shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الغلو في الدين؛ أسبابه ومظاهره 

 

تعريف الغلو:

الغلو لغة: هو الزيادة عن الحد وشرعاً: هو مجاوزة الحد المطلوب شرعاً من العبد إلى ما هو أبعد منه؛ فلا يكتفي بطلب الشارع، بل يشعر بأن ما طلبه الشارع قليل ولا يكفي فيغالي ويزيد من عنده على ما أمر به الشارع، اعتقاداً بأن ذلك محبوب شرعاً.

حكمة تحريم الغلو في الدين([1]):

1- الغلو منفر لا تحتمله طبيعة البشر العادية ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل من الناس لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، ولهذا غضب النبي r على معاذ t حين صلى بالناس فأطال الصلاة حتى شكاه أحدهم للنبي r فقال له: "أفتَّان أنت يا معاذ؟" وكررها ثلاثاً([2]).

وقال r: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم المريض والكبير والضعيف وذا الحاجة"([3]).

ولما بَعَث النبي r معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسِّرا و لا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا"([4]).

وقال رسول الله r: " ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمنازلهم من الله على منابر من نور؟"، قالوا: مَن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويمشون على الأرض هونا وبين الناس بالنصح"([5]).

2- الغلو قصير العمر، فالإنسان ملول وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد و التعسير فسرعان ما يكل ويمل ويسأم ويدع العمل حتى القليل منه أو يأخذ طريقاً آخر على عكس الطريق الذي كان عليه، أي: ينتقل من الإفراط إلى التفريط ومن التشدد إلى التسيب.

وفي الحديث: "إن المُنْبَتَّ([6]) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"([7]).

ومن التوجيه النبوي قوله r: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل"([8]).

وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي r تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: " إنها تصوم النهار وتقوم الليل ، فقال رسول الله r: "إن لكل عمل شِرَّه([9]) ولكل شِرَّه فترة([10]) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل"([11]).

وقال رسول الله r: "إن الدين يُسْر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة"([12]).

وقال العلامة المناوى في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق إلا عجز فيغلب .. "فسددوا" أي الزموا السداد وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط، "وقاربوا" أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فأعملوا بما يقرب منه .. "وأبشروا" أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل".

3- الغلو لا يخلو من جَوْر على حقوق أخرى يجب أن تراعي وواجبات يجب أن تؤدى، وما أصدق ما قاله الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع.

وقال رسول الله r لعبد الله بن عمر t حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكاً أنساه حق أهله عليه، قال: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"؟ فقال: قلت: بلى يا رسول الله، فقال r: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك([13]) عليك حقاً"([14])، يعني: فأعط كل ذي حق حقه ولا تحل وتغل في ناحية على حساب الأخرى.

وكذلك قال الصحابي الجليل سلمان الفارسي t لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء t، وقد كان رسول الله r قد آخي بينهما فزدات بينهما الألفة وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل؛ قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم فنام ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان"([15]).

من مظاهر الغلو في الدين

1-التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة، وكثيراً ما يجعل الأمور الاجتهادية أموراً مقطوعة ويقينية، ليس فيها إلا قول واحد وهو قوله، ولا رأى إلا رأيه، فهو لا يسمع حجج الآخرين ولا يفكر فيها ولا يقارن كلامه بكلامهم ويناظر حجته بحجتهم، ثم يأخذ ما يراه أنصع برهاناً وأرجح ميزاناً.

والعجب أن منهم من يجيز لنفسه أن يجتهد في أغوص المسائل وأغمض القضايا وهو غير أهل للاجتهاد ولا يجيز لغيره من العلماء المتخصصين أن يجتهد كما اجتهد هو، فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه وينفي كل ما عداه، كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم، ومن واجبك أن تتبع، رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب، وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً!

ويزداد المر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، وهنا قد لا تكون العصا الغليظة من حديد أو خشب فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين أو بالكفر والمروق.

2- إلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به: ومن مظاهر الغلو الديني التزام التشدد مع قيام موجبات التيسير وإلزام الآخرين به حيث لم يلزمهم الله به، فلا ينبغي لمسلم أن يرفض التيسير في وقت الحرج وأن يرفض الرخصة التي رخصها الله ويلزم جانب التشدد في كل أحواله بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه وتأتيه الرخصة لتخرجه من الضيق والحرج فيرفضها.

3- التشدد في غير موضعه: ومما ينكر من التشدد أن يكون في غير زمانه ومكانه، فحديثي العهد بإسلام أو حديثي عهد بتوبة ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية والأمور الخلافية، والتركيز معهم على الكليات قبل الجزئيات.

لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ..."([16]).

4- الغلظة والخشونة: في الأسلوب والفظاظة في الدعوة خلافاً لأوامر الله وأوامر رسوله .. فقد قال الله سبحانه وتعالى: ]ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن[[النمل: 125]، ووصف رسوله الكريم r بقوله: ]لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم[[التوبة: 128]، وقال تعالى: ]فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك[[آل عمران: 159].

5 – سوء الظن بالناس: بالتفتيش عن العيوب ويجعلون من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً، وإذا كان هناك قول يحتمل وجهين؛ وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير خلافاً لما أُثِر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال المسلم على الصلاح والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.

إن ولع من يكفرون المسلمين بالهدم لا بالبناء ولع قديم وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم أمر معروف، والله سبحانه وتعالى يقول ]فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى[[النجم: 32].

وفي الحديث: "إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم"([17]). فكثير من هؤلاء المتشددين يرتدون نظارة سوداء، فلا يرون إلا المثالب وكثيراً ما تجده ينتقد الناس ولا يعجبه أحد، وإذا سألته عن شخص ما ذكر مثالبه وبالغ فيها وسكت عن حسناته، وفي أحسن الأحوال يذكر جزءاً يسيراً من حسناته ويقلل من شأنها، وهذه نظرة غير عادلة وانحراف عن جادة الطريق، وقد قال تعالى: ]يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون[[المائدة: 8].

وقال تعالى: ]يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً[[النساء: 135].

فعلى المسلم أن يكون عادلاً منصفا يزن الناس بميزان الشرع والوسطية، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو صالح، ولا ينبغي له أن يلبس نظارة سوداء فلا يرى إلا السواد، ولا ينبغي له أن يحقر أخاه المسلم. فقد قال رسول الله r: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"([18]).

وعن ضمضم بن جو اليماني: قال: قال لي أبو هريرة: يا يماني لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة أبداً. قلت يا أبا هريرة إن هذه لكلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب، قال: فلا تقلها، فإني سمعت النبي r يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهداً في العبادة، وكان الآخر مسرفاً على نفسه، فكانا متآخيين، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول: يا هذا، أقصر، فيقول: خلني وربي، أَبُعِثْتَ علي رقيباً؟ قال إلى أن رآه يوماً على ذنب استعظمه فقال له: ويحك أقصر، قال: خلني وربي، أَبُعِثْتَ علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو يدخلك الله الجنة أبداً، قال: فبعث الله إليهما ملكاً، فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أكنت بي عالماً، أكنت على ما في يدي قادراً اذهبوا به إلى النار. قال: فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته([19]).

فهذا قد رأى صاحبه على منكر فاعتقد أن الله لا يغفر له أبداً ولا يدخله الجنة أبداً، وهذا اعتقاد باطل وفاسد فإن رحمة الله وسعت كل شئ، ولا يملك أحد الحجر على رحمة الله.

