shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

تأثير الزمان والمكان على فتوى المفتي في الاستنباط والإفتاء

دلّت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماع على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الخاتم، وكتابه القرآن خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، ونبوته خاتمة النبوات.

وبالتالي فكل ما جاء على صعيد التشريع من قوانين وسنن تعدّ من ثوابت هذا الدين، لا تتطاول عليها يد التغيير.

وقد تضافرت عليها الروايات:

1- روى أبو جعفر الباقر(ع) قال: قال جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة، ألا وقد بيّنهما الله عزّ وجلّ في الكتاب وبيّنتهما لكم في سنتي وسيرتي"(1).

2- كما روى زرارة عن الإمام الصادق(ع): قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن الحلال والحرام، فقال: "حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء بعده"(2).

والروايات في هذا الصدد عن النبي الأعظم وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة، وقد جمعنا طائفة منها في كتابنا مفاهيم القرآن فبلغت 135 حديثاً، وبما انّ خلود شريعته أمر لم يشكّ فيه أحد من المسلمين، وهو من ضروريات الدين، نقتصر على ذلك المقدار، ونطرح السؤال التالي:

إذا كانت الحياة الاجتماعية على وتيرة واحدة لصحّ أن يديرها تشريع خالد ودائم، وأمّا إذا كانت متغيرة تسودها التحوّلات والتغييرات الطارئة، فكيف يصحّ لقانون ثابت أن يسود جميع الظروف مهما اختلفت وتباينت؟

إنّ الحياة الاجتماعية التي يسودها الطابع البدوي والعشائري كيف تلتقي مع حياة بلغ التقدم العلمي فيها درجة هائلة، فكلّ ذلك شاهد على لزوم تغيير التشريع حسب تغيير الظروف.

هذا السؤال كثيراً ما يثار في الأوساط العلمية ويراد من ورائه أمر آخر، وهو التخلص من قيود الدين والقيم الأخلاقية، مع الغفلة انّ تغير ألوان الحياة لا يصادم ثبات التشريع وخلوده، على النحو الذي بيّنه المحقّقون من علماء الإسلام. وذلك لأنّ السائل قد قصّر النظر على ما يحيط به من الظروف المختلفة المتبدلة، وذهل عن أنّ للإنسان خُلقاً وغرائز ثابتة قد فطر عليها، وهي لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً، وهذه الغرائز الثابتة تستدعي لنفسها تشريعاً ثابتاً يدوم بدوامها، ويثبت بثباتها عبر القرون والأجيال، وإليك نماذج منها:

1ـ انّ الإنسان بما هو موجود اجتماعي يحتاج لحفظ نسله إلى الحياة العائلية، وهذه حقيقة ثابتة في حياة الإنسان وجاء التشريع وفقاً لها، يقول سبحانه: (وأنكحوا الأيامى منكم والصّالحينَ من عبادكم وإمائكم)(3).

2ـ العدالة الاجتماعية توفر مصلحة المجتمع وتدرأ عنه الفساد والانهيار والفوضى، فليس للإنسان في حياته الاجتماعية إلاّ السير وفق نهج العدل والابتعاد عن الظلم، قال سبحانه: (إنّ اللهَ يأمرُ بالعدل والإحسان وايتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون)(4).

3ـ انّ الفوارق الرئيسية بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس، فهما يختلفان في الخلقة على رغم كلّ الدعايات السخيفة التي تبغي إزالة كلّ تفاوت بينهما، وبما انّ هذا النوع من الاختلاف ثابت لا يتغير بمرور الزمان فهو يقتضي تشريعاً ثابتاً على شاكلة موضوعه، يقول سبحانه: (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم)(5).

4ـ الروابط العائلية هي روابط طبيعية، فالأحكام المنسِّقة لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم ثابتة لا تتغير بتغير الزمان، يقول سبحانه: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(6) والمراد من الأولوية هي الأقربية.

5ـ انّ الحياة الاجتماعية رهن الحفاظ على الأخلاق، وممّا لا شكّ فيه انّ الخمر والميسر والإباحة الجنسية تقوِّض أركان الأخلاق، فالخمر يزيل العقل، والميسر يورث العداء في المجتمع، والإباحة الجنسية تفسد النسل والحرث فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذه نماذج استعرضناها للحياة الاجتماعية التي لا تمسّها يد التغير، وهي ثابتة، فإذا كان التشريع على وفق الفطرة، وكان نظام التشريع قد وضع وفق ملاكات واقعية، فالموضوعات تلازم أحكامها، ملازمة العلة لمعلولها، والأحكام تتبع موضوعاتها تبعيّة المعاليل لعللها.

هذا جواب إجمالي، وأمّا الجواب التفصيلي فهو رهن الوقوف على الدور الذي يلعبه الزمان والمكان في مرونة الأحكام الشرعية، وتطبيع الأحكام على متطلبات العصر، وهذا هو الذي سنقوم بدراسته.

دور الزمان والمكان في الاستنباط

قد يطلق الزمان والمكان ويراد منها المعنى الفلسفي، فيفسر الأوّل بمقدار الحركة، والثاني بالبعد الذي يملأه الجسم، والزمان والمكان بهذا المعنى خارج عن البحث، بل المراد هو المعنى الكنائي لهما، أعني: تطور أساليب الحياة والظروف الاجتماعية حسب تقدم الزمان وتوسع شبكة الاتصالات. وهذا المعنى هو الذي يهمّنا في هذا البحث، ودراسته تتم في ضمن فصول خمسة:

الأوّل: دراسة الروايات الواردة في ذلك المضمار.

