shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

بدعة التكفير وخطرها على المجتمع

 

الحمد لله الذي جعل تكريم الإنسان على يديه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد منقذ الإنسانية وهادي البشرية، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته ومَن تبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:

فلقد جاءت الشريعة لتحفظ للإنسان على حياته، وتعلمه دينه، وتنمي عقله، وتصون عرضه، وتحمي ماله،

ولقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرَّم انتهاكها، وشدَّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته فقال في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد"([1]).

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"([2]).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"([3]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"([4]).

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً"([5]).

يبين هذا الحديث العظيم بأن على كل مسلم أن يراعي حدود الله ولا ينتهك شيئاً منها، بل وعليه أن يُنكر على من يتعدى هذه الحدود التي حدها الشرع المطهر، فنأمر بالمعروف باللطف لا بالعنف، وأن ننهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتي هي من صفات المؤمن الصالح التقي النقي.

 

حرمة الدماء:

لقد توعَّد اللّه سبحانه مَن قَتَلَ نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قُتِل خطأً فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قُتِل عمداً، فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَو أنَّ أَهْلَ السَّماءِ وأَهْلَ الأَرضِ اشتركوا في دَمِ مؤمن لأَكَبَّهُمُ الله في النار"([6]).

 

لقد أصبح التكفير وسيلة للعمل وتصفية الحسابات مع الخصوم، ولم يعد يُنْظَر ينظر إليها من باب الاجتهاد الشرعي الذي يقوم به عالم مجتهد يستجمع قضايا التكفير، ويدرس ضوابطها، ويعرف حدودها المرسومة في الشريعة، فإن هذا أمر قضائي موجود على مدار التاريخ الإسلامي.

فالتكفير في أصله حكم شرعي، مردّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى اللّه ورسوله، فكذلك التكفير.

وإذا كانت الحدود تدْرَأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات.

ولذلك حذَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"([7]).

 

خطورة التكفير:

التكفير مزلق خطير، ومنهج لم يتبناه في تاريخ الأمة إلا الغلاة الذين جعلوا التكفير وسيلة إلى استحلال دماء الناس وأموالهم وأعراضهم.

والتكفير يحمل وراءه مآسي تربوية ضخمة، فالعدائية التي توجد عند كثير من الشباب، والسرعة في الحكم على حل الأموال واستباحة سفك الدماء، والشعور بالغربة داخل المجتمع المسلم، والحنق على أهل العلم من الربانيين، وأهل الحكمة من الدعاة، والتسرع في إطلاق الأحكام، والتأزم النفسي، وحدوث الانشقاق داخل الصف الإسلامي، وانتهاك حرمة العلم والعلماء (فتجد أنصاف وأرباع من قرأ كتاباً يتطاول على طالب عالم أفنى حياته في المدارسة ومجالس العلماء ومزاحمتهم بركبتيه) كلها تأتي نتيجة لزرع منهج التكفير في وعي الجيل المسلم المعاصر.

 

منطلق التكفير:

تنبثق بدعة التكفير عن الضغط النفسي لدى من لم يضبط نفسه بقواعد العلم وأحكام الكتاب والسنة.

وتزداد المشكلة في اطرادها وانتشارها لتشمل الأفراد والجماعات والمجتمعات والحكومات والدول مع عدم إدراك خطورتها وأبعادها الفكرية والمنهجية والتربوية.

 

منشأ التكفير:

الجهل من عوامهم الذين يتبعون كل ناعق، ويسيرون وراء غيرهم بتقليد أعمى، دون تدبر في العواقب، ينخدعون بمظهر مَن يملي عليهم، فيوقنون كل اليقين أنهم على الحق.

وإن كان الأصح من الناحية العلمية القول بأن منشأ التكفير، هو: تحريف الكلم عن مواضعه، بقراءة النصوص قراءة خاصة، وفهمها بطريقتهم العوجاء.

