shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

القروض التبادلية بين شبهة الربا وشكلية العقود علاء الدين زعتري

اشتراط المقرض أن يقرضه المقترض أيضاً قرضاً متوقفاً على القرض الأول، أو متأخراً عنه، هو ما يسمى بالقروض التبادلية (Reciprocal Loans).

ويُتصور المحذور فيما يسمى بالقروض التبادلية في أمرين:

الأول: احتمال وقوع الربا من حيث إن المقرض ينتفع بإقراض الآخر له، أي القرض المقابل الذي يحصل عليه بالشرط من المقترض.

والثاني: أن شكلية هذا العقد تحتمل الحظر لتحقق عقدين في عقد، وهو منهي عنه في الحديث.

عهد عن الفقهاء مقولة "كل قرض جر منفعة فهو ربا"، وفُهم منها منع انتفاع المقرض من القرض مطلقاً بصرف النظر عن وجه هذا الانتفاع ومدى تضرر المقترض به، لكن هذه المقولة قاعدة فقهية لا ينبغي أن تفهم على عمومها، لوجود بعض الاستثناءات العملية في تطبيقات الفقهاء أنفسهم.

والقروض التبادلية هي إحدى أهم المسائل ذات التطبيقات المعاصرة المرتبطة بقضية انتفاع المقرض من قرضه.

القروض التبادلية هي القروض المشروطة ببعضها البعض، أي حيث يكون تقديم قرض باتفاق العاقدين متوقفاً على التزام المقترض  بتقديم قرض مقابل.

أنواع القروض التبادلية:

تقسم القروض التبادلية باعتبار جهة المقرض والمقترض إلى الأنواع التالية([1]):

النوع الأول: ما يكون بين المصارف أو المؤسسات المالية وبين الأفراد:

 ويتفرع عن هذا النوع صورتان:

 الصورة الأولى: الإيداع بشرط الإقراض:

 يتفق المصرف في هذه الصورة مع عميله مثلاً على إيداع العميل لديه مبلغاً من المال، وفي مقابل ذلك يمكّنه المصرف من انكشاف حسابه إلى حد ووقت معين([2])(Overdraft) ، أو في مقابل أن يقرضه المصرف قرضاً مستقلاً مبلغاً من المال إلى أجل يتفقان عليه.

فهنا قرض مشروط بقرض، إذ إيداع العميل مبلغاً من المال لدى المصرف ما هو إلا إقراض للمصرف، لوجود الإذن بالاستعمال وإن سميّ وديعة؛ وتفصيل ذلك أن الوديعة في الأصل ما هي إلا استنابة في حفظ مال، فلا يسع المودَع عنده استعمالُ الوديعة؛ فإن أذن له المودِع، فهي عاريّة إذن، وإن سميّت وديعة([3])، لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني؛ فإذا كان هذا الشيء المعار المأذون باستعماله مما يهلك بالاستعمال كالنقود، فإن هذا العقد قرض، للقاعدة السابقة، وحسب النص القانوني.

وإذا كانت وديعة العميل هنا لدى المصرف قرضاً؛ فإن هذا القرض مشروط اتفاقاً بين الطرفين بقرض آخر، وهو إما القرض المستقل، بأن يقرض المصرف العميل مبلغاً معيناً من المال إلى أجل يتفقان عليه، سواء أكان المبلغ أقل من القرض الأول، أم أعلى منه، أو مساوياً له.

أو إنه الصورة الأخرى، أي انكشاف الحساب([4])، حيث يسمح بمقتضاه المصرف للعميل بأن يسحب أكثر من مبلغ الوديعة إلى مقدار معين وأجل معين، أي فيصير عميل المصرف مديناً للمصرف مقترضاً منه بعد أن كان دائناً ومقرضاً له.

وإن لم يتحقق في السحب على المكشوف اشتراط قرض بقرض نصاً ووقوعاً، فلا أقل من أنه على سبيل: أقرضك على أن لي الحق في أن أقترض منك متى أشاء، وهذا من قبيل قرض مشروط بقرض.

ولا يعنينا هنا التفصيل في قضية احتساب المصرف فائدة عن مقدار انكشاف الحساب، لأننا هنا بصدد بيان حكم اشتراط قرض في قرض.

 

الصورة الثانية: الإقراض بشرط الإيداع:

يمكن القول إن الصورة هنا بعكس الصورة السابقة، فيكون الإيداع، أي إيداع العميل لدى المصرف مبلغاً من المال شرطاً لحصول العميل على قرض من المصرف.

وقد تم اقتراح هذه الصورة كحلٍ بديل عن فرض المصارف فائدة عن المبالغ التي تقدمها بشكل قروض للأفراد، فتلجأ المصارف إلى هذا دفعاً للخسارة الاقتصادية التي تنجم عن تقديم القروض بلا فائدة، أو تحقيقاً لربح اقتصادي حسابي زائد.

    والربح الاقتصادي، أو الخسارة الاقتصادية، الذي نتكلم عنه هنا يختلف عن الربح المادي أو الخسارة المادية المتحققين فعلاً؛ لأن تقديم مبلغ من المال قرضاً لآخر دون فرض زيادة هو في نظر الاقتصاديين خسارة، إذ في ذلك تعطيل لاستثمار ذلك المال ليعود مآلاً بالربح.

أي فالذي يقرض القرض الحسن خاسرٌ اقتصادياً وإن عاد إليه رأس المال؛ وبالمقابل، فإن الذي يقترض القرض الحسن رابح اقتصادياً، إذ يتسنى له بذلك فرصة استثمار ذلك المال وإن لم يربح فعلاً.

فإذا ما أراد المصرف المقرض بلا فائدة أن لا يخسر اقتصادياً بسبب منحه قروضاً للغير، فإنه يشترط قرضاً من عميله بالكيفية المتقدمة.

والصورة العملية المقترحة في ذلك أن يشترط المصرف على عميله إيداع جزء من ذات القرض لديه إلى مدة أطول بحيث تنتفي الخسارة الاقتصادية، كأن يقرض المصرف شخصاً مئة ألف لمدة ثلاثة شهور ويشترط على ذلك الشخص إيداع جزء من القرض وقت تسليمه إياه لمدة أطول، عشرة آلاف مثلاً إلى ثلاثين شهراً.