الثاني: نقل مقتطفات من كلمات الفقهاء.

الثالث: تطبيقات عملية.

الرّابع: دور الزمان والمكان في الأحكام الحكوميّة.

الخامس: في دراسة العصرين في الفقه السني.

استعراض الروايات الواردة في ذلك المضمار

قد أشير في غير واحد من الروايات عن أئمّة أهل البيت(ع) إلى أنّ للزمان والمكان دوراً في تغير الأحكام إمّا لتبدّل موضوعه بتبدّل الزمان، أو لتغير ملاك الحكم إلى ملاك آخر، أو لكشف ملاك أوسع من الملاك الموجود في عصر التشريع، أو غير ذلك سنأتي إلى تفسيره عند البحث في التطبيقات.

وأمّا ما وقفنا عليه في ذلك المجال من الأخبار، فنذكره على الترتيب التالي:

1ـ سئل علي(ع) عن قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "غيّروا الشيبَ ولا تشبَّهوا باليهود".

فقال(ع): "إنّما قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك والدين قلّ، فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار"(7).

فأشار الإمام بقوله: إنّ عنوان التشبّه كان قائماً بقلّة المسلمين وكثرة اليهود، فلو لم يخضِّب أحد من المسلمين شيبته وكانوا في أقلية صار عملهم تشبهاً باليهود وتقوية لهم، وأمّا بعد انتشار الإسلام في أقطار الأرض على نحو صارت اليهود هم الأقلية فلا يصدق التشبّه بهم إذا ترك الخضاب.

2ـ روى محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر الباقر(ع) انّهما سألاه عن أكل لحوم الحُمر الأهلية، فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكلها يوم خيبر، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لانّها كانت حمولة الناس، وإنّما الحرام ما حرّم الله في القرآن"(8).

والحديث يشير إلى أنّ نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل لحومها كان لأجل انّ ذبحها في ذلك الوقت يورث الحرج والمشقة، لأنّها كانت سبباً لحمل الناس والأمتعة من مكان إلى آخر، فإذا ارتفعت الحاجة في الزمان الآخر ارتفع ملاك الحرمة.

3ـ روى محمد بن سنان، أنّ الرضا(ع) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: "كره أكل لحوم البغال والحمر الأهلية لحاجة الناس إلى ظهورها واستعمالها والخوف من فنائها وقلّتها لا لقذر خلقها ولا قذر غذائها"(9).

4ـ روى عبدالرحمن بن حجاج، عمّن سمعه، عن الإمام الصادق(ع) قال: سألته عن الزكاة ما يأخذ منها الرجل؟ وقلت له: إنّه بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيّما رجل ترك دينارين فهما كيّ بين عينيه، قال: فقال: "أولئك قوم كانوا أضيافاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أمسى، قال: يا فلان اذهب فعشّ هذا، فإذا أصبح قال: يا فلان اذهب فغدّ هذا، فلم يكونا يخافون أن يصبحوا بغير غذاء ولا بغير عشاء، فجمع الرّجل منهم دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه هذه المقالة، فانّ الناس إنما يُعطون من السنة إلى السنة فللرّجل أن يأخذ ما يكفيه ويكفي عياله من السنة إلى السنة"(10).

5ـ روى حماد بن عثمان، قال: كنت حاضراً عند أبي عبدالله(ع) إذ قال له رجل: أصلحك الله، ذكرت أنت علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيّد، قال: فقال له: "إنّ علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشُهر به، فخير لباس كلّ زمان، لباس أهله"(11).

6ـ روى مسعدة بن صدقة: دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله(ع) فرأى عليه ثياب بيض كأنّها غرقئ البيض، فقال: إنّ هذا اللباس ليس من لباسك، فقال الإمام – بعد كلام -: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في زمان مُقْفر جدْب، فأّمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفارها"(12).

7ـ روى عبدالله بن سنان، قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: بينما أنا في الطواف وإذا برجل يجذب ثوبي، وإذا هو عباد بن كثير البصري"، فقال: يا جعفر ابن محمد تلبس مثل هذه الثياب وأنت في هذا الموضع مع المكان الذي أنت فيه من علي(ع)؟! فقلتُ: "فرُقبيّ اشتريته بدينار، وكان علي(ع) في زمان يستقيم له ما ليس فيه، ولو لبستُ مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس هذا مراء مثل عباد"(13).

8 ـ روى المعلى بن خنيس، عن أبي عبدالله(ع) قال: إنّ عليّاً كان عندكم فأتى بني ديوان واشترى ثلاثة أثواب بدينار، القميص إلى فوق الكعب والإزار إلى نصف الساق، والرداء من بين يديه إلى ثدييه ومن خلفه إلى إليتيه، وقال: هذا اللباس الذي ينبغي للمسلمين أن يلبسوه، قال أبو عبدالله: "ولكن لا تقدرون أن تلبسوا هذا اليوم ولو فعلناه لقالوا مجنون، ولقالوا مرائيّ"(14).

9ـ روى أبو بكر الحضرميّ: قال سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: "لسيرة علي(ع) في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته مما طلعت عليه الشمس، انّه علم انّ للقوم دولة، فلو سباهم تُسب شيعته"(15).

