shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

النهي عن بيعتين في بيعة

دراسة في الحديث النبوي الشريف

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:

لقد أكرم الله جلّ وعز البشرية برسالة سماوية فاضلة، أتمت الشرائع السابقة لها وأكملتها.

فانتظمت فيها حياة الإنسان عبادة بانتظام العلاقة مع الخالق، ومعاملة بضبط العلائق مع المخلوقات، واجتهد علماء المسلمين وبرعوا في بيان الشريعة الإسلامية وتحديد العلاقات وضبطها لتكون منهجاً للحياة يرقى في التطبيق لينتظم مع أركان هذه الشريعة.

ويأت البحث لبيان بعضٍ مما اجتهد به علماؤنا الأفاضل في حديثٍ نبويٍ تلقوه عمن أوتي جوامع الكلم سيدنا محمد r  في النهي عن بيعتين في بيعة، والاستدلال من خلاله على وجهٍ مشرق من وجوه نظرية اقتصادية إسلامية، فشرعنا الإسلامي قد حض في الكثير من مفرداته على أهمية جلب المنافع ودرء المفاسد، وهذا لن يكون بحال من الأحوال إلا من خلال منهج اقتصادي أخلاقي واضح ومتكامل.

حيث اعتمد الاقتصاد الإسلامي في جوهره على الأخلاق في المحافظة على مصالح الأطراف ذات العلاقة وحقوقها.

فرضية البحث
إن النهي الشرعي عن بيعتين في بيعة يحقق العدالة للطرفين المتعاقدين ويمنع الغرر.

المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:

المطلب الأول: حديث النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة:

عن أبي هريرة t قال: " نهى النبي r عن بيعتين في بيعة" ([1])

وفي رواية ثانية لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "مُطْلُ الغني ظلم، وإذا أَحَلْتَ على مليء فاتبعه, ولا تبع بيعتين في بيعة"([2]).

وفي رواية لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله r عن سلف وبيع، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن" ([3]).

المطلب الثاني: الدراسة اللغوية:

  • البيعة (لغة)([4]):

 الصَّفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، وقد تبايعوا على كذا.

 والمراد بالبيعة أيضاً: العقد و"في" إما للظرفية أو السببية، بيعتين: عقدين، والبَيِّعان: البائع والمشتري.

  • البيع (شرعاً):

عقد معاوضة مالية تفيد مِلك عين على التأبيد، أو مبادلة المال المُتقوَّم بالمال المتقوم تمليكا وتملُّكا([5]). وأضاف بعض الفقهاء الحنفية شرط التراضي، فقالوا " مبادلة المال بالمال بالتراضي"([6])

وقيد التراضي يلغي كذا نوع من العقود لافتقارها للرضا كالبيع بالإكراه.

والبيوع إما أن تكون بمبادلة النقود بسلعة، أو بمبادلة سلعة بسلعة أو بمبادلة نقد بنقد.

وعناصر البيع أربعة: العاقدان (البائع والمشتري)، وصيغة العقد (القبول والإيجاب)، والسلعة، والثمن.

ويتم البيع بواحد من الأشكال الآتية:

بالأفعال: بأن تكون السلعة مسعرة أو معروفة الثمن فيأخذ المشتري السلعة ويدفع ثمنها (المعلن عنه) للبائع دونما كلام.

بالأقوال: فيتساوم المشتري مع البائع على الثمن غير المعلن، وفي حال الاتفاق يؤدي المشتري الثمن المتفق عليه للبائع.

بالأفعال والأقوال: وتجمع النوعين السابقين.

المبحث الثاني: فقه الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:

المطلب الأول: الإطار العام للفقه الاقتصادي

نظمت الشريعة الإسلامية المعاملات الاقتصادية بفقه خاص عُرف بفقه المعاملات فالمسلم يلتزم بالمأمورات الشرعية وينتهِ بالمحظورات الشرعية، كما أرادها الشارع لا كما حبذها المسلم أو فهمها، وميز علماؤنا بين العبادات والعادات.

فبينوا أن العبادات منصوص عليها بأمر الشارع ولا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وبينته سنة النبي r.

أما العادات فقد ظهرت تلبية لحاجات دنيوية الأصل فيها عدم الحظر، والمحظور منها ما حظره الله تعالى وبينته سنة النبي r.

وليس المقصود من هذا أبداً التضييق على الناس وإنما إيجاد إطار اقتصادي إسلامي للعلاقات يكون ضابطاً للناس ومانعاً لهم من الانزلاق في المحظورات.

ومن أهم أركان هذا الإطار:

منع بعض عمليات الاتجار أو الاستصناع المرتبطة بسلع ضارة: فبالرغم من أن الإسلام دين يحض على العمل إلا أنه قد منع العمليات المرتبطة بسلع ضارة وفاسدة ومفسدة، فمنع حيازتها وتجارتها واستصناعها كالخمرة ولحم الخنزير.

منع كل العمليات المشوهة لأصلها: فالغش أو الكذب سبب هام للخلاف، ولما فيهما من إضاعة للحقوق. فكان الإسلام واضحاً ورادعاً في ذلك فمن غش ليس منا، سواءاً كان الغش للمسلمين أو لسواهم.

