shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

المواطنة في المجتمع الإسلامي

 

مبادئ وأصول في التعامل مع المواطنة

مقدمات:

1 - إن الشريعة مبنية عموماً على جلب المصالح، ودرء المفاسد، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده به فهوباطل([1]).

2 – المطلوب من الإنسان شرعاً، وتجاوباً مع فطرته السليمة أن يُعْمِل روح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها، فكل قول، أو رأي، أو فعل، نافى روح الأخوة، فقد غفل صاحبه عن أصل من أصول الإسلام عظيم.

3 - الإسلام دين القسط والعدل والحق، فكل رأي نافى القسط الذي أمر به القرآن، أو العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، أو الحق الذي به يحتمي الناس، فهو مردود ومناف لروح الإسلام.

[فالشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.

فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، ورحمته الدالة عليه، وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل] ([2]).

من هذه المقدمات ستتمدراسة قضية المواطنة من جهتين:

الأولى: موقف الإسلام من مبدأ المواطنة، ممثلاً في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إنه عليه الصلاة والسلام خير من طَبَّق الإسلام فهماً وعملاً.

والثانية: التطبيق العملي عبر تاريخ المسلمين للمواطنة، وحقوقها.

من تثبت له المواطنة؟

إن كل من يعيش في بلد ما، فهو مواطن كامل، له حقوق المواطنة، يتمتع بجنسية الدولة، بغض النظر عن دينه ومعتقده.

فالدين مسألة بين الإنسان وربه، لا يتدخل فيها قانون البلد، والمواطنة عقد اجتماعي تُلزم بالتقيد بالقوانين المرعية في البلد.

موقف الإسلام من مبدأ المواطنة

هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة، فوجد في المدينة غير مسلمين، سكنوا المدينة من قديم، وهم من أهلها وساكنيها، فمنهم من كان على الشرك، ومنهم من كان من أهل الكتاب وتحديداً اليهود.

ومن المعلوم: أن أي دولة لها أركان: من حيث الشعب، والأرض أو الوطن، والدستور، ورئيس الدولة.

فالشعب في زمن النبوة هو كل من سكن المدينة المنورة؛ من مسلمين ويهود ومشركين.

والوطن: المدينة المنورة.

والحاكم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بقي الدستور الذي سيحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فلم يتجه فكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والإلغاء، بل قَبِل ـ عن طيب خاطر ـ وجود اليهود والوثنيين، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة النِّد للنِّد، على أن لهم دينهم وله دينه([3]).

وثيقة المدينة مع اليهود

فكانت وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، والتي أقتبس منها ما ينظم العلاقة بين المسلمين مع غيرهم.

ولنتأمل النص لنرى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعتمد فيها مبدأ المواطنة، بحيث وضعت فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها.

ومن هذا الدستور نقرأ هذه المواد التي أمر بكتابتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

1ـ هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلحق بهم وجاهد معهم.

2ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس.

3ـ وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر، والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.

4ـ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم، فإنه لا يُوْتِغُـ يُهلِك ـ إلا نفسه وأهل بيته.

5ـ وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

6ـ وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

7ـ وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

8ـ وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.

9ـ وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

10ـ وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

11ـ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

12ـ وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.

13ـ وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.

14ـ وإن بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرجل: أي: خاصته وأهل بيته).

15ـ وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.

16ـ وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.

17ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

18ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

19ـ وإن الجار كالنفس غير مُضارًّ ولا آثم.

20ـ وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.

21ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم، أو آثم، إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([4]).

اعتبرت هذه الوثيقة اليهود ـ وهم أهل كتاب سكنوا المدينة المنورة ـ من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة: (وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم).

ثم زاد هذا الحكم إيضاحاً، في فقرات أخرى فقال: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين... إلخ) ([5]).

وهكذا يُلاحَظ:

1 - بأن الإسلام أعطى كل إنسان ـ مهما كان المعتقد الذي في قلبه ـ أعطاه حقه بحسب ما يقدِّم من جهد في مجال البذل والعمل، مع إقرار الضمان والحماية لكل مواطن كائناً من كان، أي بغض النظر عن معتقده؛ ما دام مؤدياً لواجبه.

وفي حال كونه أصبح عاجزاً عن الأداء ـ بسبب قهري ـ، فإن المجتمع يتولاه عن طريق التكافل.

2 - ويُلاحظ بأن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجاء الوطن الواحد (الأرض) مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس ـ بمقتضى أحكام الصحيفة ـ سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة([6]).

3 - كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن([7]).