(100000×3 = 10000×30 = 300000).

فيستلم العميل مئة ألف يودع منها عشرة آلاف؛ فإذا مرت ثلاثة أشهر ودفع العميل المئة ألف، بقي دائناً للمصرف بعشرة آلاف يستوفيها منه بعد 27شهراً([5]).

النوع الثاني: ما يكون بين الأفراد أنفسهم:

ويشمل هذا النوع مسألتين:

المسألة الأولى: ما يعرف بالجمعيات:

المسألة الثانية: إقراض فرد لآخر قرضاً مقابلاً بقرض مساو له أو أكبر:

النوع الثالث: ما قد يكون بين الأفراد أو بين البنوك على السواء:

الحديث في هذا النوع هو عن اشتراط قرض بقرض مع اختلاف عملة القرض:

قد يملك رجل أو مصرف مبلغاً من المال بعملة ما ويحتاج إلى مبلغ بعملة أخرى يجده عند شخص أو مصرف آخر، والشخص أو المصرف الأخير محتاج إلى العملة الأولى، وكل منهما يرى أن لا مصلحة له في إجراء عقد صرف في الوقت الراهن، فيقترحان أن يقرض كل منهما الآخر قرضاً بالعملة التي لديه إلى أجل معين.

فإذا جاء الأجل، دفع كل منهما من جنس عملة ما استقرض واسترد جنس عملة ما أقرض. أي فيحلان مشكلتهما دون الحاجة إلى إجراء عقد صرف، وتكون هذه العملية من حيث التكييف قرضاً مشروطاً بقرض([6]).

المطلب الثاني: حكم القروض التبادلية:

مما تقدم تتبين الحاجة إلى معرفة حكم الأمور التالية، ليمكن بعد ذلك معرفة الحكم الشرعي في الحالات والصور والمسائل المتقدمة:

  • هل اشتراط قرض في قرض هو اشتراط منفعة زائدة للمقرض، فتحرم لذلك؟
  • هل التعويض الاقتصادي عن القرض الممنوح للغير بقرض آخر يُفرض على المقترض ليعوّض المقترض عن خسارته الاقتصادية، أو ليحقق لنفسه نفعاً اقتصادياً، يمكن أن يعدّ من جملة المنافع التي تصيب المقرض وتكون مقصودة في التحريم؟
  • هل يحرم اشتراط قرض في قرض لمجرد اجتماع العقدين وإن لم يكن ثمَّ نفع في ذلك الاستقراض لأحد العاقدين؛ وبعبارة أخرى، فهل التحريم لمجرد ارتباط عقد بعقد، أو هو لما قد يترتب على ذلك من انتفاع ؟

بين يدي الأسئلة المتقدمة نضع النصوص التالية ذات الصلة بالمسألة:

حديث علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر منفعة فهو ربا"([7]).

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة([8]).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة([9]).

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في البيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك"([10]).

وقبل مناقشة هذه الأدلة ودلالتها على المراد في هذا الباب نعرض لبعض أقوال الفقهاء في قضية اشتراط قرض في قرض:

قال الحطاب في المواهب: (ولا خلاف في المنع من أن يسلف الإنسان شخصاً ليسلفه بعد ذلك)([11]).

وفي الشرح الكبير للدردير: (أسلفني وأسلفك هو سلف جر نفعاً)([12]).

وقال ابن قدامة: (وإن شرط في القرض أن يؤجره داره، أو يبيعه شيئاً، أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى، لم يجز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف؛ ولأنه شرَط عقداً في عقد، فلم يجز كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره)([13]).

وعن البهوتي: (إن شرط المقترض الوفاء أنقص مما اقترض، لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة؛ أو شرط أحدهما على الآخر أن يبيعه أو يؤجره أو يقرضه، لم يجز ذلك لأنه كالبيعتين في بيعة المنهي عنه)([14]).

ومثل الكلام السابق بالمنع والتعليل بأنه قرض يجر نفعاً ذكره الشافعية([15]).

لكن جاء في حاشية قليوبي: (الجمعية المشهورة بين النساء بأن تأخذ امرأة من كل واحدة من جماعة منهن قدراً معيناً في كل جمعة أو شهر، وتدفعه لواحدة، إلى آخرهن، جائزة، كما قال الولي العراقي)([16]).

وهذا اجتهاد فقهي بجواز الجمعيات القائمة على القروض التبادلية.

ويلاحظ على نصوص المنع أن بعضها قد رد المنع إلى حصول منفعة للقرض، وبعضها ردّه إلى حصول مجرد اجتماع عقدين؛ أي فتنحصر مناقشة مسألتنا، وهي حكم اشتراط قرض في قرض، أو القروض التبادلية، في قضيتين، فيهما الإجابة عن الاسئلة الثلاثة المتقدمة، وهما:

- حصول المنفعة المحرمة، أو الربا للمقرض.

- اجتماع عقدين في عقد.

أولاً_ حصول المنفعة أو ربا القرض باشتراط قرض آخر:

إن مبنى القول بحصول المنفعة أو الربا هو: (كل قرض جر منفعة فهو ربا). وفيما يلي التفصيل في هذا الدليل:

من حيث السند:

قال الأمير الصنعاني: رواه الحارث بن أبي أسامة وإسناده ساقط، لأن في إسناده سوّار بن مصعب الهمذاني المؤذن الأعمى، وهو متروك([17]).

لكن روى البيهقي عن الصحابي فضالة بن عبيد موقوفاً: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا)([18])، وروى نحوه عن إبراهيم (النخعي) ابنُ أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما([19]).

   وذكره ابن نجيم قاعدةً بلفظ: (كل قرض جر نفعاً حرام)([20]).

   فهذا الحديث لم يصح من حيث السند، لكن معناه يُعدّ قاعدةً في باب القرض، ويستدل به العلماء على اختلاف مذاهبهم.