منع بعض المعاملات: وقد اجتهد علماؤنا في بيان موقف الإسلام من معاملات يشوبها الغرر والربا، وميزوا بين الضرر الذي لا يمكن الاحتراز عنه والغرر الذي يمكن الاحتراز عنه، وذلك بهدف منع الظلم في المعاملات بين الناس.

وكذلك الأمر بالنسبة للاحتكار وما فيه من استغلال لحاجات الناس وخاصة إذا كان متعلقاً بالأقوات.

وضع ضوابط للمعاملات: فقد بين الفقهاء مجموعة من الضوابط كتحقيق العدل لضمان مشروعية المعاملة، فالمضاربة مثلاً وعلى النحو الذي شُرعت به تضمن تحقيق العدل بين الأطراف المشتركة فيها (العمل ورأس المال) فليس لهما ضمان دخل دون النظر إلى نتيجة المشروع، والمتفق عليه شرعاً أن المضاربة تصبح باطلة إذا ما جعل صاحب العمل أو صاحب رأس المال لنفسه مبلغاً معيناً معلوماً.

المطلب الثاني: مذاهب الفقهاء في حكم الحديث:

اختلف العلماء في حكمه:

قال الحنفية:([7])

البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً.

فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد.

والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة.

وقال الشافعي إن "بيعتين في بيعة" له تأويلان([8]):

أولهما: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به (يعني يفترقا من دون أن يحددا على أي شيء استقرا)، وهنا توجد الجهالة بالثمن.

والثاني: أن يقول: بعتك عبدي على أن تبيعني فرَسك.

وعلى أي من التفسيرين فالبيعُ فاسد. وعلة النهي والفساد:

على الأول: عدم استقرار الثمن، وجهالته، لما فيه من الإبهام والتعليق. فيكون فاسداً عند الحنفية، وباطلاً عند الشافعية، والحنبلية، وأجازه المالكية، وجعلوه مثل الخيار.

وعلى الثاني: لتعلقه بشرط مستقبلي يجوز وقوعه، وعدم وقوعه، فلم يستقر العقد.

وقال الحنابلة: ([9])

 إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه كأنه قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي.

وقالوا([10]): إن باعه سلعة بعشرة دنانير صحاحاً أو أحد عشر مكسرة لم يصح، ما لم يفترقا على أحدهما، أو باعه بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح البيع لعدم الجزم بأحدهما، وقد فسر جماعة حديث النهي عن بيعتين في بيعة بذلك لما ذكر ما لم يفترقا على أحدهما فان افترقا على الصحاح أو المكسرة في الأولى، أو على النقد أو النسيئة في الثانية صح، لانتفاء المانع بالتعيين، ولا يصح البيع أيضاً إن جعل مع الثمن رطلاً من خمر أو كلباً ونحوه.

ولا يصح إن قال اشتريت بمئة على أن أراهن بها أي بالمئة التي بها الثمن، وبالقرض الذي لك أو نحوه مما له عليه من دين (هذا) الشيء؛ لأن الثمن مجهول لكونه جعله مائة ومنفعة، وهي الوثيقة بالدين الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه بمنزلة بيعتين في بيعة؛ لأنه باع بشرط أن يرهنه على الدين الأول، وكذا لو أقرضه بشرط أن يرهنه عليه وعلى دين له آخر كذا فلا يصح القرض؛ لأنه شرط يجر نفعاً.

وقال المالكية: ([11])    

  وذلك يتصور على وجوه ثلاثة:

  • مثمونين بثمنين: فإن ذلك يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا، والثاني: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار، أو هذه الأخرى بدينارين.

  • مثمون واحد بثمنين: فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين:

أحدهما: أن يكون أحد الثمنين نقداً، والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقداً بثمن كذا، على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا.

  • مثمونين بثمن واحد على أن أحد البَيْعَين قد لزم: فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا. و فيه عدة وجوه:

     أما الوجه الأول: وهو أن يقول له: أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا، فهو لا يجوز، لان الثمن في كليهما يكون مجهولا، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد.

      الوجه الثاني: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز، وسواء أكان النقد واحدا أو مختلفا، وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك، فأجازه إذا كان النقد واحدا أو مختلفا، وعلة منعه الجهل، وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار، وذلك لا يجوز على أصل مالك.

     أما الوجه الثالث: وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز وأما إذ لم يكن البيع لازما في أحدهما فأجازه مالك، وجعله مالك من باب الخيار، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع، وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لامكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنقاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا. وأما إذا قال: أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل. فهو عند مالك لا يجوز، لأنه من باب العينة وهو بيع الرجل ما ليس عنده، ويدخله أيضا علة جهل الثمن.

وأما إذا قال له: أبيعك أحد هذين الثوبين بدينار وقد لزمه أحدهما أيهما يختار وافترقا قبل الخيار، فإذا كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف عند مالك في أنه لا يجوز، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إنه يجوز، وعلة المنع الجهل والغرر.وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك،فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك.أ.هـ 

المطلب الثالث: فقه الأحاديث الأخرى المرتبطة بالنهي عن بيعتين في بيعة:

عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله r: " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا "([12])

أوكسهما: أقلهما([13]).

