shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الفتوى ودورها في ضبط الصحوة الإسلامية

 

مدخل:

هل تحولت الفتوى من وسيلة للاجتهاد والإبداع لنشر مبادئ الإسلام العالمية، وقيمه الإنسانية الفاضلة، بما يضمن ترسيخ الرحمة الشاملة والحب الواسع، وتحقيق العدل العالمي، ونشر الأخوة الإنسانية، وإرساء السلام في المعمورة، وتسخير الأرض لمصلحة الإنسان.

إلى قناع يختفي وراءه الحكام، ويُخْفِي بها المتحاربون مآربهم الشخصية، ومصالحهم الضيقة، وبما تمليه الظروف النفسية والاجتماعية، للفرد أو الجماعة، ثم يزين (يزيف) اندفاعه وطمعه واستكباره بطلاء من الدين أو الفضيلة.

فتاوى تحريم خوض انتخابات ما.

فتاوى تكفير الأشخاص والأحزاب والحكومات والدول.

فتاوى قتل الحكام، عامة، أو أشخاص منهم أو ممن يوالونهم أو يلوذون بهم، أو يعملون لديهم بأعيانهم.

فتاوى برفض الأوامر الإدارية للدول، والتخلي عن الوثائق الرسمية.

فتاوى مَن لا يكون مع جهة ما أو حزب معين فقد خان الله ورسوله والمؤمنين والوطن.

فتاوى مغادرة الوطن؛ حفاظاً على الحياة من بطش العدو.

وفي المقابل:

فتاوى تدعو للحفاظ على وحدة البلد وسلامة الوطن.

فتاوى تحريم الاستعانة بالأجنبي على المواطنين.

فتاوى تطلب من الجنود مراقبة الله في جهادها.

فتاوى تدعو الجنود إلى حماية الأنفس البريئة، وستر الأعراض وسلامة الأموال.

وفي المجمل:

إن فتاوى الحفاظ على دماء الأبرياء من القتل، وحماية الدين، وسلامة العقول، وصيانة الأعراض، واستقلالية الأموال، ووحدة الأوطان؛ لهي الفتاوى التي لا يختلف عليها أحد، ولا يتنازع فيها اثنان.

إن الفتاوى الجامعة (التي تجمع الأمة في أهدافها) تسير في خط الجهاد القولي، المبنية على المقاصد الكبرى، والأهداف العليا للدين الحنيف، هي ما يحتاجها العالم الإسلامي اليوم.

وأما الفتاوى المفرقة بين المسلمين؛ المبعدة بين المؤمنين، أحزاباً سياسية، وطوائف دينية، ومذاهب فقهية، وتيارات فكرية، أو فتاوى تتصل بالسياسة عاملاً متغيراً، فإنها تفقد صاحبها المصداقية, وتنزع الاحترام عن الذين يصدرونها.

 

نماذج تاريخية من توظيف الفتوى للدعاية السياسية

دخل رجل من أهل الشام على معاوية فقام خطيباً بين يديه، وكان آخرُ كلامه أن لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأطرق الناس، وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إِن هذا القائل لو يعلم أن رِضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله، ودع عنك علياً فقد لقي ربه.

ولم يتورع (فقيه) من القول بأن الإمام الحسين قتل بسيف جده؛ تقرباً من ولاة بني أمية في الأندلس.

وأفتى أبو البختري الرشيدَ بجواز قتل ثائر، كان الرشيد قد كتب له – من قبل - الأمان بيده، وأشهد على ذلك القضاة والعلماء وكبار بني هاشم، فعين الرشيد أبا البختري قاضياً للقضاة؛ تكريماً له على هذه الفتوى التي أحل له بها الخيانة والغدر، رغم أنف محمد بن الحسن الشيباني الذي أفتى بحرمة قتل هذا الثائر؛ لأن الخليفة لم يكن يبحث عن الحكم الشرعي. بل كان يريد (فقيهاً) يستبيح به دم هذا الرجل.

إن من حق كل فقيه أن يعبر عن رأيه السياسي بحرية، ويناصر من يشاء، ويعادي من يشاء، ولكن ليس من حقه أن يخلط بين آرائه الشخصية وبين الفتاوى الشرعية.

فالفتاوى الشرعية في أمور السياسة يجب أن تكون مستقلة عن تأثير السياسة، وبعيدة عن أجندة الساسة، وأن تكون فتوى جماعية تعبر عن رأي هيئة تمثل الأمة المسلمة، وتجمع أصحاب تخصصات عديدة حتى تكون أقرب لمقصد الشارع.

ذلك أن الدين حق كله، وعدل كله، ورحمة كله، وسلام كله، وحكمة كله، وأخوة كله، وعمل صالح كله.

