shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

سيدنا الإمام الحسن المجتبى رضي الله عنه وعن أبويه وجدته

السبط الأول والإمام الثاني والخليفة الخامس

( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ).

لريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسبطه الأول، الإمام الزكي الحسن بن علي عليهما سلام من الله ورضوان حياة مثالية، وسيرة فواحة عطرة، تتدفق بها طاقات الاسلام الثَّرة الندية، وتتمثل فيها سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه، واتجاهاته.

وتتجسد فيها جميع عناصر التربية الاسلامية الرفيعة، فهي ـ بحق ـ من أروع الشخصيات الفذة التي لمعت في سماء الأمة الإسلامية، وفي طليعة الذوات الخيرة التي تحلى بها قاموس الإنسانية؛ وذلك لما اتصفت به من الخُلُق والحلم، والسخاء والعلم، وغير ذلك من الصفات الرفيعة التي شابهت صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكت أخلاقه.

للامام أبي محمد الحسن رضي الله عنه تاريخ مشرق، حافل بسيرة ندية تنبض بالعدل والتقوى، وتتدفق بالقابليات الخيرة، وتلتقي بها خصال الأخلاق، وأصالة الرأي، وعمق التفكير،

هو من أحلم الناس، وأقدرهم على كظم الغيظ، والصبر على الأذى والمكروه، فما عرف من سيرته أنه قابل مسيئا باساءته، ولا جازى مذنبا بذنبه، وإنما كان يغدق عليهم بالاحسان ويقابلهم بالمعروف، شأنه شأن جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي وسع الناس باخلاقه وحلمه.

كان أندى الناس كفا، واوصلهم لعباد الله، واعطفهم على الفقراء والمحرومين حتى لقب بكريم اهل البيت

الحسن عليه السلام أول الأئمة الامناء من صلب سيد الأوصياء ، الحسن الذي أظهر الحق وأزهق الباطل وحقن بصلحه الدماء.

كان اعبد أهل زمانه، وأتقاهم واكثرهم عبادة، وخوفا من الله، وقد حج بيت الله الحرام خمسا وعشرين حجة وان النجائب تقاد بين يديه، وقد عمل جميع الوسائل التي يتقرب بها إلى الله، وتجرد عن لهو الحياة، ونبذ جميع زخارفها، وسنذكر ذلك بالتفصيل عند التحدث عن مثله، ومظاهر شخصيته العظيمة

يقول صلى الله عليه وآله وسلم "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، لعله يعنى أن الحسن إمام في قعوده كما أن الحسين إمام في قيامه ونهضته.

أثر النبوة فيه:

للتربية الصالحة أهمية كبرى في تكوين الطفل، وتنمية مداركه، كما أن سلوك الوالدين لهما الأثر الفعال في نمو ذكائه، وفي سلوكه العام، وطفولة الامام الحسن عليه السلام قد التقت بها جميع هذه العناصر الحية، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم تولى تربية سبطه، وافاض عليه بمكرمات نفسه، والامام أمير المؤمنين عليه السلام غذاه بحكمه ومثله، وفاطمة الزهراء عليها السلام غرست في نفس وليدها الفضيلة والكمال، وبذلك سمت طفولته فكانت مثالا للتكامل الانساني، وعنوانا للسمو والتهذيب، ورمزا للذكاء والعبقرية.

نشأ في بيت الوحي، وتربى في مدرسة التوحيد، وشاهد جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أكمل إنسان ضمه الوجود، يقيم في كل فترة من الزمن صروحا للعدل، ويشيد دعائم الفضيلة والكمال، قد وسع الناس بأخلاقه، وجمعهم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، فتأثر السبط بذلك، وانطلق يسلك خطى جده في نصح الناس وارشادهم.

مر  مع أخيه سيد الشهداء الحسين عليه السلام، وهما في دور الطفولة على شيخ لا يحسن الوضوء، فلم يدعهما السمو في النفس، وحب الخير للناس أن يتركا الشيخ على حاله لا يحسن وضوءه، فاحدثا نزاعا صوريا أمامه، وجعل كل منهما يقول للآخر: أنت لا تحسن الوضوء، والتفتا إلى الشيخ بأسلوب هادئ وجعلاه حاكما بينهما قائلين له:

«يا شيخ، يتوضأ كل واحد منا أمامك، وانظر أي الوضوءين أحسن؟» فتوضآ أمامه، وجعل الشيخ يمعن في ذلك فتنبه إلى قصوره، والتفت إلى تقصيره من دون أن يأنف فقال لهما:

«كلاكما، يا سيدي: تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما ...»([1]).