فهذا الحديث ينطبق على بيع العينة: أن يبيع شيئاً بمائة إلى أجل ثم يشتريه ممن اشتراه بثمانين نقداً فهنا بيعتان أوكسهما الثمن الحال، وأن اخذ بالأكثر أخذ الربا. وقد نزله الخطابي على بعض صور العينة([14]).

وهذه الصورة هي عبارة عن وسيلة تتضمن الربا المحرم ولكن بحيلة تأخذ صورة البيع حيث يعود حاصل البيعين إلى أن يبدل نقوده بنقود أكثر وهذا ما موجود في الربا فلا يكون له الحق إلا في أوكس الثمنين وهو النقد، فأن أصر على الزيادة فقد أربى.

وقال الخطابي وغيره يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها كأنه أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال بعني القفيز الذي لك على إلى شهرين بقفيزين فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل فان تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا والله سبحانه وتعالى أعلم.([15])

وهنا يأخذ شكلا آخرا الحديث فهو يدخل في ضمن صورة بيع الدين بالدين أو الكالئ بالكالئ

والذي نهى عنه الرسول r، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي r" نهى عن بيع الكالئ بالكالئ "([16])يعني: الدين بالدين.

فقد تبين أن صورة الرواية الثانية من خلال تطبيقها في صورة بيع العينة أو صورة بيع الدين بالدين ففي كلا الحالتين إن لم نأخذ بأوكس الثمنين فان الحالة ستؤول إلى الربا الفاحش وان البيع يتضمن العلة الربوية.

ويتوجه الحديث إلى معنى آخر من الصور أي نحو البيع الذي يتم على سعرين أو ثمنين من دون تعيين واحد منهما وهذا ما تكلمنا عنه في تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة فان إضافة أوكسهما أو الربا يتوافق مع فكرة السعرين إما النقد أو النسيئة فأيهما شئت أخذت فان هنا العلة لم يتم تحديد أي السعرين تم الأخذ به ويغادر المجلس المتعاقدان دون الاتفاق على أي الثمنين ويفترقا على الإبهام والجهالة في المثمن وعدم استقرار الثمن، فإن أتى بعد مدة وطلب المشتري أخذ المثمن بسعر النقد ورفض البائع ذلك فعليه أن يعود إلى أوكسهما (انقصهما) وهو النقد فان أبى إلا النسيئة فالموضوع دخل في حيز الربا،  كأنه أخذ الزيادة في بيع النسيئة كمنفعة يشترطها دون رضى الطرف الآخر؛ وبذلك لا يصح البيع.

وفي رواية أخرى تسند الحديث الذي يدعم فكرة وقوع المتعاقدان في الربا هو ما رواه عبد الله بن مسعود t،  قال: "الصفقة في الصفقتين ربا"، وقال "صفقتان في صفقة ربا".([17])

وفي رواية أخرى عنه في نفس الصدد قال: "لا تحل صفقتان في صفقة إن رسول الله r، لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه".([18])

الصفقة: البيعة، صفقتان: بيعتان.

وقد ورد تفسير في الرواية الأولى والثانية لمعنى الصفقتان في صفقة وهو أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا.([19])

وقال سفيان: يقول: أن باعه بيعا، فقال: أبيعك هذا بعشرة دنانير، تعطيني بها صرف دراهمك.([20])

وقال سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنساء بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.([21])

وتكون شبهة الربا واضحة، ووجه ذلك أنه إذا ملك السلعة أو العين بدينار نقداً وبدينارين لأجل وقد وجب عليه أحدهما كأنما وجبت عليه بدينار نقداً فأخره فجعله بدينارين إلى أجل، أو كأنما وجبت عليه بدينارين إلى أجل فعجلهما فجعلهما بدينار نقدا (ضع وتعجل).

وإن الزيادة هنا في بيع النسيئة تصبح في محل ربا لان التحديد لم يكن واضح، والجهالة في عدم التقدير، فقد كان القول في محل الصفقتان في صفقة من باب أكل الربا.

وقد نقل عن زين العابدين علي t أنه كان يرى حرمة بيع الشيْ بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، على الرغم من أن هذه الصورة مشروعة في الصحيح من قولي العلماء.

والموضوع هنا يدخل في أمر البيع بالتقسيط والذي أجازه الكثير من أهل العلم وفرقوه عن بيعة في بيعتين التي تتجه إلى منحى الربا.

 وقد قال الثوري: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا، فهذا مكروه، وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود، وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين.([22])

وفي رواية أخرى تتعلق بنفس الموضوع الذي نبحث فيه وهو النهي عن بيعتين في بيعة:

فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك، ولا ربح ما لم تضمن". أخرجه الخمسة وصححه الترمذي والحاكم([23])

وهذا الحديث هو صورة من صور البيعتين في بيعة أو يدخل ضمن محتواها.

