تأملات في الاجتهاد الفقهي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب رب العالمين، وعلى آله وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن القرآن الكريم هو المادة الأوَّلية - الخام - للفقه الإسلامي، وتأتي السنة النبوية تابعة للقرآن، فهي المادة الواسعة المساعدة، ليكون الفقه الإسلامي المادة العملية في حياة المسلمين، إذ به تُقَوَّم العبادات، وتُصحّح المعاملات، وسائر الأحوال والأنشطة التي تَعرِض في حياة المسلمين؛ جلباً لمصالحهم، ودرءاً للمفاسد عنهم.
والسبيل إلى الاستفادة من نصوص الشريعة الإسلامية يكون عن طريق الاجتهاد الذي هو عملية مزج المسائل المستجدة، والوقائع النازلة مع أصولها التشريعية، ليُعرف حكمها وبدون ذلك المزج والإسقاط بين الفرع والأصل بجامع العلة بينهما؛ لا يتحقق هدف الشريعة الكامل، ولا يَظهر مقصدها.
فالفقه الإسلامي – في حقيقته وجوهره - هو فقه الحياة الإنسانية الراقية.
ولعل من أهم أسباب تخلف المسلمين وتراجعهم: غياب الاجتهاد عن الساحة العملية، وجمود المشتغلين بالفقه عند نصوص الفقهاء المتقدمين زمناً، دون التمحيص والتدقيق في صلاحية أقوال أولئك الفقهاء، وملاءمتها مع الحياة.
ولسنا هنا بصد بيان الفارق بين مصطلح الشريعة (النصوص) والفقه (الفهم)، ويكفي أن نشير إلى ثبات الشريعة بنصوصها القرآنية والنبوية المعتمدة، كما نشير إلى حيوية الفقه وتميّزه بالمرونة والنماء والتطور بما يتناسب مع حال المسلمين؛ قوة وضعفاً، في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعل من المفيد التذكير بأن الأحكام الشرعية التي هي - خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين؛ أمراً أم نهياً أو إباحة – هي الثابتة، أما الأحكام الفقهية التي هي - فهم الفقهاء للنصوص الشرعية - فهي المتغيرة.
فما كان فهماً وفقهاً لعصر وزمن وحال، يمكن أن لا يكون دائماً مستمراً في كل حال، فقد يظهر أمر جديد وحال متغير يوجب إعادة النظر بالحكم الفقهي السابق، المعتمِد على الاجتهاد والفهم.
ولا يكشف هذا التجدد إلا المجتهدون، الذين هم بشارة نبي هذه الأمة، والرسول الخاتَم، رسولنا المصطفى محمد بن عبد الله r فقد قال:" إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " ([1]).
والتجديد لا يعني تغيير نصوص القرآن أو السنة، بل يعني تغيير الفهم لتلك النصوص بما يتناسب مع الحال المعاصر للمسلمين.
وللأسف فإن بعض علماء العصر تعودوا ألا ينظروا إلى القرآن والسنة إلا من خلال الفقه القديم، والتراث الزاخر على أنه الفاتح لمغاليق الفهم الصحيح من القرآن والسنة، وأي خروج عن نص الفقيه خروج عن الملة.
ولكن المطلوب هو تدبر القرآن الكريم، وتأمل السنة النبوية المعتمَدة؛ لفهم الحلول المناسبة لواقع اليوم الذي أصبح مختلفاً اختلافاً جذرِياً عن واقع الأمس البعيد في زمان الفقه الإسلامي القديم.
فالاجتهاد، مَلَكَة فطرية مكتسبة، تحصل للفقيه، يُمْكِنُه - من خلالها - أن يختار من النصوص والاجتهادات ما يتلاءم مع ظروف المسلمين وما يتناسب مع واقع الحياة.
وإذا كان التجديد في الفقهِ والفهمِ مطلوبٌ، فإن مسؤولية ذلك واقع على عموم المسلمين ليكون من بينهم طائفة من الأئمة المجتهدين، والفقهاء المخلصين، لينهضوا بشأن الأمة، ويُبعِدُوا عن النصوص الشرعية تحريف الغالين، وانتحال المبطلين.
