المسؤولية الاجتماعية للشركات
في العام 1962 كتب الاقتصادي الأميركي الشهير ميلتون فريدمان في كتاب له بعنوان (الرأسمالية والحرية) يقول:
إن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة التي تقع على عاتق المسؤولين التنفيذيين في الشركات التجارية هي زيادة ما تحققه شركاتهم من دخل إلى أقصى حد ممكن، وما يتكون من ثروة لدى حملة أسهمها.
لكن الزمان تغير الآن،
وأصبحت الشركات التقدمية هي التي تؤمن بالإصلاح الاجتماعي وهي التي تدرك تماما أن زيادة أرباحها إلى أقصى حد ممكن ليس وحده هو كل ما يهم بالنسبة لممارسة أعمالهم التجارية.
فالشركات التجارية يجب أن تساهم أيضا في تحقيق الخير العام على نطاق واسع، وأن تعامل موظفيها، على أقل تقدير، باحترام وتراعي الحفاظ على كرامتهم.
والاهتمام بكل تلك العوامل أثناء ممارسة الأعمال التجارية هو ما يطلق عليه تعبير المسؤولية الاجتماعية للشركات التجارية.
وإذا كانت العولمة قد جلبت الرخاء بالفعل لعديد من الأشخاص، غير أنها كانت عملية انتقائية للغاية واستبعدت البلايين من الأشخاص من أخذ نصيبهم من الثروة الجديدة.
ونتيجة لذلك، وسعت العولمة من التفاوتات بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة النمو، وبين الأغنياء والفقراء داخل البلدان ذاتها. وإلى جانب الفرص الكبيرة جدا والأرباح الهائلة للشركات، فهناك طلبات متزايدة، من داخل قطاع الأعمال التجارية وخارجه، تدعو الشركات إلى أن تعمل في إطار مجموعة من القواعد الاجتماعية المعترف بها عالميا.
ويكتسب الدور الاجتماعي للشركات والقطاع الخاص أهمية متزايدة بعد تخلي الحكومات عن كثير من أدوارها الاقتصادية والخدماتية.
ويتردد الآن في الأسماع ما يسمى بـ (اقتصاد السوق الاجتماعي)، وهو يحمل في طياته موضوع المسؤولية الاجتماعية بالإضافة إلى العمل الاقتصادي، ولقد اهتمت به الدول ومنظمات الأعمال والمنظمات الدولية؛ في محاولة لتخفيف لحدة الفقر في العالم.
ويُلاحظ أن بعض أصحاب الشركات يرغبون في المشاركة الاجتماعية، وينظرون إلى العملية الاقتصادية على أنها نشاط اجتماعي ووطني وإنساني يهدف فيما يهدف إليه إلى التنمية والمشاركة في العمل العام، وليس عمليات معزولة عن أهداف المجتمعات والدول وتطلعاتها.
والمسؤولية الاجتماعية بحسب تعريف البنك الدولي هي: التزام أصحاب الأعمال بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع ككل لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة ويخدم التنمية في آن.
كما عرفت الغرفة التجارية العالميةُ المسؤوليةَ الاجتماعية على: أنها جميع المبادرات الحسنة والمساهمات التطوعية التي تقوم بها المؤسسات الاقتصادية لاعتبارات أخلاقية واجتماعية واعتماداً على الاقتناع الذاتي من دون وجود إجراءات قانونية ملزمة.
كما عرَّف مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة المسؤولية الاجتماعية على أنها: الالتزام المستمر من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل.
وقد جاء هذا الاهتمام بموضوع المسؤولية الاجتماعية في الفكر والنظم المعاصرة نتيجة للصراع بين الرأسمالية والشيوعية.
حيث فشلت الرأسمالية في تحقيق العدالة الاجتماعية، وكان هذا الفشل هو الأساس الذي قامت عليه الشيوعية، ثم ثبت عجزها هي الأخرى عن ذلك، وكان ذلك من أسباب انهيارها في عام 1991م.