6 – النظرة المثالية للمجتمع: ومن مظاهر الغلو أن ينظر المرء إلى المجتمع وفي خياله نظرة مثالية، فيعتقد أن المجتمع المسلم ينبغي أن يكون مجتمعاً ملائكياً يسوده الحب والمودة والطاعة الدائمة دونما تقصير، فإن كان المجتمع الحالي هكذا فهو مجتمع مسلم وإن وجدت فيه المعاصي فهو مجتمع جاهلي غير إسلامي.

وإذا كانت قد وقعت بعض المعاصي و الذنوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير القرون بلا جدال، فإذا ما وقع مثل ذلك أو أكثر في عصورنا هذه، فلا يجوز لأحد أن يصف هذا المجتمع بأنه مجتمع جاهلي ومجتمع كافر، فإن المعاصي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات على مر العصور و الدهور.

وقديماً نظر بعض التابعين إلى مجتمعهم نظرة مثالية خالية من الواقع، فوجدوا أن كتاب الله تعالى لا يُعمَل به كله وذلك في عهد عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه، فأنكروا ذلك وذهبوا إلى أمير المؤمنين ليناظروه في هذا التقصير في المجتمع المسلم، و لننظر ماذا دار بينهم.

روى ابن جرير عن الحسن: إن أناساً سألوا عبد الله بن عمرو بن العاص بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أمر أن يُعمل بها لا يُعمل بها، فأردنا أن نلقي أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه، فلقى عمر t، فقال: متى قدمت؟ فقال: منذ كذا وكذا، قال: أبأذن قدمت؟ قال: لا، فلا أدري كيف رد عليه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر الله أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك، قال: فاجمعهم لي، قال: فجمعهم له، فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك الله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، قال : فهل حصيته في نفسك؟ فقال: اللهم لا، قال: ولو قال نعم لخصمته، قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ فهل أحصيته أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال: ثكلت عمر أمه، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ! قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات قال: وتلا: ]إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم[[النساء: 31]، ثم قال: هل علم أهل المدينة، أو قال هل علم أحد بما قدم تم؟ قالوا: لا، قال: لو علموا لوعظت بكم([20]).

7 –السقوط في هاوية التكفير، ويبلغ هذا الغلو غايته حين يسقط عصمة الآخرين ويستبيح دماءهم وأموالهم ولا يرى لهم حرمة ولا ذمة، وذلك عندما يخوض في لجة التكفير واتهام جمهور الناس بالخروج عن الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلاً كما هي دعوى بعضهم وهذا يمثل قمة الغلو الذي يجعل صاحبه في واد وسائر الأمة في واد آخر.

من أسباب الغلو

1 – ضعف البصيرة بحقيقة الدين: وقلة البضاعة في فقهه والتعمق في معرفة أسراره والوصول إلى فهم مقاصده واستشفاف روحه.

والمقصود به نصف العلم الذي يظن صاحبه أنه دخل به من زمرة العلماء وهو يجهل الكثير والكثير، فهو يعرف نتفاً من العلم من هنا وهناك غير متماسكة ولا مترابطة، يهتم بما يطفو على السطح ولا يهتم بما يرسب في الأعماق.

قال النبي r: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"([21]). وفي الحقيقة أن نصف العلم مع العجب و الغرور والاعتقاد أنه عالم يضر أكثر من الجهل الكلي مع الاعتراف، لأن هذا جهل بسيط وذلك جهل مركب، وهو جهل من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، ولهذا مظاهر عديدة عندهم، أهمها:

مظاهر الجهل:

1 – الاتجاه الظاهري في فهم النصوص:

فمثلاً: عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"([22])، والناظر في علة هذا المنع يتبين له أن النبي r لم ينه عن ذلك إلا مخافة أن يستهين الكفار بالمصحف أو ينالوه بسوء، فالبعض لا ينظرون إلى علة النهي وينهي عن السفر إلى أرض الكفار بالمصحف رغم أن المسلمين في أمس الحاجة لوجود المصاحف معهم لتلاوتها وحفظها وتعليمها لأولادهم ولدعوة الكفار إلى الإسلام، فالعالم الفقيه يفتي بجواز سفر المسلمين الآن بالمصاحف إلى ديار الكفار لعدم وجود علة المنع وهي الاستهانة بالمصحف، ولأن العلة تدور مع الحكم وجوداً وعدماً، فإن وجدت العلة وجد الحكم وإن انتفت انتفى الحكم، وهذا ما يجري عليه العمل من كافة المسلمين اليوم دون نكير.