وإن مما أضعف شوكة المسلمين عملياً مقولةٌ ظهرت في القرن الرابع الهجري، مفادها بأن باب الاجتهاد قد أُغلق.
وللأسف، فقد ظلت هذه المقولة تعمل عملها طوال ألف سنة، وانساق عموم المسلمين وراءها، وراحوا يردونها دون أن يدركوا مرماها، وشدة تأثيرها على صلاح الأمة.
إن الذي يقول بانسداد باب الاجتهاد وإغلاقه يحكم على الإسلام بالإعدام؛ من حيث إنه دين جامد لا يساير الحياة ولا يجاريها، وليس لديه حلول لمشاكلها المتعددة، والمتنامية والمتزايدة، زمناً بعد زمن.
إن من اللافت للنظر أن مقولة أخرى يرددها المسلمون، مفادها إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، بل الأصح القول بأن [ الإسلام هو دين كل زمان ومكان ]، فالصلاحية قد لا تحصل، أما الجزم فهو المراد، فالإسلام دين كل الأزمنة وكل الأمكنة.
وفي الحقيقة، فإن هذه البدهية لا تتحقق إلا بوجود الاجتهاد، فهو يُثري نصوص الشريعة، وبسببه تظهر خصوبتها، وباكتماله تتحقق الصلاحية.
هذا، وإن الاجتهاد من مستلزمات الرسالة الخاتمة، فالقرآن الكريم يؤكد أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، وأن رسول الله محمداً r هو خاتم النبيين والمرسلين.
وكون الرسالة خاتمة، يعني أنها دين الناس جميعاً إلى يوم القيامة، وقد قال الله تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلَامَ دِينًا[ [المائدة/3]، وقال عَزَّ من قائل: ] مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [ [الأنعام/38].
ومعلوم أن هذا لم يكن إلا في نطاق قواعد الدين ونصوصه الإجمالية، فهي كلية شاملة؛ لا نقص فيها ولا تفريط، تامة مُحْكَمَة.
أما التفاصيل والجزئيات، فأمرها متروك للمجتهدين، فالنصوص الشرعية (القرآن والسنة) محدودة الألفاظ، والأحداث والوقائع غير محصورة الحدوث، وهذا ما يدعو إلى الاجتهاد الدائم المستمر.
ولقد فهم الصحابة الكرام، والتابعون لهم بإحسان، قضية الاجتهاد على أنها روح هذا الدين، فقد ورد أن رسول الله r لَمَّا بعث معاذ بن جبل t إلى اليمن يعلمهم، قال له: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟"، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ:"فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟"، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ e، قَالَ:"فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ e وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟"، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو([2])، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ e صَدْرَهُ وَقَالَ:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ"([3]).
فالاجتهاد لا يعني نبذ نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة، بل هما الأصل، والاجتهاد فهم لهما، وإعمال للرأي إن لم يوجد نص من القرآن أو السنة، وهذه هي طريقة الصحابة الكرام في استنباط الأحكام، وكذا طريقة مَن بعدهم من التابعين والأئمة المجتهدين الأعلام.
فقد ورد: (أن خليفة رسول الله أبا بكر t كَانَ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ - القضايا المستجدة - نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ سُنَّةً قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟، فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e فِيهِ قَضَاءً فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ)([4]).
(وكان أمير المؤمنين عمر t يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة، نَظَرَ: هل كان فيه لأبي بكر قضاء؟ فإن وجد أبا بكر قَضَى فيه بقضاء قَضَى به، وإلا دعا رؤوس الناس، فإذا اجتمعوا على أمر قَضَى به)([5]).
ومن أجمع ما ورد في القضاء والحكم والإفتاء والاجتهاد كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t إلى أبي موسى الأشعري t، وقد أورده البيهقي بتمامه.
عن أبي العوام البصري([6]) قال: كتب عمر t إلى أبي موسى الأشعري t أن: (القضاء فريضة مُحْكَمَة، وسنة متبعة.
فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تَكَلُّمُ حقٍّ لا نفاذ له.
وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على مَن ادعى، واليمين على من أنكر.
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً.
ومَن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيتَه بحقه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية؛ فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى.
ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه لرأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ لأن الحق قديم لا يبطل الحق شيء، ومراجعةُ الحق خير من التمادي في الباطل.
والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة، إلا مجلود في حد، أو مجرب عليه شهادة الزور، أو ظنين في ولاء أو قرابة؛ فإن الله عز وجل تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان.
ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِيَ إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، وأعرف الأمثال والأشباه، ثم اَعْمَد إلى أحبها إلى الله فيما ترى، وأشبهها بالحق.
وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتنكر؛ فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر، ويُحْسِن به الذخر، فمَن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن تزين لهم بما ليس في قلبه شَانَه الله؛ فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً، وما ظنك بثوابِ غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته) ([7]).
وعن الشعبي قال: لما بعث عمر بن الخطاب t شريحاً([8]) على قضاء الكوفة، قال: (إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ e فَاقْضِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ e وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ)([9]).
وكان حبر الأمة ابْنُ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما - إِذَا سُئِلَ عَنْ الأَمْرِ فَكَانَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ)([10]).
وعن ترجمان القرآن ابن مسعود t قال: (قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نُسْأَلُ وَمَا نَحْنُ هُنَاكَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا سُئِلْتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - e -، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - e - فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَلَا تَقُلْ: إِنِّي أَخَافُ وَأَخْشَى؛ فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)([11]).
إن النظر في كتاب الله أولاً وسنة رسوله r ثانياً هو الأصل المتفق عليه، وما عداه ينظر إليه استئناساً، فما وَافَقَ حياتَنا أَخَذْنَا به، وما خالف اجتهدْنَا لمعرفةِ الحل، وليس من المناسب ترديد الفتاوى الاجتهادية، السابقة على أنها مُسلَّمات، لا يجوز الخروج عليها، فمثل هذا الترديد جمود وتشتيت بين اختلافات كانت - غالباً - راجعة إلى اختلاف المكان والزمان والأعراف بين المناطق التي كان يسود فيها رأي مجتهد.
فالاجتهاد تفاعل النصوص الشرعية مع الحياة والأحياء، والقائم بهذا هو المجتهد، ومهمته النظر في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المعتمدة أولاً، ولولا هذا الاجتهاد لتوقف العمل بكثير من آيات القرآن وسنة رسول الله r.
ومنذ أن أصرّ المسلمون على الاكتفاء بما قدّم الفقهاء السابقون من حلول للمشاكل دون النظر إلى القرآن والسنة مباشرة، منذ ذلك الوقت تأخر الفكر الإسلامي، وتحنّطت الحلول الشرعية، مع أن روح الشريعة الإسلامية تتسع _ بسماحتها _ لتجديد الفكر وتجديد الحلول لتصبح ملائمة للزمان والمكان، كل ذلك في إطار معايير ثابتة وقابلة للمرونة وميسورة.
هذا، وإن أي مسألة مستجدة، يمكن إرجاع دراستها بالنسبة إلى الاجتهاد إلى نوعين:
1_ إما أن تُدرَس المسألة عن طريق الاجتهاد الترجيحي [ الانتقائي ].
2_ إما أن تُدرَس المسألة عن طريق الاجتهاد الإبداعي [ الإنشائي ].
الاجتهاد الانتقائي:
ويكون باختيار أحد الآراء المنقولة في كتب الفقه، ليصار إلى الإفتاء بموجبه، أو القضاء بمقتضاه؛ ترجيحاً له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى.
وسبيل هذا الاجتهاد: الموازنة بين الأقوال، ومراجعة ما استندت إليه، من أدلة نصية أو اجتهادية، ليختار المجتهد – في النهاية - ما يراه أقوى حجة، وأرجح دليلاً، وأَوْفَقَ لحياة المسلمين وأرفقَ بهم، وأقربَ إلى روح الشريعة ومقاصدها.
ومجال الانتقاء ليس محصوراً في مدارس الفقه الأربعة فحسب، بل يمكن اختيار قول أحد من فقهاء الصحابة أو التابعين أو مَن بعدهم من أئمة السلف.
