shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الصائمون وحمى الاستهلاك إسرافاً

 

ما أن يحين شهر رمضان المبارك، أو تدنو أيامه، حتى ترى استعداد الناس للشراء بطريقة غير صحية، ولا أسلوب يخرج في كثير من الحالات عن حد الأدب الإسلامي.

حيث يتدافع المستهلكون ويتزاحم المشترون، وتقام المهرجانات الاستهلاكية، والأسواق المحلية هنا وهناك،.

فعلى حد تعبير أحد أصحاب الدعاية والبيع: إن الأسبوع الأول من رمضان يتميز بزيادة حجم الاستهلاك الموجه للسلع والمنتجات الغذائية المتعلقة بشهر رمضان، في حين تتميز بقية الأسابيع من الشهر خصوصاً النصف الثاني بتصاعد معدلات الاستهلاك والإنفاق على الملابس الجاهزة والأقمشة والأحذية ولعب الأطفال.

والمنطق الرياضي أن نسبة الاستهلاك في شهر رمضان ينبغي أن ينخفض إلى الثلث، باعتبار تخفيض عدد الوجبات من ثلاث وجبات في الأيام العادية إلى وجبتين في شهر رمضان، لكن المراقبين الاقتصاديين يتوقعون أن نسبة الزيادة في المبيعات في شهر رمضان تصل إلى 25% إلى 30%.

وكأن شهر رمضان شهر الطعام والشراب، وتنوع الأغذية والأطعمة، وكأن المسلمين لم يدركوا في هذا الشهر المبارك أهميته وعظمة تشريعه، في تربية الإحساس بالآخرين؛ من المحتاجين والمعوزين الذين لا يجدون إلا ما يسد رمقهم، ولا يشبعون مما يأكلون بسبب القلة طوال العام، فيأتي شهر رمضان ليتساوى الجميع في هذا الإحساس بألم الجوع والعطش لساعات معدودة، ثم يبادر الناس للإفطار بعد غروب الشمس؛ ليشكروا الله على نعمه، ويحمدوا الله على آلائه.

ومما لاشك فيه أن لتزايد ظاهرة الاستهلاك وفشوها بين المسلمين أسباب، فما هي؟، وكيف تعالج تعاليم الإسلام مثل هذه الظاهرة؟.

أسباب تزايد الاستهلاك في الدول الإسلامية([1]):

  1. تزايد أعداد السكان:

فمعدل الزيادة السنوية في السكان داخل العالم الإسلامي من أعلى المعدلات في العالم، مما يترتب عليه زيادة في الطلب على السلع والخدمات بأنواعها؛ الضرورية والحاجية والكمالية.

ولا ينكر الإسلام التزايد في عدد السكان، ولكنه في مجمل تعاليمه يحث على أن تكون الزيادة في النوعية بالمقابل مع الزيادة العددية، فالحديث ذاته، الذي يستدل به على الكثرة في العدد أشار رسول الله r إلى النوعية المطلوبة، ليكون المسلمون مما يستحق أن يباهي ويفاخر بهم رسول الله r، وهم أولئك الذين يتبعونه في أقواله وأفعاله وسلوكه.

 ففي الحديث عن سعيد بن أبي هلال أن النبي r قال: "تناكحوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة"([2]).

ولتأكيد هذا المعنى حذر الرسول r أن يصل المسلمون إلى مرحلة الضعف والغثاء، الذين لا قيمة لهم في الحضارة الإنسانية، ولا مكان لهم في الحياة اليومية، بحيث يصيرون كالأنعام يأكلون ويتمتعون.

فَعَنْ ثَوْبَانَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا"، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟، قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ"، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟، قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ" ([3]).

  1. حالة الفقر الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية:

ووفقاً لنظرية (جون كينـز John Maynard Keynes) فإن الميل الحدي للاستهلاك مرتفع لدى الفقراء، ومنخفض لدى الأغنياء، فما أن يصل إلى الفرد الفقير جزء من المال حتى يبادر ويسارع إلى إشباع حاجة كانت تُلِحُّ عليه، فلا يُبقي لديه من المال شيئاً، ففي الغالب تكون احتياجات أكثر بكثير من موارده، والمسألة نسبية، فالغني أيضاً تكون احتياجاته أكثر من موارده، ولكن بشكل أقل من احتياجات الفقير.