وقد اختلف في تفسيرها:([24])

 فقيل: هو أن يقول بعت بكذا نقدأ. وبكذا نسيئة، فيكون كالبيعتين في بيعة، وهو مروي عن زيد بن علي وأبي حنيفة.

وقيل هو أن يقول: بعتك هذه السلعة على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا،

وقيل: هو أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة، أو لا يهبها.

ولا يخفى القول أن القول الثاني إنما هو بيع مجزوم بشرط واحد ليس بشرطين فهو من قبيل النهي عن بيع وشرط، وان القول الثالث: لو اشترط أحد الشرطين يفسد البيع، فلا موضع لذكر الثاني، فالراجح هو الأول لأنه تحقق فيه ظرفية العقد لشرطين يدور العقد بينهما.

ولتوضيح الشروط يقتضي الأمر أن نشير لتقسيماتها فهي تنقسم إلى ثلاثة أنواع كما وردت في المذاهب

أولا: الشرط الصحيح: وهو ما يقتضيه العقد، أو يلائمه أو ورد به الشرع أو العرف

ثانيا: الشرط الباطل: وهو ما كان فيه ضرر لأحد المتعاقدين، كأن يشترط على المشتري ألا يبيع سلعة، ومثل اشتراط الولاء للبائع في بيع العبد، فهذا الشرط باطل والعقد صحيح.

ثالثاً: الشرط الفاسد: وهو الذي لا يقتضيه العقد ولا ورد به الشرع، ولا جرى به العرف، لكن فيه منفعة لأحد المتعاقدين، كشراء الدقيق على شرط أن يخبزه، والدار على أن سكناها شهراً أو سنة ولم يكن بذلك عرف، وكذا شراء الدابة على أن يستخدمها البائع أسبوعا أو شهراً، وليس فيها أي عرف.فجميع هذه الشروط وأمثالها فاسدة والعقد يفسد بها عند الحنفية على اصطلاحهم ([25]).

وإن فساد العقد عند الحنفية يعني البطلان عند غيرهم؛ لأن الفساد والبطلان واحد عند غير الحنفية، سوى قول عند الحنابلة يصح العقد بشرط واحد فيه منفعة لأحد المتعاقدين ويبطل بشرطين.([26])

أما ما يخص الحديث الذي نحن بصدده فإن خلاصة القول فيه أن المراد من "شرطان في بيع" هو نفس معنى "بيعتين في بيعة" وهو أن بيعه السلعة بثمنين أي شرطين واحد مؤجل وواحد معجل، وكذلك أن يبيعه السلعة بثمن مؤجل بـ (200) مثلاً، ثم يعود ويشتريها من نفس الشخص نقداً بـ (150)، فهذا البيع معروف ببيع العينة، فهو "بيعتين في بيعة"، ويتحقق به "له أوكسهما أو الربا"، وهذا هو "الشرطان في بيع"، وقد تبين انه احد ذرائع الربا من خلال سياق الحديث فقد جاء بعد "لا يحل سلف وبيع" لمافيه من شبهة الربا.

وكلا التفسيرين لشرطان في بيع مقبول، وهما ممنوعان، لاشتمال كل منهما على الربا، ففي التفسير الأول أن اخذ ببيع النسيئة بدون النقد فتحقق معنى الربا، وفي التفسير الثاني هو بيع ربوي واضح من خلال شراء نقداً بأقل من سعر بيعها مؤجلاً، وإن الفرق بين البيعين الذي سيتحصل عليه البائع في فترة انقضاء الأجل هو الفائدة المادية أو الانتفاع المحرم بعينه وعلى ضوء ذلك يكون الشرطان في بيع في محل شبهة الربا.

بيع التقسيط أو البيع لأجل وبماذا يختلف عن "بيعتين في بيعة":

لا بد كان من التطرق أولاً إلى موضوع بيع التقسيط أو البيع لأجل بسعر أعلى من سعر النقد أو الحال، ولذلك سنورد آراء العلماء في هذا البيع، فقد كانوا يمثلون اتجاهين في بيع التقسيط([27]):

الأول: اتجاه المانعين(وهم قلة):

أنكر بعض العلماء مشروعية بيع التقسيط أو لأجل وهم زين العابدين علي بن الحسين، والإمام يحيى، واحتجوا بما رواه أبو داود عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". أي: أنقصهما أو أقلهما.

الثاني: اتجاه المجيزين (وهم جمهور العلماء):

منهم زيد بن علي، والمذاهب الأربعة، ويعتبرون أن البيع لأجل أو البيع بالتقسيط جائز ولو كان بسعر أعلى من سعر النقد، أي بثمن مؤجل أو مقسط يزيد على سعر البيع بالثمن المعجل، بأن يكون البيع بثمن أكثر من ثمن السلعة الذي تباع به نقداً.

فمن باع سيارة، أو أي نقود رائجة كالنقود الورقية المتداولة الآن في كل بلد،بثمن مؤجل إلى ستة اشهر أو سنة مثلاً، جاز البيع.