مثال آخر: نهى رسول الله r الرجل المسافر أن يطرق أهله ليلاً "أي يرجع من سفره ليلاً"([23]).

والعلة في ذلك أمران: الأول: اتقاء أن يظهر الرجل في صورة من يتهم أهله أو يتخونهم فهو يريد أن يفاجئهم ليلاً لعله يكشف شيئاً مريباً وهذا سوء ظن لا يرضاه الإسلام للمسلم في العلاقة الزوجية التي يرفعها الإسلام إلى مكانة عالية.

الثاني: أن يكون لدى المرأة علم بقدوم الزوج حتى تتجمل له، فلو أخبر الزوج زوجته عن طريق الهاتف مثلاً أنه سيعود الساعة الفلانية ليلاً لانتفت العلة المانعة من قدومه من سفره ليلاً.

فمعرفة العلة تساعد على فهم مقاصد الشرع وفهم روح النص وبالتالي الوصول إلى الصواب في الفتوى، أما الاقتصار على مظاهر النص يؤدي إلى الجمود والبعد عن مقاصد الشرع.

2 – الاشتغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى: التي تتعلق بوجود الأمة الإسلامية وهويتها ومصيرها.

فنرى كثيراً منهم يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل مسائل فرعية اختلف فيها العلماء سلفاً وخلفاً ولا مصير إلى اتفاقهم فيها لأنها من المسائل الاجتهادية الفرعية التي تتفاوت فيها الأفهام وتتعارض فيها الأدلة.

كوضع اليدين في الصلاة، هل توضع على الصدر أم تحت السرة أم تسدل إلى الجانبين فهذه صورة مكملة للغرض وليست هي الغرض لذا فالاختلاف فيها لا يمثل كبير اختلاف.

3 – الإسراف في التحريم (بغير دليل):

وقد كان السلف لا يطلقون الحرام إلا ما علم تحريمه جزماً، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا: نكره كذا أو لا نراه أو نحو ذلك من العبارات ولا يصرحون بالتحريم.

أما الميالون للغلو فهم يسارعون إلى التحريم دون تحفظ، فإذا كان في الفقه رأيان أحدهما يقول بالإباحة والآخر بالكراهة أخذوا بالكراهة، وإن قال أحدهما بالكراهة والآخر بالتحريم جنحوا إلى التحريم، وإذا كان هناك رأيان أحدهما ييسر والآخر يشدد فهم دائماً مع التشديد ومع التضييق.

4 – اتباع المتشابهات وترك المحكمات:

والمتشابه: ما كان محتمل المعنى وغير منضبط المدلول.

والمحكم: البين المعنى الواضح الدلالة المحدد المفهوم.

فالبعض يجري وراء المتشابهات يتخذون منها عدتهم ويملؤون بها جعبتهم معرضين عن المحكمات وهي التي فيها القول الفصل والحكم العدل.

5 – عدم التعلم على أيدي العلماء: وإنما تلقاه من الكتب والصحف مباشرة دون أن تتاح له فرصة المراجعة والمناقشة والأخذ والرد واختبار فهمه ومعلوماته ووضعها على مشرحة التحليل، وطرحها على بساط البحث ولكنه قرأ شيئاً وفهمه واستنبط منه، وربما أساء القراءة أو أساء الفهم أو أساء الاستنباط وهو لا يدري، وربما كان هناك معارض أقوى وهو لا يعلم، لأنه لم يجد من يوقفه عليه.