والسياسة مصالح، وخداع، وتضليل، وإخفاء للحقيقة، وتقديم الأكاذيب على أنها حقائق ثابتة، وشيطنة الخصم لتبرير الانقضاض عليه.

وهذا ما يحتم على (الفقهاء والمفتين) الحذر من أن يقعوا تحت تأثير السياسيين وأجندتهم السرية التي لا تُعرف حقائقها، فكيف يعرفها فقيه مسلم لا حول له ولا قوة، أو خطيب جمعة ذو ثقافة محدودة في دولة عربية أو إسلامية بائسة.

ولنتذكر قول الإمام محمد عبده: (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته).

 

تمهيدان:

 

التمهيد الأول عن الصحوة

1 – المؤتمر عن الصحوة، واسمحوا لي أن أبدأ الحديث عن الغفلة.

فقد غفل المسلمون عن ثلاث آيات، هي من أهم موجبات ضوابط الفتوى في الصحوة اليوم.

فالقرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الإسلامية؛ إذ قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

والقرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الدينية؛ إذ قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].

والقرآن الكريم دعانا إلى الوحدة الإنسانية؛ إذ قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وواقع المسلمين اليوم في غفلة عن هذه الآيات؛ إذ إن الكل أُعجِب برأيه، وتاه بفكره، وراح يسبح حول دائرة ذاته، ويمجد وجوده، ناسياً أو متناسياً ما يجري من أحداث حوله، وأهمية العمل الجماعي.

 

التمهيد الآخر عن الفتوى

2 _ رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن - شيخ الإمام مالك - يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق([1])!.

ذاك الكلام كان في القرن الثاني الهجري، فما بالك بهذا الزمان، حيث أقدم على الفتوى مَن لا علم له بها، ومد باع التكلف إليها، مع قلة الخبرة، وفي بعض الأحيان مع سوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكَر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة نصيب؟!.

وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى مَن لا علم له بالأصول الكبرى، ولا بالفروع التفصيلية، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟.

بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد المعينين والمجتمعات التي لا توافق آراءهم، وتحريمهم على أتباعهم حضور الجمع والجماعات، وكثير من هؤلاء ليسوا من (أهل الذكر) في علوم الشريعة.

ولعله لم يكلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كَوَّن ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أو سماع أشرطة المحرضين.

أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مئة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، ولو حاول التأمل فيها لفهمها؛ للوى عنق النص بما يتفق مع هواه ويحقق مطلبه الدنيوي؛ لأنه ـ أصلاً ـ لا يملك المفاتيح المُعينة على فهم النصوص الشرعية وهضمها.

قال الإمام النووي: (عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى في كل ما يُسْأل فهو مجنون) ([2]).

وإن مما ابتليت به الأمة اليوم ظهور بعض الحدثاء ممن يستبيح الفتاوى الشرعية بمجرد اطلاعه على نص أو اثنين في المسألة!!، والشريعة لا تؤخذ أحاداً إنما لا بد من جمع نصوص المسائل، واستقراء الشريعة للوصول إلى الصواب.

روى أبو نعيم([3])، عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان.

فقال للرجل: فما تقول أنت فيه؟ قال: أقول: إن الإيمان قول.

قال ومن أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، فصارت الواو فصلاً بين الإيمان والعمل، فالإيمان قول، والأعمال شرائعه.

فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟.

قال: نعم.

قال: إذاً، أنت تعبد إلهين، إلهاً في المشرق، وإلهاً في المغرب؛ لأن الله تعالى يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17].

فغضب الرجل، وقال: سبحان الله أجعلتني وثنياً؟!.

فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك.

قال: كيف؟.

قال: بزعمك أن الواو فصل.

فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت، بل لا أعبد إلا رباً واحداً، ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل، بل أقول إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.

فانظر كيف كاد يضل الرجل بحرف واحد، قطعي الثبوت لكنه فَهِمَه بغير الفهم الصحيح، ولم يفهمه بغيره من النصوص الصريحة.

فكيف بمن فَهِم حرفاً ظنيَ الثبوت بغير فهمه، وعارض به غيره من النصوص الواضحة الصحيحة.

وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين بفتح الحاء التابعيين قالوا إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر([4]).

 

تحرير المصطلحات (الفتوى، الصحوة)

أولاً: تعريف الفتوى:

الفتوى لغة([5]): اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي، يقال:أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألة، والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام.

والفتوى شرعًا: بيان الحكم الشرعي في قضية من القضايا؛ جواباً عن سؤال سائل، معين كان أو مبهم، فرد أو جماعة([6]).

