shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

المقاصد الشرعية من تشريع الزواج

 

شرع الله _ سبحانه و تعالى _ الزَّواج وحثَّ عليه لاشتماله على حكمٍ عظيمةٍ، ومقاصدَ  جليلةٍ، وفوائد للزَّوجين والمجتمع، وتتلخَّص في:

قضاء الوطر، بإشباع و إرواء الغريزة الجنسية، فالإسلام لم يأت بالتَّرهُّب وقطع   الشهوة، وإنَّما جاء بتهذيبها وتوجيهها والسُّمو بها من مجرد غريزة حيوانية، إلى أعلى درجات المودَّة بين الزَّوجين لحديث: (لم نَرَ للمتحابِّين مثل النِّكاح) ([1]).

فإذا  أشبع الإنسان غريزته هدأ من الاضطراب، وسكنت نفسه من الصراع، وكفَّ عن التَّطلُّع إلى الحرام، واطمأنَّ إلى ما أحلَّه الله، وإذا لم يشبعها انتابه القلق والاضطراب، ونزعته نفسه إلى الشر والسوء.

 قال بن القيم([2]): (... فإنَّ الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية: الأول: حفظ النَّسل... الثاني: إخراج الماء الذي يضرُّ احتباسه واحتقانه بجملة البدن  الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتَّمتُّع بالنِّعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة، إذ لا تناسل هناك ولا احتقان...ثمَّ قال: ومن منافعه: غضُّ البصر، وكفُّ النَّفس، والقدرة على العِفَّة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة  فهو ينفع نفسه في دنياه وآخرته، وينفع المرأة، ولذلك كان رسول الله e يتعاهده ويحبُّه، ويقول: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء" ([3])) ([4]).

وقد جاءت الإشارة إلى هذا الأمر في أحاديث نبويةٍ كثيرة عن رسول الله e  منها:

   أ) عن عثمان بن عفان t أنَّ رسول الله e قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحفظ  للفرج، ومن لم  يستطع فعليه   بالصوم، فإنه له وجاء) ([5]).

  ب) حديث جابرٍ t، وفيه من قول الرسول e: (إنَّ المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإنَّ معها مثل الذي معها) ([6])، وفي رواية (فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه) ([7]).

الحفاظ على الأعراض والأنساب، وصيانتها من الضياع والاختلاط، ففي الزَّواج حفظ الأخلاق وحماية المجتمع من الفساد، وتحصين الشباب ضد الانحراف ([8]).

الأُنسُ والمودَّة والرحمة والاستقرار، إذ الإنسان اجتماعي بطبعه، فلا يستطيع الحياة ومواجهة مصاعبها ومشاقها وحده، فلا بدَّ من شريك يُعينه ويأنس إليه..

ففي الزَّواج صحةٌ نفسيةٌ وبُعدٌ عن الشعور بالوحدة والاكتئاب والقلق ([9])، وفيه إمتاعٌ نفسيٌ بإشباع الحاجات النفسية والجسمية، ومن أهمها حاجة الأمومة والأبوة وتربية الأطفال ([10]).

و من الأدلة عليه:

أ) قال تعالى:  (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة إنَّ في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون)  [الروم: 21].

(فهو راحةٌ حقيقةٌ للرجل والمرأة، فالمرأة تجد من يكفل لها رزقها، فتعكف على البيت ترعاه، وعلى الأولاد تربيهم، وهذا ما يتفق مع طبعها. والرجل يتفرَّغ للعمل والقيام بأعباء الأسرة، وإذا عاد للبيت شعر بالراحة والسعادة بعد العمل، فيدركون حكمة الخالق في خلق كلٍ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقاً للآخر، ملبياً لحاجاته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأنَّ تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظٌ فيه تلبية رغائب كل منهما في  الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثَّل في جيلٍ  جديد) ([11]).

ب) قوله تعالى: (هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن) [البقرة: 187].

ج) قوله e فيما رواه عنه عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) ([12]).

هذا الاستقرار و السكن والمودة والرحمة لا تكون إلا بالدُّخول في عقد الزَّواج على جهة التَّأبيد والدَّوام:

  أ / لأنَّه عقدٌ ليس المقصود منه تلبيةُ الرَّغبات والشهوات فحسب، بل المقصود الأصلي منه حصول النَّسل وبقاؤه، ومصلحة النَّسل تقتضي دوام الرَّابطة الزَّوجية وبقاءها، و لأنَّ ذلك يُحقق المقصود بصورةٍ أسلم وأتم في رعاية الأولاد، بعكس لو بُني العقد على التَّوقيت الذي يكون سبباً في ضعف الالتزامات الأبوية، أو زوالها مع حاجة النَّسل إلى ذلك  ([13]).