10ـ روى السراد، عن أبي عبدالله(ع)، قال: قلت له: أبيع السلاح، قال: "لا تبعه في فتنة"(16).

11ـ روى المعلى بن خنيس إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال: "خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فخذوا بقوله، أما والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم"(17). فإنّ الحكم الثاني المخالف لما روى سابقاً رهن حدوث تغير في جانب الموضوع أو تبدل الملاك أو غير ذلك من العناوين المؤثرة لتبدّل الحكم.

12ـ روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع) قال: قال: "إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام من اجل الحاجة، فأمّا اليوم فلا بأس به"(18).

13ـ روى محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من منى؟ فقال: "كنّا نقول: لا يخرج منها بشيء لحاجة الناس إليه، وأمّا اليوم فقد كثر الناس فلا بأس بإخراجه"(19).

14ـ روى الحكم بن عتيبة، عن أبي جعفر(ع)، قال: قلت له: إنّ الديات إنّما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل والبقر والغنم، قال: فقال: "إنّما كان ذلك في البوادي قبل الإسلام، فلمّا ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين(ع) على الورق" قال الحكم: قلت: أرأيت من كان اليوم من أهل البوادي، ما الذي يؤخذ منهم في الدية اليوم؟ إبل؟ أم ورق؟ فقال: "الإبل اليوم مثل الورق بل هي أفضل من الورق في الدية، انّهم كانوا يأخذون منهم في دية الخطأ مائة من الإبل يحسب لكلّ بعير، مائة درهم، فذلك عشرة آلاف".

قلت له: فما أسنان المائة بعير؟ فقال: "ما حال عليه الحول ذُكْران كلّها"(20).

إنّ المشكلة في المقرر من الديات الست من وجوه:

الأوّل: عدم وجود التعادل والتساوي بين الأمور الست في بدء الأمر، الواردة في بعض الأحاديث.

15ـ روى عبدالرحمن بن الحجاج دية النفس بالشكل التالي:

أ: مائة إبل كانت في الجاهلية وأقرّها رسول الله.

ب: مائتا بقر على أهل البقر.

ج: ألف شاة ثنيّة على أهل الشاة.

د: ألف دينار على أهل الذهب.

هـ: عشرة آلاف درهم على أهل الورق.

و: مائتا حلّة على أهل اليمن. (21)

فأين قيمة مائتي حلة من قيمة مائة إبل أو غيرها؟! فقد أوجد ذلك مشكلة في أداء الدية خصوصاً إذا قلنا بما هو المشهور من أنّ اختيار أي واحد منها بيد القاتل، فإذاً كيف يتصور التخيير بين الأٌقل والأكثر؟!

والجواب انّه من المحتمل أن تكون جميع هذه الموارد متقاربة القيمة، لأنّ الحلل اليمانية وإن كانت زهيدة الثمن إلاّ انّ صعوبة اقتنائها حال دون انخفاض قيمتها.

وعلى فرض انخفاض قيمتها لما كان للجاني اختيار الحلل أخذاً بالمتيقن من مورد النص للجاني.

الثاني: المراد من الورق الوارد في النصوص هو الدينار والدرهم المسكوكين الرائجين، وهذا غير متوفر في غالب البلدان، لأنّ المعاملات تتم بالعملة الرائجة في كلّ بلد، وهي غير النقدين، وعلى فرض وجود النقدين في الأعصار السابقة، فليسا رائجين.

الثالث: لم ترد في النصوص الاجتزاء بالعملة الرائجة فما ورد من الدينار والدرهم فغير رائجين وما هو الرائج اليوم كالعملة الورقية فلم يرد فيها نصّ.

والجواب عن الأخيرين هو انّ تقويم دية النفس بالأنعام أو الحلل، لم يكن لخصوصية فيها دون غيرها، بل لأجل انّ قلّة وجود النقدين كانت سبباً لتعامل الناس بالأجناس فكان الثمن أيضاً جنساً كالمثمن ولما كثر الورق، قسّمها الإمام على الورق.

وهذا يعرب عن أنّ الدية الواقعية هو قيمة هذه الأنعام والحلل، لا أنفسها بما هي هي، بنحو لو أدى قيمتها لما أدّى الدية الواقعية.

ولو صحّ ذلك فلا فرق عندئذٍ بين النقدين والعملة الرائجة في البلاد هذه الأيام، إذ الغرض أداء قيمة النفس بأشكالها المختلفة.

16ـ روى الحلبي، عن أبي عبدالله(ع) قال: سألت عن الوبا يكون في ناحية المصر فيتحول الرجل إلى ناحية أخرى، أو يكون في مصر فيخرج منه إلى غيره.

فقال: "لا بأس إنّما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك لمكان ربيئة كانت بحيال العدو فوقع فيهم الوبا فهربوا منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الفارّ منه كالفار من الزحف كراهية أن يخلو مراكزهم".(22)

فدلّ الحديث على أنّ النهي كان بملاك خاص، وهو انّ الخروج كان سبباً لضعف النظام الإسلامي وإلاّ فلا مانع من أن يخرجوا منه بغية السلامة.

