مقاصد الشريعة ودورها في الحفاظ على حقوق الطفل
الحمد لله المتفضل بالنعم الذي جعل ]المال والبنون زينة الحياة الدنيا[، والصلاة والسلام على النبي الأكرم أعظم والد وأفضل جد سيدنا ونبينا محمد e القائل: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم فإن أولادكم هدية إليكم"([1]).
المقدمة:
فإنه من أهم ما يطمح إليه الإنسان في دنياه، ومن أعز الأمنيات على قلبه، وأجمل الرغبات في نفسه: أن يرزقه الله ذرية طيبة وولداً صالحاً؛ وقد وصف الله عزَّ وجلَّ عباده بأنهم يدعونه أن يهب لهم ذرية نقية صالحة تسعدهم، يقول الله تعالى: ]والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً[[الفرقان: 74].
فالأطفال نعمة كبرى على الناس؛ تملأ حياتهم بهجة وسروراً، وتزيدها أنساً وحبوراً، وتمنحهم راحة واستقراراً، ويعيشون سعادة وأماناً.
وهم مصابيح البيوت، وقرة العيون، وفلذات الأكباد، وبهجة الأعياد، ونبض المجتمعات، وهم أحباب الرحمن، وهم زهرة اليوم وثمرة الغد وأمل المستقبل، ويقاس بنضجهم وتقدمهم ونجاحهم تقدم الأمم ونجاحها، قال الله تعالى: ]المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً[[الكهف: 46].
والعالم بأسره اليوم يعيش مرحلة تاريخية حافلة بالاهتمام العالمي على صعيد الدول والشعوب بالطفل والطفولة؛ حيث عقدت عدة مؤتمرات دولية، وصدرت إعلانات وصُدقِّت عهود ووُقِّعت اتفاقيات تتعلق بالأطفال وحقوقهم والعناية بهم.
ويدور الحديث في الأوساط الثقافية عالمياً عن حق الطفل في الحياة والمسكن والعلم والعلاج والوقاية والترويح والغذاء والكساء، وتنشر صور أطفال فقراء في العالم أجمع لضحايا الفقر والجوع والمرض والجهل، فهناك أفواه جائعة، وأجساد عارية مريضة، وعقول خاوية، وأرض مجدبة في كثير من أنحاء العالم.
ولا يخفى أن هذا الاهتمام العالمي بالأطفال لم يكن ليحصل لولا ما أصاب شعوب العالم من ويلات حروب القرن العشرين، وما يعقب الحروب من ضحايا، وتشريد، وتهجير؛ حيث وجدت نسبة كبيرة من الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم وذويهم، وأصبحوا في ضياع وجوع وعُرْى وحرمان، واحتاجوا إلى أيد رحيمة تنقذهم مما هم فيه من تعاسة؛ فالطفولة في العالم واقعة في مأزق؛ فهي تعانى من التشرد، والتعسف، والقهر، والتهجير، والاستبداد.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سعت الأنظمة الحديثة إلى وضع نظام يخص حقوق الطفل في العالم، حيث وافقت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة فى20/11/1959م على إعلان حقوق الطفل، وتضمن عشرة مبادئ منها:
حق التسمية.
والأمن الاجتماعي.
والرعاية.
والعلاج.
ومسئولية الوالدين.
وحق التعليم الإجباري.
وحق اللعب والرياضة.
والوقاية من الأمراض.
والوقاية من القسوة.
والوقاية من الفساد.
وخصصت لها هيئة خاصة هي "اليونيسيف".
وإذا كان العالم اليوم يسعى إلى رفع مستوى الطفولة وعلاج مشكلاتها بالأقوال؛ فإن الشريعة الإسلامية قد عنيت بالطفولة أيما اعتناء، وعملت على حمايتها وحل مشكلاتها بالأفعال والأعمال التي ستظل خالدة على مر الزمان.
ومما نفخر ونعتز به أن الإسلام له أياديه البيضاء على الأطفال والطفولة، حيث حفلت آيات الكتاب العزيز، وسيرة النبي e وأحاديثه الشريفة بالاهتمام البالغ بالأطفال والعناية بهم.
فللأطفال في الشريعة الإسلامية حقوق على ذويهم، وحقوق على مجتمعهم، وحقوق على الدولة التي يعيشون في كنفها وعلى أرضها.
هذه الحقوق تنبع من غرائزهم وحاجاتهم الفطرية؛ كحاجتهم إلى الغذاء والكساء، وحاجتهم إلى الأمن والاطمئنان، وحاجتهم إلى العطف والحنان، وهذه الحاجات لا يستغنى عن إشباعها أي طفل من أطفال العالم، في كل الظروف والأحوال، وفى كل العصور والدهور.
وهناك حاجات تتجدد بتجدد العصور وتغير الدهور، واختلاف الأمكنة وتنوع البيئات، وعلى سبيل المثال نشأت في هذا العصر من علوم ومعارف على اختلاف مستوياتها الفكرية ووسائلها المتطورة؛ كظهور الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، وشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) والمخترعات الحديثة الأخرى، فمن حق الأطفال أن يتعلموها ويتقنوا استخدامها.
ومن مكة (مكاناً) أُصِّلَت حقوق الإنسان، ورُسخت قواعد رعاية الأطفال، والعناية بشؤونهم.
ومن مكة (إنساناً يُوحى إليه e) أضاء العالَمَ بنور علمه، ونقاء سريرته، فكان خير مَن رعى الطفولة.