  1. الثورة التقنية:

التي أتاحت لجميع بني البشر ما لم يكن يطمح إليه أحد قبل تلك الثورة، مما دفع الفقراء إلى الاستمتاع بما كان يستمتع به الغني، وبالتالي تفاقمت مشكلة التقليد والمحاكاة، ومحاولة حصول الفقير على التقانات الحديثة لشبع بها النقص في حياته، فقد ترى أن فقيراً يمتلك وسائل التقانة ويحصل عليها ـ وهي من الكماليات أو الحاجيات ـ قبل أن يحصل على الغذاء والكساء والمسكن ـ وهي من الضروريات ـ.

  1. ثورة الدعاية والإعلان:

فقد برع المنتجون بالمشاركة مع أصحاب شركات الدعاية والإعلان في ترويج السلع والخدمات، وتزيينها للناس سواء كانوا محتاجون إليها أم لا، وذلك عن طريق الدعايات والإعلانات التجارية التي تعرض أمام الناس في كل زاوية وركن، في طريقه، وفي الصحف والمجلات، وفي المحطات الإذاعية والمرئية، وعلى شاشات الفضائيات.

مما يدفع الناس إلى الاستهلاك، ولو لم يكونوا بحاجة ملحَّة إلى النوع الذي يُروَّج له، ولكن كثرة العرض والدعاية ترسِّخ في ذهن المستهلك أهمية السلعة أو الخدمة، فيُقدِم على شرائها.

  1. اعتماد بعض المنتجين على الإغراء:

حيث يزداد أمر الاستهلاك سوءاً عندما يدخل القمار في عمليات الاستهلاك، من خلال السحب على المنتجات المشتراة، من خلال الجوائز اليومية في رمضان، ثم الجوائز الأسبوعية، ثم الجائزة الكبرى في نهاية الشهر، فبدل أن يكون شهر طاعة وعبادة، يصبح شهر مقامرة وكسب خبيث.

ويظهر الحرام عندما يكون الدافع لشراء السلعة أو الخدمة هو الحصول على قسيمة الاشتراك في السحب أكثر من إرادة الاستفادة من السلعة المباعة أو الخدمة المتاحة.

  1. التقليد والتبعية:

ولا يُنكر أثر ظاهرة تقليد المغلوب للغالب وانبهاره به، وهي أمر غريزية ذكره علماء الاجتماع وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذا الأمر، إذ يقول:

[إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد الكمال في مَن غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه والله اعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب] ([4]).

وسائل محاربة الاستهلاك([5]):

  • الالتزام بضوابط الاستهلاك وأولوياته.
  • التعرف على حياة رسول الله r.
  • اتباع المنهج الغذائي الصحي.

أولاً: الالتزام بضوابط الاستهلاك وأولوياته:

لقد وضع الإسلام عدداً من المبادئ والضوابط الشرعية في مجال الاستهلاك، تكفي لتحقيق الوقاية والمناعة من كثير من الأزمات والمجاعات التي تتعرض لها كثير من المجتمعات الإسلامية، ومن هذه المبادئ:

