآية: 125].

فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرفق الناس وألينهم، ومن لينه ورفقه أنه كان يلاعب الحسن والحسين (سيدا شباب أهل الجنة رضي الله عنهما وعن أبيهما وأمهما)، ويقبُّلهما، ويحملهما على كتفه.

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، فجاء الحسن والحسين أو أحدهما، فركب على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا سجد رفع رأسه، قال بيده فأمسكه، أو أمسكهما، ثم قال: "نعم المطية مطيتكما"([5]).

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا"([6]).

وتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها عن رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً؛ فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ([7]).

ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء والرسل هذا الخُلق، ومنهم نوح عليه السلام، الذي جلس يدعوا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً باللين والرفق، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) [سورة الشعراء، الآيات: 105 _ 109].

 

الرفق يُسعد الإنسان:

 

إن الرفق واللين من المطالب الحياتية، والمقاصد الاجتماعية التي لا تستقيم الحياة السوية إلا به؛ يتألَّف به المرءُ قلوبَ مَن حوله، وتنقاد له النفوس، ويملك مودة الناس ومحبتهم وإجلالهم وتقديرهم له.

عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:             "إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ"([8]).

عندما تتصف ـ أخي الكريم ـ بـهذه الصفة، تشعر بأنك من الطيبين وأنك سعيد؛ لأنك أصبحت ليناً، كيف لا؟ وهي صفة من صفات الله ورسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وعندما تستعمل الرفق في حل المشاكل، تراها تُحَلَّ بسهولة ويسر دون حدوث مشاكل.

وقال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

"إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ"([9]).

والمسلم لا يُعَير الناس بما فيهم من عيوب، بل يرفق بهم، رُوِي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ، فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيك"([10])، أي: يصيبك بمثل ما أصابه.

والمسلم لا يسب الناس، ولا يشتمهم، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فقال: "سِبَابُ الْمُسْلِم فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ"([11]).

وأما العنف والفظاظة فما فشتا في أسرة أو مجتمع إلا تقطعت بينهم حبال الصلة، وفسدت علائق المحبة والأخوة، وسادت البغضاء والوحشة، فالرفق ولا سيما بالجاهل  ومَن في حكمه، باب عظيم من أبواب التأليف بين القلوب.

رَوَى أَبُو هريرةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وآله وسلم: "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ـ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ـ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"([12]).

سؤال يمكن أن تطرحه على نفسك.

هل لدي هذه الصفة؟! هل سيكرمني الله بها؟! أم أني سوف أكون من الأشقياء؟! هل أنا شقي؟!.

هل أقبل أن أكون من الأشقياء؟! لماذا لا أحسن خلقي ابتداءً من اليوم؟!.

لا يوجد ما يمنع من أن أكون أحسن الناس خُلُقاً، وألطفهم معشراً، وألينهم عريكة، ولا يكلفني ذلك سوى الصبر على تصرفات الآخرين، وتحمل ما يواجهني من صعوبات، وسوف أعتاد على هذا يوماً بعد يوم، وموقفاً بعد موقف.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقيّ"([13]).

هذا هو خلق الحلم، وهو ما يسمى بـ (طولة البال، وكثرة التحمل، والتعقل قبل التصرف)، أحد الأخلاق الطيبة التي يتمتع بها المسلمون الطيبون، يبذلون ما يستطيعون ليُحَسنوا من أخلاقهم، يفعلون ما بوسعهم ليتصفوا بصفة من أحسن الصفات، صفة وردت في القرآن والسنة النبوية، فما أحسنها من صفة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"([14]).

ويدل هذا الحديث أنه يجب على المسلم الصبر والرفق في لحظات الغضب، فالقوة ليست هي قوة البدن، بل إن القوة الحقيقة هي ضبط النفس عند الشدائد، والتحلي بالصبر عند المصائب، والتريث عند الغضب.

فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وإلى حلم لا يضيق بجهلهم، وإلى رفق يتحمل ضعفهم، وإلى أناة تحنو عليهم، وإلى تروٍ يجبر نقصهم.