ومن مكة مهبط الوحي انطلقت أعظم ثقافة عرفتها البشرية، وتشكلت حضارة ما عرف التاريخ لها مثيلاً، وبقدر ارتباط العالم بثقافة مكة يسود الخير بينها ويعمهم الله برحمته، وبمقدار انفصالهم عن ثقافة مكة (الثقافة الإسلامية) المتكاملة بقدر ما يعيشون في شقاء وبؤس، وظلم وطغيان، وفقر وبؤس.
وقبل الحديث عن مقاصد الشريعة وأثره في الحفاظ على حقوق الطفل، أبين تعريف الطفل:
تعريف الطفل([2]):
الطفل بكسر الطاء: الصغير من كل شيء عيناً كان أو حدثاً، يقال: هو يسعى لي في أطفال الحوائج أي صغارها، ويقال: أتيته والليل طفل أي في أوله، وأطفلت الأنثى: صارت ذات طفل، والمصدر: الطَفَل (بفتح الطاء والفاء)، والطفالة والطفولة والطفولية، والطفل المولود ما دام ناعماً، والولد حتى البلوغ، وهو للمفرد المذكر، وفي التنـزيل العزيز: ]وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا[[النور: 59]، وقد يستوي في المذكر والمؤنث والجمع، قال الله تعالى: ]ثم نخرجكم طفلاً[[الحج: 5]، وقال الله تعالى: ]أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء[[النور: 31].
وفيما يأتي بيان حقوق الطفل في الإسلام من خلال مقاصد الشريعة الإسلامية، والأهداف العامة التي يصبو المسلمون لتحقيقها.
الحق الأول: حق حفظ النفس
أول حق للطفل حقه في الحياة؛ كون الطفولة من مظاهر القدرة الإلهية:
ألا ترى أن الله تعالى خلق الطفل في رحم المرأة من نطفة هي غاية في الصغر لا ترى إلا بالمجهر المكبر، قال تعالى: ]إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً[[الإنسان :2] ثم بعد فترة وجيزة من الزمن يُخرج الخالق البارئ المصور من هذه النطفة وليداً طفلاً على صورة بديعة الخلق، قال تعالى: ]لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم[[التين : 4]، وفيه ما فيه من طاقات هائلة، ودوافع كامنة، وحاجات متزايدة تتفتح يوماً بعد يوم؛ تبهر العقول وتنمو في استواء واعتدال؛ ]فتبارك الله أحسن الخالقين[[المؤمنون:14].
اختيار الأبوين الصالحين:
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يهتم بهذا الأمر وأغفله، وكذلك لم تهتم منظمة اليونيسيف بحقوق الطفل قبل أن يولد كما حفظها الإسلام.
فالضمان والأمان للطفل وحقوقه يكمن في العلاقة الشرعية السليمة بين الأب (الرجل) والأم (المرأة) واختيار كل منهما للآخر بعقد زواج شرعي؛ لأن الحمل قبل عقد زواج مشروع هو من الزنا، والزنا اعتداء على الطفل نفسه إذا نتج عن تلك العلاقة غير المشروعة حمل غير شرعي.
حسن اختيار الزوج والزوجة:
يدعو الإسلام الراغبين في الزواج إلى أن يختار كل منهم زَوْجَه اختياراً واعياً، ولا يتم ذلك إلا بعد التأكد من إيمانه بقيم الدين، والتزام فرائضه والتمسك بحسن أخلاقه، وبعد الوقوف على أحواله الصحية وسلامة جسمه من الأمراض والعلل، يقول رسول الله e: "إذا أتاكم مَن ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"([3])، ويقول e موصياً أمته بالحذر من المرأة الحسناء تنساق وراء الجمال، ولا خُلُق لها ولا دِين: "إياكم وخضراء الدمن"([4])، ويقول e: "تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس"([5]).
وتبرز أهمية الاختيار في أن يكون بناء الأسرة قائماً على التجانس المشترك من الطرفين، كما يقوم على القدرة على التعاون بين الطرفين ليسيرا في قافلة الحياة بسعادة وهناء في الدنيا، ونجاة وفلاح في الآخرة.
وهذا من أجل أن يُهَيَّأ للطفل المنتظر المحضنُ الصالح؛ الذي يُعدُّه لحياة عملية وفكرية وسلوكية راقية؛ فلا يكون نقطة سوداء في مجتمعه.
ويكون ذلك باختيار الرجل المناسب ليكون أباً يشعر بمسئولياته، ويقوم بواجباته تجاه زوجته وأولاده، وباختيار المرأة المناسبة لتكون أماً تشعر بمسئولياتها تجاه زوجها وأولادها.
فالأب الناجح (غالباً) في إدارة الأسرة هو الإنسان الصحيح أخلاقياً ونفسياً واجتماعياً وجسمياً، وهو الذي يستطيع ألاَّ يُحْدِثُ فجوات بينه وبين زوجته، وقل مثل ذلك في الزوجة الناجحة.
العناية بالجنين وتنظيم الحمل:
ومن الاهتمام بالطفل قبل ميلاده يدعو الإسلام إلى التزام الأبوين عملية التباعد بين الحمل والحمل الآخر، كي تشعر بفترات راحة تستعيد فيها قوتها وقوة احتمالها في سبيل تحقيق رفاه الأسرة.
وهذا مأخوذ من القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ]ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين[[لقمان: 14]، ويقول سبحانه وتعالى: ]وحمله وفصاله ثلاثون شهراً[[الأحقاف: 15]، ويقول عز وجل: ]والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة[[البقرة: 233].
كما أن الجنين محتاج لرعاية مستمرة عن طريق العناية بصحة الأم الجسمية والذهنية والنفسية وتغذيتها بالغذاء المفيد، وتهيئة الأجواء النفسية المريحة لأعصابها وتفكيرها في الفترة التي تسبق الولادة والفترة التي تعقبها.