ومنه يستنبط أن أي نفع يستجره المقرض من قرضه  يعدُّ ربا، وسبب ذلك أن عقد القرض قد شرع في الأصل ليكون من عقود التبرع، فمُنِع انتفاع المقرض بقرضه لذلك؛ إذ انتفاعه يخرج هذا العقد عما وضُع له من التبرع والترفق والتيسير([21]).

لكن من الاستثناءات على هذه القاعدة، أو الحديث، جواز أن يرد المقترض أفضل مما اقترض مع غير شرط منصوص أو ملحوظ باتفاق الفقهاء([22]).

ووجه الاستثناء أن هذه الزيادة المردودة نفع حاصل للمقرض بسبب القرض وقد أجيزت؛ فيمكن أن تقيد القاعدة على ذلك فتصبح (كل قرض جر نفعاً مشروطاً أو ملحوظاً فهو ربا).

والسؤال: لم تمنع الشريعة وتعد رباً نفعاً يصيب المقرض بسبب قرضه ولا يتضرر به المقترض!؟

إن الأصل في الربا في باب القرض أنه زيادة كمية، أو نوعية يدفعها المقترض إلى المقرض، أي: إنها كلفة على المقترض يدفعها بسبب ذلك القرض إلى المقرض، وفي ذلك نص الكتاب: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، فالزيادة التي يدفعها المقترض ربا وظلم.

لكن ما يضير المقترض أن يستجر المقرض نفعاً من القرض إذا كان ذلك النفع مما لا يتضرر به المقترض وليس فيه عليه أدنى كلفة!

إن الشريعة لما أجازت أن يدفع المقترض زيادة من غير شرط منصوص أو ملاحظ فقد دلّ ذلك على أن منع انتفاع المقرض إنما هو لحق المقترض، لا لذات النهي عن انتفاع المقرض بالقرض؛ وإلا، لكان المقترض منهياً عن أن يدفع زيادة من عنده تبرعاً!

فعليه، ما ينبغي أن يُفهم منع المقرض من الانتفاع بالقرض إذا لم يتضرر بذلك المقترض، وهذا ما فهمه الحنابلة وبنوا عليه جواز اشتراط مكان معين لوفاء القرض إذا لم يكن في ذلك إضرار بالمقترض بأن كان للقرض مؤونة. ولابن قدامة نصٌ صريح في جواز النفع الذي يصيب المقرض ولا يتضرر به المقترض:

"وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز، ومعناه: اشتراط القضاء في بلد آخر , وروي عنه جوازها ; لكونها مصلحة لهما جميعاً. وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم , ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق , فيأخذونها منه. فسُئل عن ذلك ابن عباس , فلم ير به بأساً , وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا , فلم ير به بأساً. وممن لم ير به بأساً ابن سيرين , والنخعي؛ رواه كله سعيد. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد أخرى ليربح خطر الطريق. والصحيح جوازه; لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما , والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها , بل بمشروعيتها. ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه , ولا في معنى المنصوص , فوجب إبقاؤه على الإباحة). [23]

 

بناءً على ما تقدم يصلح تقييد القاعدة في هذا الباب لتصبح: (كل قرض جر نفعاً مشروطاً أو ملحوظاً ويتضرر به المقترض فهو ربا).

ولعل الفهم بمنع المقرض من أن يستجلب أي نفع بإقراضه غيره ولو من غير ضرر به قد أتى من الحيطة البالغة في قضية الربا، باعتماد مفهوم القرض الحسن الذي لا يبتغي فيه المقرض جزاءً ولا شكوراً كما في قوله تعالى: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}.[24] فقد فهم الناس أن القرض لا يكون قرضاً حتى يكون حسناً لا يحصل فيه أي نفع للمقرض؛ لكن إقراض الله تعالى ليس كإقراض الناس، فمعنى إقراض الله حسناً خلوص النية لله تعالى فيه، وعدم رجاء جزاء سوى الثواب، وهذا شرط مضاعفة الثواب والمغفرة عند الله سبحانه وتعالى.[25]

أي فالذي نراه أن القرض الحسن للناس الذي لا يرجو المقرض فيه جزاءً ولا شكوراً من الورع، لا من الواجب، فعمر رضي الله تعالى عنه قد امتنع عن الاستظلال بظل الدار المرهونة لديه على أن ذلك نفع ورعاً ولم يكن ذلك واجباً عليه؛ فما يضير الدار ويضير صاحبها أن يستظلّ بها عمر!!

وتجدر الإشارة هنا إلى أمر مهم، وهو أن عدم خلوص نية التبرع لدى المقرض في القرض لا يخرج العقد من صفة القرض إلى المعاوضة، ليدخل بعد ذلك في دائرة ربا البيوع حيث ربا النسيئة حاصل في كل الأحوال مع التفاوت في تسليم البدلين، وذلك لأن ربا القروض ربا خاص منفرد في أحكامه عن ربا البيوع؛ فالربا في القرض إما أن يحصل، فيتحقق ربا قرض لا غير، وإما أن لا يحصل، فيكون القرض غير ربوي. ومما يؤكد استقلال ربا القرض عن ربا البيوع في الأحكام أن ربا القرض يحصل في كل مال، أما ربا البيوع، فلا يحصل إلا في أموال مخصوصة بحسب العلة المقول بها؛ وكذا الحكم بوقوع الربا في بيع مال بمال زاد فيه أحد العاقدين عن غير شرط منصوص أو ملحوظ، وعدم حصول الربا بزيادة غير مشروطة ولا ملحوظة يدفعها المقترض؛ ويفترقان أيضاً في أن وجود الأجل أصل في القرض، وهو سبب لوقوع الربا في بيع الأموال الربوية. وعليه، فلا يجتمع ربوان، ربا قرض وربا بيع في معاملة واحدة، بل إما هذا، وإما هذا.

 

    وإذا اعتمدنا النتائج المتقدمة، فقد آن لنا أن ننظر في قضية اشتراط قرض بقرض من منظور تضرر المتقترض باشتراط قرض عليه أو عدم تضرره.