الفتوى: تبيين الحكم الشرعي لمن سأل عنه في واقعة نزلت فعلاً (نازلة الفتوى) أو يتوقع حصولها، لا على سبيل الافتراض.

والمفتي هو مَن يتصدى للفتوى بين الناس، ويبين لهم حكم الله تعالى، ويكشف لهم رأي الدين والشرع.

وتختلف الفتوى عن الحكم القضائي في أمرين:

الأول: إن الفتوى إخبار عن الحكم الشرعي، أما القضاء فهو إنشاء للحكم بين المتخاصمين.

الثاني: إن الفتوى لا إلزام فيها للمستفتي أو غيره، أما الحكم القضائي فهو ملزِم.

ثانياً: مفهوم الصحوة:

الصحوة في اللغة:

مادة (صحا) في العربية تعني - إذا وُصف بها الإنسان - التنبه والإفاقة واليقظة.

وقد تكون من الصحو، وهو ذهاب الغيم وارتفاع النهار، وذهاب السكر، وترك الباطل([7]).

وتعرف الصحوة مـن مقابلها وهــو: النوم أو السكر، يقال: صحا من نومه أو من سُكره، صحواً، بمعنى: أنه استعاد وعيه بعد أن غاب عنه، نتيجة شيء طبيعي، وهو النوم، أو شيء اصطناعي، وهو السكر.

والأمم يعتريها ما يعتري الأفراد من غياب الوعي، مدداً تطول أو تقصر نتيجة نوم وغفلة من داخلها.

أو نتيجة (تنويم) مُسلط عليها من خارجها.

والأمة الإسلامية يعتريها ما يعتري غيرها من الأمم فتنام أو تُنوم ثم تدركها الصحوة كما نرى اليوم.

ولذا فإن صحوة الأمة تعني: عـودة الوعي والانتباه لها بعد غيبة.

وقد عُبِّرَ عن هذه الظاهرة في بعض الأحيان: بعنوان (اليقظة) في مقابل (الرقود) أو (النوم) الذي أصاب الأمة الإسلامية، في عصور التخلف والركود.

كما عُبِّرَ عنها أحياناً بعنوان (البعث)، وهو أيضاً يكون بعد (النوم)، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].

كما يكون بعد (الموت) ولعله المُتبادر إلى ذهن المسلم: كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:  من الآية7]. والأمة المسلمة لا تموت، ولكن النوم شبيه بالموت وخصوصاً إذا طال.

وقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، أو النوم هو الموتة الصغرى، الموت هو النومة الكبرى([8]).

الصحوة اصطلاحاً:

بناءً على التعريف اللُغوي السابق ممكن أن نُعَرِّف الصحوة بأنها:

تلك الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي تشير إلى تنبه الأمة الإسلامية، وإفاقتها وإحرازها تقدماً مُطرداً في إحساسها بذاتها، واعتزازها بدينها وفــي تحررها من التبعية الفكرية والحياتية وفي سعيها للخروج من تخلفها، وانحدارها ولقيامها بدورها الحضاري الخيري المتميز باعتبارها خير أمة أخرجها الله لإعمار الأرض([9]).

واصطلاحا: اليقظة، تصيب الفرد أو الأمة، بعد سَنَة وغفلة وتخلف وتراجع.

وفي مصطلحات الصوفية، الصحوة: رجوع إلى الإحسان بعد الغيبة بوارد قوي([10]).

وقد شاع إطلاقها في هذا العصر على نزوع أمتنا الإسلامية إلى النهضة، بعد عصر التراجع الحضاري، الذي امتد تحت حكم العسكر أيام المماليك والسلطنة العثمانية.

وهى صحوة تجاهد على صعيدين، وفى جبهتين:

1- التخلف الذاتي الموروث عن حقبة التراجع الحضاري.

2- التحديات الغربية، التي تريد تهميش دور الأمة الإسلامية، وإلحاقها بالتبعية للغرب، ليتأبد استغلال الغرب وهيمنته على عالم الإسلام.

ووصف هذه الصحوة بالإسلامية، إنما يأتي تمييزاً لها عن مشاريع النهوض التي اختار أصحابها المذاهب والفلسفات الغربية مرجعية لدعوات النهوض، ونماذج التحديث التي يبشرون بها ليبرالية، أو اشتراكية، أو قومية.

فالصحوة الإسلامية: هي ذلك التيار العريض المتعدد الفصائل والمستويات الذي يسعى إلى تجديد العمل بالدين الإسلامي لتتجدد به دنيا المسلمين.

ولما كانت سنة الله سبحانه وتعالى في مسارات الأمم والحضارات، هي سنة (التداول) والدورات التي تتعاقب فيها الأمم والحضارات فترات وحقب التقدم والتراجع، والصعود والهبوط، والنهوض والركود، والحياة والموت.