قال تعالى عن أمثالهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46، والمائدة: 13].

فالمسلون يقرؤون قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}، ويستبشرون بتزايد أعداد الداخلين في دين الله أفواجاً.

وأولئك يتبارزون بإخراج الناس من دين الله أفواجاً، والطعن بهم، وتكفيرهم، والحكم عليهم بالقتل، وتنفيذ تلك الأحكام بأيديهم، دون مراعاة إجراءات أصول المحاكمات، ولا العمل بدرء الحدود بالشبهات.

 

من مظاهر التكفير:

التكفير المعاصر يتجلى في حمل ملفات حمراء في ذاكرة أولئك طول اليوم، والشهر والحياة، لا يتوقف عن إصدار أحكام كفر غيره.

فمن تكفير الحكام، إلى تكفير العسكر والجند، والوزراء، والعلماء، إلى الحكم بحرمة التعامل مع المواطنين في البلد الواحد، رغم المجاورة قروناً عدة، إلى حرمة المعاملات مع القوانين والنظم الحاكمة والتراتيب الإدارية.

ومن لا يكفرونه صراحة من العلماء والدعاة، فوصف الانبطاح والتخذيل والعمالة والفسق وغيرها أمر لا يتردد فيه كثير من الشباب الذين وقعوا تحت تأثير منظري التكفير والقتل.

وللتأكد مما أقول ما عليك سوى أن تدخل إلى ما يسمى المنتديات الحوارية، لتدرك خطورة هذا المنحى على فكر الشباب وتوجهاتهم.

فالحنق على الناس، والسباب والشتائم، واستحلال الدماء، والنظر إلى المجتمعات بنظرة دونية، والفَجَر في الخصومة، والتراشق بأقذع الألقاب والأوصاف، مع كل من لا يسلك منهج (التكفير).

لقد صرم هذا المنهج علاقة الأمة بعلمائها الربانيين ودعاتها الحكماء، ودرست معالم العلاقات الإسلامية ومحيت معاني الأخوة الإيمانية، واضمحلت أواصر القربى بين المسلمين، وقطعت رحم العلم.

ولا شك أن هذا يُحدث شروخاً تغور في قلوب وعقول وضمائر الأجيال المسلمة، وتجعلهم يتربون على التشظي والتناحر والتشتت.

وهو باب يدخل منه الشيطان في التحريش بين المؤمنين، إذ أخبرنا رسول الله صلى الله لعيه وآله وسلم أن الشيطان قد أيس أن يُعبد من دون الله، ولكنه رضي بالتحريش، وانتهاك حرمات بعض.

 

من أساليبهم:

  1. السباب والشتائم، رغم التحذير النبوي، "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الْفَاحِشِ، وَلاَ الْبَذِىءِ"([8])، وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"([9])، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"([10]).
  2. سلب الأموال على أنها غنائم، (مع أنه في صفين لم يُبح أحد الطرفين مال الآخر، وفي الجمل، حاول بعض الخارجين مع سيدنا علياً كرَّم الله وجهه، وسلام الله عليه والرضوان؛ أن يغنموا وطالبوا الإمام بذلك، فاستثار حمية الإيمان بهم، بقوله: "اقترعوا على أمكم" ويقصد السيدة عائشة رضي الله عنها، كما قال القرآن: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]).
  3. التهديد بالقتل، عبر المكالمات والرسائل بوسائل الاتصال الحديثة المختلفة، وغالباً ما تبدأ بالبسملة؛ للإشعار بأنهم على صواب.
  4. القتل بكل الوسائل المتاحة بين أيديهم، ولا أتحدث عن المقاتلة فالفرق واضح وجلي لكل ذي لب؛ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وليس اقتلوا، فالأمر بالقتل لم يأت إلا في حق المشركين، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
  5. التمثيل بالجثث بعد القتل، والأسوأ عند حرق موتاهم في المعارك، حتى لا يُعرفوا.