الناس في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم، دون أن يُحَمِّلَهم همه، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف، والسماحة والود والرضاء.

جاء بنو عبد قيس إلى المدينة وافدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولشدة شوقهم لمقابلته ولقائه صلى الله عليه وآله وسلم استعجل بعضهم المجيء إليه.

فهذا المنذر الأشج نزل أولاً في منزلٍ له، ثم اغتسل ولبس الثياب البيض، ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ودعا، فقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأثنى عليه الصلاة والسلام على موقفه، وقال له: "إن فيك لَخَصلتين يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأَناة"([15]).

فقال الأشج رضي الله عنه: يا رسول الله! أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟!!.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "بل جبلك الله عليهما"([16]).

فقال الأشج رضي الله عنه: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله ورسوله.

نستنتج من القصة أن الحلم والتأني خصلتين جميلتين يحبهما الله ورسوله، فلنتخلق بها.

والرحمة فرع مهم بل هي الأساس فـي الرفق، إذ يجب على المسلم أن يرحم أخاه المسلم، فلا يؤذيه ولا يضره بشيء.

بل إن القرآن الكريم ذكر قصة موسى وهارون، عندما أمرهما الله بالذهاب إلى فرعون وإرشاده إلى الطريق الصحيح، باللِّين والقول الحسن، قال الله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه 43 ـ 44].

وذكر القرآن قصة إبراهيم عليه السلام، عندما ذهب إلى أبيه ـ راجياً من الله ـ أن يترك الأب عبادة الأصنام ويتجه إلى عبادة الله تعالى، فلم يأمره بعنف، ولم يغضب في حواره معه، ولم يعنفه في كلامه بقسوة، بل استعمل أرق خطاب، وأعذب نداء، وجاء بالقول اللين، حتى لدى استعماله كلمة العذاب، إذ ربطها بالرحمة، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) [سورة مريم 42 ـ 45].

تأمل: هل الرحمة تعذب؟!!، أراد سيدنا إبراهيم استعطاف أبيه رغم تهديده والخوف عليه من عذاب الله.

عندما تصبح من الذين يرحمون ويرأفون، فإنه يكفيك فخراً أنها من صفات النبيين والمرسلين، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يكفيك أنها صفة من صفات أحسن الخلق.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة: 128].

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 107].

فـتلك الصفات لها منافعها الدنيوية والأخروية، فمن أهم منافعها في الدنيا: حُب الناس لك، واحترامهم إياك، وإجلالهم لك، وتجدهم يحسنون معاملتك بالطريقة التي تحب أن تتعامل بها، ومن منافع لينك ورحمتك ولطفك بالخلق: أنك تؤجر من الله على ذلك مع أنها لا تكلفك الكثير.

واقرأ هذه القصة التي تحكي مدى حِلم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.

 

وذات يوم دخل عمّال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبير،
فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق، وقد كان بينهما عداوة: (من عبد الله بن الزبير إلى معاوية [ابن هند آكلة الأكباد] أما بعد: فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي، فمرهم بالخروج منها، أو فو الذي لا إله إلا هو ليكوننّ لي معك شأن).

وصلت الرسالة لمعاوية رضي الله عنه، وكان من أحلم الناس فقرأها، ثم قال لابنه يزيد:

ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني؟!

فقال له ابنه يزيد: أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه.

فقال معاوية: بل خيرٌ من ذلك زكاة وأقرب رحماً.

فكتب رسالة إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يقول فيها: (من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير [ابن أسماء ذات النطاقين] أما بعد: فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك، فإذا وصلك كتابي هذا، فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك، فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض).

فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكى، حتى بلها بالدموع، وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه وقال له: لا أعدمك الله حلماً أَحَلَّك في قريش هذا المحل.

إن الحلم صفة جميلة، يتصف بها كل من آمن بالله ورسوله، وكل من قرأ عنها وأحبها، فبالتأكيد الكل يحب أن يُعامل بطريقة لينة، فإن أردت ذلك فاتصف بهذه الصفة كي يعاملك الناس بها، كما تعاملهم بها.