فبيع التقسيط أو البيع لأجل بثمن أكثر من ثمن النقد أو الحال، لا يدخل في معنى حديث البيعتين في بيعة لسبين([28]).

الأول؛ وحدة العقد:

إن بيع الأجل أو المقسط هو عقد واحد وبيع واحد، وثمن واحد، اتفق عليه البائع والمشتري بصفة حاسمة، ولم يوجد بينهما عقدان، كل ما في الأمر وجد عرض من البائع لنوعين من البيع، فإذا تم العقد ولا بد من أن يتم على نحو واحد وهو بيع التقسيط، صح البيع ولا إشكال، فلا يكون ذلك داخلاً في نطاق النهي عن بيعتين في بيعة، فهذا في حال قبول المشتري على الإبهام من غير تحديد ثمن بيعه.

الثاني؛ انتفاء الجهالة:

إن جهالة الثمن في بيع التقسيط أو لأجل غير موجودة، فإنه يتم بثمن محدد مقطوع لا يزيد مع مرور الزمن، وينعقد البيع حينئذ على ثمن معلوم واحد، يتراضى عليه البائع والمشتري، ولا أشكال أيضاً.

ومن التطبيقات على ذلك:

من اشترى ثلاجة أو مذياعا أو أي متاع آخر، بسعر مؤجل كله أو بعضه لأجل في المستقبل، أو مقسط بأقساط شهرية أو سنوية معينة، جاز الشراء والبيع، ولو كان الثمن مقسط أو المؤجل أكثر من النقد.

الموظف أو العامل أو غيرهما الذي يشتري حوائجه من البقال أو السمان أو الجزار من سكر وزيت وصابون ونحو ذلك، على حساب الشهر، أي إنه يشتري ذلك، ولا يدفع الثمن إلا في أخر الشهر عند قبضه راتبه، يعتبر شراؤه صحيحاً.

العلل التي تناولها الحديث

أولا: الجهالة في السعر (بالنسبة للمثمن):

إن حقيقة الأمر؛ إن السعر الذي ينطلق على البيعين في وقت واحد وفي الزمن الواحد لا يوضح ماهية التحديد بشكل بيني ومتوافق مع طلب السعرين، فهنا عندما يذكر السعران في آن واحد سيكون المشتري في وضع التائه الذي لا يعرف ضالته أين في سعر النقد أم الأجل أم كلتا الحالتين، وبذلك لا يتحقق الغرض المفاد من عملية البيع وهو تحديد سعر ثابت من دون غموض أو جهالة.

ثانياً: عدم الاستقرار في البيع:

إن حالة عدم الاستقرار التي ستحصل في حالة عدم فهم طريقة البيع ستولد مشكلة بين العاقدان وهما (البائع والمشتري)، وذلك لعدم وقوع الاثنين على سعر مستقر لا يتغير، وسيكون هناك تلاعب بالكلام ينشأ مستقبلاً بين طرفي العقد عند حالة البيع، فالوضع الغير الثابت والغير الواضح الذي تولد نتيجة عدم تحقيق مجلس عقد يجمع كل مقومات العقد السليم سيوصل في نهاية الأمر إلى حالة غبن لأحد الطرفين أو يثير تخاصم مستقبلا في أثناء طلب المشتري للسلعة التي اتفق عليها مع البائع.

ثالثاً: وسيلة بيع تؤول إلى الربا: وهذا ما ذكره البحث في الرواية الثانية التي تعتبر البيع طريقة  احتيال لمعاملة ربوية تأخذ مسمى البيع وهذا كان واضحا في موضوع (بيع العينة)، وكيف إن السبيل لإعطاء قرض ربوي يكون في طريقة إنشاء ما يسمى ببيع صوري بين اثنين، ولكن في حقيقته هو أحد أساليب الربا وصورة من صوره، فعند بيع بضاعة أو سلعة معينة بسعر معين إلى أجل معين، ثم يطلب صاحب السلعة المشتراة أن ترد نفس السلعة إلى البائع وبسعر نقدي يدفع بالحال ولكن بأقل من ثمن الشراء، على أن يعود في الوقت والأجل المحدد ليدفع ما اتفقا عليه في حالة البيع الأول، ويكون الفرق بين البيعتين هو ربا محرم (منفعة بدون مقابل)، كذلك الربا موجود في حالة (بيع الدين بالدين)، وهو عندما يحل أجل البيع الأول، فيطلب المشتري تأجيل المبلغ إلى فترة أخرى لقلة الحال أو ضعف الإمكانية، يقابله زيادة في المبلغ المدفوع لأجل التأجيل، وذلك من خلال عملية بيع ثانية تحصل فيما بينهم تتضمن الزيادة المطلوبة وهو من البيع المحرم ويعتبر من ربا الجاهلية.

 

(1) رواه الامام احمد في مسنده، في مسند أبو هريرة(t)، حديث رقم(9582)، مؤسسة قرطبة، القاهرة ج2، ص234، والنسائي في السنن الكبرى، في كتاب البيوع، باب النهي عن بيعتين في بيعة، تحقيق: د.عبد الغفار سليمان البنداري، سيد كسروي حسن، حديث رقم(6228)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1991، ج4، ص43، والترمذي، الجامع الصحيح سنن الترمذي، أبواب البيوع عن رسول الله (r باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، حديث رقم (1231 دار إحياء التراث العربي، بيروت، وقال: حديث حسن صحيح، ج3،ص533، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع، باب النهي عن بيعتين في بيعة، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، حديث رقم (10660)، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1994، ج5، ص343.