الاجتهاد الإنشائي:
وهو استنباط حكم في مسألة من المسائل، سواء كانت قديمة أم جديدة، بحيث يكون هذا الحكم متوافقاً مع مقاصد الشريعة، متلائماً مع العصر، للقاعدة الأصولية: _ لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.
وهذا الاجتهاد غالباً ما يكون في المسائل المستجدة، التي لم يعرفها السابقون، ولم تكن في أزمنتهم.
الاجتهاد الجماعي:
هذا، وإذا كان الاجتهاد الذي ساد في الماضي اجتهاداً فردياً، ووَضَعَ العلماء شروطاً خاصة، إذا تحققت في عالم صار مؤهلاً أن يكون مجتهداً، فإننا نشير إلى بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى: إن شروط المجتهد التي طلبها العلماء، لم يرد بها نص شرعي من كتاب ولا سنة، وإنما عرفت من طبيعة الأشياء، إذ بعد قراءة سير الرجال، من أصحاب رسول الله r الذين تصدوا للإفتاء والاجتهاد، وجد العلماء أن من الضروري _ ليصير العالم مجتهداً _ أن يكون متمتعاً بشروط ذاتية شخصية، وشروط علمية مكتسبة. ولسنا هنا بصدد تعدادها، ويمكن الرجوع إليها في المصادر الأصولية المعتمدة.
الملاحظة الثانية: إذا كان العلماء قد ذكروا شروط المجتهد، فإنه لا بد من الإشارة إلى شروط قبول فتوى المجتهد، إذ لا يكفي أن يتمتع العالم بشروط المجتهد، فيبادر إلى الاستنباط والاجتهاد، ويصدر الفتاوى، بل هناك شروط يجب تحققها لقبول اجتهاده.
من هذه الشروط:
1_ التقوى:
إذ العلم لوحده غير كاف لجعل صاحبه مجتهداً، بل لا بد أن يكون من أهل الصلاح والتقوى، متحرياً الحق، مرضي السيرة، لا يبيع دينه بدنياه.
2_ العدالة:
إذ الفسق يُنْقِصُ من قدر الإنسان في شؤون الدنيا، فما بالك بشؤون الأحكام الفقهية.
فالفاسق والمتلاعب بالدين، لا يُؤْتَمَن على شرع الله، ولو اكتسب الشروط العلمية للاجتهاد، فإن هذا الأمر دين.
3_ معرفة مقاصد الشريعة:
بحيث يكون مدرِكاً لمقاصد الشريعة على كمالها، فالشريعة جاءت لرعاية مصالح العباد؛ المادية والروحية، الفردية والجماعية، رعايةً قائمة على العدل والتوازن، والشفقة والتراحم.
فينبغي أن تكون الفتوى صادرة عن مجتهد يتحرى مصالح العباد، دون تضيق أو تشدد، ودون حرج أو مشقة.
4_ معرفة الناس والحياة:
لأن الاجتهاد لا يكون إلا بوجود الناس والحياة، وما يطرأ من تغيرات على أحوال الناس وظروف الحياة.
فلكي تكون الفتوى مقبولة لا بد أن يكون المجتهد على معرفة ودراية بأحوال عصره، وظروف مجتمعه، ومشكلاته، وتياراته الفكرية والسياسية والدينية، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى، ومدى تأثره بها، وتأثيره فيها.
بالإضافة إلى إلمامه بثقافة عصره؛ من علوم كونية كالطب والاقتصاد ووسائل الاتصال الحديثة، كي لا يكون اجتهادُه في وادٍ والحياةُ في وادٍ آخر.
هذا وإن الملاحظة الثانية تقودنا للحديث عن الملاحظة الثالثة، وهي أنه تجنباً للوقوع في الخطأ والزلل في حالة الاجتهاد الفردي، وخشية وجود خلل في شروط قبول الاجتهاد، ينبغي التوجه إلى الاجتهاد الجماعي.
فرأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، مهما علا قدره في العلم، وارتفع شأنه في الفقه.
ويكون الاجتهاد الجماعي: بتشاور أهل العلم في القضايا المطروحة، مع وجود أصحاب الاختصاص في المسألة المعروضة.