وهذه البادرة ترينا بوضوح ان اتجاه الرسول (ص) في هداية الناس بالطرق السليمة والاخلاق الرفيعة قد انطبعت في ذهن الامام الحسن 7 وهو في دور الصبا حتى صارت من خصائصه ومن طبائعه.

مآثره عاى لسان جده:

اما ما أثر عن النبي (ص) فيما يخص سبطه فهى روايات عدة نقتصر منها على ما يلي:

1 ـ روى البراء بن عازب([2]) قال: رأيت النبي (ص) والحسن على عاتقه، يقول: «اللهم، إنى أحبه فاحبه ) ([3]).

2 ـ وروت عائشة قالت: إن النبيّ (ص) كان يأخذ حسنا، فيضمه إليه ثم يقول: «اللهم، إن هذا ابنى، وأنا أحبه، فأحبه، وأحب من يحبه ..» ([4]).

3 ـ وروى زهير بن الاقمر قال: بينما الحسن بن علي يخطب بعد ما قتل علي (ع) إذ قام إليه رجل من الأزد آدم طوال، فقال: لقد رأيت رسول الله (ص) واضعه في حبوته، يقول: ( من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب ) ولو لا عزمة من رسول الله (ص) ما حدثتكم([5]).

4 ـ وروى أبو بكرة قال: رأيت رسول الله (ص) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى، ويقول: ( إن ابني هذا سيد. ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([6]).

5 ـ وروى ابن عباس قال: اقبل النبيّ (ص) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل، فقال نعم المركب ركبت يا غلام، فقال رسول الله (ص) ونعم الراكب هو([7]).

صلى الله عليه وآله وسلم ـ وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن الزبير قال: أشبه أهل النبي (ص) وأحبهم إليه الحسن رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال: ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر([8]).

7 ـ وروى ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى احدى صلاتي العشاء فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلم قال له الناس: في ذلك فقال: ( إن ابنى هذا ـ يعنى الحسن ـ ارتحلنى فكرهت أن أعجله ) ([9]).

8 ـ وصعد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ليخطب، فجاء الحسن فصعد المنبر، فوضعه على رقبته حتى كان يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد، وهما يلمعان على صدر الرسول، ولم يزل على هذه الحالة حتى فرغ صلى الله عليه وآله وسلم من خطبته([10]).

9 ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من سره أن ينظر إلى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن»([11]).

10 ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الحسن ريحانتي من الدنيا»([12]).

11 ـ وروى انس بن مالك قال دخل الحسن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأردت أن أميطه عنه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ويحك يا أنس دع ابنى، وثمرة فؤادي، فان من آذى هذا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»([13]).

احتفاء المسلمين به:

واحتفى المسلمون بالامام الحسن احتفاء بالغا

فكان كبار الصحابة يقابلونه بالتجلة والتكريم، ويتسابقون الى القيام بخدمته.

فهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة كان إذا ركب الحسن والحسين 8 بادر فأمسك لهما الركاب وسوى عليهما الثياب، وقد لامه مدارك بن زياد على ذلك فنهره وقال له: «يا لكع أو تدري من هذان؟! هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ليس مما أنعم الله به علي أن أمسك لهما الركاب، وأسوي عليهما الثياب ..» ([14]).

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما انهما كانا يفدان الى بيت الله الحرام ماشيين فما اجتازا على ركب الا ترجل ذلك الركب اجلالا واكبارا لهما، وإذا طافا بالبيت الحرام بلغ زحام الناس عليهما مبلغا هائلا لم يشاهد نظيره لاجل السلام عليهما والتبرك بزيارتهما([15]).

وكان أبو هريرة إذا رأى الامام الحسن (ع) مقبلا قام إليه فقبله بسرته لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك([16]).

وحُقَّ للمسلمين أن يكرموا حفيد نبيهم ويقدسوه بعد ما كرمه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورفع من شأنه.

 

نماذج من أخلاقه:

1 ـ اجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق، وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول: «إن الله لا يحب المتكبرين» ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم الى ضيافته فاطعمهم وكساهم([17]) واغدق عليهم بنعمه واحسانه.

2 ـ ومن آيات أخلاقه أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم فاجابهم الى ذلك ثم حملهم الى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال: «اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد مما اعطيناهم»([18]).

3 ـ ومن مكارم اخلاقه أنه كان يغضي عمن اساء إليه، ويقابله بالاحسان، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال 7 لغلامه:

ـ من فعل هذا بها؟

ـ أنا

ـ لم ذلك؟!

ـ لأجلب لك الهم والغم

فتبسم 7، وقال له: لأسرك، فاعتقه وأجزل له في العطاء([19]).