والرفق يشمل الحكام والمسؤولين، بمَن تحت رعايتهم، مع الشفقة والرحمة، لتستقيم الأمور، وتسير على أكمل وجه، وهذا من الحكمة الرفيعة في السياسة الناجحة، أما العنف من هؤلاء فيورث الكراهية والتذمر والتضجر والفساد.

 

 

ولأجل هذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق وحذَّرهم من العنف والتشديد على من تحت أيديهم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبتهل إلى الله ويقول: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"([17]).

ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجاب من ربه، وفيه تأكيد على أن الجزاء من الله من جنس العمل، فما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق.

    فلو يعرف الناس كم للرفق من الأجر لما بقيَ شخص على الأرض إلا واتصف به.

أتحب أن تزيد من حسناتك.!.

كُن قدوة لغيرك، دعِ الآخرين يتصفون بهذه الصفة وأعطهم انطباعاً جيداً بتصرفك اللين وبرفقك بهم وبغيرهم.

فما أجمل أن تكون محبوباً من قِبلِ الله، ثم من قِبلِ الناس.

قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم، آية 4].

   وإليك بعض الحِكَم والأمْثَال بأسلوب نثري وشعري، لتبقى في ذاكرتك عند تصرفك:

(الكلمة الطيبة جوازُ مرور إلى كل القلوب).

(وإذا الصديق قسا عليك بجهلهِ، فاصفح لأجل الودِّ ليسَ لأجلهِ).

(كُن كالنخيل عن الأحقاد مُرتفِعا، يرمى بصخرٍ فيلقي أطيب الثمرِ).

(العلم مفتاح الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب).

قال الغزالي رحمه الله: (الرفق محمود، وضده العنف والحدة، والعنف ينتجه الغضب والفظاظة, والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة, والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولذلك أثنى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على الرفق وبالغ فيه)([18]).

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (العلم زين، والتقوى كرم، والصبر خير مركب, وزين الإيمان العلم، وزين العلم الرفق، وخير القول ما صدقه الفعل)([19]).

وعن حبيب بن حجر القيسي قال: (كان يقال ما أحسن الإيمان يزينه العلم, وما أحسن العلم يزينه العمل, وما أحسن العمل يزينه الرفق, وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم)([20]).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (الرفق رأس الحكمة)([21]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لو كان الرفق رجلاَ كان اسمه ميموناً, ولو كان الخَرَق رجلاً كان اسمه مشؤوماً)([22]).

وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية, فقال له: والله لأقتلنك، فقال الرجل يا أمير المؤمنين: تأن علي؛ فإن الرفق نصف العفو, قال: فكيف وقد حلفت لأقتلنك؟ قال: يا أمير المؤمنين لأن تلقى الله حانثاً, خير لك من أن تلقاه قاتلاً, فخلى سبيله([23]).

 

اللين والرفق معين على المقصود:

 

مرت بنا نصوص وآثار في الأهمية والفضل، ويبقى أن نقول أن الرفق واللين شفيع لا يُرد في طلب الحاجات.

وللتشبيه، نأتي بثلاثة أمثلة:

المثال الأول: ماذا لو كان أمامك طريق ضيق بين جدارين، لا يتسع إلا لمرور سيارة واحدة فحسب، ماذا تفعل؟، لا شك أن القائد الناجح لا يدخل المكان إلا برفق وحذر وتوق، بينما لو أقبل بالسيارة مسرعاً، وأراد المرور من المكان الضيق لاصطدم يمنة ويسرة، وتعطلت سيارته، والطريق لم يزد ولم ينقص، والسيارة هي هي، ولكن الطريقة هي التي اختلفت.

المثال الثاني: الشجرة الصغيرة التي نغرسها في حوض فناء الدار، إذا سكبت عليها الماء شيئاً فشيئاً، فإنها تشرب منه وينفعها؛ فإذا أخذتَ مجموع ما تسقيه إياها في أيام أو شهور أو سنوات، وألقيتَه دفعة واحدة، لاقتُلِعت النبتة من مكانها؛ إن كمية الماء واحدة، ولكن الأسلوب تغير.