فمن حيث الأسباب:
تُعّدُّ تغذية الجنين ووجوده في بطن الأم مُعافاً صحيحاً معتمدة كلياً على توفير العناية الصحية للأم، وتقديم الوجبات الكافية من الطعام المشتمل على عناصر الغذاء الضرورية، والإنفاق عليها بسخاء، قال الله تعالى: ]وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف[[البقرة: 233]، والمولود له هو الزوج (الأب)، فينبغي أن يعتني بتغذية الزوجة الحامل، وألا يهمل هذا الجانب المهم حفاظً على صحة زوجته (الأم)، وعلى الجنين من ناحية ثانية، وعلى سلامة الأسرة كي لا تتعرض هي أو أحد أفرادها في المستقبل للأمراض والعلل التي تكلف الكثير من النفقات والمتاعب النفسية، فينبغي أن توضع الترتيبات بحيث تتضافر الأسرة والمجتمع والدولة في تأمين الغذاء للحوامل والأمهات وتوفير الأجواء المناسبة لراحتهن.
إذ لا ضرر ولا ضرار:
ولا فائدة في الزواج والحمل والولادة إذا كان في ذلك إضرار بالوالدة أو الوالد أو الولد أو بالمجتمع، فقد كان e يكثر من الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء"، قيل: وما جهد البلاء يا رسول الله؟ قال: "قلة المال وكثرة العيال"([6]).
وهذا يتطلب من الزوج أن يخطط لتنمية موارده وضبط نفقاته ومصاريفه مهما كان حجم الموارد والمصاريف، ومع الزمن تصبح لديه خبرات واسعة في القيام بمسئوليات الأسرة، وإدارة شئونها ورعايتها، وهذا يقتضى ألا يترك رب الأسرة أسرته نهباً للجوع والحرمان والحاجة مما يؤثر في صحة الزوجة والأولاد ويعرضهم للعلل والأمراض، والضعف والهزال والإرهاق وفقر الدم بالإضافة إلى إلحاق الضرر الأخلاقي والانحراف السلوكي في حياة أفراد الأسرة، قال رسول الله e: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"([7]).
وورد أن رجلاً مر على النبي e وأصحابه فرأوا من جَلَدِه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال e: "إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"([8]).
التمييز ضد الأنثى:
حمل القرآن الكريم حملة شديدة على الذين احتقروا الأنثى وعاملوها معاملة غير إنسانية، وقسوا عليها، وحرموها كثيراً من حقوقها الفطرية التي تقتضيها إنسانيتها.
ولعل من أبرز أسباب احتقار المرأة لدى الشعوب في العالم:
- أنها جالبة للعار وبخاصة عندما تسبى من قبل الغزاة.
- أنها ضعيفة لا تشترك في قتال ولا تدافع عن الحمى.
- أنها رجس من خلق الشيطان، أو خلق إله غير آلهتهم التي يزعمونها.
- أنها تكلفهم نفقات لعيشها وهم غير قادرين على تأمينها.
- أنها سبب خطيئة آدم التي أخرجته من الجنة.
- أنها من عداد الماشية.
وبناء على نظرتهم هذه قسموا أطفال الإنسان إلى قسمين:
قسم طاهر زكى من خلق آلهتهم وهو جنس الذكور.
وقسم مدنس بالرجس من خلق الله وهو جنس الإناث.
وهذه النظرة إلى الأنثى دفعتهم إلى ممارسات مجانبة للحق، ومنافية للعدل، ومغرقة في الظلم والضلال.
غير أن الإسلام بتعاليمه السمحة وإرشاداته الرشيدة أبطل كل هذه الادعاءات والمزاعم، وسَفَّهَ تلك النظرات الجائرة التي عاشت في العالم وما زال بعضها يعيش إلى يومنا هذا.
قال الله تعالى: ]وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون[[النحل: 58-59].
فالتمييز بين الذكر والأنثى خلل في العقيدة، يظهر فيه اعتراض على حكمة الله تعالى في خلقه، وفيه اعتراض على مشيئته النافذة في استمرار الحياة على الأرض بوجود الذكر والأنثى، قال الله تعالى: ]لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير[[الشورى: 50].
وفي توجيهات رسول الله e (محافظة على النسيج الاجتماعي، والتكافل الأسري) قال: "مَن عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه"([9])، وقال e: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن. وصبر عليهن. واتقى الله فيهن دخل الجنة"([10])، ويقول رسول الله e: "من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وأطعمهن وكساهن من جِدَتِهِ (أي ماله) كن له حجابا من النار يوم القيامة"([11]).
حق الطفل في الحياة:
حَرَّم الإسلام قتل النفس الإنسانية بغير حق، تحريماً قاطعاً، قال الله تعالى: ]ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق[[الأنعام: 151 والإسراء: 33]، وقال الله تعالى: ]ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق[[الفرقان: 68]، وهذه نصوص صريحة في أن الإسلام جعل للنفس البشرية حرمتها وكرامتها.
ولم يفرق في ذلك بين طفل وشيخ وشاب، ولا بين ذكر وأنثى، بل كان النص واضحاً في قوله تعالى: ]ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم[[الأنعام: 151]، وقال الله تعالى: ]وإذا الموءودة سئلت. بأي ذنب قتلت[[التكوير: 8- 9].
فحق الإنسان في الحياة ذكراً أو أنثى قررته شريعة الله في محكم التنـزيل، فمن حق كل إنسان أن يتمتع بحياته وأن يعيش آمناً على دمه ونفسه، ومن حقه أن يدافع عن نفسه ويدفع كل خطر يهدده، ومن حقه أن يُهَيَّأ له كل ما يُبْقِي على حياته من وسائل العيش من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتطبيب ودواء، وفي بيان الحاجات الأصلية للإنسان كانت الإشارة القرآنية إلى ما توفر لآدم عليه السلام في الجنة؛ إذ قال تعالى: ]إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى[[طه: 118-119 ].