وهى السنة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251].

والتي بَيَّنها حديت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال فيه: "لاَ يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِى إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يَطْلُعَ، فَكُلَّمَا طَلَعَ مِنَ الْجَوْرِ شَىْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِى الْجَوْرِ مَنْ لا يَعْرِفُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَأْتِى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْعَدْلِ، فَكُلَّمَا جَاءَ مِنَ الْعَدْلِ شَىْءٌ ذَهَبَ مِنَ الْجَوْرِ مِثْلُهُ، حَتَّى يُولَدَ فِى الْعَدْلِ مَنْ لاَ يَعْرِفُ غَيْرَهُ"([11]).

فإذا كانت سنة الدورات هي التي تحكم مسارات الأمم والحضارات، فإن هذه السنة تقتضى الصحوة، واليقظة، والتجديد، خروجاً من مراحل ودورات الغفلة، والتراجع، والجمود.

فصحوة التجديد هي الأخرى سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني وفي مسارات الحضارات.

وعن هذه الحقيقة ينبئ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال فيه: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"([12]).

وإذا كانت الثقافات الإنسانية هي توافقات بشرية وإبداعات مدنية، لا توصف بالخلود ولا بالإطلاق، ومن ثم يجوز عليها الموت وإخلاء الطريق لثقافات أخرى وارثة لأممها وشعوبها وتاريخها، في طريق استمرار الحضارة الإنسانية

ومن يتابع مسيرة الثقافة الإسلامية وحاضنها اللغة العربية، يجد أنهما كانا وما زالا استثناء من مصير موت وفناء الثقافات واللغات، وذلك لارتباطهما بالدين السماوي الخاتم، والقرآن الكريم الذي تعهد الله خالق الكون والحياة بحفظه بلسان عربي مبين.

ومن هنا كانت الصحوة الإسلامية والتجديد سنة مطردة، وقانوناً لازماً في مسار الحضارة الإنسانية بقيادة الثقافة الإسلامية، يقودها إلى النهوض بعد كل ركود، وهذا الذي جعل الأمة الإسلامية تقود الحضارة الإنسانية عمراً أطول من سائر الثقافات عبر التاريخ، وأرسخها قدما على درب النهوض من العثرات، وأكثرها استعصاء على فقدان الهوية والخصوصية.

فهي إبداع مدني بشري، حفز إليه وصبغه وحدد معاييره الوحي الإلهيـ، وتلك خصوصية تفردت بها الأمة الإسلامية عن سائر الأمم.

وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت تعاظم الصحوات الدينية، في مختلف الديانات، بعد أن فشلت مشاريع النهوض والتحديث اللادينية، فإن تعاظم الصحوة الإسلامية يستند إلى خصيصة إسلامية، ينفرد بها الإسلام عن غيره من الشرائع السماوية والديانات الوضعية، هي منهاجه الشامل، الذي يجعله مؤثراً في التغيير المنشود في أنحاء العالم.

وهكذا ارتبطت الصحوة الإسلامية بحلم الأمة فى النهوض، والانعتاق من أسر التخلف الموروث، ومن الهيمنة الاستعمارية والحضارية الغربية، منذ فجر هذه الصحوة وحتى الآن.

 

مظاهر أزمة الفتوى في الصحوة الإسلامية:

للتعرف على خطورة الفتوى في الصحوة الإسلامية، نعرض جملة من المظاهر:

 

أولاً: وضع النص في غير موضعه الصحيح:

وهو من المزالق الخطيرة التي ينبغي التيقظ والالتفات إليها والتنبه عليها، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً لا مَطعن فيه ولا خلاف على ثبوته، فهو أية من كتاب الله، أو سنة قولية أو عملية أو تقريرية، ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين وهو لا يدل عليه لأنه سيق مساقاً آخر.

وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص، وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينة، ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ويقولون على الله ما لا يعلمون.

وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه مثل الخوارج الذين احتجوا على رفض التحكيم بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} فَردَّ عليهم الإمام علي سلام الله عليه والرضوان بقوله: (كلمة حق يراد بها باطل) ([13]).

 

ثانياً: سوء التأويل:

إن ما أشد ما تتعرض له النصوص خطراً: سوء التأويل لها، بمعنى أن تُفسر تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها.

وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها، وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً.

 

ثالثاً: التسرع في الفتوى دون رؤية:

بعض المتصدرين للفتوى يتعجل الأمور، ويريد أن يَحمل الناس على الحق وتطبيق شرائع الإسلام جملة واحدة، فيصدر فتوى يؤجج فيها المشاعر، ويدفع الناس إلى أتون فتنة، بدراية وتخطيط، أو بغفلة وجهل بالعواقب.