المثال الثالث: مَن يخلع ثوبه برفق يضمن سلامته؛ بخلاف مَن يجذبه بقوة ويسحبه بسرعة، فإنه يشكو من تقطّع أزراره وتمزقه.

     وفي الختام:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ: أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا"([24]).

وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران الآية 134].

إن الرفق في التعامل تذعن له الأرواح، وتنقاد له النفوس، وتخشع له القلوب، إنه مفتاح لكل خير، تستسلم له النفوس المستعصية، وتثوب إليه القلوب الحاقدة.

قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

............................

 

([1])  رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (2225).

([2])  أخرجه الطيالسى (ص 92، رقم 666)، وأحمد (4/362، رقم 19229)، ومسلم (4/2003، رقم 2592)، وأبو داود (4/255، رقم 4809)، وابن ماجه (2/1216، رقم 3687)، وابن حبان (2/308، رقم 548). وأخرجه أيضًا : البخارى فى الأدب المفرد (1/164، رقم 463)، وهناد (2/653، رقم 1431)، والطبرانى (2/346، رقم 2449) والبيهقى (10/193، رقم 20584).

([3]) أخرجه أحمد (6/451، رقم 27593)، والترمذي (4/367، رقم 2013) وقال: حسن صحيح. والبيهقي (10/193، رقم 20587).

([4])  رواه مسلم، برقم (6766)، باب فضل الرفق.

([5])  المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، دار الحرمين - القاهرة، 1415، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد, ‏عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، 4/205.

([6])  متفقٌ عليه عن أنس بن مالك.

([7])  متفقٌ عليه منن حديث السيدة عائشة رضي الله عنها.

([8])  رواه أحمد في مسند السيدة عائشة رضي الله عنها.

([9])  رواه مسلم برقم (6767)، باب فضل الرفق.

([10])  أخرجه الترمذي (4/662، رقم 2506) وقال: حسن غريب، والطبراني (22/53، رقم 127)، وأخرجه: القضاعي (2/78، رقم 919)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/315، رقم 6777)، والخطيب (9/95).

([11])  متفق عليه، أخرجه البخاري في: كتاب الإيمان: 36 باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وأخرجه مسلم في: 30 باب بَيَانِ قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ".

([12])  أخرجه أحمد (2/282، رقم 7786)، والبخاري (1/89، رقم 217)، وأبو داود (1/103، رقم 380)، والنسائي (1/48، رقم 56)، وابن حبان (4/244، رقم 1399). وأخرجه: الحميدي (2/419، رقم 938)، والترمذي (1/275، رقم 147)، وابن خزيمة (1/150، رقم 297).

([13])  أخرجه أحمد (2/301، رقم 7988)، وأبو داود (4/286، رقم 4942)، والترمذي (4/323، رقم 1923) وقال: حسن. وابن حبان (2/213، رقم 466)، والحاكم (4/277، رقم 7632) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (8/161، رقم 16420). وأخرجه: الطيالسي (ص 330، رقم 2529)، وابن أبى شيبة (5/214، رقم 25360)، وأبو يعلى (10/526، رقم 6141)، والطبرانى فى الأوسط (3/54، رقم 2453)، والخطيب (7/183).

([14])  أخرجه أحمد (2/236، رقم 7218)، والبخاري (5/2267، رقم 5763)، ومسلم (4/2014، رقم 2609).

([15])  أخرجه مسلم (1/48، رقم 17)، والترمذي (4/366، رقم 2011) وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه: البيهقي (10/104، رقم 20059).

([16])  أخرجه أحمد، مسند الوازع بن عامر.

([17])  أخرجه مسلم (3/1458، رقم 1828)، وأحمد (6/93، رقم 24666). وأخرجه: أبو عوانة (4/380، رقم 7023)، وابن حبان (2/313، رقم 553)، والبيهقي (10/136، رقم 20253).

([18])  فيض القدير 2/625.

([19])  الفردوس بمأثور الخطاب ج: 3 ص: 70رقم 4196.

([20])  الزهد لابن المبارك ج: 1 ص: 470 رقم 1336.