ولكي تؤكد الرأسمالية انتصارها على الشيوعية برز الاهتمام بالمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص.
وهكذا يظهر أن المسؤولية الاجتماعية موضوع دخيل على الفكر الرأسمالي السائد، وهم يحاولون تلميع الصورة.
وإن القوانين والتشريعات مهما كانت دقيقة فإنها لا تحمي المجتمعات والحقوق ولا توفر وحدها الأمن والثقة، ولكنها حين تعمل في بيئة أخلاقية فإنها تحقق كفاءة عالية في التنمية والإصلاح، وللأخلاق في كثير من الأحيان سلطات واقعية وفكرية تفوق السلطة المادية.
وللحق؛ فإن المسؤولية الاجتماعية لم تظهر آثارها بعد بشكل ملموس، والدليل على ذلك مساحة الفقر والحرمان التي يعاني منها نصف سكان العالم حيث يوجد حوالي 3 مليارات نسمة في حالة فقر، منهم: 1,3 مليار في حالة الفقر المدقع.
كما أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء زادت سواء على مستوى الدول التي تستحوذ 20% منها سكاناً على 80% من ثروات العالم.
بينما نصيب الأغلبية من الدول وهي 80% سكاناً هو 20% فقط اقتصاداً.
وبالتالي زادت الفجوة بين دخل الفرد في الدول الفقيرة ومثيله في الدول الغنية لتصبح 112:1 بعدما كانت 4:1 في بداية القرن العشرين، وهو ذات الرقم الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
نعم، كما هي الإشارة في صدقة الفطر (صاع التمر، أو صاع الحنطة يساوي 4 أمداد، والمُدُّ كان يُشبع إنساناً).
وهنا تظهر عظمة الإسلام في موقفه الثابت والواضح من قضية المسؤولية الاجتماعية والذي يمكن تلخيصه في الآتي:
أولاً: أصالة المسؤولية الاجتماعية في النظام الإسلامي.
فهي ليست دخيلة عليه كما في النظام الرأسمالي، وليست بديلاً وحيداً كما في النظام الشيوعي وإهمالاً للمصلحة الذاتية لمالك المال، وتستند هذه الأصالة إلى أن ملكية المال في المنظور الإسلامي لله عز وجل، استخلف الإنسان فيه، وبالتالي فإن لله ـ سبحانه حقاً ـ في المال، وحق الله في التصور الإسلامي هو حق المجتمع.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَآتُوهُم من مالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، كما يقول عز من قائل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
ودليل أن الأداء الاجتماعي هو أداء لحق الله تعالى قوله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].
هذا في الوجوب، وأما في الاستحباب والتطوع، فإن الأداء الاجتماعي يستند إلى قيم الأخوة الإنسانية والرحمة والتعاون التي أمر الله بها عباده إذ قال: {وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
ثانياً: الأداء الاجتماعي يجمع بين المسؤولية الملزمة من الشريعة الإسلامية وبين الالتزام الذاتي من المسلم تقرباً لله عز وجل.
فالزكاة والحقوق الواجبة للأقارب والجيران والكفارات ملزمة شرعاً.
والوقف والصدقات التطوعية الأخرى تدخل في مجال الالتزام الذاتي من المسلم يقوم بها لنيل الثواب من الله عز وجل الذي هو جزاء محقق بمثابة بدل القرض الواجب الأداء.
ثالثاً: التطبيق بعد النظرية:
لم يتوقف التشريع الإسلامي عند حد الأمر والحث على أداء المسؤولية الاجتماعية وإنما نظم كيفية هذا الأداء في أساليب وأدوات وآليات محددة بدقة.
يتضح هذا في فقه الزكاة وفقه الوقف والحقوق الواجبة للعمال والإحسان والسماحة مع العملاء والموردين ونحو ذلك من الأحكام الرشيدة والتوجيهات السديدة للمعاملات المالية سواء كانت معاملات تتعلق بعقود المعاوضات أو التبرعات.