17ـ روى علي بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبدالله(ع): القوم يكونون في البلد فيقع فيه الموت، ألهم أن يتحوّلوا عنها إلى غيرها، قال: "نعم"، قلت: بلغنا انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاب قوماً بذلك، فقال: "أولئك كانوا ربيئة بازاء العدو فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبتوا في موضعهم ولا يتحولوا عنه إلى غيره، فلما وقع فيهم الموت تحولوا من ذلك المكان إلى غيره، فكان تحويلهم عن ذلك المكان إلى غيره كالفرار من الزحف"(23).

18ـ روى عبدالله بن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينبغي أن يتزوج الرجل الحرّ المملوكة اليوم، إنّما كان ذلك حيث قال الله عزّوجل: "ومن لم يستطع منكم طولاً" والطول المهر، ومهر الحرة اليوم مثل مهر الأمة أو أقل(24).

فالحديث يهدف إلى تفسير قوله سبحانه:

(ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكحَ المُحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) (25).

فالآية تعلّق جواز تزويج الأمة بعدم الاستطاعة على نكاح الحرة لأجل غلاء مهرها بخلاف مهر الأمة فانّها كانت زهيدة الثمن.

فإذا عاد الزمان إلى غير هذا الوضع وصار مهر الأمة والحرة على حدّ سواء بل كان مهر الحرة أقل فلا ينبغي أن يتزوج المملوكة فقد غيّرت الظروف جواز الحكم إلى كراهته أو تحريمه.

19ـ روى بكير بن محمد، عن أبي عبدالله(ع) قال سأله رجل وأنا حاضر، فقال: يكون لي غلام فيشرب الخمر ويدخل في هذه الأمور المكروهة فأريد عتقه، فهل أعتقه أحبّ إليك أم أبيعه وأتصدق بثمنه؟ فقال: "إنّ العتق في بعض الزمان أفضل، وفي بعض الزمان الصدقة أفضل، فإن كان الناس حسنة حالُهم، فالعتق أفضل، وإذا كانوا شديدة حالهم فالصدقة أفضل، وبيع هذا أحبّ إليّ إذا كان بهذه الحال"(26).

20ـ روى محمد بن سنان، عن الإمام موسى بن جعفر(ع) في حديث: "ليس بين الحلال والحرام إلاّ شيء يسير، يحوله من شيء إلى شيء فيصير حلالاً وحراماً"(27).

هذه بعض ما وقفنا عليه، ولعلّ الباحث في غضون الجوامع الحديثيّة يقف على أكثر من ذلك.

حصيلة الروايات

إنّ الإمعان في مضامين هذه الروايات يثبت انّ تغير الحكم إنّما كان لإحدى الجهات التالية:

1ـ كان الحكم، حكماً حكومياً وولائياً نابعاً من ولاية النبي على إدارة المجتمع وحفظ مصالحه، ومثل هذا الحكم لا يكون حكماً شرعياً إلهياً نزل به أمين الوحي عن ربّ العالمين، بل حكماً مؤقتاً يدور مدار المصالح والمفاسد التي أوجبت تشريع هذا النوع من الأحكام.

ومن هذا القبيل النهي عن إخراج اللحم من منى قبل ثلاثة أيّام، أو النهي عن أكل لحوم الحمير، ولذلك قال الإمام بعد تبيين علّة النهي إنّما الحرام ما حرّم الله في القرآن، مشيراً إلى أنّه لم يكن هذا النهي كسائر النواهي النابعة من المصالح والمفاسد، الذاتية كالخمر والميسر بل نجم عن مصالح ومفاسد مؤقتة.

ونظيرهما النهي من الخروج عن مكان ظهر فيه الطاعون، حيث إنّ النهي كان لأجل انّ تحوّلهم من ذلك المكان كان أشبه بالفرار من الزحف فوافاهم النهي فإذا انتفى هذا القيد فلا مانع حينئذٍ من خروجهم.

2ـ انّ تبدل الحكم كان لأجل انعدام الملاك السابق، وظهور ملاك مباين، كما هو الحال في حديث الدينارين بخلاف عصر الإمام الصادق حيث كانوا يعطون من السنة إلى السنة.

ومثله جواز نكاح الأمة مع القدرة على الحرة، لأنّ ملاك الجواز هو غلاء مهر الحرة، وقد انتفى في ذلك العصر، بل صار الأمر على العكس كما في نفس الرواية.

3ـ عروض عنوان محرم عليه، ككونه لباس الشهرة أو رمي اللابس بالجنون كما في أحاديث الألبسة، كما يمكن أن يكون من قبيل تبدّل الملاك، فقد ورد النهي في عصر مقفر، جدب، واين هو من عصر الخصب والرخاء؟!

4ـ كون الملاك أوسع كما هو الحال بالاكتفاء بالدرهم والدينار في دية النفس، في عصر الإمام علي(ع) فانّ الملاك توفر ما يقوّم به دم المجني عليه، ففي أهل الإبل الإبل، وفي أهل البقر والغنم بهما، وفي أهل الدرهم والدينار بهما.

مقتطفات من كلمات الفقهاء

إنّ تأثير الظروف في تفسير الروايات والفتاوى في كلام الفقهاء أمر غير عزيز، وقد وقفوا على ذلك منذ أمد بعيد، ونذكر هنا مقتطفات من كلامهم:

  1. الصدوق (306 ـ 381هـ)

1ـ روى الصدوق في الفقيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال: "الفرق بين المسلمين والمشركين التلحي بالعمائم".