والاعتداء على هذا الحق جناية عظمى لا ينبغي التساهل مع مقترفها، ولا ينبغي النظر إليه من منظار الرأفة والعطف والشفقة، ولا ينبغي النظر إليه من حيث فرديته؛ فالحفاظ على الجماعة أولى من التبرير لخطأ الفرد أو عمده، يقول الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون[[البقرة 178- 179].
ومن حق الحياة المشروع جاء تحريم الإجهاض؛ حسب التفصيل الفقهي الذي اتفق عليه بالتحريم المطلق بعد نفخ الروح، وبالكراهة قبل ذلك، مع الإشارة إلى قول فقهاء المالكية بتحريم الإجهاض منذ اليوم الأول للحمل، وجعل الإسلام للجنين المقتول خطأ دية معلومة في الشريعة ليقدم أعظم تشريع لقيمة الحياة الإنسانية وحق الحياة.
وهذا التحريم يشمل إسقاط الجنين بالإجهاض وإن كان ابن زنا، إلا إذا كان في ذلك إنقاذ لحياة الأم التي هي أصل حياته وكان ذلك ضرورة لازمة شرعاً وعقلاً وصحة.
الحق الثاني: حق حفظ الدين: حق التربية
غرض التربية في الإسلام:
إن التربية الإسلامية تستهدف غرضين:
- الغرض الديني، ويقصد به التنشئة للعمل للآخرة، حتى يلقى العبدُ ربَّه وقد أدى ما عليه من حقوق.
- الغرض العلمي الدنيوي، وهو ما يعرف بالإعداد للحياة.
الأولاد والعقيدة الإيمانية:
إن التربية العقدية الشرعية للمولود أهم بكثير من التربية الجسدية، فحياة الجسد تفنى بالموت، وحياة الإيمان تستمر إلى ما بعد الممات، ومن حق الطفل أن يُحافظ له على فطرته السليمة، وعقيدته الإيمانية؛ دون أن تُلوث بفعل الأبوين.
قال الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً[[التحريم:6]، وهذه الآية تدل على:
أولاًَ: من حق الأطفال على الآباء والأمهات والمربين أن ينالوا تربية إيمانية وأخلاقية واجتماعية وفكرية تنأى بهم عن الانحراف.
ثانياً: من حق الطفل وجوده في أسرة ينتمي إليها، وتحافظ عليه وتحميه، ويشعر بالأمن بين أفرادها.
ثالثاً: إن المهمة التربوية ليست مجرد تلقين من البيت الكبير (المجتمع والبيئة)، بل إن في مراحلها الأولى تحتاج إلى الآباء والأمهات ولمربين؛ وبالتالي لا بد أن يكون المشرف على التربية مؤمناً ملتزماً بأخلاق الدين وآدابه، ليكون لهم أثرهم في التربية عن طريق القدوة الحسنة، وليكون عملهم التربوي أضمن نجاحاً وأبلغ أثراً في التنشئة الصالحة.
ومن حقوق الأطفال في المجتمع وفى الأسرة والمدرسة أن يُنَشَّؤوا على الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى طاعة الله تعالى وعبادته وتقواه ومحبته، وعلى العمل بمكارم الأخلاق وتقديرها والاعتزاز بها، وتثبيت الحقائق العليا في نفوسهم.
وقد أمرت الشريعة بتعليم الأطفال كل ما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وأول شيء يُلَقَّن لهم ويلقى في أسماعهم: أعذب الكلام وأطيبه، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى، وفى هذا يقول رسول الله e: "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بـ (لا إله إلا الله).." ([12]).
ويؤكد ذلك فعل النبي e هذا بنفسه، قال أبو رافع: رأيت رسول الله e"أَذَّن في أُذُُن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة"، وفى حديث آخر أنه e: " أَذَّن في أُذُُن الحسن اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى"([13]).
ولعل الحكمة في التأذين: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات الأذان المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك تلقينا له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه من الدنيا.
الرحمة والشفقة في التربية الإسلامية:
مما لا شك أن القسوة في معاملة الولد: مثبطة للهمة، قاتلة للذكاء، مؤدية للذل، باعثة على النفاق، ولم يقر الإسلام الشدة والعنف في معاملة الأولاد، واعتبر الغلظة والجفاء في معاملة الأولاد نوعاً من فقد الرحمة من القلب، حيث قال e للأقرع بن حابس لما أخبر أنه لا يُقَبِّل أولاده:" من لا يَرحم لا يُرحم"([14]).
ولقد ضرب رسول الله e المثل الأعلى في الرفق في تربية الأطفال وعلاج أخطائهم بروح الشفقة والرأفة والعطف والرحمة، ومعرفة البواعث التي أدت إلى هفواتهم والعمل على تداركها وإفهام الأولاد نتيجتها.
وعمل رسول الله e على إدخال السرور في قلوب الأطفال، حيث كان يُقبلهم ويداعبهم ويحملهم على ظهره في صلاته، ويقوم بتنظيفهم، والسنة المطهرة فائضة بكثير من الأحاديث في هذا المجال وهذه طائفة منها:
أن رسول الله e كان يصلى وهو حامل أُمَامة بنت زينب بنت رسول الله e، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها([15]).
وروى عبد الله بن شداد قال: "بينما رسول الله e يصلى بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته، قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته"([16]).
وعن أسامة بن زيد: كان رسول الله e يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمهما، ثم يقول: "اللهم أحبهما فإنى أحبهما"([17]).