مما يسبب نفوراً من غير المسلمين جراء النتائج من الفتوى المتسرعة.

إن أكثرَ ما يخشى على الصحوة الإسلامية منه تيار الاستعجال، الذين يريدون أن يَقطفوا الثمرة قبل أوانها، يريدون أن يزرعوا اليوم ويحصدوا غداً، بل يريدون أن يغرسوا في الصباح ويحصدوا في المساء، ويضغطون لإصدار فتاوى هنا وهناك تؤيد أعمالهم.

إن الاستعجال قد يدفع إلى العنف – ولا سيما في الذين يستعجلون الوصول إلى السلطة – وهذا العنف يدفع إلى عنف مضاد أشد وأقسى، وكل هذا خطر على الصحوة، بل خطر على الأمة.

 

رابعاً: الخلل في فقه الأولويات:

ونعني به: وضع كل شيء في مرتبته، فلا يُؤخرُ ما حقه التقديم، ولا يُقدمُ ما حقه التأخير، ولا يُصغرُ الأمر الكبير، ولا يُكبَّرُ الأمر الصغير.

فهناك خلل واضح في فقه الأولويات، فقد تقدم النافلة على الفريضة، وقد يُقدم فرض الكفاية على فرض العين، وقد يقدم فرض العين الذي يتعلق بالفرد، على فرض العين المتعلق بالجماعة، وهكذا.

 

خامساً: الخلل في فقه الموازنات:

ونعني به جملة أمور:

  • ‌أ- الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها، ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث دوامها وبقاؤها، وأيها ينبغي أن يُقَدَّم ويعتبر، وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى.
  • ‌ب- الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض، من تلك الحيثيات المذكورة في شأن المصالح، وأيها يجب تقديمه وأيها يجب تأخيره أو إسقاطه.
  • ‌ج- الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضا، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة.

 

 

 

سادساً: الخلل في فقه الاختلاف:

ونعني به الاختلاف العلمي، حيث وقع هذا النوع بين الرعيل الأول، فلم يضرهم شيئاً، فقد بلغوا من الإخلاص وصفاء السريرة، وعلو الأخلاق ما لم يبلغه أحد مثلهم.

أما اليوم في الصحوة المعاصرة، فقد جهل الناس كثيراً من مفردات هذا الفقه، فأصبح بعضنا يعادي بعضاً، بسبب مسائل يسيرة.

 

سابعاً: الخلل في فقه المقاصد:

الذي لا يقف عند جزئيات الشريعة ومفرداتها، بل ينفذ منها إلى كلياتها وأهدافها في كل جوانب الحياة.

إن تكثيف دراسات المقاصد والأهداف والغايات وتعليل الأحكام والبحث عن الحِكمِ يساعد كثيراً في علاج أمراض العقل، ويعيد إليه نقاءه، وصفاءه، وتألقه، وقدرته على العطاء والاجتهاد وترتيب الأولويات([14]).

 

ثامناً: فتاوى التكفير والتحريض على العنف:

لعل من أبرز مظاهر أزمة الفتوى في الصحوة الإسلامية (التكفير)، والذي مرده قلة بضاعة المتلبسين به في الفقه الإسلامي وأصوله، وعدم تعمقهم في علوم الإسلام، الذي جعلهم يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون عن القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهماً سطحياً سريعاً.

إن الغلو الذي انتهى ببعض شباب الصحوة الغيورين على دينهم إلى تكفير من خالفهم من المسلمين حملهم على استباحة دماءهم وأموالهم.

وهذا كما حدث مع الخوارج قديماً حيث إنهم استحلوا دم أمير المؤمنين سيدنا الإمام علي سلام الله عليه والرضوان.

الأمراض التي قد تصيب الفتوى، وهي:

  • قد يتصدى للفتوى غير المختصين بعلوم الشريعة.
  • وقد يقوم بأعبائها مَن يفقد الأهلية لها، بفقد شروط المفتي.
  • وقد ينبري لها مَن لا يعرف إلا القليل في الدين والشرع، أي أنصاف العلماء.
  • وقد يتطاول عليها مَن يبتعد عن الالتزام بقواعد الفقه.
  • وقد يتولاها مَن يفرِّط بأركان الدين.
  • وقد يتعرض لها المختص ولكن بالتساهل وعدم المبالاة.
  • وقد يستغلها بعض الناس لأهواء شخصية، وأغراض مادية، وأهداف وضيعة.
  • وهناك مَن يعمل رأيه وفكره أكثر من الوقوف عند النصوص الشرعية.
  • وهناك مَن يغلِّب جانب الأعراف والعادات على قواعد الشريعة المحكَمة.