فالسؤال الآن: هل يتضرر المقترض في تلك الحالات والصور المتقدمة بالقرض المشروط عليه أو لا يتضرر؛ هذا مع التسليم كما تقدم بأن أي زيادة كمية أو نوعية مستحقة على المتقرض هي ضرر وممنوعة بالنص؟

الظاهر أن في الحالات التي يشترط فيها المقرض، مصرفاً كان أو فرداً، على المقترض، فرداً كان أو مصرفاً، أن يقرضه نوع ضرر حاصلاً بالمقترض من حيث إلزامه بإخراج مال عن حيازته يدفعه إلى غيره، وفي ذلك تعطيل لمنفعة ذلك المال، وهو ضرر؛ فلا يحق للمقرض أن يطالب المقترض بذلك ليعوض عن الضرر الحاصل له بتعطيل منفعة مال القرض مدة القرض، لأن المقرض في الأصل متبرع بالقرض، لأن القرض من عقود التبرعات، وحدود المنفعة الجائزة للمتقرض هي فيما لا يتضرر به المقترض فقط، وفي شرط القرض ضرر بالمقترض كما تقدم.[26]

أي فلا يجوز للمقرض أن يشرط على المقترض عقد قرض آخر تعويضاً عن فوات المنفعة الاقتصادية، لأن ذلك مما يتضرر به المقترض وإن لم يكن وجه هذا الضرر حاصلاً بزيادة مال يدفعها المقترض. ومن باب أولى أن لا يجوز للمقرض أن يشرط على المقترض قرضاً يحقق له نفعاً اقتصادياً على النحو الحسابي الذي سبق بيانه، لأن في ذلك زيادة ضرر على المقترض بإقراض مبلغ أكبر أو لأجل أطول.

 

حكم اشتراط قرض بقرض مع اختلاف العملة من حيث حصول الربا لا شكلية العقد:

أما اشتراط قرض بقرض مع اختلاف عملة القرض، فيمكن القول من حيث اعتبار حصول الربا في القروض المتبادلة لا من حيث شكلية العقد: إن الغرض من هذه المعاملة بين الطرفين كما صورناها ليس حقيقة القرض، أي الحاجة إلى حقيقة المال، بل الحصول على عملة معينة من جنس آخر غير جنس العملة المتوفرة لكل من الطرفين؛ فهو تعامل صير إليه فراراً من إجراء عقد الصرف الذي ليس فيه مصلحةُ أي من الطرفين؛ فعلى هذا، لا يقع ما قدمنا من لحوق ضرر بالمقترض ناجم عن حبسه عن الانتفاع بمبلغ المال الواجب عليه تقديمه إلى المقرض، لأن المقصود من الأمر ليس قرضاً كما تقدم، بل الاستغناء بصيغة القرض عن الصرف. لكن يتقيد الجواز، وتبعاً لما تقدم، بأن تتساوى قيمة القرضين؛ فلو كانت قيمة أحدهما أكبر، أو لأجل أبعد، أو بأي صيغة ينجم عنها تفاوت في الاعتبار الحسابي الاقتصادي، فإن هذا يعني إضراراً بأحد العاقدين على حساب انتفاع الطرف الآخر، وذلك بتعطيل منفعة ذلك المبلغ الفاضل بالحساب الاقتصادي عن المبلغ الآخر.

وكمثال على هذا: لو كان الرينغت الماليزي يساوي 14 ليرة سورية، فتقارض تاجران بقصد تجنب الصرف، فأقرض أحدهما الآخر ألف رينغت على أن يقرض الآخر 20 ألف ليرة سورية لذات المدة ، ولتكن سنة، فإن هذا يمتنع بحسب الاعتبار المتقدم، لأن مقرض العشرين ألفاً يتضرر بحبسه عن الانتفاع بما يزيد عما يقابل قيمة القرض الممنوح له، أي بما يفضل عن 14 ألفاً، أي 6 آلاف ليرة.

فالخلاصة إذن في قضية اشتراط قرض بقرض مع اختلاف عملة القرض أن العملية لا بأس بها بحسب المبدأ الذي اعتمدناه ما دام القصد تجنب الصرف لا حقيقة القرض، وما دام مبلغا القرض متساويين حسابياً.

 

حكم قروض الجمعيات:

قروض الجمعيات قروض مشروطة ببعضها، وليس القصد منها القرض حقيقة كما تقدم، بل الادخار، فهي، أي الجمعيات، طريقة لإلزام المرء نفسه بالادخار. لكن لا ينكر أن المساهم الذي يستلم المال أولاً، فمن بعده بالترتيب، يتيسر له الانتفاع بالمال على نحو لا يتيسر للمستلم آخراً، بل هو مقترض حقيقة ومستفيد بالحساب الاقتصادي _ بناء على أن المعجل أعلى قيمة من المؤجل _ أكثر ممن يأتي بعده. وهكذا من بعده إلى واسطة العقد حيث يتساوى الضرر والنفع ا لاقتصاديين، ثم يكون من بعده متضرراً أكثر منه منتفعاً، إلى أن يصار إلى آخرهم، فيكون هذا متضرراً ضرراً اقتصادياً وغير منتفع بالمرّة.

ولهذا، فإننا لا نرى هذه المسألة جائزة إلا أن يغلب عليها صفة التبرع والتكافل؛ فيأخذ المال المحتاج الأشد إليه في كل مرة؛ أو أن يرتب المساهمون احتياجاتهم سلفاً، فيتفقون على ترتيب معين بحيث تقتضي مصلحة كل فرد منهم هذا الترتيب؛ فحينئذ يكون المتأخر في استلام الجمعية متبرعاً لمن قبله_ أو في حكم المتبرع _ تبرعاً حقيقياً على أساس التكافل، سواء أكان هذا التوزيع على أساس الحاجة الأشد أو مصلحة الجميع؛ وبغير هذا، أي مع فوات التبرع، فإن الإضرار حاصل بالبعض، أي المتأخرين في استلام الجمعية، فتمتنع العملية.