معاهدة النبي مع نصارى نجران

وإذا كان ما مضى من قراءة وثيقة المدينة تم التركيز فيه على يهود، فإنه قد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد يقوم بمعاهدة ووثيقة أخرى مع فئة أخرى من أهل الكتاب، وهي مع نصارى نجران، وفيها جاء ما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما كتب محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل نجران:

1ـ إذ كان عليهم حُكمُه في كل ثمرة، وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق، فأفضلَ ذلك عليهم، وترك ذلك كله لهم، على ألفي حلة من حلل الأواقي: في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية من الفضة.

2ـ فما زادت على الخراج، أو نقصت عن الأواقي فبالحساب.

3ـ وما قضوا من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عروض أُخذ منهم بالحساب.

4ـ وعلى نجران مؤنة رسلي، ومتعتهم، ما بين عشرين يوماً فما دون ذلك، ولا تحبس رسلي فوق شهر.

5ـ وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمن ومعرَّة.

6ـ وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عرض، فهو ضمين على رسلي، حتى يؤدوه إليهم.

7ـ ولنجران وحاشيتها، جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.

8ـ لا يُغَيَّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته.

9ـ وليس عليهم رُبّيّة، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون([8])، ولا يعشرون([9])، ولا يطأ أرضَهم جيشٌ.

10ـ ومن سأل منهم حقاً فبينهم النَصف غير ظالمين ولا مظلومين.

11ـ ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة.

12ـ ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر.

وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم) ([10]).

تجديد أبي بكر رضي الله عنه العهد للنجرانيين:

وقد قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بتجديد العهد مع النجرانيين، فكتب لهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما كتب به عبد الله أبو بكر، خليفة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل نجران:

أجارهم بجوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وأموالهم، وحاشيتهم، وعبادتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير، لا يُحشرون.

ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وفاء لهم لكل ما كتب لهم محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله، وذمة محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً.

وعليهم النُصح والصلاح فيما عليهم من الحق([11]).

تشريعات الإسلام وتعزيزها المواطنة

حرمة الدماء والأموال والأعراض:

شدد الإسلام في حرمة الدماء والأموال والأعراض بوجه عام، ويستوي في ذلك دم ومال وعرض المسلم وغير المسلم الذي ليس محارباً للمسلمين.

فلو زنى مسلم بغير مسلمة أقيم عليه حد الزنى، فلم يشترط الفقهاء لإقامة الحد على الزاني أن يكون الزنى بمسلمة([12]).

وكذلك لو سرق مسلم مال غير مسلم أقيم عليه حد السرقة، إذا ثبت عليه، وشهد شاهدان بذلك([13]).

ولو سفك مسلم دم غير المسلم يُقْتل به، على ما نرجحه من أقوال الفقهاء، وهو مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة، فهو أولى بالترجيح، وأوفق لعموميات الكتاب والسنة، وأرسخ لمبدأ المساواة والعدل، واحترام الإسلام للدماء، وحرصه على حقنها، وتشديده على حرمتها.

وهو ما أفتى به أمير المؤمنين: عمر بن الخطاب، وذلك عندما قَتَلَ رجلٌ من المسلمين رجلاً من العِبَاد([14]) فذهب أخوه إلى عمر، فكتب عمر: أن يُقتل، فجعلوا يقولون: اقتل حُنين، فيقول: حتى يجيء الغيظ، فعفى ولي الدم، فكتب عمر: أن يُودَى ولا يُقتل([15]).

يقول الإمام الطحاوي: فهذا عمر رضي الله عنه قد رأى أيضاً أن يقتل المسلم بالكافر، وكتب به إلى عامله بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينكره عليه منهم منكر([16]).

إيذاء غير المسلم

وكما يحرم دم غير المسلم، وماله، وعرضه، يحرم كذلك إيذاؤه بأي لون من ألوان الإيذاء كان، فعن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم رأى ناساً من أهل الذمة قياما في الشمس، فقال: ما هؤلاء؟ فقالوا: من أهل الجزية. فدخل على عمير بن سعد وكان على طائفة الشام فقال هشام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من عذَّب الناس في الدنيا عذبه الله تبارك وتعالى) فقال عمير: خلوا عنهم([17]).

غيبة غير المسلم

وربما تساهل بعض الجهلة بدينهم من المسلمين في قضية غيبة غير المسلم ظناً منه أنه أمر حلال في شأنه، وقد شدد الإسلام في ذلك أيما تشديد، فساوى بين غيبة المسلم وغير المسلم.