  • إن نعم الله تعالى التي أنعمها على البشر لا تخص طائفة دون أخرى، وحتى لو وجدت بيد فئة معينة فإن للآخرين حق فيها، فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، ومن هنا فإنه ليس للمسلم أن يفرط أو يسرف ويبذر في استهلاكه.
  • إن الاستهلاك عبادة وطاعة من الطاعات، فكما هي أوامر العبادات والمعاملات كذلك أمر الاستهلاك والإنفاقات، فينبغي التقيد فيها بحدود ما أمر الله دون إسراف في الحلال، ودون تبذير في الحرام، قال الله تعالى: )يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [البقرة: 168]، وقال تعالى:)وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ( [المائدة: 88]، وقال سبحانه وتعالى: )فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ( [النحل: 114].
  • الاستهلاك أمر طيب ومندوب إليه مادام في حدود الشرع، لا يؤدي إلى ضرر بالنفس أو بالغير، ونعى القرآن الكريم على أولئك الذين يريدون تحريم ما أحل الله لهم من الطيبات، والزينة من الحياة، قال تعالى: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [الأعراف: 32].
  • الإسلام يحث على الاعتدال والتوسط في الإنفاق والاستهلاك، و ينهى عن الإسراف، قال تعالى: )يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( [الأعراف :31]، ويحرم التبذير، قال عز وجل: )وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا( [الإسراء :26 ـ 27]، وقد بين القرآن منهج عباد الرحمن بأنهم أصحاب توسط، بلا تفريط ولا إفراط، قال تعالى: )وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً( [الفرقان: 67]، ومنهج القوام والاعتدال يكفل للمجتمعات الإسلامية التخلص من كثير من المشكلات والأزمات التي ترهق كاهلها، ولا يمكن الالتزام بهذا المنهج إلا بوجود القناعة والحوافز الداخلية، من خلال الرقابة الذاتية الإيمانية.
  • للاستهلاك في الإسلام أولويات لا بد من مراعاتها بحيث يبدأ المسلم بسد حاجات نفسه أول، ثم أهله ثم أقربائه ثم المحتاجين، فقد أن رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا" يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ([6]).
  • ينبغي للمستهلك المسلم أن يقوم بتلبية ضروراته أول، ثم حاجياته، ثم تحسيناته، فالضروري: ما تتوقف عليه حياة الناس كالطعام والشراب، والحاجي: ما يرفع الحرج ويدفع المشقة عن الناس، والتحسيني: ما يؤدي إلى رغد العيش ومتعة الحياة دون سرف أو ترف أو معصية.
  • يتحدد مستوى الاستهلاك والإنفاق على النفس والعيال والمحتاجين بالقدرة المالية للشخص فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
  • لا يجوز أن يشتمل الاستهلاك على محرم، سواء كان ضرورياً أو حاجياً أو تحسينياً.

ثانياً: التعرف على حياة رسول الله r:

في موضوع الاستهلاك نقرأ عدداً من الأحاديث التي تصف حياته r بكافة تفاصيلها، ومن يقرأها ويحاول التمثل والاقتداء، فسيجد نفسه بعيداً عن شره الاستهلاك، فمن تلك الأحاديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ r مِنْ طَعَامٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ"([7]).

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ r مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ"([8]).

وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ r خُبْزًا مُرَقَّقاً، وَلا شَاةً مَسْمُوطَةً([9]) حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ"([10]).

وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ يَخْطُبُ، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ t مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنْ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلاً([11]) يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ"([12]).

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَبِيتُ اللَّيَالِي الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِياً([13])، وَأَهْلُهُ لا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ"([14]).

وورد عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ([15])، وَقَرَظٍ([16]) فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ([17]) مُعَلَّقٌ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟"، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لا أَرَى فِيهَا إِلا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، قَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا"، قُلْتُ: بَلَى([18]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟"، قَالا: الْجُوعُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا" فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلا مِنْ الْأَنْصَارِ … فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ([19]) فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r: "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ"، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ"([20]).

وعَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: "عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً، قُلْتُ: لا، يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا"، وَقَالَ ثَلاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا: "فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ" ([21]).

والأحاديث السابقة لا تشير إلى فضل الفقر أو الفاقة الممقوتة، بل تشير إلى الحالة التي كان يعيشها رسول r وأصحابه، وليس المراد أن نعيش في هذا الزمان كما كان يعيش، بل على الأقل أن نتذكر مثل تلك الأحوال، فنشكر الله عز وجل على نعمه، وأن لا نسرف في الاستهلاك، وأن نكون على قدر من الزهد في حقيقته، وهو الاعتدال في الإنفاق.

ثالثاً: اتباع المنهج الغذائي الصحي:

ولعل أفضل ما يمكن قوله في هذا الصدد: المحافظة على الصحة، كي لا يصل حال الإنسان إلى مرض، وذلك بالامتناع عن أسبابه، ومراقبة طريقه، ألا وهو الجهاز الهضمي، وبالتحديد: المعدة.

جاء في شعب الإيمان: اجتمع رجال من أهل الطب عند ملك من الملوك فسألهم ما رأس دواء   المعدة؟، فقال كل رجل منهم قولاً، وفيهم رجل ساكت، فلما فرغوا قال، ما تقول أنت؟، قال: ذكروا أشياء، وكلها تنفع بعض النفع، ولكن ملاك ذلك ثلاثة أشياء: لا تأكل طعاماً أبداً إلا وأنت تشتهيه، ولا تأكل لحماً يطبخ لك حتى ينعم ـ يكتمل ـ إنضاجه، ولا تبتلع لقمة أبداً حتى تمضغها مضغاً شديداً لا يكون على المعدة فيها مؤونة([22]).