ولو فات شرط التبرع والتكافل بسخط أحدهم، فإن المسألة في رأينا تبقى في دائرة المحظور، لأن الأصل فيها الحظر كما تقدم لوجود المتضررين، فلا تخرج عن المحظور إلا بقصد التبرع والتكافل، كما هو الحال في جمعيات التكافل الإسلامية المفتى فيها بالجواز، التي يساهم فيها كل فرد بحصة، ثم يعطى هذا المال لمن تنزِل به نازلة من المساهمين، أو يعطى لأهل من يتوفى منهم؛ إذ لو لم يكن الأمر هنا تبرعاً، لما جاز أيضاً للغرر. فالتبرع هو الذي أجاز العملية هنا، وهو هنا بذات المال، وفي الجمعيات التبرع بالدور والترتيب.

 

ثانياً_ شبهة اجتماع عقدين في عقد:

بعد الحديث عن شبهة الربا ومدى حصولها في القروض التبادلية، نتناول الآن في الكلام الآتي الشبهةَ الباقية المتعلقة بالشكلية، وهي شبهة اجتماع العقدين في عقد.

فالقرض عقد، وفي اشتراط قرض بقرض اجتماع عقد في عقد، أي فقد وجد عقدان في عقد واحد، وهذا منهي عنه بنص حديث ابن مسعود المتقدم.

ولئن كان المراد بهذا الحديث البيعتين في بيعة كما هو صريح حديث أبي هريرة ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة))، فإن الدلالة على منع القرض بقرض أولى من منع البيعتين في بيعة، لأنه إذا امتنع اجتماع البيعتين مع أن البيع عقد معاوضة فيه ثمن ومثمّّن ومساومة، فالأولى منع اجتماع القرضين، لأن القرض من عقود التبرعات حيث لا معاوضة من الطرفين.

وهذا بدوره يقودنا إلى البحث في النهي عن اجتماع البيعتين في بيعة بخاصة، والعقدين في عقد بعامة، ولذا فإننا سنستعرض الأقوال في معنى وحكم البيعتين في بيعة، أو الصفقتين في صفقة. ولكن قبل ذلك نورد جملة الأحاديث والروايات والكلام في الأسانيد:

    أ -  الأحاديث الواردة في البيعتين في بيعة وبيان أسانيدها:

    - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)).[27] وروي أبو هريرة مرفوعاً أيضاً: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)).[28])

 - عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)).[29]

الكلام في الأسانيد:

حديث أبي هريرة باللفظ الأول صحَّحه الترمذي بهذا اللفظ وقال: حديث حسن صحيح.[30]

أما باللفظ الثاني، فقد قال فيه الحافظ المنذري في مختصر السنن: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلَّم فيه غير واحد. وقال فيه الشوكاني مثل ذلك.[31]

وأما حديث ابن مسعود، فهو من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وفي سماعه منه كلام، حيث ذكر أن أباه توفي وهو ابن ست سنين. وقد أورده الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير وسكت عنه.[32] وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد _ أي في هذا الحديث ­_ ثـقات.[33]

فالنصوص في البيعتين في بيعة إذن مقبولة بالجملة.

ب ـ معنى البيعتين في بيعة:

وردت تفسيرات كثيرة في معنى البيعتين في بيعة، فقد قيل معناها:

  1. أن يذكر البائع ثمنين مختلفين في السلعة زيادة ونقصاً، أو أحدهما حالّ والثاني مؤجل، ويفترق العاقدان من غير أن يتفقا على أحد الثمنين. وكذلك إن اختلف المبيعان. [34]

مثال اختلاف الثمنين: أن يقول البائع: بعتك داري بألفٍ نقداً أو بألفين نسيئة؛ فيقول المشتري: قبلت، ثم يفترقان دون الاتفاق على أحد الثمنين.

ومثال اختلاف المبيعين أن يقول البائع: بعتك هذا الكتاب بمائة أو هذا القلم بعشرة.

  1. أن يشترط أحد المتبايعين على الآخر عقداً آخر، كقرض أو صرف أو إجارة، كأن يقول البائع مثلاً: بعتك هذه الدار على أن تقرضني ألف دينار. وهذا تفسير آخر للإمام الشافعي بعد أن ذكر التفسير الأول.[35]
  2. أن يقول البائع: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالّة. ورجّح هذا المعنى ابن القيم.[36] أو أن يقول: أبيعكها بثمانين نقداً على ان أشتريها منك بمائة إلى أجل.
  3. أن يبيعه سلفاً (سلماً) إلى أجل عشرة أطنان قمح مثلاً إلى سنة؛ فإذا حلّ الأجل، قال المشتري: بعني تلك الحنطة التي لك عليّ بخسمة عشر إلى سنة أخرى. (زدني في الأجل أزدك في العوض).
  4. أن يقول البائع: بعتك هذا بعشرة دنانير مثلاً على أن تعطيني بها صرفها دراهم. وقال باحتمال هذا المعنى فقهاء منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، إذ يجتمع حينئذ البيع مع الصرف في عقد واحد.[37]

ج ـ أقوال الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة:

رأينا كيف أن في البيعتين في بيعة معانيَ كثيرة، ولعلَّ الراجح منها تلك الصور التي يذكر فيها ثمنان أحدهما أقل من الآخر، نظراً لموافقتها لرواية (فله أوكسهما أو الربا) حينئذ، إذ تقتضي هذه الرواية وجود ثمنين مختلفين. ومعنى أوكسهما: أقلهما.

وهذا يحتمل تفسير البيعتين في بيعة على المعنى الأول، كما لو قال: بعتك داري هذه بألفٍ نقداً أو بألفين نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتفقا على أحد الثمنين. وهذا يمنعه جمهور الفقهاء لأجل الجهالة في الثمن، بخلاف المالكية، فإنهم يمنعونه لأجل شبهة الربا إن كان الثمن لازماً في أحد الثمنين؛ وتفسيره عندهم أن المشتري قد يختار أولاً في قرارة نفسه إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجَّل أو المعجَّل، ثم يبدو له غير ذلك، فيكون حينئذ قد ترك أحد الثمنين إلى الآخر، أي كأنه باع أحد الثمنين بالثمن الآخر. وسبب ذلك أنه عندما اختار في قرارة نفسه أحد الثمنين فكأنَّما ملك السلعة به، والحال أن العقد لازم على كل حال، ثم غيَّر رأيه واختار الثمن الآخر، فقد آل الأمر إلى أنه استبدل ثمناً عاجلاً بآخر آجلٍ مع تفاضل أو العكس؛ وهذا من الربا. أمّا إذا كان الخيار للمشتري بعدم التزامه بالبيع أصلاً، فَتَنْتَفي هذه الشبهة، لأن العقد غير لازم أصلاً، فلا عبرة حينئذٍ بالانتقال من ثمن إلى ثمن في اختيار المشتري مادام غير لازم في حقِّه ولم يصرِّح بإنفاذه البيع بأحد الثمنين.[38]  وهذا غلوٌّ كما يبدو من المالكية في التعليل بالذريعة الربوية، لكنَّا نجد ابن جُزيّ من المالكية خلافاً لهم قد علَّل عدم صحَّة هذه الصورة من معاني البيعتين في بيعة بما علَّل به الجمهور من الغرر والجهالة لا بالربا.[39]