 

ضوابط الفتوى ومحدداتها بوجه عام، والحاجة إلى ذلك في زمن الصحوة:

العمل على ضرورة حفظ النفس والدين والعقل والعِرض والمال.

التركيز على مآلات الأفعال أكثر من النظر إلى ظواهرها.

حقوق المسلمين واجبة تجاه بعضهم "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ. وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ. وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً، فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ. وَمَنْ سَتَر مُسْلِمًا، سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَة"([15])، (المسلم لا يتخلى عن أخيه، ولا يستعين عليه، بل يستعين به)؛ "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ"([16])، (وليس المؤمن على المؤمن) وإن تعددت الألسن والأعراق والبلدان.

الأصل في العلاقات بين المسلمين: التعاون القائم على المحبة، ومع غير المسلمين: السلم القائم على قاعدة التعارف.

تجنب الخطاب الاستفزازي، وغلِّب جانب التآلف للمحبين، والمداراة للخصوم.

تجنب الخطاب الاستعلائي، أو الفعل الإلغائي والإقصائي.

تجنب تحميل النصوص ما لا تحتمله من الدلالات طبقاً للمقرر في أصول الفقه وقواعد الاستنباط، والتحرز من الاستدلال بما لم يثبت من الأحاديث، مع الاهتمام بتخريج ما يستدل به من الحديث.

التوثق من نقل الإجماع أو أقوال المجتهدين، واستمدادها من مصادرها المعتمدة، ومراعاة المفتى به أو الراجح أو المشهور أو الصحيح في كل مذهب طبقاً لأصول الفتوى فيه، حسب العبارات المصطلح عليها بين فقهائه، مع الاستعانة بما تضمنته الكتب المؤلفة في أصول الإفتاء أو رسم المفتي.

إذا تكافأت الأدلة أو كان في الأمر تخيير بين مباحين فينبغي اختيار الأيسر، وإذا كان يترتب على أحدهما مصلحة وعلى الآخر مفسدة، فينبغي سد الذريعة إلى المفسدة الراجحة مع بذل الجهد لإيجاد الحلول للقضايا النازلة.

لا يجوز اتخاذ الإفتاء بالرخص الفقهية منهجاً طلباً للأهون في كل أمر، ولا يفتى بها إلا إذا اقتضى النظر والاستدلال الصحيح ترجيح الرخصة الفقهية، ويشترط لذلك ألا يترتب على الأخذ بالرخصة حقيقة مركبة ممتنعة بالاتفاق بين الفقهاء، وألا يؤدي إلى اختلاف الحكم في واقعتين مماثلتين، وهو التلفيق الممنوع.

 

ضوابط الفتوى في التقريب بين المذاهب الإسلامية:

بداية أنقل مروية تصلح نبراساً لطلبة العلم، وكيف يمكن استيعاب الاختلافات الفقهية في حركة الحياة، وإجابة المستفتين.

فعن عبد الوارث بن سعيد قال([17]): قدمت الكوفة فإذا أنا بثلاثة من الفقهاء، أبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة.

فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟.

قال: البيع باطل والشرط باطل.

ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل.

ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز.

فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا عليّ في مسألة واحدة!.

فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط، البيع باطل والشرط باطل.

ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أشتري بريرة وأشترط فأعتقها"، البيع جائز والشرط باطل.

ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: "بعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناقة وشرطت حملانها إلى المدينة"، البيع جائز والشرط جائز.

وهكذا فقد أخذ كل إمام بظاهر حديث ثابت.

أما مالك، فقد عرف الأحاديث كلها وعمل بجميعها وقسم البيع والشرط إلى أقسام ثلاثة:

شرط يناقض المقصود؛ كشرط العتق؛ فيُحْذَف.

وشرط لا تأثير له؛ كرهن أو حميل؛ فيجوز.

وشرط حرام كبيع جارية بشرط أنها مغنية فيبطل البيع كل.

فطوبى لمن أنعم النظر، وحرر المناط.

إن المسائل الفقهية الخلافية قد تكونت منها ثروة فقهية وفكرية عالية وغالية، وهي نتاج فَهْم النصوص وتفسيرها، أو ثبوت الحديث الوارد فيه النص.

وأن الصـحابة الـذين كانوا يجتـهدون ويعـملون عقـولهم عـند ورود النص، كانوا أشد حرصاً على الأخذ بالدليل القرآني واتباع سنة الرسول الكريم.

فجوهر الاختلاف الفقهي كان أساسه طلب الحق.

ومما لا ريب فيه أن العقل مصدر من مصادر التشريع الإسلامي.

 

الاختلاف دون فُرقة غير مذموم:

الاختلاف سَعة في الدين ورحمة للخلق؛ ما لم يؤد إلى الشقاق والنفاق.