ومن كلام بعض الأطباء: (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء)([23]).

وقال العجلوني:[ (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء) قال في المقاصد: لا يصح رفعه إلى النبي r بل هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب.

نعم روى ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: اجتمعت الأطباء على أن رأس الطب الحمية.

وفي الكشاف: يحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد، ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب في نصف آية من كتابه، قال: وما هي؟، قال: )كلوا واشربوا ولا تسرفوا(، فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب، فقال: قد جمع رسولنا r الطب في ألفاظ يسيرة، قال: وما هي؟، قال: قوله r المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته، فقال: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لـ (جالينوس) طباً.

واقتصر البيضاوي على قول الحسين: قد جمع الله الطب في نصف آية من كتابه قوله: )كلوا واشربوا ولا تسرفوا(]([24]).

فالمحافظة على الصحة واجب شرعي، ومطلب ديني، وينبغي التنبه إلى ضرورة اجتناب الأمراض الناجمة عن الاستهلاك المفرط، وبخاصة تلك السلع والمنتجات المحرمة والبضائع التي ثبت ضررها على الصحة.

 

([1]) يُنْظَر: ثورة الاستهلاك في العالم الإسلامي، د. كمال توفيق حطاب، http://www.islamiq.com/arabic/features/features.php4?date=01_07122001.

([2]) مصنف عبد الرزاق، رقم  الحديث (10391)، 6/173، وقال ابن حجر في فتح الباري (9/111): صح من حديث أنس بلفظ: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم يوم القيامة" أخرجه ابن حبان، وذكره الشافعي بلاغاً عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم"، وللبيهقي من حديث أبي إمامة: "تزوجوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى".

([3]) رواه أبو داود، رقم الحديث (3745)، والإمام أحمد، رقم الحديث (21363).

([4]) مقدمة ابن خلدون، 1/147.

([5]) يُنْظَر: ثورة الاستهلاك في العالم الإسلامي، د. كمال توفيق حطاب، http://www.islamiq.com/arabic/features/features.php4?date=01_07122001.

([6]) رواه مسلم، رقم الحديث (1663)، والنسائي، رقم الحديث (2499).

([7]) رواه البخاري، رقم الحديث (4955)، ومسلم، رقم الحديث (5286)، والترمذي، رقم الحديث (2281)، وابن ماجه، رقم الحديث (3334).

([8]) رواه البخاري، رقم الحديث (4996)، ومسلم، رقم الحديث (5274)، والترمذي، رقم الحديث (2280)، والنسائي، رقم الحديث (4356)، وابن ماجه، رقم الحديث (3150)، والإمام أحمد، رقم الحديث (23022)، والدارمي، رقم الحديث (1877).

([9]) الشاة المسموطة: المشوية.

([10]) رواه البخاري، رقم الحديث (4966)، والترمذي، رقم الحديث (1710)، وابن ماجه، رقم الحديث (3283)، والإمام أحمد، رقم الحديث (11848).

([11]) الدقل: التمر الردئ اليابس.

([12]) رواه مسلم، رقم الحديث (5289)، والإمام أحمد (334).

([13]) طاوياً: أي جائعاً.

([14]) رواه الترمذي، رقم الحديث (2283) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وابن ماجه، رقم الحديث (3338)، والإمام أحمد (2189).

([15]) مكيال لا يتجاوز ثلاثة كيلو غرامات.

([16]) ورق شجر يُدبغ به.

([17]) الإهاب: الجلد قبل الدبغ.

([18]) رواه ابن ماجه، رقم الحديث (4143).

([19]) العذق: الغصن من التمر.

([20]) رواه مسلم، رقم الحديث (3799)، والترمذي، رقم الحديث (2292)، وابن ماجه، رقم الحديث (3171).

([21]) رواه الترمذي، رقم الحديث (2270)، وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، ورواه الإمام أحمد، رقم الحديث (21166).

([22]) شعب الإيمان، البيهقي، رقم (5793 مكرر)، 5/65.

([23]) ذكره علي بن سلطان محمد الهروي القاري، في المصنوع، رقم (306)، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، 1/172.

([24])كشف الخفاء، رقم (2320)، 2/ 279 – 280.

عدد القراء : 1035