ويحتمل أيضاً التفسير على المعنى الثالث، وهو أن يقول له: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالّة. وهو مضمون بيع العينة عند الجمهور ، أو الآجال عند المالكية؛ وهو بيع يتخذ ذريعة ربوية. ويحتمل التفسير على المعنى الرابع، وهو كربا الجاهلية.[40]

فعلى هذا، فإن حمْل معنى البيعتين في بيعة على معنى اجتماع عقدين في عقد مطلقاً ولو لم يكن ثمة جهالة، أو غرر، أو عينة، أو محذور آخر أمر مرجوح وإن كان قد قال به بعض الفقهاء كالإمام الشافعي.

 

فالراجح فما نرى من معنى النهي عن بيعتين في بيعة أن المقصود به اجتماع العقدين في عقد صورة " أبيعك بمائة نقداً وبمائة وخمسين إلى أجل" دون أن يُتفق على أحد الثمنين، وذلك للجهالة الحاصلة في الثمن، وهي مفسدة للعقد؛ أو حيث يكون اجتماع العقدين لتحصيل الربا أو للتحيّل عليه، كما في صورة بيع العينة المتقدمة، أو فسخ السلم بثمن أعلى مؤجل؛ أو في نحو اجتماع البيع مع السلف، وهي صورة يتجلى فيها التحايل على الربا واضحاً كما سيأتي. أما حيث لا ربا ولا تحايل عليه، ولا جهالة ولا غرر ولا محظور، ولا ضرر واقعاً بأحد العاقدين، فنرى عدم وجود ما يستدعي فهم منع مجرد اجتماع عقدين من الحديث مطلقاً؛ ولا سيما أن الوقوف عند شكلية النهي قد انخرم بالنص بجواز اشتراط عقود التوثيق كالرهن والكفالة في عقود القروض أو البيوع[41]، فهي عقود في الجملة وقد جاز اجتماعها إلى عقود أخرى؛ ولا سيما أيضاً أن طبيعة التعامل المعاصر قد اقتضت ارتباط عقود كثيرة ببعضها وابتناءها على بعضها البعض، والقول بعموم المنع يورث تحجيرَ واسع، وحرجاً وتأثيماً دون وجود ما ينهض لذلك الفهم من النص؛ اللهم إلا أن يكون اجتماع العقدين في عقد مقصوداً لأجل التحايل على الربا، كما في بعض صور بيوع المرابحة التي القصد منها التمويل بفائدة، حيث يُلزم طالب شراء سلعة ما ليس لديه ثمنها بأخذها من المموّل بعد أن يشتريها هذا الأخير له، فهنا يجتمع عقدان في عقد حين وجود الاتفاق الملزم على شراء الممول للسلعة ومن ثَمَّ بيعها إلى طالب الشراء؛ وكذا الأمر في بيوع العينة.

فالخلاصة إذن أن اجتماع عقدين في عقد ليس ممنوعاً لذاته، بل في الصور التي تؤدي إلى محظور من أكل الربا أو التحيل عليه، أو حصول الغرر والجهالة ونحو ذلك. فيكون على هذا تفسير القول بمنع قرض بقرض، في الحالة التي يتضرر بها أحد العاقدين، بالربا، أوتفسير  منعه باجتماع عقدين في عقد سواءً لأن المؤدى واحد؛ فعليه، لو سلم "القرض بقرض" من إضرار بأحد العاقدين كما في بعض الصور التي قدمنا، فلا يقال ببقاء المنع لبقاء حصول عقدين في عقد، لأن المنع في اجتماع العقدين ليس مقصوداً لذاته، بل لما يشتمل عليه من محظور، ولا محظور هنا مع فوات الإضرار بأحد العاقدين.

فعليه، لا يقال بمنع الجمعيات بالصور التي قلنا بجوازها، وكذا لا يقال بمنع صورة التقارض مع اختلاف جنس العملة التي قلنا بجوازها، وذلك لخلو هذه الصور عن المحظور وإن تحقق اجتماع عقدين في عقد.

وكلامنا الآتي في اجتماع البيع مع السلف سيؤيد وجهة نظرنا في عدم نهوض شكلية اجتماع العقود بذاتها سبباً كافياً للتحريم.

 

 

 

اجتماع البيع مع القرض (السلف)

السلف لغة هو القرض[42]؛ أما اصطلاحاً فيطلق ويراد به أحد معنيين: القرض أو السلم. والسلم يعرِّف بأنه بيع آجل بعاجل. والمراد بالسلف الذي يكون مع البيع المعنى الأول، أي القرض.