4 ـ ومن عظيم أخلاقه أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له:

ـ إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟

ـ نعم يا ابن رسول الله([20])

5 ـ أثر عنه أنه ما قال لسائل لا قط([21]) وقيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلا؟ فأجاب:

«إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا استحي أن أكون سائلا، وأرد سائلا، وان الله عودني عادة أن يفيض نعمه علي، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشأ يقول:

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا
 

 

بمن فضله فرض علي معجل
 

ومن فضله فضل على كل فاضل
 

 

وأفضل أيام الفتى حين يسأل([22])
 

 

صلى الله عليه وآله وسلم ـ جاءه اعرابي سائلا فقال (ع): اعطوه ما في الخزانة، وكان فيها عشرة آلاف درهم فقال له الاعرابي: يا سيدي هلا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي؟ فاجابه الامام:

نحن أناس نوالنا خضل
 

 

يرتع فيه الرجاء والأمل
 

تجود قبل السؤال أنفسنا
 

 

خوفا على ماء وجه من يسل
 

لو علم البحر فضل نائلنا
 

 

لغاض من بعد فيضه خجل ([23])
 

7 ـ واجتاز 7 على غلام بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى.

فقال له الامام:

ـ ما حملك على ذلك؟

ـ إني لأستحيي أن أكل ولا أطعمه.

رأى الامام فيه خصلة من أحب الخصال عنده، فاحب أن يجازيه على صنعه، ويقابل إحسانه بإحسان فقال له:

لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه واشترى الحائط([24]) الذي هو فيه فاعتقه، وملكه إياه([25]).

8 ـ ومن آيات مكارمه (ع) أنه اشترى حائطا من الأنصار بأربعمائة الف فبلغه أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم([26]) إن إنقاذ هؤلاء من ذل السؤال ورد شرفهم إليهم من أفضل أنواع السخاء ومن أسمى مراتب الجود، ومن مكارمه (ع) أنه ما اشترى من أحد حائطا ثم أفتقر البائع إلا ورده عليه وأردفه بالثمن معه([27]).

 

تشريعات بسببه:

فقهياته، حوار مع أبي موسى الأشعري، ومع ابن عباس:

حفظه للحديث:

وحفظ (ع) وعمره الشريف اربع سنين الشيء الكثير مما سمعه من جده (ص) ونشير إلى بعض ما رواه عنه.

1 ـ قال (ع): علمنى رسول الله (ص) كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم، اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما اعطيت، وقنى شر ما قضيت، فانك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"([28]).

2 ـ وروى عمير بن مأمون، قال: سمعت الحسن بن علي (ع) يقول: ( من صلى صلاة الغداة، فجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار، أو قال: ستر من النار ) ([29]).

3 ـ وقال له بعض أصحابه: ما تذكر من رسول الله (ص)؟ فقال (ع): أخذت تمرة من تمر الصدقة، فتركتها في فمي فنزعها بلعابها، فقيل يا رسول الله، ما كان عليك من هذه التمرة، قال إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة"([30]).

4 ـ وسئل (ع) عما سمعه من رسول الله (ص)، فقال: سمعته يقول لرجل: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فان الشر ريبة والخير طمأنينة»([31]).

5 ـ وحدث (ع) أصحابه عن خلق جده الرسول (ص) وسيرته فقال: كان رسول الله (ص) إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول.

صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال (ع): سمعت رسول الله (ص) يقول: «ادعوا لي سيد العرب ـ يعنى عليا ـ فقالت له عائشة: الست سيد العرب؟ فقال لها أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب، فدعى له الإمام فلما مثل بين يديه أرسل خلف الأنصار، فلما حضروا التفت إليهم قائلا:

يا معشر الأنصار ألا ادلكم على شيء ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، قالوا بلى يا رسول الله فقال: هذا علي فأحبوه بحبي واكرموه بكرامتى فان جبرئيل أخبرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل.

وقد نقل علماء الفقه ورواة السنة الكثير عنه (ع) مما سمعه وشاهده من رسول الله (ص) فيما يتعلق بأحكام الشريعة وآدابها وذلك يدل على نبوغه وعبقريته وإدراكه الواسع.

 

رواياته عن الصحابة

شبهه بجده المصطفى

مسعف للجرحى:

الإمام علي يسأل ولده الحسن:

حواريات مع سيدنا الإمام الحسين

اقامة الحسن من بعده:

لما علم أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه مفارق لهذه الدنيا، وان لقاءه بربه قريب عهد بالخلافة والامامة لولده الحسن فاقامه من بعده لترجع إليه الأمة في شئونها كافة، وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده.