 

إن الحكم على إنسان بالكفر أمر من الخطورة بمكان عظيم، لأن المرء يكون به حلال الدم بعد أن كان معصوماً.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله"([11]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"([12]).

وصف الإسلام يثبت بمجرد الإقرار.

قال ابن تيمية: (ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك. بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة).

قال السبكي: (التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً)([13]).

 

يتمسك أولئك الذين يستمرئون الحكم بتكفير الناس، بقوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}.

فما معنى الحكم بغير ما أنزل الله؟

معناه: إبرام الأمر وتقريره على خلاف ما شرع الله عز وجل. سواء تم هذا الإبرام من الإنسان في حق نفسه أو في حق أهله وأولاده أو في حق أصدقائه وأصحابه، أو في حق أمته ومجتمعه.

لا يجوز تكفير أحد من المسلمين الذي نراهم يبرمون أمورهم أو أمور الناس على غير ما تقضي به شريعة الله، لمجرد تلبسهم بذلك، سواء أكانوا يفعلون ذلك تحت قوس القضاء أو في بيوتهم وبين أهليهم، أو في أنظمتهم وأحوالهم الاجتماعية الضيقة.

اتفق العلماء على أن المسلم لا يجوز أن يحكم بكفره بمجرد حكمه بغير ما أنزل الله.

فمناط الكفر يقوم على حال الجحود والإنكار.

لم يخالف في هذا القدر المتفق عليه إلا فئة واحدة، هي فئة الخوارج الذين انفردوا وشذوا عن الإجماع بتكفير المسلمين بارتكاب كبائر الذنوب.

فليتق الله أولئك الذي يجازفون في إقامتهم أنفسهم مقام الله عز وجل بتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله، دون رجوع إلى ضوابط ذلك من أدلة العلم وقواعده.

إن مرجعنا عند الاختلاف والتنازع هو المحكم في شريعة الإسلام.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الأسوة والقدوة لنا في الأمر.

وهذا بعض هديه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة:

عن عبادة بن الصامت أنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومطرنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان([14]).

وعن أسامة بن زيد، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك. فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟"، قال قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت على قلبه حتى تعلم اقالها أم لا؟ فما زال يكررها، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ([15]).

وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله كان قد أعلمه بنفاق المنافقين المتظاهرين بالإسلام بين أصحابه، ومع ذلك فقد كان يأبى إلا أن يعاملهم معاملة المسلمين، ويأخذهم بظاهر أحوالهم.

وقد طلب منه عمر بن الخطاب أن يأذن له بقتل عبد الله بن أبي بن سلول فلم يأذن له.

وجاء عبد الله بن أبي بن سلول يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتل أبيه، لما بدر منه من مظاهر النفاق في غزوة المريسيع، فأبى صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: بل نترفق به ونحسن صحبته.

هذا كله في حق من أعلمه الله بطوياتهم ودخائل نفوسهم، فكيف بمن لا سبيل لنا إلى إختراق قلوبهم ومعرفة ما استكن فيها مما قد يخالف ظاهرهم؟.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلزم أصحابه إذا حكموا أن يحكموا بما ظهر لهم وأن يكلوا بواطن الأمور إلى الله عز وجل.

وقد أطال الإمام الشافعي في كتابه الأم، في بيان هذا الواجب الذي ألزم الله به عباده أن يتعاملوا فيما بينهم على أساسه في الحياة الدنيا. وإليك خلاصة ما قاله في ذلك.

(.. إن الله فرض على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم بعد من الأمر شيئاً. وأولى أن لا يتعاطوا حكماً على غيب أحد، لا بدلالة ولا ظن، لتقصير علمهم عن علم أنبيائهم الذين فرض الله تعالى عليهم الوقف عما ورد عليهم، حتى يأتيهم أمره.

فإنه جل وعز، ظَاهَر عليهم الحجج فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا، بأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وأن لا يجاوزوا أحسن ظاهره.