ب / أنَّ عقد النِّكاح على التَّوقيت والتَّأجيل، يُقرِّبه من عقود الإجارات و الأكرية، ويخلع عنه ذلك المعنى المقدَّس في نفس الزَّوجين من نيَّة كليهما أن يكون قريناً للآخر ما صلح الحال بينهما، فلا يتطلَّبا إلا ما يعين على دوامه إلى أمدٍ مقدور، وفي ذلك حدوث تبلبلاتٍ واضطراباتٍ فكريةٍ وانصراف كلٍّ من الزَّوجين عن إخلاص الوُد للآخر وهذا يُفضي لا محالة إلى ضعف تلك الحصانة الزَّوجية ([14]).

إنجاب الأبناء، وفي الإنجاب فضائل كثيرة تستدعي طلبه، وتحمل على الرغبة فيه، وهي:

أ) تكثير النسل، للحديث الذي رواه أنس بن مالكٍ t: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"، وكان يحثُّ أصحابه على التَّزوج بالولود، وينهاهم عن نكاح العاقر، كما في حديث: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي e فقال: إني أصبت امرأةً ذات حسب وجمال، و إنَّها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا، ثمَّ أتاه الثانية، فنهاه، ثمَّ أتاه الثالثة، فقال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"([15]).

ب) الإبقاء على النَّوع الإنساني من الانقراض، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالزَّواج، لأنَّ الإباحة المطلقة تؤدي إلى التَّزاحم على النساء، وهذا يؤدي إلى التَّباغض والتَّشاحن والتَّقاتل، وكذلك تؤدي إلى عدم الرَّغبة في الإنجاب لعدم الرغبة في تحمُّل مسؤولياته وتبعاته، وإذا حدث الإنجاب لا يكون للأبناء آباء معروفون يُعنَون بتربيتهم، فيكون مآلهم الضياع.

ج) ما فيه من عِزٍ للأب وقومه، ومنعة للمجتمع، وحفظ لاسم الأب والعائلة.

د) وجود خَلَف ينتفع به، وتُرجى الرَّحمة بدعائه، عن أبي هريرة t قال: قال e: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) ([16] وحديث أبي هريرة t: "إنَّ الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك"([17]).

هـ) تقديمه ذخراً للآخرة يُنتظر نفعه وتؤمل به المغفرة، وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: قال e: لنِسوة من الأنصار: "لا يموت لإحداكنَّ ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو اثنين"([18]).

وقال e عن أموات المسلمين في الحديث الذي رواه أبي هريرة t: "صغارهم دعاميص الجنة، يتلقَّى أحدهم أباه _ أو قال أبويه _ فيأخذ بثوبه _ أو قال بيده _ كما أنا آخذٌ بِصَنِفَةِ ثوبك هذا، فلا يتناهى _ أو قال فلا ينتهي _ حتى يدخله الله وأباه الجنة"([19]).

تكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع، وفيها:

أ) ينشأ في ظلها الأبناء تنشئة سوية كاملة في رعاية أب و أم حنونين مربيين، بخلاف الابن الضائع الذي لا يعرف أباه أو أمه، فينشأ غير سوي النفس، وغالباً ما يكون حاقداً ومجرماً.

ب) يتعلّم في ظلها المرء ما له من حقوق وما عليه من واجبات، فتتكون المشاعر الإنسانية من إيثارٍ وحبٍ للغير، وتعوُّدٍ على تحمُّل المسؤولية، ويكتسب في ظلالها الصفات والخصائص الاجتماعية الأساسية، والدعائم الأولى للشخصية.

ج) فيها دافعٌ نحو النَّشاط وبذل الوسع في تقوية الملكات والمواهب _ للأب _، لأنه ينطلق للعمل من أجل النُّهوض بأعباء الزَّواج، والقيام بواجباته، مما يؤدي إلى تنمية الثَّروة وكثرة الإنتاج، وإلى استغلال خيرات الله في هذا الكون، وما أودع فيه من أشياء ومنافع للناس، وهذا يؤدِّي بالتالي لنهضة المجتمع وتقدُّمه.

د) تحصيل الأجر بالقيام على الأسرة والإنفاق عليها، لحديث سعد بن أبي وقاص _ رضي الله عنه _: (.. أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، ومهما أنفقتً فهو لك صدقة، حتى اللقمة ترفعها في فيّ امرأتك..) ([20]).