([21])  الفردوس بمأث

الرفق واللين

من أكمل صفات المؤمنين

 

الدكتور علاء الدين محمود زعتري

مدير الإفتاء العام والتدريس الديني

 

الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء علماً، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وستراً، وبعث رسوله وكمل وصفه ليناً ورفقاً وبراً، وبعد:

الإسلام دين الرفقة والرحمة، لا دين العنف والنقمة.

الرفق واللين، واليسر والسماحة من الخصال الحميدة والصفات النبيلة التي جاء الإسلام؛ بالحث عليها، والدعوةِ إلى التحلي بها، والثناء على أهلها والقائمين بها.

إن الرفق واللين أساس المحبة والتعاطف بين الناس، وجالبة السماحة والمودة في التعاملات، وهي كمال الإيمان، وحُسْن الإسلام، وعنوان فلاح العبد وسعادته في الدارين، وصلاحه وحسن خلقه مع الآخرين.

الرفق هو التلطف في الأمور، والبعد عن العنف والشدة والغلظة، أو هو: معاملة الآخرين بالحسنى واللين.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يتحلوا بخلق الرفق في سائر الأمور، فقال:            {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199].

وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

ومما يدل على أهمية الرفق، ما ورد في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لا يُعْطِي عَلَى الْخُرْقِ، وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلا قَدْ حُرِمُوا"([1]).

وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمية الرفق في تعامل الإنسان في الحياة، فعن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ"([2]).

وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:                      "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ"([3]).

وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاه"([4]).

إن القول اللين، والتصرف الراقي الرفيق، أرفع في النفوس، وأبلغ في تحقيق المطلوب، وأدعى إلى الإجابة والقبول.

رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

لقد أمر الله نبيه أشرف الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أن يدعوا قومه بالرفق واللين، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن، قال الله تعالى:              {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل، الآية: 125].

فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرفق الناس وألينهم، ومن لينه ورفقه أنه كان يلاعب الحسن والحسين (سيدا شباب أهل الجنة رضي الله عنهما وعن أبيهما وأمهما)، ويقبُّلهما، ويحملهما على كتفه.

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، فجاء الحسن والحسين أو أحدهما، فركب على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا سجد رفع رأسه، قال بيده فأمسكه، أو أمسكهما، ثم قال: "نعم المطية مطيتكما"([5]).

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأصحابه: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا"([6]).

وتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها عن رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً؛ فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ([7]).

ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء والرسل هذا الخُلق، ومنهم نوح عليه السلام، الذي جلس يدعوا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً باللين والرفق، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) [سورة الشعراء، الآيات: 105 _ 109].

 

الرفق يُسعد الإنسان:

 

إن الرفق واللين من المطالب الحياتية، والمقاصد الاجتماعية التي لا تستقيم الحياة السوية إلا به؛ يتألَّف به المرءُ قلوبَ مَن حوله، وتنقاد له النفوس، ويملك مودة الناس ومحبتهم وإجلالهم وتقديرهم له.

عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:             "إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ"([8]).

عندما تتصف ـ أخي الكريم ـ بـهذه الصفة، تشعر بأنك من الطيبين وأنك سعيد؛ لأنك أصبحت ليناً، كيف لا؟ وهي صفة من صفات الله ورسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وعندما تستعمل الرفق في حل المشاكل، تراها تُحَلَّ بسهولة ويسر دون حدوث مشاكل.

وقال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

"إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ"([9]).

والمسلم لا يُعَير الناس بما فيهم من عيوب، بل يرفق بهم، رُوِي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ، فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيك"([10])، أي: يصيبك بمثل ما أصابه.

والمسلم لا يسب الناس، ولا يشتمهم، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فقال: "سِبَابُ الْمُسْلِم فُسُوقٌ وَقِتالُهُ كُفْرٌ"([11]).

وأما العنف والفظاظة فما فشتا في أسرة أو مجتمع إلا تقطعت بينهم حبال الصلة، وفسدت علائق المحبة والأخوة، وسادت البغضاء والوحشة، فالرفق ولا سيما بالجاهل  ومَن في حكمه، باب عظيم من أبواب التأليف بين القلوب.