حرمة أماكن عبادتهم وعقائدهم:

بل حرم الإسلام المساس بأماكن العبادة لغير المسلمين، أو التجريح لهم في عقائدهم، وترك الحرية لهم في تجديد كنائسهم وتعميرها، بما يراه أولو الأمر مناسباً، من حيث تنظيم وإدارة الأمور.

وإذا قرأنالدى بعض الباحثين عند تناول مثل هذه القضايا، وتحديداً قضية بناء الكنائس وتجديدها، أنه عاد إلى تقسيم الفقهاء إلى البلاد التي فتحت عنوة، والبلاد التي فتحت صلحا، والبلاد التي مصرها (أي أنشأها وعمرها) المسلمون، وأنه بناء على هذا التقسيم هل يجوز للنصارى أن يجددوا كنائسهم أو ينشئوا كنائس جديدة أم لا؟

فإننا نقول: هي أحكام بنيت في معظمها على رد الفعل من غير المسلمين، أو بناء على أفعال صدرت منهم جعلت الريبة في الحكم تسود أحكامهم وأفكارهم.

على خلاف عالمين مصريين عاشا في ظل مفهوم المواطنة، وتعاملا مع قضية بناء الكنائس وتجديدها بهذا المبدأ، وهما:

الفقيه الإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب،

والآخر المحدث عبد الله بن لهيعة،

ورأيهما في بناء الكنائس من أنضج الآراء، إذ يقولا: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام([18]).

وهو ما مال إليه أيضاً: الإمام ابن القاسم المالكي([19]).

وقد حافظ عمر بن الخطاب على كنيسة القيامة عندما فتح بيت المقدس، ورفض الصلاة فيها، مخافة المساس بها من المسلمين فيما بعد.

تطبيق الرسول لمواثيق المواطنة

ورسخت الأيام والمواقف الاتفاق بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واليهود، وإن قابله اليهود بالغدر والخيانة، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظل على خلقه الكريم معهم، في تمسكه ببنود هذه الوثيقة.

فقد ذهب إليهم صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية قتيلين، ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما، ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لليهود تنفيذا للعهد الذي بينه وبين بني النضير حول أداء الديات، فدبروا لقتله بأن أوعزوا إلى أحدهم أن يلقي عليه حجراً من فوق الجدار الذي جلس إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم([20]).

فلماذا يذهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود للتعاون معه في دية قتل خطأ ارتكبه مسلم، إلا بناء على مبدأ المواطنة، وأنهم شركاء في وطن واحد، هو المدينة المنورة.

كما أننا عندما نتأمل في تمكين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لليهود من ممارسة تجارتهم، وأعمالهم، لدرجة احتكار تجارات معينة ليست لأحد سواهم، ولم ينازعهم فيها أحد من المسلمين: كتجارة السلاح، والذهب، وغيرها، وامتلاكهم لزمام إدارة الأسواق في المدينة المنورة، وهذا يتضح في حادثة يهود بني قينقاع عندما ذهبت امرأة مسلمة لسوقهم، فراودها أحد اليهود لتكشف وجهها فأبت، فلما جلست عمد إلى حيلة كشف بها عورتها عند قيامها، فصرخت، فسمع بصراخها مسلم كان موجودا بالسوق، فتشاجر مع اليهودي، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه([21]).

فبنظرة تأملية على هذا الموقف يثبت: أن المسلم لم يجد من يقف معه من المسلمين عندما تصارع مع اليهودي، بل وجد خصمه اليهودي أنصاراً كثيرين له مما أدى إلى قتل المسلم، دلالة على أن اليهود قد كان لهم زمام السوق وما فيه، وهو تواجد لا ينافسهم فيه أحد.

ثم زاد هذا التوثيق والتأكيد لمبدأ المواطنة، حتى بعد إجلاء اليهود الذين غدروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطردهم من المدينة، فقد كان من سلوك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العملي مع اليهود، من حيث تعاملاته في الشؤون المدنية والجنائية الخاصة باليهود، فقد احترم العهود معهم، واحترم خصوصياتهم التشريعية.

ففي الشؤون المدنية توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهون عند يهودي.

وظلت أسواقهم في المدينة المنورة كما هي، لم يصادرها منهم صلى الله عليه وآله وسلم، بل تركها لهم، وترك تجارتهم.

كما طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود زراعة أرض المدينة مقابل النصف، فهم أهل خبرة في الزراعة أكثر من أهل المدينة.

وكان اليهود مَهَرَةً في بيع الأسلحة وصناعتها، واشتهروا بأنهم تجار السلاح في المدينة وغيرها، وبذلك يكون لهم اليد العليا في أمور الأسلحة أو بما يسمى في عصرنا: التصنيع الحربي.