ثمّ قال الصدوق في شرح الحديث: ذلك في أوّل الإسلام وابتدائه، وقد نقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً انّه أمر بالتلحّي ونهى عن الاقتطاع. (28)

قال الفيض الكاشاني بعد نقل الحديث: التلحّي إدارة العمامة تحت الحنك، والاقتعاط شدُّها من غير إدارة، وسُنّة التلحّي متروكة اليوم في أكثر بلاد الإسلام كقصر الثياب في زمان الأئمة، فصارت من لباس الشهرة المنهي عنها.(29)

  1. العلاّمة الحلّي (648 ـ 726هـ)

قال في مبحث تجويز النسخ: الأحكام منوطة بالمصالح، والمصالح تتغير بتغير الأوقات، وتختلف باختلاف المكلّفين، فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه. (30)

  1. الشيخ الشهيد محمد بن مكي العاملي (المتوفى عام 786هـ)

قال: يجوز تغير الأحكام بتغير العادات كما في النقود المتعاورة(31) والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأٌقارب فانّها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه، وكذا تقدير العواري بالعوائد.

ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمروي تقديم قول الزوج، عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول.

ومنه: إذا قدّم بشيء قبل الدخول كان مهراً إذا لم يسم غيره، تبعاً لتلك العادة فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة، واحتساب ذلك من مهر المثل. (32)

فقد أشار بقوله: "ينبغي تقديم قول الزوجة" إلى مسألة التنازع بينهما فيما إذا ادّعت الزوجة بعدم تسلم المهر، وادّعى الرجل تسليمه إليها، فقد روى الحسن بن زياد، قال: إذا دخل الرجل بامرأته، ثمّ ادّعت المهر وقال: قد أعطيتك فعليها البيّنة وعليه اليمين. (33)

غير انّ لفيفاً من الفقهاء حملوا الرواية على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول وإلاّ فالبيّنة على الزوج.

قال صاحب الجواهر: الظاهر انّ مبنى هذه النصوص على ما إذا كانت العادة الإقباض قبل الدخول، بل قيل إنّ الأمر كذلك كان قديماً، فيكون حينئذٍ ذلك من ترجيح الظاهر على الأًصل. (34)

  1. المحقق الأردبيلي (المتوفى 993هـ)

قال: ولا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة، والأشخاص وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف، امتياز أهل العلم والفقهاء، شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم. (35)

  1. صاحب الجواهر (المتوفى 1266هـ)

قال في مسألة بيع الموزون مكيلاً وبالعكس: إنّ الأقوى اعتبار التعارف في ذلك وهو مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. (36)

  1. الشيخ الأنصاري (1214 ـ 1281هـ)

وقال الشيخ الأنصاري في بحث ضمان المثلي والقيمي: بقي الكلام في أنّه هل يعد من تعذر المثل خروجه عن القيمة كالماء على الشاطئ إذا أتلفه في مفازة والجمد في الشتاء إذا أتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى بل المتعيّن هو الأوّل بل حكي عن بعض نسبته إلى الأصحاب وغيرهم والمصرح به في محكي التذكرة والإيضاح والدروس قيمة المثل في تلك المفازة ويحتمل آخر مكان أو زمان يخرج المثل فيه عن المالية. (37)

  1. الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1294 ـ 1373هـ)

قال في تحرير المجلة في ذيل المادة 39: "لا ينكر تغيير الأحكام بتغير الأزمان" قد عرفت أنّ من أصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلاّ بتغيير الموضوعات امّا بالزمان والمكان والأشخاص، فلا يتغير الحكم ودين الله واحد في حقّ الجميع لا تجد لسنّة الله تبديلاً، وحلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك.

نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص الواحد باختلاف حالاته من بلوغ ورشد وحضر وسفر وفقر وغنى وما إلى ذلك من الحالات المختلفة، وكلّها ترجع إلى تغيير الموضوع فيتغير الحكم فتدبر ولا يشتبه عليك الأمر. (38)

الظاهر انّه يريد من قوله: "امّا بالزمان والمكان والأشخاص فلا يتغير الحكم" إنّ مرور الزمان لا يوجب تغيير الحكم الشرعي بنفسه، وأما إذا كان مرور الزمان سبباً لطروء عناوين موجبة لتغير الموضوع فلا شكّ انّه يوجب تغير الحكم وقد أشار إليه في ذيل كلامه.

  1. السيد الإمام الخميني(1320 ـ 1409هـ)

قال: إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا وبالاجتهاد على النهج الجواهري، وهذا أمر لابدّ منه، لكن لا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل انّ لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده. (39)

وقد طرح هذه المسألة غير واحد من أعلام السنّة.

1ـ منهم ابن قيم الجوزية (المتوفى 751هـ) فقد عقد في كتابه فصلاً تحت عنوان "تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأموال والنيات والعوائد".