وقال له: «يا بني أنت ولي الدم فان عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة»([32]).

 

 

صلح ينقذ أمة:

صان بذلك الأمة، وحفظ دماءها، وجنبها من المضاعفات السيئة التي لا يعلم مدى خطورتها الا الله.

حقن الدماء من أهم بواعث معركة الصلح:

إن من أهم دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين، وعدم اراقتها، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته، ويجتث بذلك الإسلام من أصله، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال:

«إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي...»

وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال: «ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل»([33]). وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

«أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة، وحقن دمائها.» ([34]).

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما.»

إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

وحقق بذلك موعود نبوة جده ثلى الله عليه وآله وسلم:

نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث، وتنصب عليها الفتن والخطوب، حتى تشرف على الهلاك والدمار، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا:

«إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين»([35]).

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب، «وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له: وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه، ويقول لأمّه الطاهرة البتول، ويقول على منبره، ويقول بين أصحابه، ويقول ما لا يحصى كثرة: إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين».

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

السياسة البناءة:

إن السياسة التي يجب أن تسود جميع انحاء البلاد ـ عند أهل البيت ـ هي السياسة البناءة التي تضمن مصالح المجتمع، وتعمل على ايجاد الوسائل السليمة لرقيه وبلوغ أهدافه وآماله، وحمايته من الظلم والاعتداء، وتحقيق المساوات العادلة في ربوعه، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من البؤس والحرمان.

إن سياسة أهل البيت قد تبنت العدل الخالص، والحق المحض، ومثلت وجهة الإسلام وأهدافه في عالم السياسة والحكم، فهي أرقى سياسة عرفها الناس وأجدرها بتحقيق العدل السياسي، والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها في جميع مجالاتها تنشد الاطمئنان الذي لا يشوبه قلق، والأمن الذي لا يشوبه خوف، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، وهي بجميع مفاهيمها تباين السياسة الأموية الجائرة التي رفعت شعار الظلم والجور، وتذرعت بجميع وسائل المكر والخداع للمساومة على مصالح الشعوب، وابتزاز إمكانياتها والتغلب عليها.

إن السياسة الأصيلة عند أهل البيت هي التي لا تعتمد على المكر والمواربة والخداع والتهريج والتضليل وغير ذلك من الأساليب التي لا تحمل جانبا من الواقعية، وانها لا بد أن تكون صريحة واضحة في جميع أهدافها ومعالمها، لتحقق العدل فى البلاد، ولصلابة سياستهم فى الحق وصرامتها في العدل

ثار عليهم النفعيون والمنحرفون، وطالبوهم أن ينهجوا منهجا خاصا لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة الى غيرهم ولكنهم سلام الله عليهم آثروا رضا الله وسلكوا الطريق الواضح، وابتعدوا عن الخطط الملتوية التي لا يقرها الدين،

المثل العليا:

أما الأهداف السليمة والمثل العليا التي رفع شعارها أهل البيت، وتبنوها في جميع المجالات فهي كما يلي.

أ ـ العدل:

إن السياسة الإسلامية بجميع مفاهيمها قد تبنت العدل، وآمنت به إيمانا مطلقا، وركزت جميع أهدافها على أضوائه، فأهابت بالحكام والأمراء أن يطبقوه على مسرح الحياة، وأن لا يكون الحكم الصادر منهم مبعثه الهوى وسائر الأغراض التي لا تمت بصلة للعدل قال تعالى: «وإذا حكمتم بين

الناس أن تحكموا بالعدل» [النساء: 5صلى الله عليه وآله وسلم]، وقال تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» [ص: 2صلى الله عليه وآله وسلم].

وقد أجمع المسلمون على أن الحاكم إذا انحرف في حكمه وجب عزله، وقد عزل أمير المؤمنين أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية بأنه قد جار في حكمه فجعل الإمام يبكي ويقول:

«اللهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك».

ثم عزله في الوقت([36]).

ويقول الإمام الصادق: «اتقوا الله، واعدلوا فانكم تعيبون على قوم لا يعدلون»([37]).

إن سعادة الأمة ورقيها بعدل حكامها، فاذا جافى الحكام العدل وجاروا في الحكم تعرضت البلاد للأزمات والنكسات وسادت فيها الفوضى والنزعات،

ومن ثمّ فان الإسلام يحرص كل الحرص عل أن يكون الحكم بيد الصلحاء والثقات لأن للحكم إغراء لا يفلت من ربقته إلا ذوو النفوس الزكية الكريمة ـ وما أقل عددهم ـ

إن سياسة أهل البيت (ع) قد تركزت على العدل الشامل وبنت جميع أهدافها عليه.