ففرض الله على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان، حتى يسلموا، وأن يحقن دماءهم إذا أظهروا الإسلام، ثم بين الله لرسوله أنه لا يعلم سرائرهم في صدقهم بالإسلام إلا الله ...

ثم اطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ولم يجعل له أن يقضى عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا...

فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم خلاف حكم الإيمان...

أخبرنا مالك عن أبن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلاً سارَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم ندر ما سارَّه حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى، ولا شهادة له.

فقال أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك الذين نهاني الله تعالى عنهم..

ثم قال الشافعي: (وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، وأعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون، وأن الله يدين بالسرائر...

فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم، استدلالاً على أن ما أظهروا، يحتمل غير ما أظهروا، بدلالة منهم أو غير دلالة، لم يسلم عندي من مخالفة التنزيل والسنة)([16]).

وهذا الذي أطال الشافعي رضي الله عنه بيانه، هو الذي تلاقى عليه إجماع جميع الأئمة وأهل الملة فيما نعلم، لم يشذ عنهم إلا الخوارج.

فليتق الله من يخالف اليوم بيان الله وسنة رسوله وإجماع ائمة المسلمين، لينساق وراء هواه في تكفير من يحلو له تكفيره ممن ظاهرهم الإسلام والانقياد لدين الله عز وجل.

 

من آثار التكفير القريبة:

التفجير وسفك الدماء.

التدمير وتخريب المنشآت.

القتل وإزهاق أرواح بريئة.

هتك الأعراض

سلب الأموال وإتلاف أموال معصومة.

إخافة للناس، وزعزعة أمنهم واستقرارهم.

 

من آثار التكفير البعيدة:

تضاءل حجم الدعوة إلى الله، حيث ينظر المتأملون الراغبون بدخول الإسلام إلى حال العالم الإسلامي، وما فيه من ويلات، فيحذر منه، بل يخشى الدخول فيه، بل قل: يرى فيه دين الإرهاب، وهو ما يطلق عليه في الدراسات الحديثة (الإسلام فوبيا).

 

([1] ) متفق عليه.

([2] ) أخرجه أحمد (2/277، رقم 7713)، ومسلم (4/1986، رقم 2564). وأخرجه أيضًا: البيهقي (6/92، رقم 11276).

([3] ) رواه البخاري، برقم (4141) ومسلم، برقم (66).

([4] ) أخرجه أحمد (2/92، رقم 5662)، والطبرانى كما فى مجمع الزوائد (5/235) قال الهيثمى: فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح. والبيهقى في شعب الإيمان (6/47، رقم 7459). والحديث أصله عند البخارى ومسلم بأطراف منها: "إن الظلم ظلمات"، "الظلم ظلمات".

([5] ) رواه البخاري.

([6] ) أخرجه الترمذى (4/17، رقم 1398) وقال: غريب.

([7] ) رواه البخاري، برقم (5752).

([8] ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/116، رقم 312)، وأحمد (1/404، رقم 3839)، والترمذي (4/350، رقم 1977)، وقال: حسن غريب. وأبو يعلى (9/20، رقم 5088)، وابن حبان (1/421، رقم 192)، والطبراني (10/207، رقم 10483)، والحاكم (1/57، رقم 29)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي في شعب الإيمان (4/293، رقم 5149).

([9] ) رواه البخاري، برقم (48) ومسلم، برقم (64).

([10] ) رواه البخاري، برقم (34) و مسلم، برقم (58).

([11] ) متفق عليه.

([12] ) رواه البخاري، برقم (5752).

([13] ) فتاوى السبكيّ، (2/586)، دار المعرفة.