يقول في ذيل هذا الفصل:

هذا فصل عظيم النفع، ووقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم انّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فانّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة.(40)

2ـ ومنهم: أبو إسحاق الشاطبي (المتوفى 790هـ) في الموافقات، قال: المسألة العاشرة: إنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز.(41)

وقال في موضع آخر: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك انّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.(42)

3ـ ومنهم: العلاّمة محمد أمين أفندي الشهير بـ "ابن عابدين" مؤلف كتاب "مجموعة رسائل" قال ما هذا نصّه:

اعلم أنّ المسائل الفقهية إمّا أن تكون ثابتة بصريح النص، وإمّا أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثيراً منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوّلاً، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد انّه لابدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوّلاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنيّة على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم مقام وأحسن أحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً في قواعد مذهبه.(43)

4ـ ومنهم: الفقيه الأستاذ أحمد مصطفى الزرقاء في كتابه "المدخل الفقهي العام"، قال:

الحقيقة ان الأحكام الشرعية التي تتبدّل بتبدّل الموضوعات مهما تغيرت باختلاف الزمان، فانّ المبدأ الشرعي فيها واحد وليس تبدّل الأحكام إلاّ تبدّل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشارع، فانّ تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحدّد في الشريعة الإسلامية بل تركتها مطلقة لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً وأنجح في التقويم علاجاً.

ثمّ إنّ الأستاذ جعل المنشأ لتغيير الأحكام أحد أمرين:

أ: فساد الأخلاق وفقدان الورع وضعف الوازع، وأسماه بفساد الزمان.

ب: حدوث أوضاع تنظيمية ووسائل فرضية وأساليب اقتصادية.

ثمّ إنّه مثـّـل لكلّ من النوعين بأمثلة مختلفة اقتبس بعضها من رسالة "نشر العرف" للشيخ ابن عابدين، ولكنّه صاغ الأمثلة في ثوب جديد.(44)

5ـ ومنهم: الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه "أصول الفقه الإسلامي" فقد لخص ما ذكره الأستاذ السابق وقال في صدر البحث: تغير الأحكام بتغير الأزمان.

إنّ الأحكام قد تتغير بسبب تغير العرف أو تغير مصالح الناس أو لمراعاة الضرورة أو لفساد الأخلاق وضعف الوازع الديني أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة، فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة واحقاق الحق والخير، وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف.(45)

وقبل تطبيق هذا الأصل على موارده نود أن نشير إلى أمور يتبين بها حدّ هذا الأصل:

الأوّل: حصر التشريع في الله سبحانه

دلّت الآيات القرآنية على حصر التشريع في الله سبحانه وانّه ليس مشرع سواه، قال سبحانه: "إن الحكم إلاّ لله أمر أن لا تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدِّينُ القيِّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"(46).

والمراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله: "أمرَ أن لا تعبُدوا إلاّ إيّاهُ" وهذا أمر أوضحنا حاله في موسوعتنا "مفاهيم القرآن".

وينبغي التأكيد على نكتة؛ وهي انّ تغير الحكم وفق الزمان والمكان يجب أن لا يتنافى مع حصر التشريع بالله سبحانه.

الثاني: خلود الشريعة

دلّ القرآن والسنّة على خلود الشريعة الإسلامية، وانّ الرسول خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة وبذلك تضافرت الآيات والروايات وقد تقدم.

فاللازم أيضاً أن لا يكون أيّ تناف بين خلود الشريعة وتأثير الزمان والمكان على الاستنباط.

ومن حسن الحظ انّ الأستاذ أحمد مصطفى الزرقاء قد صرح بهذا الشرط، وهو انّ عنصري الزمان والمكان لا تمسان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة، وإنّما يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وقال ما هذا نصّه:

قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة من القاعدة المقررة "تغيير الأحكام بتغير الزمان".

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام، وسد الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كلّ مكلّف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة.(47)

وكلامه صريح في أنّ المتغير عندهم هو الأحكام الاجتهادية لا الأحكام المنصوصة، ويريد من الأحكام الاجتهادية ما استنبطه المجتهد من القواعد الخاصة، كالقياس والمصالح المرسلة، وقد صرّح بذلك الدكتور وهبة الزحيلي حيث قال: وذلك كائن بالنسبة للأحكام الاجتهادية – القياسية أو المصلحية – المتعلقة بالمعاملات أو الأحوال المدنية من كلّ ما له صلة بشؤون الدنيا وحاجات التجارة والاقتصاد وتغير الأحكام فيها في حدود المبدأ الشرعي، وهو إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد.

أمّا الأحكام التعبدية والمقدرات الشرعية وأصول الشريعة الدائمة، فلا تقبل التبديل مطلقاً، مهما تبدل المكان وتغير الزمان، كحرمة المحارم، ووجوب التراضي في العقود، وضمان الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره، وسريان اقراره على نفسه، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره.(48)

نعم، نقل تقديم بعض الأحكام الاجتهادية على النص عن أحمد بن أدريس المالكي، ونجم الدين أو ربيع المعروف بالطوفي، وبما انّا لم نقف على نصوص كلامهم نتوقف عن القضاء في حقّـّهم.

وعلى أي تقدير يجب على من يقول بتأثير العاملين على استنباط الحكم الشرعي أن يحددهما بشكل لا تمس الأصلين المتقدمين أي نحترز أولاً عن تشريع الحكم، وثانياً عن مس كرامة تأييد الأحكام، وعلى ذلك فلا فرق بين الأحكام الاجتهادية والمنصوصة إذا كان الأصلان محفوظين.

الثالث: انّ المراد من تأثير الزمان والمكان على الاستنباط، هو أن يكون تغير الوضع موجباً لتبدل الحكم من دون أن يكون في النص إشارة إلى هذا النوع من التغيير، وإلاّ فلو كان التشريع الأوّل متضمناً لتغير الحكم في الزمان الثاني فهو خارج عن موضوع بحثنا وإن كان يمكن الاستئناس به، وعلى ذلك تخرج الموارد التالية عن موضوع البحث.