([2]) رواه الترمذي، أبواب البيوع عن رسول الله (rباب ما جاء في مطل الغني أنه ظلم، حديث رقم (1309)، ج3، ص600، والبيهقي، كتاب الحوالة، باب من أحيل على ملي فليتبع ولا يرجع على المحيل، حديث رقم (11172 )، ج6، ص70.

(-[3]) رواه الامام احمد، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (tحديث رقم (6628)، ج2، ص174، والبيهقي، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع وسلف، حديث رقم (10704) ج5، ص348.

([4]) العين، الخليل بن احمد الفراهيدي، تحقيق: د.مهدي المخزومي ود.إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، ج2، ص265.

([5]) القاموس الفقهي، سعدي أبو الجيب: دار الفكر، دمشق ط/2003م، ص44.

([6]) فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، بيروت، ج 6، ص 248.

  • بدائع الصنائع، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/الثانية، 1998م، ج5، ص158، ورد المحتار: دار عالم الكتب، الرياض، طبعة خاصة 2003م، ج4،ص30.

([8]) شرح بلوغ المرام من أحاديث الأحكام: تحرير نور الدين عتر، كتاب البيوع، مكتبة دار الفرفور، دمشق، ط/السابعة: 2000م، ص621.

  • المغني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، ط1، دار الفكر، بيروت، 1405هـ، ج4، ص313.
  • كشاف القناع، منصور بن ادريس البهوتي، تحقيق هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر، بيروت، 1402هـ، ج8،ص492،491.
  • بداية المجتهد لابن رشد، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، ط/2004، ج2، ص251.

(1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب فيمن باع بيعتين في بيعة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، حديث رقم (3461)، دار الفكر، دمشق، ج2، ص296، والحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب البيوع، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، حديث رقم (2292)، دارالكتب العلمية، بيروت، ط1،1990، ج2، ص52، والبيهقي، كتاب البيوع، باب النهي عن بيعتين في بيعة، حديث رقم (10661)، ج5، ص343، وابن حبان، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، كتاب البيوع، باب البيع المنهي عنه، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، حديث رقم (4974)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1993، ج11، ص347.

(2) عون المعبود، شرح سنن أبي داود، ج7، ص452.

(3) شرح بلوغ المرام من أحاديث الاحكام، ابن حجر العسقلاني، تحرير نور الدين عتر، ص622.

(1) المجموع شرح المهذب، الامام النووي، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط1995، ج9، ص412.

(2) أخرجه الحاكم، كتاب البيوع، حديث رقم (2342)، قال: حديث صحيح على شرط مسلم، ج2، ص65، والطحاوي، شرح معاني الآثار، كتاب البيوع، باب بيع المصراة، تحقيق: محمدزهري النجار، حديث رقم (5132)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1399هـ)، ج4، ص21، والدارقطني البغدادي، سنن الدارقطني، كتاب البيوع، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، حديث رقم (270)، دار المعرفة - بيروت، 1966(1386هـ)، ج3، ص72.

(1) أخرجه ابو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، باب العين، من اسمه عبد الله، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، حديث رقم (9609)، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط2، 1983، ج9، ص321، وابن ابي شيبة، المصنف في الأحاديث والآثار، كتاب البيوع والأقضية، تحقيق: كمال يوسف الحوت، حديث رقم (20454)، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1409هـ، ج4، ص307، وابن حبان التميمي، كتاب الطهارة باب فرض الوضوء، حديث رقم(1053)، ج3، ص331.

(2) نصر بن الحجاج المروزي، السنة، ذكر السنن التي هي تفسير لما افترضه الله مجملا مما لا يحل، تحقيق: سالم أحمد السلفي، حديث رقم (187،188)، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1408هـ، ج1، ص57، وابن حبان التميمي، كتاب البيوع، باب الربا، حديث رقم (5025)،  ج11، ص399.

(3) ابن أبي شبيبة، حديث رقم (20454) ج4، ص307، وعبد الرزاق الصنعاني، مصنف عبد الرزاق، كتاب البيوع، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، حديث رقم (14633)، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ، ج8، ص138.

(4) عبد الرزاق الصنعاني، حديث رقم (14636)، ج8، ص138.

(1) أخرجه الامام احمد، مسند عبد الله بن مسعود t، حديث رقم (3783)، ج1، ص398.

(2) عبد الرزاق الصنعاني، باب البيع بالثمن إلى أجلين، حديث رقم (14632)، ج8، ص138.