ولنتأمل هذا الواقع: إذا كانت أسواق الذهب وغيره عندهم، وبذلك يكونون قد سيطروا على وزارة التجارة والتموين باصطلاحنا المعاصر، والسلاح هم تجاره، يبيعونه للمسلمين وغيرهم، ويكونون بذلك قد سيطروا أيضاً على التصنيع الحربي. وكذلك الزراعة، فماذا بقي للمسلمين من السيطرة المزعومة واضطهاد غير المسلمين، أو التفاضل للمسلم على غيره؟!.

وفي الشؤون الاجتماعية كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خادم يهودي ومرض فزاره صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته وأسلم الغلام.

كل هذا يدل على أن الدولة التي أسسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تفرق في المعاملة بين المسلمين وغيرهم أيا كانت ديانتهم، بل قامت على أساس الانتماء للوطن الواحد، والدفاع عن أرضه، والولاء له، والنزول على قوانينه.

السياق التاريخي للمواطنة عند فقهاء المسلمين

وترسخ هذا الفهم في نفوس المسلمين جميعا، لأنه شرعهم ودينهم، فرأينا جيل الصحابة، وعصر الخلفاء الراشدين يترسخ فيه هذا المعنى ويتأكد.

وقد وقف التاريخ وقفات طويلة أمام موقف عمر بن الخطاب من غير المسلمين في عدله ومساواته وإنصافه، من هذه المواقف: موقف القبطي الذي تسابق مع ابن عمرو بن العاص والي مصر، وسبق القبطي ابن عمرو، فلطم ابن عمرو القبطي، وقال له: أنا ابن الأكرمين. فانتظر القبطي إلى موسم الحجيج وذهب إلى عمر بن الخطاب في مكة المكرمة يشكو من ابن والي مصر، فأرسل عمر إلى عمرو وابنه أن يحضرا، وقال للقبطي: اضرب من ضربك، اضرب ابن الأكرمين، ثم بعدها قال عمر للقبطي: اضرب عَمْراً على صلعته، قال القبطي: يا أمير المؤمنين إنما ضربت من ضربني، فقال عمر بن الخطاب قولته التي صارت قانونا، وصارت المادة الأولى من مواد مواثيق حقوق الإنسان: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!! ([22]).

ورغم ما حدث لم يُسْلِم القبطي (لم يدخل في الدين الجديد)، ولم يقايضه أحدٌ على أخذ الحق له بالإسلام، هذا القبطي الذي كان قبل الإسلام في مصر لا يرفع رأساً أمام البيزنطيين، حتى جاء الإسلام وكفل له حق أن يشكو ابن واليه إلى الخليفة.

ثم نرى العدالة الاجتماعية التي يطبقها عمر بن الخطاب مساواة لغير المسلم بالمسلم، حين يرى يهودياً يتسوَّل، لأنه لا يملك أن يدفع الجزية، فيأمر له بعطاء يُصرف له من بيت مال المسلمين، قائلا: والله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ولا نرعى شيبته!

ولما عرّض أبو لؤلؤة المجوسي في كلامه بما يفصح عن نيته قتل عمر، واقترح أحد الصحابة سجن أبي لؤلؤة رفض عمر بن الخطاب هذا الاقتراح، لأنه لم يرتكب جُرْماً([23]).

ثم تجلى تطبيق مبدأ المساواة أكثر على يد فقهاء المسلمين، فرأيناهم يجيزون للمسلم أن يتصدق من ماله على غير المسلم، وأن يعطيه من النذور والكفارات، مستشهدين بآيات من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، والآية مكية، وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك.

بل رأينا من أئمة التابعين من أعطى الرُّهبان من صدقة الفطر، على ما تمثله صدقة الفطر من أهمية كبرى عند المسلم من عدة جهات،

أولاً: إنها مرتبطة بفريضتين هامتين في الإسلام: الزكاة والصوم، فهي مقرونة بشهر رمضان، وهي مطهرة للصائم من اللغو والرفث.

ثانياً: أن زكاة المال يجمعها الحاكم أو الدولة لتوزعها على الفقراء، أما صدقة الفطر فالمستحب أن يوزعها المسلم بنفسه.

ثالثاً: أن زكاة المال تجب على من ملك نصاب الزكاة وهو مبلغ قلما توفر مع الفقير، أما صدقة الفطر، فهي تجب على من يملك قوت يوم وليلة العيد، ومعنى هذا أن عدد معطي زكاة الفطر أكبر من زكاة المال.