ومن أجل ذلك نهى علماء السلف من أن يتلقى العلم عن صُحَفِي أو القرآن عن مُصْحَفي، وهم يعنون بالصُحَفي الذي أخذ العلم من الكتب وحدها من غير أن يتتلمذ على أهل العلم، ويعنون بالمُصْحَفي الذي حفظ القرآن من المصحف فحسب، دون أن يتلقاه بالرواية والمشافهة من القراء المتقنين.

2 – ضعف البصيرة بالواقع والحياة والتاريخ وسنن الكون: فنجد أحدهم يريد ما لا يكون ويطلب ما لا يوجد ويتخيل ما لا يقع ويفهم الوقائع على غير حقيقتها ويفسرها وفقاً لأوهام رسخت في رأسه لا أساس لها من سنن الله في خلقه، ولا من أحكامه في شرعه، وهو يريد أن يغير المجتمع كله؛ أفكاره ومشاعره وتقاليده وأخلاقه وأنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوسائل واهية وأساليب خيالية وإمكانات بدائية مع شجاعة وجرأة وفدائية لا تستكثر تضحية وإن غلت، ولا تعبأ بالموت، ولا تهتم بالنتائج أياً كانت ما دامت نيتها لله وهدفها إعلاء كلمة الله، ومن ثم لا يستغرب أن تندفع إلى أعمال وتصرفات يسميها البعض انتحارية ويسيمها آخرون جنونية، ويسقط كثير منهم ضحاياها دون أن يبالوا بذلك شيئاً.

الإسلام بين الغلو والتقصير

التفريط والتقصير، هما الداء الخطير، وهل أضاع الدين إلا التفريط في حدوده وحرماته؟.

وهل ضاعت القدس إلا من تفريط المسلمين في دينهم؟.

وهل ضاعت الأعراض إلا نتيجة خذلان المسلمين عن نصر إخوانهم؟

وهل تشرذمت أمة الإسلام أشتاتاً وتمزقت أشلاء إلا نتيجة لتقصيرهم في حق ربهم وغفلتهم عن واجبات دينهم؟.

فالمعاصي تورث الذل، وفي الدعاء: "اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك"، وصدق الله العظيم: ]من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً[[فاطر: 10].

فكل عزة إنما هي مستمدة من عزة الله، وهل أصبحت دول الإسلام والعروبة من أفقر دول العالم وأحوجها وأصبحت تتسول دول العالم الأول – كما يقولون – إلا بتفريطها في دينها وعصيانها لربها ومولاها؟ وهي التي تمتلك كنوز الدنيا كلها، وتمتلك الذهب الأسود والأبيض و تجري فيها أعظم أنهار الأرض، وأصبح المسلمون في ذيل العالم اقتصادياً حتى عرفوا في العالم كله بالعالم الثالث، بعد أن كانت أيام الصدر الأول من الإسلام هي العالم الأول، وهي مصدرة الحضارة إلى الدنيا كلها.

وهل سمعنا قبل ذلك عن الملايين الشباب الذين يدمرون أنفسهم وأسرهم بالمخدرات إلا بعد تفريط الأمة في دينها؟.

وهل سمعنا عن شيوع الجرائم الأسرية التي يندى لها الجبين إلا منذ ذلك الحين؟ فسمعنا عمن يقتل أمه، وسمعنا عمن يقتل أباه، وسمعنا عمن يطرد أمه من مسكنها ليعيش فيه وتعيش هي في الشارع ثم في دار المسنين، ومن يقتل شقيقه من أجل بضعة جنيهات، هل سمعنا بشيء من ذلك التردي الشنيع إلا منذ تخلت الأمة عن دينها وأعطت ظهرها لإسلامها.

إن الغلو والتقصير وجهان لعملة واحدة، والإفراط والتفريط صورتان لشيء واحد، وكلاهما خطر على الإسلام، وكلاهما ضار بالدين.