وقد كان رسول الله e يداعب الصبيان فقد ثبت عنه e أنه قال لأخ صغير لأنس بن مالك: "يا أبا عمير ما فعل النغير([18])"؟([19]).
وكان e يَقْدُم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف عليهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه؛ فيُرْفع منهم بين يديه ومِن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، وقد ورد أن عبد الله بن جعفر قال لابن الزبير أتذكر إذ تلقينا رسول الله e أنا وأنت وابن عباس قال نعم فحملنا وتركك([20]) فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله e بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم([21]).
وكان يؤتى بالصبي الصغير لِيَدْعُوَ له بالبركة وليسميه، فيأخذه فيضعه في حجره، فربما بال الصبي فيصبح بعض مَن يراه فيقول: لا تزرموا الصبي، فيدعه حتى يقضى بوله، ثم يفرغ من دعائه له وتسميته، ويبلغ سرور أهله فيه لئلا يروا أنه تأذى ببوله، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده([22]).
ومن هذه النصوص تتضح مدى عناية رسول الله e بالأطفال، وشفقته بهم، وحرصه على إدخال السرور عليهم، فالأطفال يمثلون بعض اليوم وكل الغد، فيحتاجون إلى بناء شخصيتهم وإشعارهم بالاهتمام بهم، وهذا بلا شك يترك آثاراً حسنة في نفوسهم، ويعودهم على الثقة بالنفس، ويربى فيهم العزة والأنفة وحب الغير، والتآخي، ويشيع بينهم المودة.
صلاح الأولاد مقصد إسلامي:
إن رعاية الأطفال وتربيتهم، والعناية بهم ذات جوانب متعددة، واجتهادات كثيرة، وهي من الثوابت الواضحة الأصول والقواعد، يقول الله تعالى: ]هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تَغَشَّاها حملت حملاً خفيفاً فمرَّت به فلما أثقلت دعوا الله ربَّهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين[[الأعراف: 189].
وهذه الآية تدل على أن المقصود من الزواج:
أولاً: السكن بين الزوجين فيطمئن كل منهما للآخر.
ثانياً: ولادة الأطفال ذكوراً وإناثاً.
ثالثاً: تربيتهم ليكونوا صالحين.
وتشير الآية إلى أن صلاح الأولاد مطمح الزوجين كليهما، وليس مطمح الزوج وحده، ولا مطمح الزوجة وحدها ]دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين[[الأعراف: 189] فكان الدعاء منهما معاً.
وتنطوي الآية على أنه ينبغي أن يخيم على الأسرة: التوافق والانسجام بين الزوجين، وهذا عنصر رئيسي من عناصر النجاح في بناء الأسرة ورعاية الأطفال ليكونوا صالحين.
والإنسان الصالح هو الإنسان الذي يعشق العلم، ويعشق الحق، ويقول الحق، ويلتزم الحق؛ فيكون مثلاً حياً في سمو خلقه، ومثلاً رائعاً في الثبات والتضحية، ومثلاً قويماًً في استقامته وحسن سلوكه؛ فلا يبيع رأيه بمال ولا بجاه ولا بمنصب، بل ولا بأعراض الدنيا كلها بل ولا بحياته.
ولا ريب أن بناء الإنسان أصعب من إشادة المدن وبناء القصور، وأشق من بناء السدود وإقامة الجسور، وإن تشذيب الصخور وتهذيب الحجارة لِتَصبِحَ صالحةً للبناء أهون وأيسر بكثير من تشذيبِ الفِكَر والفِكْر وتهذيبِ الخُلُق لدى الإنسان؛ لأن تربية الإنسان غرس إيمان، وتربية قلب، وصقل عقل، وتنمية شعور، وتهذيب ضمير، وإعلاء ذوق، وتقويم سلوك.
وتظهر أهمية التربية للأطفال أن المجتمعات تحوى دروباً صعبة ومسالك ضيقة، وتعترضه كثير من العقبات، وتستثيره كثير من الرغبات، ويطمح إلى عدد من المطالب والحاجات، وتحيط به مؤثرات وموجهات؛ فإذا لم يُرعَ حق الرعاية ويُعْنَى بها غاية العناية فإنه يقع فريسة هذه الدروب الوعرة والطرق الملتوية، ولذا:
فالطفل يحتاج إلى عطف الأبوة وحنان الأمومة ونُبل الكلمة والشفقة في المعاملة ومؤانسة الرفيق والهدوء والسكينة؛ وعلى التربية أن تجنبه عوامل الأحزان والكآبة، وعوامل الإعياء والإرهاق والتعب، كما يحتاج إلى التعليم والتثقيف لينال حظه من الرضا ويحصل على الابتهاج وينعم بالسرور وجمال الحياة.
حق الطفل في التربية:
والتربية من وجهة النظر الإسلامية تتطلب تدريبات روحية، وتمارين فكرية، ومُثُل عملية أخلاقية، قال رسول الله e: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وآل بيته، وقراءة القرآن"([23])، كما تتطلب تدريبات جسدية، فالإسلام يدعو إلى تعليم الأولاد السباحة والرماية وركوب الخيل، وفي الوقت نفسه يدعو إلى تعليم الأولاد الصلاة إذا بلغوا سبع سنين وضَرْبِهم عليها إذا بلغوا عشراً، وهذا يعني التدريب عليها، وغرس فضيلة الأدب فيهم حتى يشبوا وقد انطبع في قلوبهم حب الفضيلة وبغض الرذيلة، ففي الحديث: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"([24]).