(1) رواه ابن حبان التميمي، كتاب العتق، باب الكتابة، حديث رقم (4321)، ج10، ص161، والحاكم، كتاب البيوع، حديث رقم (2185)، ج2، ص21، وأبي داود، أبواب الإجارة، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، حديث رقم (3504)، والنسائيي، باب بيع ما ليس عند البائع، حديث رقم (6204)، ج4، ص39، والبيهقي، كتاب البيوع، باب من قال لا يجوز بيع العين الغائبة، ج5، ص267، حديث رقم (10199)، ج5، ص267، والامام احمد، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، حديث رقم (6671)، ج2، ص178، والترمذي، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، حديث رقم(1234). ج3، ص535.

(2) شرح بلوغ المرام من أحاديث الأحكام للامام لبن حجر العسقلاني، تحرير نور الدين عتر، ص623.

(1) بدائع الصنائع، ج5، ص172،171،170،169، وفتح القدير، ج5، ص214.

(2) المغني، ابن قدامة الحنبلي، ج4، ص235،224.

(1) المعاملات المالية المعاصرة، أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي، ط3، دمشق، دار الفكر، 2006(1427هـ)، ص314-116.

(1) ال

النهي عن بيعتين في بيعة

دراسة في الحديث النبوي الشريف

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:

لقد أكرم الله جلّ وعز البشرية برسالة سماوية فاضلة، أتمت الشرائع السابقة لها وأكملتها.

فانتظمت فيها حياة الإنسان عبادة بانتظام العلاقة مع الخالق، ومعاملة بضبط العلائق مع المخلوقات، واجتهد علماء المسلمين وبرعوا في بيان الشريعة الإسلامية وتحديد العلاقات وضبطها لتكون منهجاً للحياة يرقى في التطبيق لينتظم مع أركان هذه الشريعة.

ويأت البحث لبيان بعضٍ مما اجتهد به علماؤنا الأفاضل في حديثٍ نبويٍ تلقوه عمن أوتي جوامع الكلم سيدنا محمد r  في النهي عن بيعتين في بيعة، والاستدلال من خلاله على وجهٍ مشرق من وجوه نظرية اقتصادية إسلامية، فشرعنا الإسلامي قد حض في الكثير من مفرداته على أهمية جلب المنافع ودرء المفاسد، وهذا لن يكون بحال من الأحوال إلا من خلال منهج اقتصادي أخلاقي واضح ومتكامل.

حيث اعتمد الاقتصاد الإسلامي في جوهره على الأخلاق في المحافظة على مصالح الأطراف ذات العلاقة وحقوقها.

فرضية البحث
إن النهي الشرعي عن بيعتين في بيعة يحقق العدالة للطرفين المتعاقدين ويمنع الغرر.

المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:

المطلب الأول: حديث النبي r في النهي عن بيعتين في بيعة:

عن أبي هريرة t قال: " نهى النبي r عن بيعتين في بيعة" ([1])

وفي رواية ثانية لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "مُطْلُ الغني ظلم، وإذا أَحَلْتَ على مليء فاتبعه, ولا تبع بيعتين في بيعة"([2]).

وفي رواية لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله r عن سلف وبيع، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن" ([3]).

المطلب الثاني: الدراسة اللغوية:

  • البيعة (لغة)([4]):

 الصَّفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، وقد تبايعوا على كذا.

 والمراد بالبيعة أيضاً: العقد و"في" إما للظرفية أو السببية، بيعتين: عقدين، والبَيِّعان: البائع والمشتري.

  • البيع (شرعاً):

عقد معاوضة مالية تفيد مِلك عين على التأبيد، أو مبادلة المال المُتقوَّم بالمال المتقوم تمليكا وتملُّكا([5]). وأضاف بعض الفقهاء الحنفية شرط التراضي، فقالوا " مبادلة المال بالمال بالتراضي"([6])

وقيد التراضي يلغي كذا نوع من العقود لافتقارها للرضا كالبيع بالإكراه.

والبيوع إما أن تكون بمبادلة النقود بسلعة، أو بمبادلة سلعة بسلعة أو بمبادلة نقد بنقد.

وعناصر البيع أربعة: العاقدان (البائع والمشتري)، وصيغة العقد (القبول والإيجاب)، والسلعة، والثمن.

ويتم البيع بواحد من الأشكال الآتية:

بالأفعال: بأن تكون السلعة مسعرة أو معروفة الثمن فيأخذ المشتري السلعة ويدفع ثمنها (المعلن عنه) للبائع دونما كلام.

بالأقوال: فيتساوم المشتري مع البائع على الثمن غير المعلن، وفي حال الاتفاق يؤدي المشتري الثمن المتفق عليه للبائع.

بالأفعال والأقوال: وتجمع النوعين السابقين.

المبحث الثاني: فقه الأحاديث الواردة في النهي عن بيعتين في بيعة:

المطلب الأول: الإطار العام للفقه الاقتصادي

نظمت الشريعة الإسلامية المعاملات الاقتصادية بفقه خاص عُرف بفقه المعاملات فالمسلم يلتزم بالمأمورات الشرعية وينتهِ بالمحظورات الشرعية، كما أرادها الشارع لا كما حبذها المسلم أو فهمها، وميز علماؤنا بين العبادات والعادات.

فبينوا أن العبادات منصوص عليها بأمر الشارع ولا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وبينته سنة النبي r.