أ: اختلاف الحكم الشرعي في دار الحرب مع غيرها، مثلاً لو ارتكب المسلم فعلاً يستتبع الحد فلا يقام عليه في دار الحرب، بخلاف ما لو كان في دار الإسلام.

قال أمير المؤمنين(ع): "لا يقام على أحد حدّ بدار العدو".(49)

ب: من زنى في شهر رمضان نهاراً كان أو ليلاً عوقب على الحد لانتهاكه الحرمة، وكذا لو كان في مكان شريف أو زمان شريف.(50)

ج: اختلاف المجاهدين والمنفقين قبل الفتح وبعده، يقول سبحانه:

"لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير"(51).

د: نسخ الحكم في الزمان الثاني، كما في قوله سبحانه: "يا أيُّها الذين آمنوا إذا ناجيتُمُ الرسول فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة"(52) فقد نسخ بقوله سبحانه: "أأشفقتم أن تقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم…"(53).

هـ: تغير الأحكام بطروء العناوين الثانوية كالضرر والحرج وتقديم الأهم على المهم، والنذر والعهد واليمين وما أشبه ذلك.

وحصيلة الكلام أنّ محور البحث هو انّ الظروف المختلفة هي العامل الوحيد لتغير الأحكام بعد التشريع الأول، وهذه هي التي تبعث الفقيه على الامعان في بقاء التشريع الأول أو زواله، وأمّا اذا قام الشارع بنفسه ببيان اختلاف الحكمين في الظرفين فهو خارج عن محط البحث وان كان ربما يقرّب فكرة التأثير، ويستأنس بها المجتهد. أو كان التغيير لأجل طروء عناوين ثانوية كالاضطرار والحرج فهو خارج عن محط البحث وبذلك يعلم أنّ استناد بعض من نقلنا نصوصهم من أعلام السنّة إلى تلك العناوين، خروج عن مصب البحث.

الرابع: إذا قلنا بتأثير الزمان والمكان على الاستنباط، فالحكم المستنبط عندئذ حكم واقعي وليس حكماً ظاهرياً كما هو معلوم، لعدم أخذ عنوان الشكّ في موضوعه ولا حكماً واقعيّاً ثانوياً الذي يعتمد على عنواني الضرر والحرج أو غير ذلك من العناوين الثانوية، فالمجتهد يبذل جهده في فهم الكتاب والسنّة لاستنباط الحكم الشرعي الواقعي في هذه الظروف، ويكون حكمه كسائر الأحكام التي يستنبطها المجتهد في غير هذا المقام، فالحكم بجواز بيع الدم أو المني أو سائر الأعيان النجسة التي ينتفع بها في هذه الأيام ليس حكماً ظاهرياً ولا مستخرجاً من باب الضرر والحرج، وإنّما هو حكم واقعي كسابقه (أي التحريم) غير انّ الحكم السابق كان مبنياً على عدم الانتفاع بالأعيان النجسة انتفاعاً معتداً به، وهذا الحكم مبني على تبدل الموضوع.

وإن شئت قلت بتبدل مصداق الموضوع إلى مصداق موضوع آخر، تكون الحرمة والجواز كلاهما حكمين شرعيين واقعيين.

تطبيقات عملية

إذا وقفت على الروايات الواردة حول تأثير الزمان والمكان، وعلى كلمات المحقّقين من الفريقين في ذلك المضمار فلنا ان نبحث في التطبيقات والفروع المستنبطة على ضوء ذلك الأصل، وبما انّ تأثير الزمان والمكان على الاستنباط ليس تأثيراً عشوائياً بل هو خاضع لمنهاج خاص يسير على ضوئه، فلذلك نذكر الأمثلة تحت ضوابط معينة لئلا تقع ذريعة إلى إنكار ثبات الأحكام ودوامها:

الأوّل: تأثيرهما في تطبيق الموضوعات على مواردها

لا شكّ انّ هناك أموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير:

1ـ الاستطاعة: قال سبحانه: "ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً"(54).

2ـ الفقر: قال سبحانه: "إنما الصّدقاتُ للفقراء والمساكين… وابن السبيل"(55).

3ـ الغنى: قال سبحانه: "ومن كان غنيّاً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف"(56).

4ـ بذل النفقة للزوجة: قال سبحانه: "أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكُم"(57).

5ـ إمساك الزوجة بالمعروف: قال سبحانه: "فامسكوهنّ بمعروفٍ أو سرّحوهنّ بمعروف"(58).

ومن الواضح انّ مصاديق هذه الموضوعات تتغير حسب تغير اساليب الحياة، فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ، لا يعد مستطيعاً اليوم، لكثرة حاجات الإنسان في الزمان الثاني دون الأول، وبذلك يتضح حال الفقر والغنى، فربّ غني بالأمس فقير اليوم.

ـ كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس والمأكل والمسكن، وأمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعد عمله بخساً لحقها، وامتناعاً من بذل نفقتها.