ب ـ المساواة:

إن الإسلام أسبغ نعمة المساواة على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل فى تأريخ المجتمع العالمي، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى والعمل الصالح يقول الأستاذ جيب:

وقد طبق الامام أمير المؤمنين المساواة العادلة تطبيقا شاملا في دور حكمه، فامر عماله وولاته أن يساووا بين الناس حتى فى اللحظة والنظرة فقد جاء في بعض رسائله ما نصّه:

«وأخفض للرعية جناحك وأبسط لهم وجهك وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة([38]) والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك»([39]).

وهذه السياسة العادلة هى التي أثارت عليه الأحقاد والضغائن وأدت إلى تكتل القوى الباغية وتظافرها على مناجزته، وقد نص على ذلك المدائنى بقوله:

«إن من أهم الأسباب في تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب (ع) كان أتباعه لمبدإ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء والقبائل»([40]).

ج ـ الحرية:

وتبنى الإسلام الحرية العامة لجميع المواطنين، وألزم الدولة بحمايتها، وتطبيقها على مسرح الحياة سواء أكانت الحرية في العقيدة أو في التفكير، والتعبير عن الرأي، أو في المناحي السياسية، واعتبر الإسلام كل ذلك من الحقوق الطبيعية للانسان التي لا غنى عنها بحال من الأحوال، وقد طبق الإمام أمير المؤمنين الحرية بأرحب مفاهيمها في دور خلافته، فانه لم يرغم القعاد على مبايعته، ولم يكرههم على طاعته، وإنما تركهم وشأنهم يتمتعون بحريتهم من دون أن يتعرض لهم بأذى أو مكروه، وكذلك عامل الخوارج فانه لم يناجزهم الحرب حتى أنذرهم وأعذر فيهم، وحاججهم فأبطل شبههم ولما صمموا على فكرتهم ولم يتنازلوا عنها خلّى سبيلهم، وأطلق سراحهم ولكن لما عاثوا فسادا في الأرض، وأخلّوا بالأمن العام ناجزهم عملا

بقوله تعالى: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله». ولما فرغ من حربهم كان في المجتمع العراقي جمهور غفير ممن يعتنق فكرتهم، فلم يتعرض لهم بمكروه، ولم يمنعهم من الفيء، ولم يرد أحدا منهم عن الخروج إن أراده، ومنحهم الحرية التامة، فلم تراقبهم السلطة، ولم تتبعهم أو تنكّل بأحد منهم، وكذلك أعطى الحرية الواسعة الى الحزب الأموي، فلم يتعرض لهم بأذى أو مكروه مع العلم أنهم كانوا من ألدّ خصومه وأعدائه. وهذه الحرية الواسعة التي أعطاها الإمام للأحزاب المناوئة له كانت أوسع حرية عرفها التأريخ، لقد قضت سياسته البنّاءة على عدم استكراه الناس على الطاعة، وعدم ارغامهم على ما لا يحبون.

د ـ الصراحة والصدق:

ان السياسة الرشيدة التي رفع شعارها أهل البيت تسير على ضوء الصدق والواقع فلا توارب، ولا تنافق، ولا تغري الشعوب بالوعود الكاذبة، ولا تمنيها بالأماني المعسولة، رائدها في جميع مخططاتها الصراحة والصدق.

لقد حفلت سياستهم بالصراحة في جميع الميادين، فليس من منطقها الخداع والنفاق،

إن الإسلام يأمر بالتمسك بالصدق، ولا يسيغ استعمال الطرق الملتوية التي لا تمت بصلة الى الواقع في تثبيت الحكم، وتدعيم السلطة.

يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بالصدق، فان الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فان الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور

يهدي الى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»([41]).

إن أهل البيت قد ركزوا سياستهم على الصدق والصراحة، وجنبوها من المكر والخداع.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع):

«لو لا ان المكر والخداع في النار لكنت أمكر الناس».

وكان (ع) كثيرا ما يتنفس الصعداء من الآلام المرهقة التي يلاقيها من خصومه ويقول:

«وا ويلاه، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم، وأعرف منهم بوجوه المكر، ولكني أعلم أن المكر والخديعة فى النار، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا..» ([42]).

ويقول فى الغدر:

«لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»([43]).

إن الغدر إنما ينبعث عن نفس لا تؤمن بالمثل الإنسانية، والقيم الدينية، ويصف الإمام أمير المؤمنين الغادر بأنه قد نسخ من كيان نفسه الإيمان بالله يقول:

«ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله!! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله

ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين..»