([14] ) رواه الشيخان

بدعة التكفير وخطرها على المجتمع

 

الأستاذ الدكتور علاء الدين زعتري

مدير الإفتاء العام، وزارة الأوقاف السورية

www.alzatari.net

 

الحمد لله الذي جعل تكريم الإنسان على يديه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد منقذ الإنسانية وهادي البشرية، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته ومَن تبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:

فلقد جاءت الشريعة لتحفظ للإنسان على حياته، وتعلمه دينه، وتنمي عقله، وتصون عرضه، وتحمي ماله،

ولقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرَّم انتهاكها، وشدَّد في ذلك، وكان من آخر ما بلَّغ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته فقال في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد"([1]).

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"([2]).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"([3]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"([4]).

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً"([5]).

يبين هذا الحديث العظيم بأن على كل مسلم أن يراعي حدود الله ولا ينتهك شيئاً منها، بل وعليه أن يُنكر على من يتعدى هذه الحدود التي حدها الشرع المطهر، فنأمر بالمعروف باللطف لا بالعنف، وأن ننهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتي هي من صفات المؤمن الصالح التقي النقي.

 

حرمة الدماء:

لقد توعَّد اللّه سبحانه مَن قَتَلَ نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قُتِل خطأً فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قُتِل عمداً، فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَو أنَّ أَهْلَ السَّماءِ وأَهْلَ الأَرضِ اشتركوا في دَمِ مؤمن لأَكَبَّهُمُ الله في النار"([6]).

 

لقد أصبح التكفير وسيلة للعمل وتصفية الحسابات مع الخصوم، ولم يعد يُنْظَر ينظر إليها من باب الاجتهاد الشرعي الذي يقوم به عالم مجتهد يستجمع قضايا التكفير، ويدرس ضوابطها، ويعرف حدودها المرسومة في الشريعة، فإن هذا أمر قضائي موجود على مدار التاريخ الإسلامي.

فالتكفير في أصله حكم شرعي، مردّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى اللّه ورسوله، فكذلك التكفير.

وإذا كانت الحدود تدْرَأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأ بالشبهات.

ولذلك حذَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"([7]).

 

خطورة التكفير:

التكفير مزلق خطير، ومنهج لم يتبناه في تاريخ الأمة إلا الغلاة الذين جعلوا التكفير وسيلة إلى استحلال دماء الناس وأموالهم وأعراضهم.

والتكفير يحمل وراءه مآسي تربوية ضخمة، فالعدائية التي توجد عند كثير من الشباب، والسرعة في الحكم على حل الأموال واستباحة سفك الدماء، والشعور بالغربة داخل المجتمع المسلم، والحنق على أهل العلم من الربانيين، وأهل الحكمة من الدعاة، والتسرع في إطلاق الأحكام، والتأزم النفسي، وحدوث الانشقاق داخل الصف الإسلامي، وانتهاك حرمة العلم والعلماء (فتجد أنصاف وأرباع من قرأ كتاباً يتطاول على طالب عالم أفنى حياته في المدارسة ومجالس العلماء ومزاحمتهم بركبتيه) كلها تأتي نتيجة لزرع منهج التكفير في وعي الجيل المسلم المعاصر.

 

منطلق التكفير:

تنبثق بدعة التكفير عن الضغط النفسي لدى من لم يضبط نفسه بقواعد العلم وأحكام الكتاب والسنة.

وتزداد المشكلة في اطرادها وانتشارها لتشمل الأفراد والجماعات والمجتمعات والحكومات والدول مع عدم إدراك خطورتها وأبعادها الفكرية والمنهجية والتربوية.

 

منشأ التكفير:

الجهل من عوامهم الذين يتبعون كل ناعق، ويسيرون وراء غيرهم بتقليد أعمى، دون تدبر في العواقب، ينخدعون بمظهر مَن يملي عليهم، فيوقنون كل اليقين أنهم على الحق.

وإن كان الأصح من الناحية العلمية القول بأن منشأ التكفير، هو: تحريف الكلم عن مواضعه، بقراءة النصوص قراءة خاصة، وفهمها بطريقتهم العوجاء.

قال تعالى عن أمثالهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46، والمائدة: 13].