ـ إنّ المثلي والقيمي والمكيل والموزون موضوعات للأحكام الشرعية، مثلاً: لا تجوز معاوضة المتماثلين إذا كان مكيلاً أو موزوناً إلاّ بمثله قدراً ووزناً، دون المعدود والموزون، فيجوز تبديلهما بأكثر منهما فالمثلي يضمن بالمثلي، والقيمي بالقيمي، وقد عرِّف المثلي بكثرة المماثل، والقيمي بقلّته، ولذلك عُدت الثياب والأواني من القيميات، لكن صارا اليوم بفضل الصناعة الحديثة، مثليين.

ثمّ إنّ المتبع في كون شيء مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً هو عرف البلد الذي يتعامل فيه وهو يختلف حسب اختلاف الزمان والمكان.

وبذلك اتضح انّ عنصري الزمان والمكان يؤثران في صدق المفاهيم في زمان دون زمان.

الثاني: تأثيرهما في تغير الحكم بتغيّر مناطه

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات والمصالح والمفاسد، فربما يكون مناط الحكم مجهولاً ومبهماً، وأخرى يكون معلوماً بتصريح من قبل الشارع، والقسم الأوّل خارج عن محلّ البحث، وأمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه وملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت، وأمّا اذا تغيّر المناط حسب تغير الظروف فيتغير الحكم قطعاً، مثلاً:

1ـ لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه، ولم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة، وأصبح التبرع بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم، وبذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه وشراؤه.(59)

قال السيد الإمام الخميني: الأقوى جواز الانتفاع بالدم في غير الأكل وجواز بيعه لذلك،(60) وعلى ذلك تعارف من بيع الدم من المرضى وغيرهم لا مانع منه فضلاً عمّا إذا صالح عليه أو نقل حق الاختصاص ويجوز نقل الدم من بدن إنسان إلى آخر، وأخذ ثمنه بعد تعيين وزنه بالآلات الحديثة، ومع الجهل لا مانع من الصلح عليه، والأحوط أخذ المبلغ للتمكين على أخذ دمه مطلقاً، لا مقابل الدم ولا يترك الاحتياط ما أمكن.

2ـ انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"(61) ومن الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام والتشفـّي، ولم يكن يومذاك أي فائدة تترتّب على قطع أعضاء الميت سوى تلبية للرغبة النفسية – الانتقام – ولكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت. ويمكن أن يكون من هذه المقولة المثال التالي:

3ـ لا شكّ انّ التوالد والتناسل أمر مرغوب في الشرع. روى محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(ع)، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً يوم القيامة".(62)

وروى جابر عن أبي جعفر(ع)، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يمنع المؤمن أن ينفذ أهلاً لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بـ لا إله إلاّ الله".(63)

حتى أنّه سبحانه يمن على عباده بكثرة المال والبنين، ويقول: "استغفروا ربّكم إنَّه كانَ غفّاراً* يُرسل السّماء عليكم مدراراً* ويمددكم بأموال وبنين"(64).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات الحاثة على تكثير النسل، لكن ربما تعتري البلاد أزمة اقتصادية وثقافية خانقة لا تتمكن من توفير الخدمات اللازمة لمواطنيها نتيجة كثافة سكّانها، فعند ذلك ينقلب ملاك الحكم الاستحبابي إلى غيره، لأنّ هدف الشارع من تكثير النسل هو توفير العزّة والمنعة، فاذا تعسّر فحينها يكون تحديد النسل هو الحل المطلوب.

وهناك أمثلة أخرى لم نستعرضها لعدم ثبوت تغيير الملاك عندنا، كصناعة التماثيل فربما يتصور انّ الملاك في التحريم هو كون صناعة التماثيل ذريعة لعبادة أصحابها، وأمّا اليوم فقد انتفى ذلك الملاك وعادت من الفنون الجميلة.

هذا بالنظر إلى البلاد الإسلامية، وأمّا بالنظر إلى دول جنوب آسيا فالتجسيم هناك رمز العبادة والشرك وذريعة إليه فهل يكفي في الحلية خلو العمل من الملاك في بلد خاص، أو يجب أن يكون كذلك في كافة البلدان أو أغلبها، والثاني هو المتعيّن.

الثالث: تأثيرهما في كشف مصاديق جديدة للموضوع

إنّ الزمان والمكان كما يؤثران في تغيّر الملاك وتبدّله، كذلك يؤثران في إسراء الحكم إلى موضوع لم يكن موجوداً في عصر التشريع وذلك بفضل الملاك المعلوم، ولنذكر هنا أمثلة:

1ـ انّ السبق والرماية من التمارين العسكرية التي يكتسب بها المهارة اللازمة للدفاع عن النفس وللقتال والظاهر من بعض الروايات حصرها في أمور ثلاثة.

روى حفص بن غياث، عن الإمام الصادق(ع) قال: "لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل – يعني: النضال –".(65)

وروى عبدالله بن سنان عنه(ع) قال: سمعته يقول: "لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل – يعني النضال –".(66)

وروى الإمام الصادق(ع) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يقول: "إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش وما سوى ذلك فهو قمار حرام".(67)

ومن المعلوم انّ المناط للسبق بهذه الأمور هو تقوية البنية الدفاعية، فتحصيل هذا الملاك في هذه الأعصار لا يقتصر على السبق بهذه الأمور الثلاثة، بل يتطلب لنفسه وسائل أخرى اكثر تطوراً.

قال الشهيد الثاني في "المسالك": لا خلاف بين المسلمين ف

عدد القراء : 1609