فالدين وسط بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير: ]وكذلك جعلتكم أمة و سطاً[[البقرة: 143]، وليس معنى: [وسطا] أنها وسط بين الأشياء بالمعنى الرياضي، ولكن معناها أنها أمة العدل والحق والخير والصلاح.

وليس من معاني اليسر التحلل من الدين والوقوع في الفواحش والكبائر، وليس منه أن يرى الإنسان الفاحشة والمنكر في أهله وأسرته ثم يغمض عينيه حتى لا يتهم بالغلو والتشدد. وليس منه أن يقع المسلم في الشبهات في الدين والعرض حتى لا تلحقه تهمة وسوط التشدد.

وليس منها الوقوع في الكبائر والمحرمات تحت دعوى أن الله غفور رحيم وأن الدين يسر.

وليس منها تلقف هفوات العلماء وسقطات الأئمة لتكون حصيلته من العلم والعمل هي البضاعة المزجاة التي لا تنفعه في الدنيا ولا في الآخرة.

وليس من معاني اليسر تبرج النساء والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء وتفشي الإدمان وشيوع الفوضى في دنيا الناس تحت دعوى التحضر ويسر الشريعة وروح القرن الواحد والعشرين.

ولكن المعنى الحقيقي لليسر أن تفعل وتعمل ما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين مباحين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه. كما ورد في الصحيح: "ما خير رسول الله r بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه"([24]).

ورغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يختار أيسر الأمرين المباحين إلا أنه كان أكثر الناس صدعاً بالحق ودعوة إلى الله وبياناً للحق وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.

فاليسر لا يكون أبداً فيما حرمه الله؛ لأن الله سبحانه لم يحرم شيئاً فيه مصلحة لعباده ]ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[[الملك: 14].

وحاشا لله أن يأمر عباده بما لا يستطيعون وهو القائل في كتابه: ]لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت[[البقرة: 286].

ولهذا لا يضاد معنى اليسر أن يأخذ الإنسان نفسه بعزمات الإيمان ما دام لم يلزم غيره بذلك.

وفي الختام نقول إن الدين يضيع بين غلو المغالين وتقصير المقصرين، فلا تغال مع الغالين، ولا تقصر مع المقصرين، وخذ بهدى نبيك الكريم عليه أفضل الصلاة و التسليم في كل وقت وحين.

 

 

([1]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، ص 29 وما بعدها.

([2]) رواه البخاري [673].

([3]) رواه البخاري [5759] ومسلم [466\182].

([4]) رواه البخاري [2873] ومسلم [1733\7].

([5]) رواه البيهقي.

([6]) المنبت هو الذي أجهد دابته في السفر فانبتَّ عن رفقته، أي انقطع عنهم، لا وصل مأربه وغايته ولا أبقى دابته على قيد الحياة.

([7]) جزء من حديث رواه البيهقي في الكبرى [3\18\4520] عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب.

([8]) رواه البخاري [5523] ومسلم [782\215] واللفظ له.

([9]) أي حدة و نشاطاً.

([10]) أي استرخاءاً وفتوراً.

([11]) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد [3560] وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

([12]) رواه البخاري [39].

([13]) الزور أي الزوار.

([14]) جزء من حديث رواه البخاري [1874] ومسلم [1159\181].

([15]) رواه البخاري [1867].

([16]) جزء من حديث رواه البخاري [1331] ومسلم [19/29].

([17]) رواه مسلم [2623/139].

([18]) رواه مسلم [2564/32].

([19]) رواه أحمد في المسند [3/323].

([20]) قال ابن كثير: إسناده صحيح ، متنه حسن.

([21]) رواه البخاري [100] ومسلم [2673/13].

([22]) رواه البخاري [2828] ومسلم [1869/92].

([23]) رواه البخاري [1707] ومسلم [715/192].

([24]) رواه البخاري [6404] ومسلم [2327/77].

عدد القراء : 1389