تكوين علاقات بين الأسر فتترابط الأسر، وتقوى أواصر المحبة بين العائلات، مما يولِّد مجتمعاً قوياً مترابطاً متماسكاً.

قال _ تعالى _: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) [الحجرات: 13]، وقال: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)   [الفرقان: 54].

  1. الاقتداء بسنة الرسول e عندما قال _ رداً على الصحابة الذين أرادوا الابتعاد عن ملاذ الدنيا _ كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك t: (لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ([21]) وهي سنة الأنبياء _ عيهم الصلاة والسلام _من قبل، كما قال تعالى: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) [الرَّعد: 38].

 

[1]) (أخرجه ابن ماجه كتاب النِّكاح، باب ما جاء في فضل النِّكاح، والحاكم 2/160 والبيهقي 7/78.

[2]) (محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، ولد في السابع من صفر سنة 691هـ، أكبَّ على طلب العلم، وصنف وصار من الأئمة، وكان من أشهر تلاميذ ابن تيمية حتى قيل: إنَّ ابن تيمية لم يُخلِّف غيره، توفي في الثالث عشر من رجب سنة 751هـ.

[الوافي بالوفيات 2/270 – 272 باختصار].

[3]) (أخرجه أحمد 19/305، وحسَّنه المحقق (3/128 ميمنية)، بلفظ (من الدنيا).

[4]) (محمد بن بن أبي بكر بن قيِّم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد 4/249 و 250، تحقيق: شعيب الأرنؤؤط، وعبد القادر الأرنؤوط، ط 13،  1406هـ _ 1986م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[5]) (أخرجه البخاري في مواضع منها 9/134، كتاب النِّكاح، باب قول النبي e (من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج).

[6]) (أخرجه مسلم 9/181، كتاب النِّكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقِعها.

[7]) (أخرجه أحمد 2/407، (3/330 ميمنية)، وأبو داود ص310،كتاب النِّكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر.

[8]) (د.كمال مرسي، العلاقة الزَّوجية والصحة النفسية في الإسلام وعلم النفس ص39، ط 2 1415هـ- 1995م، دار القلم، الكويت.

[9]) (المصدر السابق ص33.

[10]) (المصدر السابق ص36.

[11]) (سيد قطب، في ظلال القرآن 5/2763، ط 12، 1406هـ _ 1986م، دار العلم للطباعة والنشر، جدة.

[12]) (مسلم  9/298، كتاب الرضاع، باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة.

[13]) (يوسف حامد العلم، المقاصد العامة للتشريع الإسلامية، ص418، ط 2 1415هـ، 1994م، الدار لعلمية للكتاب الإسلامي، الرياض.

[14]) (محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الطَّاهر الميساوي، ص324 بتصرف، ط 1 1420هـ  1999م، دار النفائس، الأردن.

[15]) (أخرجه أحمد في مواضع منها: 20/63  (3/158 ميمنية)، و 21/191  (3/245 ميمنية) [بلفظ الأنبياء بدلاً من الأمم]، والنسائي ص342، كتاب النِّكاح، باب كراهية تزويج العقيم،  وابن ماجه 1/599، كتاب  النِّكاح، باب تزويج الحرائر والولود [بلفظ انكحوا، فإني مكاثر بكم..]،  وصححه الألباني في الإرواء 6/195، برقم 1784.

[16]) (أخرجه مسلم 11/87، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

[17]) (أخرجه أحمد 16/356 (2/509 ميمنية)، وصححه الألباني في الصحيحة 4/129 برقم 1598.

[18]) (أخرجه البخاري 3/153، كتاب الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب، ومسلم 16/397، كتاب الأدب والبر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، واللفظ له، والحديث رواه أبو هريرة وأنس ,أبو سعيد رضي الله عنهم.

[19]) (أخرجه مسلم 16/ 399، كتاب الأدب والبر والصلة، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه.

والدعاميص: جمع دعموص، وهي دُويبة تكون في مستنقع الماء، والدعموص أيضاً: الدَّخال في الأمور: أي أنهم سيَّاحون في الجنة دخَّالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصِبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحُرم، ولا يحتجب منهم   أحد.  [مجد الدين المبارك بن الأثير، النهاية في غريب الحديث ص306، تقديم: علي الأثري،  ط 1 1421هـ، دار ابن الجوزي، حرف الدال].

[20]) (أخرجه البخاري 9/616  كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، ومسلم 11/79، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، واللفظ للبخاري.

[21]) (رواه البخاري 9/131، كتاب النِّكاح، باب التَّرغيب في النِّكاح.

عدد القراء : 1318