وتحدث عمن قال فى دور حكومته من عبيد الشهوات والمناصب:

بأنه لا دراية له في شئون السياسة، وإن معاوية خبير بها، وخليق بادارة دفة الحكم. قال (ع):

«والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس»([44]).

ان سياسة الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت في جميع شئونها قد عبرت عن جميع القيم السياسية الخيرة التي أعلنها الإسلام، فهي لا تقرّ الغدر، ولا المكر، ولا الخداع، ولا تؤمن بأي وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقف عليها النجاح السياسي المؤقت، لأن الخلافة الإسلامية من أهم المراكز الحساسة في الإسلام، فلا بد لها من الاعتماد على الخلق الرصين والإيمان العميق بحق المجتمع والأمة.

وسار الإمام الحسن (ع) على مخططات أبيه ومقرراته فى عالم السياسة والحكم، فلم يعتمد على أي وسيلة لا يقرّها الدين، وتجنب جميع الطرق الشاذة التي لا تلتقي مع الواقع، ولو أنه سلك بعض الأساليب التي سلكها معاوية لما تغلب عليه، وقد أدلى (ع) بذلك الى سليمان بن صرد فقال له:

«ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا، وللدنيا أعمل، وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني، وأشد شكيمة، ولكان رأيي غير ما رأيتم..»

ودلّ ذلك على أنه لو كان يعمل للدنيا لكان أقوى عليها من خصومه ولكن التغلب على الأحداث والظفر بالحكم يتوقف على اتخاذ الوسائل التي

 

لا تتفق مع الدين وهو (ع) أحرص المسلمين على صيانة الاسلام ورعايته.

ه ـ الولاة والعمال:

ويرى أهل البيت (ع) أن الموظفين في جهاز الحكم لا بد أن يكونوا من خيرة الرجال في الجدارة والنزاهة والكفاءة والقدرة على إدارة شئون البلاد، ليضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم، ويسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة، وأن يكونوا ـ قبل كل شيء ـ بعيدين عن الرشوة، وعما في أيدي الناس، فان الرشوة تؤدي الى انهيار الأخلاق وشيوع الباطل، والفساد في الأرض، وقد بعث الامام أمير المؤمنين (ع) الى أمراء الأجناد بهذه الرسالة:

«أما بعد: فانما هلك من كان قبلكم، إنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه.» ([45]).

إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى دمار الحكومة وزوالها هي أن تحجب المواطنين عن الحق حتى يضطروا الى استنقاذه بالرشوة، ومن الطبيعي ان ذلك يؤدي الى فقدان الأمن، واضطراب المجتمع، وانتشار الظلم والجور.

وقد نظر أهل البيت (ع) الى ما هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير، فقد فرضوا على ولاتهم أن يبتعدوا عن الناس بكل نحو من أنحاء الصلة، ولو كانت موجبة للربط الودي أو العاطفي لما عسى أن يكون لذلك أثر على مجرى العدل، ولذلك ان أمير المؤمنين (ع) لما بلغه ان عامله بالبصرة سهل بن حنيف قد دعي الى مأدبة فأجاب إليها، فكتب إليه يستنكر منه

ذلك، ويوبخه على ما صدر منه، وهذا نص ما كتبه إليه:

«أما بعد: يا ابن حنيف فقد بلغنى أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو([46])، وغنيهم مدعو، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم([47]) فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه([48]) فنل منه.» ([49]).

وأراد الأشعث بن قيس أن يتقرب الى أمير المؤمنين ويتصل به فصنع له حلوى جيدة فقدمها إليه، ولندعه (ع) يحدثنا عن موقفه تجاه هذا الأمر يقول:

«وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها([50])، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول([51]) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط، أم ذو جنة، أم تهجر([52])؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها

على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة([53]) ما فعلت، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل([54])، وقبح الزلل وبه نستعين([55])

وبهذه السياسة البناءة تتحقق العدالة الاجتماعية، ويسود الأمن والرخاء ويقضى على جميع أفانين الظلم والغبن.