وقد جاء في النهي عن اجتماع البيع مع السلف الحديث المتقدم لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في البيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)).[43]

تعليل النهي عن سلف وبيع:

قد يتخذ اشتراط البيع مع السلف طريقة للتحيل على الربا بانتفاع المقرض من قرضه على حساب إضرار المقترض، وذلك بأن يَشترط مثلاً من يسلفُ آخر مبلغاً ما أن يبيعه سيارته بمبلغ معين يوافق مصلحته، فيقول على سبيل المثال: أسلفك ألفاً على أن تبيعني سيارتك بألفين مع أن قيمتها قد تكون أكبر من ذلك: ألفين وخمسمائة. أو إن شرط المسلف شراء المستلف شيئاً منه، شرط ثمناً هو أكثر من الثمن الحقيقي لذلك الشيء، أو كان هذا الشيء مما لا يُرغب بشرائه. ومثل البيع في هذا الإجارة، إذ الإجارة ما هي إلا بيع المنافع؛ فيسلفه على أن يستأجر منه بأقل من أجرة المثل أو على أن يؤجره بأكثر من أجرة المثل؛ وكذا الصرف، إذ هو بيع نقد بنقد، فيقول له مثلاً: أسلفك ألفاً على أن تصرف مني مئة درهم بألف وخمسمائة ليرة سورية مع أن مئة درهم تصرف بألف وأربعمئة؛ فيشترط المقرض ثمناً للصرف يوافق مصلحته.

وهذه الحالات والصور ممنوعة كلها باتفاق الفقهاء، ففيها تحيل صريح على ربا القرض. أما في غير حالة زيادة الثمن أو نقصانه لأجل السلف، فقد منع الفقهاء هذا أيضاً، لكن تعليلهم هنا مختلف، وفيه ما يدل على ما يؤيد وجهة نظرنا السابقة من اعتبار المنفعة الاقتصادية بالجملة، وعدم اعتبار شكلية اجتماع العقدين في عقد إذا لم يؤد إلى ربا أو محظور.

وبيانه أن الحنفية عللوا منع اشتراط السلف حين البيع على النحو المتقدم بأن ذلك الشرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين، فيمتنع. ونحو هذا قول الحنابلة، فقد عللوا المنع بأن اشتراط السلف حين البيع شرط عقد في عقد، فكان بيعتين في بيعة.

أما الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، فتعليله للمنع مختلف وجدير بالاعتبار والتأمل، فهو لم يعلله بشكلية العقد من اجتماع عقدين في عقد، أو بوجود شرط لا يقتضيه العقد كما ذهب الحنفية والحنابلة؛ بل علل المنع بحصول الجهالة، فقال إن شرط السلف في البيع يورث جهالة في الثمن، وذلك لأن منفعة السلف مجهولة، إذ السلف حالٌّ في الحكم، فإن للمسلف أن يطالب بدينه متى شاء؛ والبائع لم يرتض البيع بذلك الثمن إلا مع شرط السلف، فكانت منفعة السلف ضمن الثمن الذي ارتضاه البائع، وهي منفعة مجهولة، فأورث ذلك جهالةً في الثمن، فيمنع.[44]

وزيادة في البيان، فإن الإمام الشافعي رأى أن البائع لم يرتض بيع سلعة إلا بمقابل ثمن معلوم، وقرضٍ مؤجل يدفعه المشتري إليه، أي المنفعة الاقتصادية لذلك القرض، أي فقد جعل ثمن مبيعه مجموع هذين الشيئين؛ ولما كان الأجل غير لازم في القرض، فقد أورث هذا جهالة في الثمن من حيث إن المشتري قد لا يحصل على الثمن الذي أراده عوضاً لمبيعه، وهو الثمن المنصوص مع المنفعة الاقتصادية للقرض الذي شرطه لنفسه، أي فقد كانت هذه المنفعة الاقتصادية المشروطة مجهولة القدر، أو محتملة لعدم الوجود أصلاً، وذلك بسبب حق المقرض باستيفاء دينه متى شاء، فأورث ذلك خللاً في العوض، أي ثمن المبيع.

يقول الإمام الشافعي في الأم: "والبيع والسلف الذي نهى عنه أن تنعقد العقدة على بيع وسلف، وذلك أن أقول: أبيعك هذا بكذا على أن تسلفني كذا[45]؛ وحكم السلف[46] أنه حال، فيكون البيع وقع بثمن معلوم ومجهول، والبيع لا يجوز إلا أن يكون بثمن معلوم".[47]

فهذا هو سبب المنع عند الإمام الشافعي إذن: جهالة الثمن لا شكلية العقد من اجتماع عقدين في عقد. أما الحنفية والحنابلة، فلما لم يروا وجهاً للربا فيها، لما تقدم من افتراض عدم الزيادة في ثمن المبيع لأجل السلف، تمسكوا بشكلية العقد فقالوا بالمنع، وجاوز الإمام الشافعي الشكلية هنا، فعلل المنع بأمر لا صلة له بالشكلية. وهذا يدل على أن الأصل أن المقصود بالمنع عن اجتماع البيع والسلف منعُ التحايل على الربا بزيادة الثمن في البيع أو إنقاصه، لا ظاهر اجتماع العقدين؛ لكن بعض الفقهاء تردد في هذا، فحيث أمكنهم أن يفسروا النهي بالربا كما في الصورة الأولى، حملوه عليه؛ وحيث لم يمكن ذلك، كما في الحالة الثانية المفترضة التي لا زيادة فيها في الثمن، يرد بعضهم المنع إلى الشكل من اجتماع عقدين في عقد، وهذا يدل على اضطراب في عدّ شكلية اجتماع العقود سبباً في المنع. وقد سبق أيضاً ما جاء في حاشية قليوبي من عدم اعتبار شكلية العقد في قضية الحكم بجواز الجمعيات على رغم من اشتمالها على قروض تبادلية.

إذن، فاجتماع البيع مع السلف قد يتضمن توصلاً إلى الربا في بعض حالاته وهو في حالات أخرى ليس كذلك، وخلاف الفقهاء في تعليل المنع في بعض الصور، كما تقدم، دليل على أن المنع لا يفهم منه أنه مقصود لذاته، أي لشكلية اجتماع العقدين، بل لما قد يترتب عنه، كما سبق بيانه في اجتماع البيعتين في بيعة.

 

وعليه، فإن هذا يؤيد ما توصلنا إليه من قبل من أن اجتماع عقدين في عقد ليس ممنوعاً لذاته، بل في الصور التي تؤدي إلى محظور من أكل الربا أو التحيل عليه، أو حصول الغرر والجهالة ونحو ذلك من المحرمات. أي أن شكلية العقد غير مقصودة بالتحريم، فلا يعترض على جواز القروض التبادلية في الحالات التي صرنا إلى جوازها بتحقق عقدين في عقد، لانتفاء وجود المحرمات التي هي محل التحريم في اجتماع عقدين في عقد.