فالمسلون يقرؤون قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}، ويستبشرون بتزايد أعداد الداخلين في دين الله أفواجاً.

وأولئك يتبارزون بإخراج الناس من دين الله أفواجاً، والطعن بهم، وتكفيرهم، والحكم عليهم بالقتل، وتنفيذ تلك الأحكام بأيديهم، دون مراعاة إجراءات أصول المحاكمات، ولا العمل بدرء الحدود بالشبهات.

 

من مظاهر التكفير:

التكفير المعاصر يتجلى في حمل ملفات حمراء في ذاكرة أولئك طول اليوم، والشهر والحياة، لا يتوقف عن إصدار أحكام كفر غيره.

فمن تكفير الحكام، إلى تكفير العسكر والجند، والوزراء، والعلماء، إلى الحكم بحرمة التعامل مع المواطنين في البلد الواحد، رغم المجاورة قروناً عدة، إلى حرمة المعاملات مع القوانين والنظم الحاكمة والتراتيب الإدارية.

ومن لا يكفرونه صراحة من العلماء والدعاة، فوصف الانبطاح والتخذيل والعمالة والفسق وغيرها أمر لا يتردد فيه كثير من الشباب الذين وقعوا تحت تأثير منظري التكفير والقتل.

وللتأكد مما أقول ما عليك سوى أن تدخل إلى ما يسمى المنتديات الحوارية، لتدرك خطورة هذا المنحى على فكر الشباب وتوجهاتهم.

فالحنق على الناس، والسباب والشتائم، واستحلال الدماء، والنظر إلى المجتمعات بنظرة دونية، والفَجَر في الخصومة، والتراشق بأقذع الألقاب والأوصاف، مع كل من لا يسلك منهج (التكفير).

لقد صرم هذا المنهج علاقة الأمة بعلمائها الربانيين ودعاتها الحكماء، ودرست معالم العلاقات الإسلامية ومحيت معاني الأخوة الإيمانية، واضمحلت أواصر القربى بين المسلمين، وقطعت رحم العلم.

ولا شك أن هذا يُحدث شروخاً تغور في قلوب وعقول وضمائر الأجيال المسلمة، وتجعلهم يتربون على التشظي والتناحر والتشتت.

وهو باب يدخل منه الشيطان في التحريش بين المؤمنين، إذ أخبرنا رسول الله صلى الله لعيه وآله وسلم أن الشيطان قد أيس أن يُعبد من دون الله، ولكنه رضي بالتحريش، وانتهاك حرمات بعض.

 

من أساليبهم:

  1. السباب والشتائم، رغم التحذير النبوي، "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الْفَاحِشِ، وَلاَ الْبَذِىءِ"([8])، وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"([9])، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"([10]).
  2. سلب الأموال على أنها غنائم، (مع أنه في صفين لم يُبح أحد الطرفين مال الآخر، وفي الجمل، حاول بعض الخارجين مع سيدنا علياً كرَّم الله وجهه، وسلام الله عليه والرضوان؛ أن يغنموا وطالبوا الإمام بذلك، فاستثار حمية الإيمان بهم، بقوله: "اقترعوا على أمكم" ويقصد السيدة عائشة رضي الله عنها، كما قال القرآن: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]).
  3. التهديد بالقتل، عبر المكالمات والرسائل بوسائل الاتصال الحديثة المختلفة، وغالباً ما تبدأ بالبسملة؛ للإشعار بأنهم على صواب.
  4. القتل بكل الوسائل المتاحة بين أيديهم، ولا أتحدث عن المقاتلة فالفرق واضح وجلي لكل ذي لب؛ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وليس اقتلوا، فالأمر بالقتل لم يأت إلا في حق المشركين، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
  5. التمثيل بالجثث بعد القتل، والأسوأ عند حرق موتاهم في المعارك، حتى لا يُعرفوا.

 

إن الحكم على إنسان بالكفر أمر من الخطورة بمكان عظيم، لأن المرء يكون به حلال الدم بعد أن كان معصوماً.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله"([11]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"([12]).