أما العادات فقد ظهرت تلبية لحاجات دنيوية الأصل فيها عدم الحظر، والمحظور منها ما حظره الله تعالى وبينته سنة النبي r.

وليس المقصود من هذا أبداً التضييق على الناس وإنما إيجاد إطار اقتصادي إسلامي للعلاقات يكون ضابطاً للناس ومانعاً لهم من الانزلاق في المحظورات.

ومن أهم أركان هذا الإطار:

منع بعض عمليات الاتجار أو الاستصناع المرتبطة بسلع ضارة: فبالرغم من أن الإسلام دين يحض على العمل إلا أنه قد منع العمليات المرتبطة بسلع ضارة وفاسدة ومفسدة، فمنع حيازتها وتجارتها واستصناعها كالخمرة ولحم الخنزير.

منع كل العمليات المشوهة لأصلها: فالغش أو الكذب سبب هام للخلاف، ولما فيهما من إضاعة للحقوق. فكان الإسلام واضحاً ورادعاً في ذلك فمن غش ليس منا، سواءاً كان الغش للمسلمين أو لسواهم.

منع بعض المعاملات: وقد اجتهد علماؤنا في بيان موقف الإسلام من معاملات يشوبها الغرر والربا، وميزوا بين الضرر الذي لا يمكن الاحتراز عنه والغرر الذي يمكن الاحتراز عنه، وذلك بهدف منع الظلم في المعاملات بين الناس.

وكذلك الأمر بالنسبة للاحتكار وما فيه من استغلال لحاجات الناس وخاصة إذا كان متعلقاً بالأقوات.

وضع ضوابط للمعاملات: فقد بين الفقهاء مجموعة من الضوابط كتحقيق العدل لضمان مشروعية المعاملة، فالمضاربة مثلاً وعلى النحو الذي شُرعت به تضمن تحقيق العدل بين الأطراف المشتركة فيها (العمل ورأس المال) فليس لهما ضمان دخل دون النظر إلى نتيجة المشروع، والمتفق عليه شرعاً أن المضاربة تصبح باطلة إذا ما جعل صاحب العمل أو صاحب رأس المال لنفسه مبلغاً معيناً معلوماً.

المطلب الثاني: مذاهب الفقهاء في حكم الحديث:

اختلف العلماء في حكمه:

قال الحنفية:([7])

البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً.

فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد.

والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة.

وقال الشافعي إن "بيعتين في بيعة" له تأويلان([8]):

أولهما: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به (يعني يفترقا من دون أن يحددا على أي شيء استقرا)، وهنا توجد الجهالة بالثمن.

والثاني: أن يقول: بعتك عبدي على أن تبيعني فرَسك.

وعلى أي من التفسيرين فالبيعُ فاسد. وعلة النهي والفساد:

على الأول: عدم استقرار الثمن، وجهالته، لما فيه من الإبهام والتعليق. فيكون فاسداً عند الحنفية، وباطلاً عند الشافعية، والحنبلية، وأجازه المالكية، وجعلوه مثل الخيار.

وعلى الثاني: لتعلقه بشرط مستقبلي يجوز وقوعه، وعدم وقوعه، فلم يستقر العقد.

وقال الحنابلة: ([9])

 إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه كأنه قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي.

وقالوا([10]): إن باعه سلعة بعشرة دنانير صحاحاً أو أحد عشر مكسرة لم يصح، ما لم يفترقا على أحدهما، أو باعه بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة لم يصح البيع لعدم الجزم بأحدهما، وقد فسر جماعة حديث النهي عن بيعتين في بيعة بذلك لما ذكر ما لم يفترقا على أحدهما فان افترقا على الصحاح أو المكسرة في الأولى، أو على النقد أو النسيئة في الثانية صح، لانتفاء المانع بالتعيين، ولا يصح البيع أيضاً إن جعل مع الثمن رطلاً من خمر أو كلباً ونحوه.

ولا يصح إن قال اشتريت بمئة على أن أراهن بها أي بالمئة التي بها الثمن، وبالقرض الذي لك أو نحوه مما له عليه من دين (هذا) الشيء؛ لأن الثمن مجهول لكونه جعله مائة ومنفعة، وهي الوثيقة بالدين الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه بمنزلة بيعتين في بيعة؛ لأنه باع بشرط أن يرهنه على الدين الأول، وكذا لو أقرضه بشرط أن يرهنه عليه وعلى دين له آخر كذا فلا يصح القرض؛ لأنه شرط يجر نفعاً.

وقال المالكية: ([11])    

  وذلك يتصور على وجوه ثلاثة:

  • مثمونين بثمنين: فإن ذلك يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا، والثاني: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار، أو هذه الأخرى بدينارين.

  • مثمون واحد بثمنين: فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين:

أحدهما: أن يكون أحد الثمنين نقداً، والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقداً بثمن كذا، على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا.

  • مثمونين بثمن واحد على أن أحد البَيْعَين قد لزم: فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا. و فيه عدة وجوه:

<p style=

عدد القراء : 5931