ورأينا فقيهاً هو ابن تيمية، يضرب مثلاً رائعاً لتطبيق مبدأ المواطنة، والحفاظ على أخوة الوطن الواحد، لا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم، وذلك عندما أُسر عدد من المسلمين وغير المسلمين عند ملك التتر، فكتب رسالة لملك قبرص يشرح له موقفا حدث له مع ملك التتر عندما أسر عنده مجموعة من أبناء الوطن.

يقول ابن تيمية لملك قبرص المسيحي: (نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة؛ أعظم ما عُبد الله به: نصيحة خلقه… وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم (غازان) فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذِمَّتنا، فإنا نَفْتَكّهُم، ولا ندع أسيراً من أهل المِلَّة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا إحساننا، والجزاء عند الله) ([24]).

وعندما جاءت الحملات الصليبية لغزو بلاد المسلمين والعرب، في تسع حملات، لم يسمها المؤرخون المسلمون بالحملات الصليبية، لعدم جرح شعور غير المسلمين من أهل الصليب، بل سموها حروب الفرنجة، لأنهم علموا أن الغازين لم يستهدفوا المسلمين فقط، بل استهدفوا العرب جميعاً للسيطرة على بلادهم وخيراتهم، وحارب المسلمون وغير المسلمين معا لصد هذا الغزو، وأصر مؤرخو أوربا على تسميتها بالحروب الصليبية.

هذه قراءة فقهية لمفهوم المواطنة ي المجتمع الإسلامي، فماذا يريد المتطرفون أن يقولوا أو يفعلوا وفي إرثنا الحضاري كل هذا المجد المتصل بالنصوص الشرعية والتطبيقات العملية؟!!!

 

([1])يُنْظَر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام لسلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، وعلى الأخص (2/142)، ومقدمة الأشباه والنظائر للسيوطي، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 90، والمدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقا (2/99).

([2])إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، (3/15،14).

([3]) يُنْظَر: فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 196.

([4]) يُنْظَر: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله ص 41-47.

([5]) يُنْظَر: السيرة النبوية للدكتور محمد علي الصلابي (1/571).

([6]) يُنْظَر: نظام الحكم لظافر القاسمي (1/37).

([7]) يُنْظَر: وثيقة المدينة .. المضمون والدلالة للأستاذ أحمد قائد الشعيبي ص 209.

([8])لا يحشرون: لا يندبون إلى المغازي، ولا تضرب عليهم البعوث.

([9])لا يعشرون: لا يؤخذ منهم عشر أموالهم في التجارات.

([10]) يُنْظَر: الخراج لأبي يوسف ص 72، وإمتاع الأسماع للمقريزي (1/502) ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله ص 142،141.

([11]) يُنْظَر: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله ص 158، 159.

([12]) يُنْظَر: الخراج لأبي يوسف ص189، وفتح القدير (4/155) والشرح الصغير (2/390) والمهذب (2/283) والمغني (8/181) نقلا عن: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان ص 254.

([13]) يُنْظَر: بدائع الصنائع (7/71) والمغني (10/276) ومغني المحتاج (4/175) ولمزيد من التفصيل انظر:  العلاقات الخاصة بين المسلمين وغير المسلمين للدكتور بدران أبو العينين بدران ص 274-277. وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام للدكتور عبد الكريم زيدان ص 270، 271.

([14])العباد: قبائل شتى اجتمعوا على النصرانية بالحيرة.

([15])رواه ابن أبي شيبة (9/292-293) وعبدالرزاق (18520) والبيهقي (8/32) وذكره الطحاوي أيضا في (شرح مشكل الآثار) عن النزال بن سبرة.

([16]) يُنْظَر: شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي (3/196).

([17]) رواه أحمد في مسنده (14908) (3/403) وابن حبان (5612).

([18]) يُنْظَر: تاريخ مصر وولاتها للكندي ص131. نقلا عن: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري للمستشرق الألماني آدم متز ص69.

([19]) يُنْظَر: أحكام الذميين والمستأمنين ص 82-85.

([20]) يُنْظَر: سيرة ابن هشام (3/192،191) وتفسير الطبري (6/145،144) والدر المنثور للسيوطي (3/37،36).

([21]) يُنْظَر: سيرة ابن هشام (3/54).

([22]) يُنْظَر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم ص 290.

([23])في وجود أبي لؤلؤة المجوسي في المدينة المنورة دليل على دفع ما يثار حول عمر بن الخطاب من أنه استأصل غير المسلمين، وأزالهم من الجزيرة العربية تماما، والمعلوم أن أبا لؤلؤة غير مسلم.

([24])الرسالة القبرصية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص22. نقلا عن: ابن تيمية للعلامة الشيخ محمد أبي زهرة ص384.

عدد القراء : 1056