فهنا وصفان: الاختلاف، والافتراق، وهما خلافان لا يلزم وجود أحدهما حصول الآخر، فالافتراق وصف مذموم في الشرع، ولهذا نهى الله عنه نهياً مطلقاً فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. وقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

أما الاختلاف فقد يكون رحمة، وأهله معذورون فيه، ليختار كل ما يلائم البيئة المحيطة، والظرف المكاني، دون التخلي عن الأصول الشرعية والقواعد الفقهية.

وعن المعلى بن إسماعيل، قال: (ربما اختلف الفقهاء، وكلا الفريقين مصيب في مقالته) ([18]).

وعن أبي عون، قال: (ربما اختلف الناس في الأمر، وكلاهما له الحق)([19]).

فاختلاف الفقهاء في فروع الأحكام، وفضائل السنن رحمة من الله بعباده، والموفق منهم مأجور، والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور، وهو يحسن نيته.

وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الاتباع، كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت، لا يقال له: كفرت، ولا جحدت ولا ألحدت؛ لأن أصله موافق للشريعة، وغير خارج عن الجماعة في الديانة([20]).

وعن موسى الجهني قال: كان إذا ذكر عند طلحة بن مصرف الاختلاف قال: (لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة) ([21]).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه، وإن أخطأ غفر الله له، ومن عمل لله في الفرقة فأصاب لم يقبل الله منه، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار"([22]).

فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران.

ولما صنف إسحاق بن بهلول كتاباً سماه: كتاب الاختلاف، فقال له الإمام أحمد: سمه كتاب السعة([23]).

وقد حصل الاختلاف في الاجتهاد الفقهي والتنزيل الواقعي للأحكام بين سلف هذه الأمة الذين هم أفضل قرونها من الصحابة والتابعين ولم يلزم منه افتراقهم، بل كانوا أهل مودة وتناصح، كما لم يكن سبباً للذم أو مدعاةً للتأثم ما دام هذا الخلاف في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد وإبداء الرأي.

والاختلاف بين الناس سنة كونية؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم، ويُقْبَل الاختلاف إذا كان الأصل واحداً، والغاية المطلوبة واحدة، فاختلاف الصحابة لم يكن خلافاً بمعنى البعد عن المنهج، بل كان الأصل ـ الذي بنوا عليه اختلافهم ـ واحداً وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان القصد واحداً، وهو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة.

وقال ابن عبد البر: روينا عن محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال: ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثم([24]).

ومع ما ورد في هذا الباب، فإنه لا يخفى على ذي تمييز، أن الاختلاف في فروع الأحكام الشرعية جائز؛ إذ لا دليل على امتناعه.

وأوضح دليل على جوازه عقلاً وثبوته نقلاً، وقوعه وبروزه على الساحة الفقهية بشكل بيّن وجلي.

حيث ثبت حدوثه في أوائل عهد الإسلام، وقد حدث بالفعل في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدث بعدهم، وتتابع حتى يومنا هذا، وسيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والمهم أن المذاهب الفقهية القائمة على الدليل الصحيح لا يفضل فيها مذهب على مذهب، ولا ينقص أتباع مذهب على أتباع مذهب آخر.

ومهما وجدت اختلافات حول جزئيات بعض القضايا، أو في شكليات بعض المسائل، أو التزم بها المقلدون، فإن ذلك لا يعني الخروج عن أصول التشريع ومصادره، أو يبرر القول بأن الاختلاف في الفروع الفقهية هو اختلاف في الأصول.

لذلك يميل كثير من أئمة العلم وفقهائه إلى أن اختلاف المذاهب الفقهية الإسلامية مزية تفرَّد وتميَّز بها الدين الإسلامي الحنيف، كما (أنها نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون وعمي عنه الجاهلون) ([25]).

وثبوت الاختلاف، ومبررات وجوده، لا تعني أنه لازم الوقوع، فإذا ما أمكن الجمع بين الدليلين أو تغليب الأرجح سنداً، أو التوفيق بين آراء العلماء والمجتهدين والفقهاء، فإن ذلك أولى وأحرى، بل أجدى وأقوى دلالة.

ومن منطلق جواز الاختلاف، واعتباره رحمة بالمسلمين، وكونه خاصية إسلامية؛ فإن الاختلاف لا شك يأتي في إطار ضوابط عقلية ومنطقية متبعة، ووفق شروط جعلت من الاختلاف سبباً في عدم التضييق على عامة المسلمين.

وروى ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد قال: (ما برح أولو الفتوى يفتون فيحلُّ هذا ويحرّم هذا فلا يرى المحرِّمُ أن المحلَّ هلك ولا يرى المحلُّ أن المحرِّمَ هلك لتحريمه)([26]).