د ـ الخدمة العسكرية:

ولم تقض سياسة أهل البيت بارغام الناس على الخدمة العسكرية، فلم يؤثر عنهم أنهم أكرهوا الناس على الخروج الى الحرب، وإنما كانوا يدعون الى الجهاد كفرض من فروض الله فمن شاء أن يخرج خرج مؤديا لما فرض عليه، ومن قعد فانما يقعد غير تمتثل لما أوجبه الله عليه من دون أن ينال عقوبة أو يتعرض للسخط والارهاب، وكانت هذه خطة الحسن (ع) لما أراد مناجزة معاوية، فانه لم يكره أحدا على ذلك، وإنما ندبهم الى الجهاد، وقد أرادوا بذلك أن يكون الناس مندفعين بدافع الايمان والعقيدة لما أوجبه الله عليهم من الفرض،

هـ ـ السياسة المالية:

أما السياسة المالية التي انتهجها أهل البيت فكانت تلزم بصرف الخزينة المركزية على المصالح العامة كانشاء المؤسسات، وايجاد المشاريع الحيوية التي تنتظم بها الحياة، ويقضى بها على شبح الفقر والحرمان، ولا يسوغ عندهم صرف درهم واحد فيما لا تعود فيه منفعة أو فائدة للأمة، وقد احتاطوا فى هذه الجهة احتياطا بالغا، فقد اطفأ الامام أمير المؤمنين سراج بيت المال عن طلحة والزبير لما أرادا أن يفاوضاه في مصالحهما الشخصية، فان الضياء الذي في بيت المال ملك للمسلمين، فلا يجوز استعماله إلا في مصالحهم.

وقد أثارت عليه هذه السياسة الصارمة أحقاد العرب، وأضغان قريش، وأقبلت إليه طائفة من أصحابه يطلبون منه أن يغير سياسته قائلين:

«يا أمير المؤمنين، اعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس».

فلذعه هذا المنطق الرخيص وانبرى قائلا:

«أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور..» ([56])

ان تفضيل العرب على الموالي، ومنح الأموال للوجوه كل ذلك جور واعتداء على حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة والعدالة الكبرى في الأرض.

ان أموال المسلمين يجب أن تنفق على مصالحهم، وضمان عائلهم ومحرومهم، وليس لزعيم الدولة أن يصطفي منها، أو يؤثر بها أقاربه ومن يمت إليه، فان ذلك خيانة لله وللمسلمين، وقد طبق الامام أمير المؤمنين هذه السياسة العادلة على واقع الحياة حينما آل إليه الأمر، فانه لم يقتن الدور والضياع، ولم يرفّه على نفسه فيعير لبالي ثوبه اهتماما، أو يأكل ما لذّ من الطعام، أو يتمتع بشيء من متع الحياة، وإنما كان يعيش عيشة الفقراء والبؤساء، فقد روى هارون عن أبيه عنترة قال دخلت على علي وهو بالخورنق، وعليه خلق قطيفة، وكان الوقت شديد البرد فقلت له:

«يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك».

فانبرى (ع) مجيبا له:

«والله ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة.» ([57]).

انه ليس عنده من اللباس ما يقيه من البرد سوى خلق قطيفة جاء بها من يثرب، وفي استطاعته أن يلبس الحرير الموشى، ولكنه أبى أن يصطفي من أموال المسلمين شيئا، كما انه لم يؤثر بها أحدا من أهل بيته وأبنائه،

فقد روى أبو رافع([58]) وكان خازنا لبيت المال، قال: دخل عليّ أمير المؤمنين وقد أعطيت ابنته لؤلؤة من بيت المال، فلما رآها عرفها، وقد تغير لونه ومشت الرعدة بأوصاله فقال:

«من أين لها هذه؟ والله لأقطعن يدها.»

فلما رأى أبو رافع جده في الأمر، وعزمه على ذلك قال له:

«أنا والله يا أمير المؤمنين أعطيتها وهي عارية مضمونة»

فهدأ روعه، وسكن غضبه، واندفع قائلا:

«لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها.»([59]).

إن مثله الرفيعة لم تسمح له أن يؤثر ابنته على بنات المسلمين، وهذا هو منتهى العدل الذي لم يحققه أحد غيره، ومن مساواته بين المسلمين، واحتياطه البالغ في أموالهم ما رواه عاصم بن كليب([60]) عن أبيه قال:

«قدم على عليّ مال من اصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أقسام، ودعا امراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا...» ([61]).

إن هذا هو العدل الذي لم تحققه الانسانية فى جميع مراحل تأريخها فانها على ما جربت من تجارب. وبلغت من رقي وابداع في فنون الحكم فانها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنشئ نظاما سياسيا تتحقق فيه العدالة الكبرى كهذا النظام الذي وضعه ابن أبي طالب، وسار على منهاجه أبناؤه من بعده.

 

 

من خطبه

روايته للشعر:

وفاته:

 

 

 

 

 

 

([1])  البحار 10 / 89.