فالولد أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة؛ خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش فيه، ومائل إلى عمل ما يميل إليه، وعلى الوالد ألا يسهو عن تأديب ولده؛ وذلك بأن يُحَسِّن عنده الحسن، ويُقَبِّح في عينيه القبيح، وليحثه على مكارم الأخلاق، وجميل الآداب، وليحضه عل تَعَلُّم العلم والأدب، ويدربه على ذلك.
ومن جميل الشعر، قالوا:
عَوِّد بنيك على الآداب في الصغر كيما تَقّرَّ بهم عيناك في الكِبَر
فإنما مَثَل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها ولا يُخاف عليها حادث العِبَر
ولقد ضرب رسول الله e المثل الأعلى في الرفق في تربية الأطفال وعلاج أخطائهم بروح الشفقة والرأفة والعطف والرحمة، واعتبر e الغلظة والجفاء في معاملة الأطفال نوعاً من القسوة في القلب، وهدد المتصف بها بأنه عرضة لعدم حصوله على الرحمة من الله، فقال e: "إنه مَن لا يَرحم لا يُرحم"([25]).
ومن الواجب في تربية الطفل أن ننتبه بأن تكون تربيته متكاملة بدنياً، وخُلُقياً، وروحياً؛ فكما تهتم الأسرة بغذاء أولادها، وتدقق في كميته ونوعه؛ فإن الاهتمام بتعامله مع الناس القريب والصديق والبعيد والغريب، من الأمور المهمة تربوياً.
كما يُعلم الطفل آداب الطعام منذ نعومة أظفاره، وكيفية الجلوس إلى المائدة، وأن يأكل مما يليه، ولا ينظر إلى طعام غيره، ولا إلى طريقة الجالسين معه في أكلهم، ونحذره من الشَرَه في الطعام، كما يُعَلَّم أن يغسل يديه قبل الطعام وبعده، إذا انتهى من الطعام حمد الله وهذه آداب جليلة دعا إليها الإسلام.
ويتبع حفظَ دِينه حفظُ عقلِه وفكرِه:
الحق الثالث: حق حفظ العقل: حق التعليم، وإبداء الرأي
إن الاهتمام بالطفل في تعاليم الإسلام ينطلق من نقطة الفطرة التي تؤكد أن الطفل الإنساني يولد متسماً بالعجز والاحتياج وبالتالي فإنه لا يستطيع القيام بالمهام التي تكفل له مقومات حياته أو ضروريات حياته دون أن تُقَدَّم له مساعدات مباشرة من أسرته أو المحيطين به لسنوات عدة.
حق الطفل في التسمية:
لعل من أهم حقوق الطفل نفسياً وفكرياً أن تكون له شخصيته وهويته، وبالتالي يحمل اسماً يعتز به، ولا يكون موضع هزء وسخرية، ولا موضع تهكم واحتقار، بل يكون اسماً ذا معنى محمود، أو صفة طيبة يرتاح لها القلب وتطمئن لها النفس، أو اسماً يبعث على الأمل والفأل الحسن، أو اسماً يدل على الشجاعة والنشاط والهمة.
والحكمة من تحسين الأسماء، وانتقائها من الكلمات التي تبعث البهجة والتفاؤل: ألا يشمئز الطفل من اسمه، ولا يشعر بنفور الناس منه، فيدعوه ذلك إلى كراهة المجتمع حوله واعتزاله إياه.
فالاسم هو الرمز الاجتماعي الذي يحصل عليه الطفل دالاً على ذاته ومحدداً انتماءه إلى أسرة محددة ينسب إليها، ومن ماهية الاسم يؤكد الإنسان حاجته إلى إثبات ذاته، فهو بدون الاسم يكون نكرة لا يُعرف في مجتمعه، ولا يعترف به مجتمعه.
إن الاسم معيار اجتماعي يحتاجه كل ليمارس شؤون حياته، وفى هذا العصر تعتبر شهادة الولادة الرسمية هي الدليل المادي لاسم الطفل وحقِه في الرعاية في مجتمعه أو الدولة التي ينتمي إليها، والمنهج الإسلامي لا يكتفي بمجرد التسمية للطفل ولكنه يدعو إلى تسميته بالاسم الحسن.
والشريعة الإسلامية اعتنت بتسمية الطفل واهتمت بها، ودعت إلى تسميته منذ الأيام الأولى من حياته بل منذ الساعات الأولى التي يولد فيها، قال رسول الله e: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم"([26])، وقال رسول e: "كل غلام رهين بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويُحْلَق رأسه"([27]).
إن من حق الطفل أن ينتقى له الأهل من الأسماء أحسنها وأجملها وأوضحها معنى استجابة لتوجيه النبي e فقد جاء توجيه الشريعة إلى ذلك في قول رسول الله e: "تسموا بأسماء الأنبياء"([28])، وقال e: "أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن"([29])، وقال رسول الله e: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وبأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم"([30]).
وعلى الأهل أن يجنبوا الأطفال الأسماء القبيحة التي تمس كرامتهم، وتكون مدعاة للاستهزاء بهم والسخرية منهم، كما جاء عن عائشة: كان يغير الاسم القبيح([31])، وعن ابن عباس عن رسول الله e أنه قال: "من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه"([32]).
ومن المهم أن نتذكر أن الشورى مبدأ من المبادئ التي يحسن أن تسود الجو الأسري؛ فعندما ترزق الأسرة بمولود ذكراً كان أو أنثى، فاختيار اسم المولود يكون بناء على مشورة بين الزوجين وأفراد الأسرة.
إن تسمية الأولاد بأسماء الرجال الذين شاع ذكرهم في التاريخ الإسلامي مثل عمر، وعثمان، وعلي، والفضل، وسعد، وسعيد، وعمرو، وخالد، وعقبة: تبعث نشاطاً في الأمة ويوحى باعتزاز الأمة برجالها العظماء الذين سطروا أروع المنجزات الفكرية والعلمية والعسكرية والسياسية في تاريخ الأمة، ويحفظ لها هويتها وخصائصها واعتزازها بدينها وتاريخها، وقيمها الإنسانية الذاتية.