وصف الإسلام يثبت بمجرد الإقرار.

قال ابن تيمية: (ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك. بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة).

قال السبكي: (التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً)([13]).

 

يتمسك أولئك الذين يستمرئون الحكم بتكفير الناس، بقوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}.

فما معنى الحكم بغير ما أنزل الله؟

معناه: إبرام الأمر وتقريره على خلاف ما شرع الله عز وجل. سواء تم هذا الإبرام من الإنسان في حق نفسه أو في حق أهله وأولاده أو في حق أصدقائه وأصحابه، أو في حق أمته ومجتمعه.

لا يجوز تكفير أحد من المسلمين الذي نراهم يبرمون أمورهم أو أمور الناس على غير ما تقضي به شريعة الله، لمجرد تلبسهم بذلك، سواء أكانوا يفعلون ذلك تحت قوس القضاء أو في بيوتهم وبين أهليهم، أو في أنظمتهم وأحوالهم الاجتماعية الضيقة.

اتفق العلماء على أن المسلم لا يجوز أن يحكم بكفره بمجرد حكمه بغير ما أنزل الله.

فمناط الكفر يقوم على حال الجحود والإنكار.

لم يخالف في هذا القدر المتفق عليه إلا فئة واحدة، هي فئة الخوارج الذين انفردوا وشذوا عن الإجماع بتكفير المسلمين بارتكاب كبائر الذنوب.

فليتق الله أولئك الذي يجازفون في إقامتهم أنفسهم مقام الله عز وجل بتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله، دون رجوع إلى ضوابط ذلك من أدلة العلم وقواعده.

إن مرجعنا عند الاختلاف والتنازع هو المحكم في شريعة الإسلام.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الأسوة والقدوة لنا في الأمر.

وهذا بعض هديه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة:

عن عبادة بن الصامت أنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومطرنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان([14]).

وعن أسامة بن زيد، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية، فصبحنا الرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك. فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟"، قال قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت على قلبه حتى تعلم اقالها أم لا؟ فما زال يكررها، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ([15]).

وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله كان قد أعلمه بنفاق المنافقين المتظاهرين بالإسلام بين أصحابه، ومع ذلك فقد كان يأبى إلا أن يعاملهم معاملة المسلمين، ويأخذهم بظاهر أحوالهم.

وقد طلب منه عمر بن الخطاب أن يأذن له بقتل عبد الله بن أبي بن سلول فلم يأذن له.

وجاء عبد الله بن أبي بن سلول يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتل أبيه، لما بدر منه من مظاهر النفاق في غزوة المريسيع، فأبى صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: بل نترفق به ونحسن صحبته.

هذا كله في حق من أعلمه الله بطوياتهم ودخائل نفوسهم، فكيف بمن لا سبيل لنا إلى إختراق قلوبهم ومعرفة ما استكن فيها مما قد يخالف ظاهرهم؟.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلزم أصحابه إذا حكموا أن يحكموا بما ظهر لهم وأن يكلوا بواطن الأمور إلى الله عز وجل.

وقد أطال الإمام الشافعي في كتابه الأم، في بيان هذا الواجب الذي ألزم الله به عباده أن يتعاملوا فيما بينهم على أساسه في الحياة الدنيا. وإليك خلاصة ما قاله في ذلك.

(.. إن الله فرض على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم بعد من الأمر شيئاً. وأولى أن لا يتعاطوا حكماً على غيب أحد، لا بدلالة ولا ظن، لتقصير علمهم عن علم أنبيائهم الذين فرض الله تعالى عليهم الوقف عما ورد عليهم، حتى يأتيهم أمره.

فإنه جل وعز، ظَاهَر عليهم الحجج فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا، بأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وأن لا يجاوزوا أحسن ظاهره.