وهذا النوع من الاجتهاد الجماعي سنة نبوية، فعن أمير المؤمنين علي t قال علي: يا رسول الله أرأيت إن عرض لنا أمر لم ينـزل فيه قرآن، ولم يخصص فيه سنة منك، قال: تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين ولا تقضونه برأي خاصة"([12]).
وعَنْ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ([13]) قَالَ: (كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ قَضِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e أَثَرٌ اجْتَمَعُوا لَهَا وَأَجْمَعُوا، فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا)([14]).
وهذا النوع من الاجتهاد - الاجتهاد الجماعي - هو الأقرب إلى الصواب، والموصل إلى الحكم الشرعي الصحيح؛ الموافق لروح الشريعة ومقاصدها، والمناسبة لحاجة الناس في كل زمان.
وختاماً أقول:
لقد كثر الحديث عن أهمية الاجتهاد المعاصر، للربط بين النصوص الشرعية وواقع الحياة، وأرى أنه لابد من لفت النظر إلى أمر آخر هو أهمية الربط بين النظرية والتطبيق.
فالاجتهادات الفقهية، ما هي إلا أقوال نظرية، تحتاج إلى تنفيذ وتحقيق في واقع حياة المسلمين، وهذا يتطلب توعية شاملة للأمة؛ بغرس الإيمان في قلوب الناس، وتوجيههم إلى معرفة الله ومحبته، وإرشادهم إلى الهدف الأصلي والغاية الكبرى من وجودهم، ألا وهي عبادة الله تعالى.
وذلك من أجل أن يسهل عليهم قبول الأحكام الشرعية، والاجتهادات الفقهية، بصورتها الجديدة، إذ لا بد أن يقترن العلم مع العمل، والتصور مع الواقع، والنظرية مع التطبيق.
ومن هنا نتوجّه إلى أولياء أمور المسلمين؛ لبيان أهمية الالتزام بمنهج الله، وضرورة العمل بنصوص الشريعة، واعتماد الاجتهادات الفقهية المتنورة لتكون هي الحلول لمشاكل المسلمين وغير المسلمين داخل البلاد، بدلاً من اعتماد قوانين غربية، غريبة عن واقعنا وبعيدة عن شرع ربنا.
كما نوجِّه رسالة إلى القائمين على شؤون الإعلام بكل أشكاله، المقروء والمسموع والمرئي؛ لتطهيره من الرجس الحاصل، والارتقاء به ليكون هادفاً إلى تحقيق خير الإنسان وسعادته، من خلال القيم الأخلاقية، ونشر الفضائل، والابتعاد عن المبادئ الهدامة للفكر والخُلُق.
([1]) رواه أبو داود في السنن، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، رقم: (4291)، (4/109)، ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم: (8592)، (4/567)، ورواه الطبراني في الأوسط، رقم: (6527)، (6/324)، وقال: تفرد به ابن وهب.
([3]) رواه الترمذي، في السنن، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي، رقم الحديث (1327)، (3/616)، وأبو داود في السنن، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، رقم الحديث (3592)، (3/303)، والإمام أحمد في المسند، رقم الحديث (22060)، (5/230)، والدارمي، في السنن، رقم الحديث (168)، (1/72).
([4]) رواه الدارمي، في السنن، رقم الحديث (161)، (1/69).
([5]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، (1/62).
([7]) سنن البيهقي الكبرى، رقم الحديث (20324)، (10/150)، وسنن الدارقطني، رقم الحديث (15)، (4/206).
([9])سنن البيهقي الكبرى، رقم الحديث (20099)، (10/110)، ورواه الدارمي، في السنن، رقم الحديث (167)، (1/71).
([10]) رواه الدارمي، في السنن، رقم الحديث (166)، (1/71)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، (1/63)، ومفتاح الجنة، السيوطي، (1/42).
([11]) رواه الدارمي، في السنن، رقم الحديث (169)، (1/70)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، (1/63).
([12]) المعجم الكبير، الطبراني، (11/371)، رقم: (12042).
([13]) فقيه تابعي ثَبْتٌ، من أهل الكوفة، توفي سنة (105هـ).
([14]) رواه الدارمي في السنن، رقم: (115)، (1/61).
عدد القراء : 1704