 

 

 

  نتائج البحث

 

  1. القرض الذي يحقق نفعاً للطرفين، المقرض والمقترض، ولا يتضرر به أحدهما، ولا يخالف أصلاً شرعياً، جائزٌ ولا ينافي موضوع عقد القرض، لأنه مصلحة لكليهما، والشرع لا يحرم المصلحة التي لا تضر أحداً، بل يقرها، وعلى هذا نص بعض الحنابلة. ثم إنه لم يوجد الدليل الذي يمنع ذلك، وأما مقولة (كل قرض جر منفعة فهو ربا) فهي قاعدة فقهية لا تفهم على عمومها لوجود بعض الاستثناءات العملية في تطبيقات الفقهاء.
  2. القرض الحسن بمعنى عدم انتفاع المقرض بأي وجه نفع ولو على غير حساب المقترض لا يعدو كونه من الورع غير الواجب.
  3. عدم خلوص نية التبرع لدى المقرض في القرض لا يخرج العقد من صفة القرض إلى المعاوضة، ليدخل بعد ذلك في دائرة ربا البيوع حيث ربا النسيئة حاصل في كل الأحوال مع التفاوت في تسليم البدلين، وذلك لأن ربا القروض ربا خاص منفرد في أحكامه عن ربا البيوع.
  4. في الحالات التي يشترط فيها المقرض، مصرفاً كان أو فرداً، على المقترض، فرداً كان أو مصرفاً، أن يقرضه نوعُ ضرر حاصل بالمقترض من حيث إلزامه بإخراج مال عن حيازته يدفعه إلى غيره، وفي ذلك تعطيل لمنفعة ذلك المال، وهو ضرر؛ فلا يحق للمقرض أن يطالب المقترض بذلك ليعوض عن الضرر الحاصل له بتعطيل منفعة مال القرض مدة القرض، لأن المقرض في الأصل متبرع بالقرض، وحدود المنفعة الجائزة له هي فيما لا يتضرر به المقترض فقط، وفي شرط القرض ضرر بالمقترض كما تقدم.
  5. يستثنى من النتيجة السابقة تطبيق اشتراط قرض بقرض مع اختلاف العملة، فيجوز، لأن الغرض هنا النجاء عن الصرف لا حقيقة القرض، لكن يتقيد الجواز، بأن تتساوى قيمة القرضين (اقتصادياً) حتى لا ينتفع طرف على حساب آخر.
  6. تجوز أيضاً قروض الجمعيات، لأن القصد الادخار لا حقيقة القرض، ولكن نظراً لوجود بعض منتفعين (اقتصادياً) على حساب آخرين، فإنه لا بد من أن تسود نية التبرع والتكافل على هذه المعاملة لجوازها، وهذا يستلزم توزيع المال دورياً على أساس الحاجة الأشد، أو الاتفاق على دور معين هو في مصلحة الجميع.
  7. اجتماع عقدين في عقد ليس ممنوعاً لذاته، بل في الصور التي تؤدي إلى محظور من أكل الربا أو التحيل عليه، أو حصول الغرر والجهالة ونحو ذلك من المحرمات. أي أن شكلية العقد غير مقصودة بالتحريم، فلا يعترض على جواز القروض التبادلية في الحالات التي صرنا إلى جوازها بتحقق عقدين في عقد، لانتفاء وجود المحرمات التي هي محل التحريم في اجتماع عقدين في عقد.
  8. وجود أقوال لبعض الفقهاء تؤكد اعتبار المنفعة الاقتصادية، وعدم اعتبار شكلية العقود في التحريم، بل النظر إلى مضامينها، وإن اجتمع فيها عقدان في عقد.
  9. اجتماع البيع مع السلف ليس ممنوعاً دائماً، بل عندما يؤدي إلى التوصل إلى الربا، أو عندما ينطوي على محظور.
  10. ليس في اتفاق تاجر مع مزارع مثلاً على أن يقدم الأول قرضاً للثاني بشرط أن يبيع الثاني محصوله إلى الأول بسعر السوق من محظورٍ فيما نرى، ولكن بشروط معينة تهدف إلى انتفاء الضرر عن المزارع المقترض؛ أي إن شكلية هذا العقد غير معتبرة في تحريمه إذا لم تؤد إلى محظور معتبر شرعاً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مراجع البحث

 

كتب السنة وشروحها

  1. تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ابن حجر العسقلاني، دار لالمعرفة، بيروت.
  2. تهذيب سنن أبي داود (حاشية ابن القيم على سنن أبي داود)، ابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415هـ.
  3. سبل السلام للصنعاني، دار الكتاب العربي، ط 11، 1418هـ/1998م.
  4. سنن أبي داود، المكتبة العصرية، بيروت، تحقيق محي الدين عبد الحميد.
  5. سنن البيهقي الكبرى، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، تحقيق محمد عبد القادر عطا، 1414هـ.
  6. سنن الترمذي، دار الحديث، القاهرة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
  7. سنن الدارقطني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417هـ/1996م.
  8. سنن النسائي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411هـ/1991م.
  9. شرح سنن الترمذي المسمّاة (عارضة الأحوذي ) لابن العربي، دار إحياء التراث العربي ، بيروت، ط1/1995م.
  10. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الفكر، بيروت، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، 1414هـ.
  11. مسند الإمام أحمد، مؤسسة قرطبة، مصر.
  12. مصنف ابن أبي شيبة، الدار السلفية بالهند، تحقيق مختار أحمد الندوي، ط 1، 1400هـ/1980
  13. مصنف عبد الرزاق، المكتب الإسلامي،بيروت، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي،ط 2،1403هـ
  14. معجم الطبراني الأوسط، تحقيق محمود الطحان، مكتبة المعارف،الرياض، ط1/1995م.
  15. نيل الأوطار لمحمد بن علي الشوكاني، دار الكلم الطيب، دمشق وبيروت، ط1، 1419هـ.

                            

الفقة الحنفي

  1. الأشباه والنظائر لابن نجيم ، دا

    عدد القراء : 2425