أما آن للمؤمنين أن يعوا أهمية الاجتماع والاتفاق ونبذ الخلاف والتفرق
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الدين والإيمان، وشبههم في تعاونهم وتضامنهم وتناصرهم بالجسد الواحد والبنيان المرصوص، وأصلي على رسوله محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل السابقين واللاحقين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63].
وقال r: "أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ الله بِي"([1]).
وقال r: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"([2]).
وقال r: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُن ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ"([3])، أي لا يكون في القلب غل مع وجود هذه الثلاث.
فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الاجتماع ووحدة الصف والموقف والهدف والمصير المشترك، وفضله والحث عليه وتحريم التفرق والاختلاف وسوء عاقبته.
فقد أوجب الله على المؤمنين أن يكونوا إخوة مجتمعين على الحق، متحابين متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان.
وشرع لهم ما يقوي هذه الأخوة والمحبة من الاجتماع على الصلوات الخمس، والجمع، والأعياد، والحج.
كما شرع لهم تبادل التحية والسلام، والمصافحة والوئام، وتشميت العاطس وإجابة الدعوة، والنصيحة وعيادة المريض، واتباع الجنائز وتبادل الهدايا، ونحو ذلك من أسباب المحبة، والألفة، وإزالة العداوة والبغضاء.
وعلى المؤمنين أن يبتعدوا عن العداوة والبغضاء، والفرقة والاختلاف، والقطيعة والهجر لغير مقصود شرعي، والشحناء والقطيعة، فهذا ما يريده الشيطان منهم قال r: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ"([4])، فلم يزل عدو الله إبليس يحرش بين المسلمين، ويوغر صدورهم، ويوسوس لهم، ويلقي في قلوبهم العداوة والبغضاء، والحسد والحقد والتهاجر، والتقاطع والتنافر والتناحر، حتى وصلت الأمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه من الاختلاف والتفرق شيعًا وأحزابًا: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
وهذا ما يريده أعداء الإسلام منهم حتى تضعف شوكتهم وتذهب قوتهم ومعنويتهم، كما قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وهذه هي سياسة الأعداء على حد قولهم: «فرق تسد».
وقد قال r: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"([5]).
وما دام الطريق إلى الله واحداً، وهو الإسلام الذي نزل به القرآن، وأرسل به الرسول r، فيجب أن يكون الهدف واحدًا، وهو الاجتماع والاتفاق والبعد عن الخلاف والتفرق؛ طاعة لله ولرسوله، ولتتحقق للأمة وحدتها وعزتها وقوتها وسلطانها ونصرها على أعدائها.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
واعتصموا بجبل الله جميعًا ولا تفرقوا
أخي المؤمن: تعال نفكر سويًا في ماضي أمتنا المسلمة، وما كانوا عليه من عزة وهناء، وما كان لهم من عدل شامل، ومنعة وحصانة، ونفوذ ومهابة، لا مثيل لها في جميع أنحاء المعمورة.
وما نحن فيه اليوم - ويا للأسف - من ذل وفرقة، ومهانة وعزلة، نتيجة ما يحصل من تنافر وتطاحن، وتهاجر وتشاحن.
فالإسلام حين سطع نوره جمع الأمة بهداه بعد فرقتهم، وبين لهم الرسول r الطريق السوي لسعادة الدارين، وعرفهم أن دين الإسلام بني على الحق والتعارف، وتلا عليهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وبين لهم أن الله واحد، وأن نبي الإسلام واحد، وأن القبلة واحدة، وأن كتاب الله واحد، لا يجوز العمل بغير هداه، فعلى هذا يجب أن تكون كلمة المسلمين واحدة، فجمع الله شملهم، ووحد كلمتهم وقضى على الفرقة التي كانت بينهم، وأصبحوا إخوة متحابين، ورجالاً مؤمنين.
كلمتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، تحت راية الإسلام القوية التي لا تفضل أحدًا على أحد إلا بتقوى الله عز وجل.