وروى الذهبي عن الحجة التابعي يحيى بن سعيد الأنصاري ما مفاده أن: (أهل العلم أهل توسعة)، وقول آخر: (وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على ذاك) ([27]).

 

قراءة في الحل الشرعي للاختلاف في الفتوى:

لعل من أهم ما دفع الغيورين إلى الدعوة إلى توحيد الفتوى ما قد يحصل من بعض من يتصدى للإفتاء من التساهل، وما يجدونه من تفاوت في آراء أهل العلم في عدد من المسائل، مما يقع العامي في الإشكال، ولعل من نظر فيما تقدم يتساءل عن الحل الشرعي لهذه المشكلة، وهي وإن كانت تستحق الإفراد ببيان خاص لعله أن يكون في عدد مقبل إلا أنني أشير هنا إلى أبرز الحلول الشرعية:

1- نشر ثقافة التعامل مع الخلاف:

وذلك بتوعية الناس أن الخلاف واقع وموجود، وهو إنما يذم إذا عارض قاطعاً من الدين أو ضرورياً منه، وأن صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمنه وبعده وكذلك من بعدهم اختلفوا، وتفاوتت اجتهاداتهم، ولم يكن هذا سبباً لفرقة ولا اضطراب.

ومن أمثلة هذا ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُعَنِّف واحداً منهم([28]).

فالقوم كانوا حال قتال وهم أحوج ما يكونون إلى ما يكونون إلى الاتفاق وترك النزاع كما أمروا بذلك عند الحرب: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. ومع ذلك لم يترك واحد منهم ما أداه إليه اجتهاده، ولم يكن ذلك سبباً للفرقة.

فاختلاف الاجتهاد يلزم كل مجتهد أن يأخذ بما أداه إليه اجتهاده، ويلزم مخالفة ألا يثرب عليه([29]).

ويوضح هذه الفقرة ما يلي:

2- تعليم الناس التعامل مع اختلاف المدرسة الفقهية:

فإذا وجد السائل فتويين مختلفتين فإنه يتعامل معهما بالطريقة التي بينها أهل العلم بإسهاب كثير في كتب الفقه والأصول([30]).

وقد أوجز النووي الخلاف، وبين الراجح بقوله: (إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب:‏

أحدها:‏ يأخذ بأغلظهما.

والثاني:‏ بأخفهما.

والثالث:‏ يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع ... واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة.

والرابع:‏ يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه.

والخامس:‏ يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف،‏ وعند الخطيب البغدادي،‏ ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه.‏

وقال الشيخ أبو عمرو:‏ المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به؛ فإنه حُكْمُ التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتين فيعمل بفتواه،‏ وإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر،‏ وعمل بفتوى من وافقه،‏ فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في التحريم والإباحة،‏ وقَبْل العمل،‏ اختار التحريم،‏ فإنه أحوط،‏ وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما،‏ وإن أبينا التخيير في غيره؛‏ لأنه ضرورة وفي صورة نادرة.‏ ‏

‏قال الشيخ:‏ ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين،‏ وأما العامي الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتياً آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به.

وهذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة،‏ وهي:‏ الثالث والرابع،‏ والخامس،‏ والظاهر أن الخامس أظهرها؛‏ لأنه ليس من أهل الاجتهاد،‏ وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك،‏ وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب،‏ فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها،‏ والفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين والله أعلم)([31]).

فلا يكفي المستفتي أن يتبع قولاً سمعه من أحد المفتين فقط، ولا تبرأ ذمته به بمجرده.

  1. التأكيد على ضرورة ترسيخ مفهوم الاحترام المتبادل بين علماء وأتباع المذاهب المختلفة فيما يتصل برموز كل مذهب والشخصيات التي يقدرها وعلى رأسها آل البيت الأطهار والصحابة الكرام جميعًا.
  2. اعتبار فقه الخلاف وفقه الأولويات أساسًا في حوارات المسلمين والعمل لوحدتهم والدعوة إلى تأسيس منهج فقه الائتلاف والعمل على تطبيقه في المسارات كافة، وإشاعة ثقافة الألفة والتآخي والنصح بدلاً من ثقافة البغض والتجهيل والأحكام المسبقة على الآخرين.
  3. الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب، والحديث دائماً عن نقاط التلاقي؛ وبخاصة مع العامة، وتوجيههم إلى أهمية الوحدة الإسلامية كما أرادها القرآن الكريم: {هو سماكم المسلمين من قبل}، وإشاعة ثقافة التقريب، وتضافر الجهود لذلك، وترك الجدل والمناظرات الفكرية والعقدية والفقهية للمختصين في

    عدد القراء : 1270