رابعاً: سمو الدوافع الإسلامية لأداء المسؤولية الاجتماعية.
فالملاحظ في النظم الوضعية أن فكرة المسؤولية الاجتماعية برزت كرد فعل في مقابل بعضها.
أ ـ إما لمعالجة سلبيات، مثل ما قامت عليه الشيوعية.
ب ـ وإما لرد انتقادات مثل ما قامت عليه الرأسمالية.
أما في النظام الإسلامي فإن أداء المسؤولية الاجتماعية جزء عضوي من الدين لصحة العقيدة والشريعة.
فالزكاة والصدقات تقوم على الأخلاق الفاضلة من العدل والإحسان والله سبحانه أمر بهما في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
خامساً: لا يزال نطاق المسؤولية الاجتماعية في النظم المعاصرة محل أخذ ورَدٍّ.
حيث تضع هذه النظم قاعدة لذلك وهي أن نطاق المسؤولية الاجتماعية يتحدد في نقاط التعارض بين:
مصلحة المؤسسة التي تريد المحافظة على الملكية الخاصة.
ومصلحة المجتمع التي تحتاج إلى التضحية بجزء من المال الخاص بإنفاقه تبرعاً دون مقابل.
ويخضع تطبيق هذه القاعدة لتفسيرات كل طرف بما يغلب مصلحته.
أما في النظام الإسلامي فإن نطاق المسؤولية الاجتماعية في الجانب الملزم شرعاً، محدد بدقة في معدلات زكاة كل مال.
وتتراوح هذه المعدلات بين 2.5 % إلى 20 %.
بالإضافة إلى مراعاة العدل في الحقوق المالية الأخرى والمساهمة في المحافظة على الموارد المشتركة، مثل: الطرق والجسور والغابات والمياه والهواء وكف الأذى عنها وعن الناس كافة.
وذلك يعتبر شرعا من الصدقات التي تمثل أحد أساليب الأداء الاجتماعي.
ويُلاحظ أنه في الإسلام لا تقتصر الصدقات على الإعانة بالمال فقط، وإنما تمتد لاستخدام كل الإمكانيات لإفادة المجتمع.
وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة"، قالوا: فإن لم يجد، قال: "فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل، قال: "فيعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فإن لم يفعل، قال: "فيأمر بخير أو قال بمعروف"، قالوا: فإن لم يفعل، قال: فيمسك عن الشر فإن له بها صدقة"([1]).
وهكذا يتضح أن أداء المسؤولية الاجتماعية في الإسلام واجب ديني وفضيلة إسلامية سبق الإسلام بها الأفكار والنظم المعاصرة، وواجب المسلمين أداء هذه المسؤولية استجابة لأمر الله عز وجل ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون تقليداً أو تنفيذاً لاتفاق عالمي أو دعوات من نظم مستوردة.
والتوجيه السليم لمشاريع المسؤولية الاجتماعية يسهم في رفع مستوى المجتمع والاقتصاد.
من أهداف المسؤولية الاجتماعية:
المحافظة على الإنسان وكرامته.
حسن استخدام الموارد.
دعم المجتمع ومساندته.
حماية البيئة.
ومن وسائل المسؤولية الاجتماعية:
تطوير رأس المال البشري وهو محور اهتمام التنافسية سواء بالتدريب والبحث والتطوير وهو ما يجعل دور مؤسسات القطاع الخاص محوريا في عملية التنمية.
إنشاء علاقات مع الجمهور، ومع المجتمعات المحلية القوية في المواقع التي تعمل فيها.
تمويل مستشفى محلي.
إنشاء جمعية خيرية محلية.
وهذه بعض الفوائد التي تجنيها المؤسسات التي تتحمل المسؤولية الاجتماعية:
تقليص تكاليف التشغيل.
تحسين الصورة العامة لأصناف المنتجات وسمعتها.
زيادة المبيعات.
إخلاص العملاء.
زيادة الإنتاجية والنوعية.
عدد القراء : 1636