رَوَى أَبُو هريرةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وآله وسلم: "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ـ أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ـ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"([12]).

سؤال يمكن أن تطرحه على نفسك.

هل لدي هذه الصفة؟! هل سيكرمني الله بها؟! أم أني سوف أكون من الأشقياء؟! هل أنا شقي؟!.

هل أقبل أن أكون من الأشقياء؟! لماذا لا أحسن خلقي ابتداءً من اليوم؟!.

لا يوجد ما يمنع من أن أكون أحسن الناس خُلُقاً، وألطفهم معشراً، وألينهم عريكة، ولا يكلفني ذلك سوى الصبر على تصرفات الآخرين، وتحمل ما يواجهني من صعوبات، وسوف أعتاد على هذا يوماً بعد يوم، وموقفاً بعد موقف.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِن شَقيّ"([13]).

هذا هو خلق الحلم، وهو ما يسمى بـ (طولة البال، وكثرة التحمل، والتعقل قبل التصرف)، أحد الأخلاق الطيبة التي يتمتع بها المسلمون الطيبون، يبذلون ما يستطيعون ليُحَسنوا من أخلاقهم، يفعلون ما بوسعهم ليتصفوا بصفة من أحسن الصفات، صفة وردت في القرآن والسنة النبوية، فما أحسنها من صفة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"([14]).

ويدل هذا الحديث أنه يجب على المسلم الصبر والرفق في لحظات الغضب، فالقوة ليست هي قوة البدن، بل إن القوة الحقيقة هي ضبط النفس عند الشدائد، والتحلي بالصبر عند المصائب، والتريث عند الغضب.

فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وإلى حلم لا يضيق بجهلهم، وإلى رفق يتحمل ضعفهم، وإلى أناة تحنو عليهم، وإلى تروٍ يجبر نقصهم.

الناس في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم، دون أن يُحَمِّلَهم همه، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف، والسماحة والود والرضاء.

جاء بنو عبد قيس إلى المدينة وافدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولشدة شوقهم لمقابلته ولقائه صلى الله عليه وآله وسلم استعجل بعضهم المجيء إليه.

فهذا المنذر الأشج نزل أولاً في منزلٍ له، ثم اغتسل ولبس الثياب البيض، ثم دخل المسجد فصلى ركعتين ودعا، فقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأثنى عليه الصلاة والسلام على موقفه، وقال له: "إن فيك لَخَصلتين يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأَناة"([15]).

فقال الأشج رضي الله عنه: يا رسول الله! أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟!!.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "بل جبلك الله عليهما"([16]).

فقال الأشج رضي الله عنه: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله ورسوله.

نستنتج من القصة أن الحلم والتأني خصلتين جميلتين يحبهما الله ورسوله، فلنتخلق بها.

والرحمة فرع مهم بل هي الأساس فـي الرفق، إذ يجب على المسلم أن يرحم أخاه المسلم، فلا يؤذيه ولا يضره بشيء.

بل إن القرآن الكريم ذكر قصة موسى وهارون، عندما أمرهما الله بالذهاب إلى فرعون وإرشاده إلى الطريق الصحيح، باللِّين والقول الحسن، قال الله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه 43 ـ 44].

وذكر القرآن قصة إبراهيم عليه السلام، عندما ذهب إلى أبيه ـ راجياً من الله ـ أن يترك الأب عبادة الأصنام ويتجه إلى عبادة الله تعالى، فلم يأمره بعنف، ولم يغضب في حواره معه، ولم يعنفه في كلامه بقسوة، بل استعمل أرق خطاب، وأعذب نداء، وجاء بالقول اللين، حتى لدى استعماله كلمة العذاب، إذ ربطها بالرحمة، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) [سورة مريم 42 ـ 45].

تأمل: هل الرحمة تعذب؟!!، أراد سيدنا إبراهيم استعطاف أبيه رغم تهديده والخوف عليه من عذاب الله.