ففرض الله على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان، حتى يسلموا، وأن يحقن دماءهم إذا أظهروا الإسلام، ثم بين الله لرسوله أنه لا يعلم سرائرهم في صدقهم بالإسلام إلا الله ...

ثم اطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره ولم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ولم يجعل له أن يقضى عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا...

فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم خلاف حكم الإيمان...

أخبرنا مالك عن أبن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلاً سارَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم ندر ما سارَّه حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى، ولا شهادة له.

فقال أليس يصلي؟ قال بلى ولا صلاة له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك الذين نهاني الله تعالى عنهم..

ثم قال الشافعي: (وبذلك مضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، وأعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون، وأن الله يدين بالسرائر...

فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم، استدلالاً على أن ما أظهروا، يحتمل غير ما أظهروا، بدلالة منهم أو غير دلالة، لم يسلم عندي من مخالفة التنزيل والسنة)([16]).

وهذا الذي أطال الشافعي رضي الله عنه بيانه، هو الذي تلاقى عليه إجماع جميع الأئمة وأهل الملة فيما نعلم، لم يشذ عنهم إلا الخوارج.

فليتق الله من يخالف اليوم بيان الله وسنة رسوله وإجماع ائمة المسلمين، لينساق وراء هواه في تكفير من يحلو له تكفيره ممن ظاهرهم الإسلام والانقياد لدين الله عز وجل.

 

من آثار التكفير القريبة:

التفجير وسفك الدماء.

التدمير وتخريب المنشآت.

القتل وإزهاق أرواح بريئة.

هتك الأعراض

سلب الأموال وإتلاف أموال معصومة.

إخافة للناس، وزعزعة أمنهم واستقرارهم.

 

من آثار التكفير البعيدة:

تضاءل حجم الدعوة إلى الله، حيث ينظر المتأملون الراغبون بدخول الإسلام إلى حال العالم الإسلامي، وما فيه من ويلات، فيحذر منه، بل يخشى الدخول فيه، بل قل: يرى فيه دين الإرهاب، وهو ما يطلق عليه في الدراسات الحديثة (الإسلام فوبيا).

 

([1] ) متفق عليه.

([2] ) أخرجه أحمد (2/277، رقم 7713)، ومسلم (4/1986، رقم 2564). وأخرجه أيضًا: البيهقي (6/92، رقم 11276).

([3] ) رواه البخاري، برقم (4141) ومسلم، برقم (66).

([4] ) أخرجه أحمد (2/92، رقم 5662)، والطبرانى كما فى مجمع الزوائد (5/235) قال الهيثمى: فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح. والبيهقى في شعب الإيمان (6/47، رقم 7459). والحديث أصله عند البخارى ومسلم بأطراف منها: "إن الظلم ظلمات"، "الظلم ظلمات".

([5] ) رواه البخاري.

([6] ) أخرجه الترمذى (4/17، رقم 1398) وقال: غريب.

([7] ) رواه البخاري، برقم (5752).

([8] ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/116، رقم 312)، وأحمد (1/404، رقم 3839)، والترمذي (4/350، رقم 1977)، وقال: حسن غريب. وأبو يعلى (9/20، رقم 5088)، وابن حبان (1/421، رقم 192)، والطبراني (10/207، رقم 10483)، والحاكم (1/57، رقم 29)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي في شعب الإيمان (4/293، رقم 5149).

([9] ) رواه البخاري، برقم (48) ومسلم، برقم (64).

([10] ) رواه البخاري، برقم (34) و مسلم، برقم (58).

([11] ) متفق عليه.

([12] ) رواه البخاري، برقم (5752).

([13] ) فتاوى السبكيّ، (2/586)، دار المعرفة.

([14] ) رواه الشيخان.

([15] ) رواه مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود.

([16] ) الأم، كتاب إبطال الاستحسان، 7/168 و169.

.

([15] ) رواه مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود.

([16] ) الأم، كتاب إبطال الاستحسان، 7/168 و169.

عدد القراء : 907