([2])  البراء بن عازب يكنى ابا عمارة، شهد مع رسول الله 6 واقعة بدر، ولكنه لم يأذن له في الجهاد لصغر سنه، وغزا مع رسول الله 6 اربع عشرة غزوة، وهو الذي فتح الري سنة اربع وعشرين فى قول ابى عمرو الشيباني، وشهد مع امير المؤمنين 7 الجمل وصفين، والنهروان، نزل الكوفة وابتنى بها دارا، ومات ايام مصعب بن الزبير، جاء ذلك فى اسد الغابة 1 / 171، والاستيعاب.

([3])  صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق، ورواه الترمذي في صحيحه 2 / 307، ورواه مسلم فى صحيحه فى كتاب فضائل الصحابة، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية 8 / 34.

([4])  كنز العمال 7 / 104، وذكره الهيثمي فى مجمعه 9 / 176، وتظافرت الاخبار بهذا المضمون عن النبي 6 فعن سعيد بن زيد قال: احتضن رسول الله 6 حسنا ثم قال: ( اللهم إني قد احببته فأحبه ) ذكره المتقي الهندي فى كنز العمال 7 / 105 وقال اخرجه الطبراني وابو نعيم، وذكر ابن حجر في الاصابة 3 / 78 قال: واخرج البغوي من طريق يزيد بن ابي زياد عن يزيد بن ابي الحسن عن سعد بن زيد الانصاري ان النبي 6 حمل حسنا، ثم قال: اللهم إني احبه فاحبه مرتين، وروى ابو نعيم فى حليته عن ابي هريرة ان النبي 6 قال: «اللهم، إني احبه، فأحبه واحب من يحبه» يقولها ثلاث مرات.

([5])  تهذيب التهذيب 2 / 297، مسند الامام احمد بن حنبل 5 / 366 الصواعق المحرقة: ص 82.

([6])  الاصابة 1 / 330، صحيح البخاري ذكره فى الصلح، ورواه الامام احمد بن حنبل فى مسنده 5 / 44 باسناده عن المبارك عن الحسن عن ابي بكرة قال: كان رسول الله 6 يصلي بالناس، وكان الحسن بن علي يثب على ظهره إذا سجد، ففعل ذلك غير مرة، فقالوا له: والله إنك لتفعل بهذا شيئا، ما رأيناك تفعله باحد، قال المبارك: فذكر شيئا ثم قال: إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين، وذكره ابن حجر في صواعقه وجاء في العقد الفريد 1 / 164 ان الرسول 6 دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها، فقال لها: إن الله سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

([7])  الصواعق: ص 82، حلية الاولياء.

([8])  الاصابة 2 / 11.

([9])  البداية والنهاية 8 / 33.

([10])  البحار 6 / 58.

([11])  فضائل الاصحاب: ص 165، البداية والنهاية 8 / 35.

([12])  الاستيعاب 2 / 369.

([13])  كنز العمال 6 / 222.

([14])  تاريخ ابن عساكر 4 / 212، مناقب ابن شهرآشوب 2 / 143.

([15])  البداية والنهاية 8 / 37.

([16])  مسند الامام احمد بن حنبل 2 / 255، انساب الاشراف للبلاذري.

([17])  أعيان الشيعة 4 / 24.

([18])  الصبان المطبوع على هامش نور الابصار: ص 176.

([19])  مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 147.

([20])  تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 73.

([21])  الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23، جوهرة الكلام للقراغولي ص 112.

([22])  نور الابصار ص 111.

([23])  أعيان الشيعة 4 / 89 ـ 90.

([24])  الحائط: البستان.

([25])  البداية والنهاية 8 / 38.

([26])  الصبان ص 176.

([27])  الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23.

([28])  صحيح الترمذي 1 / 93 مستدرك الحاكم 3 / 172 تاريخ ابن عساكر 4 / 20.

([29])  اسد الغابة 2 / 11.

([30])  اسد الغابة 2 / 11 والمراد من الصدقة المحرمة على آل البيت هي الصدقة الواجبة كالزكاة والفطرة دون غيرهما من الصدقات المندوبة.

([31])  تأريخ اليعقوبى 2 / 201 وفي مسند احمد 1 / 200 انه 7 قال سمعت رسول الله قد قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فان الصدق طمأنينة، وان الكذب ريبة.

([32])  اصول الكافى 1 / 297 ـ 298.

([33])  الدينوري ص 303.

([34])  أعيان الشيعة 4 / 42.

([35])  .

([36])  العقد الفريد 1 / 211.

([37])  أصول الكافى 2 / 147.

([38])  آس: أى شارك بين الرعية حتى في هذه الأمور البسيطة.

([39])  النهج محمد عبده 3 / 85.

([40])  شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.

([41])  رواه مسلم.

([42])  جامع السعادات 1 / 202.

<p style="text-align:

عدد القراء : 1190