عندما تصبح من الذين يرحمون ويرأفون، فإنه يكفيك فخراً أنها من صفات النبيين والمرسلين، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يكفيك أنها صفة من صفات أحسن الخلق.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة: 128].

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 107].

فـتلك الصفات لها منافعها الدنيوية والأخروية، فمن أهم منافعها في الدنيا: حُب الناس لك، واحترامهم إياك، وإجلالهم لك، وتجدهم يحسنون معاملتك بالطريقة التي تحب أن تتعامل بها، ومن منافع لينك ورحمتك ولطفك بالخلق: أنك تؤجر من الله على ذلك مع أنها لا تكلفك الكثير.

واقرأ هذه القصة التي تحكي مدى حِلم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما مزرعة في المدينة مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.

 

وذات يوم دخل عمّال مزرعة معاوية إلى مزرعة ابن الزبير،
فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق، وقد كان بينهما عداوة: (من عبد الله بن الزبير إلى معاوية [ابن هند آكلة الأكباد] أما بعد: فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي، فمرهم بالخروج منها، أو فو الذي لا إله إلا هو ليكوننّ لي معك شأن).

وصلت الرسالة لمعاوية رضي الله عنه، وكان من أحلم الناس فقرأها، ثم قال لابنه يزيد:

ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني؟!

فقال له ابنه يزيد: أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه.

فقال معاوية: بل خيرٌ من ذلك زكاة وأقرب رحماً.

فكتب رسالة إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يقول فيها: (من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير [ابن أسماء ذات النطاقين] أما بعد: فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك، فإذا وصلك كتابي هذا، فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك، فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض).

فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكى، حتى بلها بالدموع، وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه وقال له: لا أعدمك الله حلماً أَحَلَّك في قريش هذا المحل.

إن الحلم صفة جميلة، يتصف بها كل من آمن بالله ورسوله، وكل من قرأ عنها وأحبها، فبالتأكيد الكل يحب أن يُعامل بطريقة لينة، فإن أردت ذلك فاتصف بهذه الصفة كي يعاملك الناس بها، كما تعاملهم بها.

والرفق يشمل الحكام والمسؤولين، بمَن تحت رعايتهم، مع الشفقة والرحمة، لتستقيم الأمور، وتسير على أكمل وجه، وهذا من الحكمة الرفيعة في السياسة الناجحة، أما العنف من هؤلاء فيورث الكراهية والتذمر والتضجر والفساد.

 

 

ولأجل هذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق وحذَّرهم من العنف والتشديد على من تحت أيديهم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبتهل إلى الله ويقول: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"([17]).

ودعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجاب من ربه، وفيه تأكيد على أن الجزاء من الله من جنس العمل، فما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق.

    فلو يعرف الناس كم للرفق من الأجر لما بقيَ شخص على الأرض إلا واتصف به.

أتحب أن تزيد من حسناتك.!.

كُن قدوة لغيرك، دعِ الآخرين يتصفون بهذه الصفة وأعطهم انطباعاً جيداً بتصرفك اللين وبرفقك بهم وبغيرهم.

فما أجمل أن تكون محبوباً من قِبلِ الله، ثم من قِبلِ الناس.

قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم، آية 4].

   وإليك بعض الحِكَم والأمْثَال بأسلوب نثري وشعري، لتبقى في ذاكرتك عند تصرفك:

(الكلمة الطيبة جوازُ مرور إلى كل القلوب).

(وإذا الصديق قسا عليك بجهلهِ، فاصفح لأجل الودِّ ليسَ لأجلهِ).

(كُن كالنخيل عن الأحقاد مُرتفِعا، يرمى بصخرٍ فيلقي أطيب الثمرِ).

(العلم مفتاح الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب).

قال الغزالي رحمه الله: (الرفق محمود، وضده العنف والحدة، والعنف ينتجه الغضب والفظاظة, والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة, والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولذلك أثنى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على الرفق وبالغ فيه)([18]).

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (العلم زين، والتقوى كرم، والصبر خير مركب, وزين ا&

عدد القراء : 3863