ومن دواعي حفظ عقل الطفل: الاهتمام والعناية برضاعه وتغذيته:
فالطفل يحتاج في الأشهر الأولى من حياته إلى الرضاع، وبالتالي تتعين الأم لرضاع ولدها، وتجبر على ذلك إذا لم يكن للولد ولا لأبيه مال يستأجر به مرضعة، ولم تُوْجَد مرضعة متبرعة، قال الله تعالى: ]والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة[[البقرة: 233]، وتنطوي هذه الآية على وجوب إرضاع الأم لولدها، وحليب الأم هو أفضل غذاء يقدم للطفل حسب رأى الأطباء المختصين لأنه الغذاء الفطري الملائم لصحة الطفل.
والرضاعة حق على الأم، لأن حليبها المختلط بالحنان والعطف هو أصلح غذاء لنمو الطفل بدنيا ونفسياً وروحياً، إذ هي تفيض عليه الرحمة والحب وهو يرضع من ثدييها حين تضمه إلى صدرها، وحليب الأم تتمة غذائه حين كان جنيناً في أحشائها، فالطفل جزء من كيان الأم وفلذة من كبدها، فلذلك كان حليبها أصلح شيء لمولودها ما لم تكن هناك علة مانعة للرضاعة ولها وجه شرعي وليس سببا دنيوياً ومادياً تمنع به الطفل من الرضاعة لوجوب ذلك على الأم باعتباره حقاً من حقوق الطفل لمدة عامين تامين، ولعلم رب العالمين والناس بأن هذين العامين فيهما كفاية لتأسيس نمو الطفل.
وحفظاً لحق الطفل، والحفاظ على صحة الطفل بالإرضاع من الأم المطلقة جعلت الشريعة الإسلامية للأم حق النفقة والأجر كسوة وإطعاماً، وحددت هذه النفقة بحيث تكون لائقة بحال الأم ومكانتها في قومها وبيئتها، ولا تلحقها غضاضة في نوعها ولا في طريقة أدائها إليها، ومما يشمل النفقة بالمعروف وكثرتها أو قلتها أن يكون ذلك بحسب قدرة الأب وضمن حدود طاقته، وذلك لقول الله تعالى: ]لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده[[البقرة: 233]، وقوله تعالى: ]لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً[[الطلاق: 7].
وقد أثبتت الأبحاث العلمية النفسية أن الطفل الذي يرضع من ثدي أمه لا يرضع الحليب فقط، إنما يرضع معه الحب والحنان، فيحس بدفء الأمومة وحنانها، وهذا يساعد الطفل على أن ينمو في صحة نفسية جيدة، ويكون بعيداً عن الإصابة بالأمراض النفسية في مراحل عمره اللاحقة، وللرضاعة الطبيعية دور في سلوكيات الإنسان، فقد بينت الدراسات التي أجريت على بعض محترفي الإجرام في العالم أن كثيراً منهم قد حرموا من الرضاعة الطبيعية في طفولتهم.
ومن أجل ضمان صحة الطفل وحقه في الحياة من حق الإرضاع فإن الله سبحانه وتعالى قد أباح للمرضع الفطر في رمضان إن خافت على نفسها أو على رضيعها، فالرضاعة الطبيعية رحمة من الله للأم والطفل، وليست عناءً وتعباً تتعلل الأم به لكي تقدم عملها على حق طفلها ولكي تحافظ على رشاقة صدرها، مع الإشارة فقد رخَّص الإسلام للمرأة المرضعة أن تترك العبادة (الصيام) لأجل إرضاع ولدها، فكيف بِمَن تترك رضاع ولدها بحجة المحافظة على حسن جسدها!!!.
ولا شك أن هذه المهمة تحتاج إلى نفقات مالية وتوجبها على الأب أو الولي أحكام الشريعة الإسلامية وتلزمه بها، قال الله تعالى: ]وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف[[البقرة: 233]، وإيجاب النفقة للأمهات ينعكس على صحة الأولاد بالخير والمصلحة، وقال رسول الله e: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة ـ أي عتق رقبة ـ ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، وأعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك"([33]).
وإذا تقاعس الأب في الإنفاق على الأسرة والأطفال وبخل في ذلك فإنه يرتكب الوزر والإثم لما يؤدى إحجامه عن الإنفاق إلى ضياع الولد وشذوذه وانحرافه، قال رسول الله e: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته"([34]).
والنفقة على الأهل والعيال تكون بتهيئة الغذاء الصالح، والمسكن الصالح، والكساء الصالح، حتى لا تتعرض أجسامهم للأسقام والعلل، وتنهك أبدانهم الأوبئة والأمراض، ووصل الفكر الإسلامي في ذلك إلى القمة من خلال تشريع أحكام تُلْزِم الأب بالنفقة على عياله عن طريق القضاء فيما إذا تخلف أو قَصّر.
كما ألزم المشرع الأب بنفقة معالجة أولاده عند حاجتهم إلى المعالجة.
ولما كانت صحة الولد هي الأصل للمحافظة على عقله وفكره فإنه وفى حالة عدم قدرة الأب على ذلك نظراً لأنه معسر، فإن على الأم الموسرة، أن تقوم بمعالجة الطفل على نفقتها على أن يعتبر ذلك ديناً على الأب وتأكيداً على ضرورة توفير الرعاية الصحية للطفل في كل الظروف ولذلك فإن نفقة معالجة الطفل تتوجب على من تجب عليه نفقته إذا كان الأب والأم معسرين.
وسلامة البدن والعقل لكل إنسان وجه من وجوه السعادة وحق لصحته الجسمية وصحته النفسية، ولقد أمر الإسلام بالحفاظ على صحة الأبدان والقلوب والعقول، وأمر بالتداوي، والشريعة الإسلامية فيها كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدل على اهتمام الإسلام بالطب والصحة والغذاء المادي والغذاء الروحي، والصحة النفسية للأطفال تبقى من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الأهل كمربين.
العناية بصحة الطفل:
ومن المسؤوليات الكبرى التي أوجبتها تعاليم الإسلام على الآباء والأمهات والمربين، مسئولية العناية الصحية والجسمية للأطفال، لينشؤوا متمتعين بسلامة البدن وقوة الجسم والحيوية والنشاط، قال رسول الله e: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير"([35]).
فمن حق الطفل أن يُزَوَّد بثقافة صحية، وأن يُعَوَّدَ على اتباع القواعد الصحية في مأكله ومشربه وملبسه بهدف وقاية جسمه من الآفات المرضية والأمراض السارية.
ومن العناية بصحة الطفل: الختان([36]) وهو من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، فهو مُكَمِّل الفطرة التي فطرهم عليها.
وقد وردت كثير من النصوص التي تحث على الختان، وتبين أهميته، منها قول رسول الله e: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط ، وقص الشارب، وتقليم الأظافر"([37]).
فالختان واجب على كل مسلم، ومن الأحكام الشرعي: أن من لم يختتن تُرَدُّ شهادته، ولا تؤكل ذبيحته، ولا يكون للناس إماماً([38]).
وقد أكد الإسلام على أهمية الختان؛ لما فيه من الطهارة، والنظافة، والتزين، وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجماد؛ فالختان يعدلها([39]).
وحفاظاً على عقل الطفل ونفسيته فله الحق في العيش في أسرته:
فلقد عنيت الشريعة الإسلامية بالأسرة ورسمت لها الطريق السوي، كي يدوم الصفاء وتستمر الألفة والمحبة وتسود الرحمة والمودة، حتى يعيش الأولاد في أحضان الأبوين عيشة كريمة، بعيدة عن النكد والشحناء، فأمرت برعاية الولد والمحافظة على حياته وصحته وتربيته وتثقيفه بين الأبوين، وهذا ما يعرف بالحضانة، حتى عندما تنفصم عرى الزوجية وينفصل الزوجان، لم تترك الشريعة الأولاد للضياع والتشرد، وإنما عملت على التوجيه لتربيتهم وحمايتهم والمحافظة عليهم، حتى يصلوا إلى مرحلة تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم وإدراك مصالحهم.
ومن حق الطفل أن يعيش في أسرته التي أنجبته، فعلى أسرته هذه أن تشرف على شئونه الجسمية والنفسية، وتمنحه العطف والحنان وحسن الرعاية، وتضمن له حق الكرامة، بعيداً عن العنف، وعن الشقاق والنـزاع والخصام، وعن عذابات النفس وأوجاع الضمير.
وقد حفلت كتب الفقه الإسلامي بهذا الحق، وهى تشرح أحكام الولاية والحضانة والرضاع والوصاية والنسب وأحكام الإصلاح بين الزوجين إذا ما دَبَّ الخلاف بينهما.
فالأسرة هي المحضن الفطري الدافئ الأمين الذي يجد فيه الأطفال الراحة والأمن والطمأنينة والسعادة، فالشأن فيها أن تحافظ على صحتهم، وتُنَظِّم أوقات طعامهم، ونومهم، ويقظتهم، ومواعيد دراستهم، وأن تذكر باستمرار مدى حاجتهم إلى نظافة أجسامهم فلا تهمل نظافتهم في أي وقت من الأوقات، فالنظافة سبيل لوقايتهم من الأمراض والعلل، وطريق لضمان صحة قوية جيدة لهم.
ولا تستطيع أي مؤسسة أخرى غير أسرة الطفل أن تقوم مقامها، ولا تؤدى دورها ولا تؤثر تأثيرها في تربية الطفل.
وحرصاً على الطفل من التشتت الذهني والعقلي كان التوجيه الإسلامي:
بحق الطفل في الحضانة:
الحضانة حق للطفل منذ ولادته وهى تربيته ورعايته والقيام بجميع شئونه؛ من تدبير طعامه، وملبسه ونومه، والاهتمام بنظافته وصحته البدنية والنفسية في سن معينة ممن عليه حق تربيته شرعاً من الوالدين، أو من الأقارب والأرحام إن كان ولداً يتيماً.
والأولوية في حق الحضانة للأم أولاً:
الأم النَّسَبِيَّة أحق بحضانة ولدها وتربيته حال قيام الزوجية وبعد الفرقة، ثم بعد الأم يعود الحق لمن تلي الأم من النساء حسب الترتيب المنصوص عليه في الفقه الإسلامي.
ويشترط في الحاضنة أن تكون بالغة عاقلة أمينة لا يضيع الولد عندها؛ لانشغالها عنه، وأن تكون قادرة على تربيته وصيانته، وألا تكون متزوجة بغير مَحْرَم للصغير، وألا تمسكه في بيت مبغضيه، فعقد زواج الحاضنة بغير قريب محرم من المحضون تسقط حضانتها.
وإذا تعدد أصحاب حق الحضانة الذين هم في درجة واحدة فللقاضي حق اختيار الأصلح للمحضون، ولا تستحق الأم أجرة للحضانة حال قيام الزوجية أو في عدة الطلاق الرجعى، وتمتد حضانة الأم التي حبست نفسها على
عدد القراء : 5316