أخي المؤمن: إذا اتحدت قلوب الأمة على الحق، وتألفت نفوسها على الخير، وطهرت مجتمعها من الرذيلة، وتعاون أفرادها وجماعاتها على البر والتقوى، نالوا الخير العظيم، والسعادة الأبدية، وفازوا بالرقي المحمود، وشيدوا بناء مستقبلهم على أساس من الدين، ونور من رب العالمين.
أما إذا حصل الشقاق ووجد التفرق والتناحر، كانت المصيبة العظمى والطامة الكبرى التي تهدم بنيان الأمم المشيد، وتقضي على حضارتها، وتحكم على مستقبلها بالذل والتقهقر، وتنذرها بوخامة العاقبة وسوء المصير.
فمن أجل ذلك نهى الله الأمة الإسلامية عن التناحر والاختلاف وحذَّرها من التفرق والانحراف، وتوعدها بالفشل والإتلاف.
يرشدنا ربنا إلى ما هو في صالنا دينا ودنيًا، تعال لنقرأ سيرة الأنبياء والمرسلين، والعلماء والفقهاء والمجتهدين، وما كانوا عليه من شرف رفيع، وعزٍّ منيع، فقد تمكن أولئك الأماجد من نشر لواء الإسلام في جميع أصقاع المعمورة، وبسطوا لواء العدل والمساواة بين أفراد الأمة.
أخي المؤمن: إن نظرة إلى واقع الأمة اليوم، وما آلت إليه يوضح مدى ما وصل إليه الناس من المخالفة الصريحة لأوامر الله ورسوله r، والدلائل على ذلك بارزة يلمسها كل من رزق أدنى مقدار من الإيمان، وأكبر دليل على ما تقدم هو وجود هذه التناحرات التي مني بها العالم الإسلامي.
حث الشارع على التلاقي والاتفاق ونهيه عن التعادي والافتراق
قال r: "لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ، الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ"([6]).
وفي الكتاب والسنة من الحث على هذا الأصل نصوص كثيرة، تأمر بكل ما يقوي الألفة ويزيد في المحبة، وتدفع العداوة والبغضاء، وما ذاك إلا لما في الاجتماع والاتفاق من الخير الكثير والثمرات الجليلة والبركة والقوة، ولما في ضده من ضد ذلك.
فمتى امتثل المسلمون أمر الله فسعوا في حصول الاتفاق وإزالة العداوات وأسبابها، وكانوا يدًا واحدة في السعي مصالحهم المشتركة ومقاومة الأعداء، وبتحصيل القوة المادية بكل مقدور ومستطاع، وكان أمرهم شورى بينهم.
متى عملوا على ذلك كله حصل لهم قوة عظيمة يستدفعون بها الأعداء ويستجلبون بها المصالح والمنافع، وعاد صلاح ذلك إلى دينهم وجماعاتهم وأفرادهم، ولم يزالوا في رقي مطرد في دينهم ودنياهم.
ومتى أخلوا بما أمرهم به دينهم عاد الضرر العظيم عليهم فلا يلوموا إلا أنفسهم.
وقد وعد الله العز والنصر لمن قاموا بالتقوى واعتصموا بحبله وتمسكوا بدينه، وأخبر أن هذا دين جميع المرسلين، قال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].
إخوتي المؤمنون: عليكم بعمل جميع الأسباب المقربة للقلوب، وإياكم والعداوات والضغائن التي لا تكسب إلا شرًا.
والمسلم الحق هو الذي يسعى في جمع كلمة المسلمين واتفاقهم، ويحذر غاية التحذي من تدابرهم وافتراقهم.
قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
فرتب الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمات الثواب الجزيل على الإصلاح والتآلف بين المؤمنين، وجعل ذلك من أفضل الخصال المنجية يوم الدين.
ونَبَّه سبحانه على أن الاعتصام بحبله، والاجتماع على طاعته فيه العز والشرف في الدنيا والآخرة، وأن الاختلاف يورث الفشل والجبن، وذهاب القوة وضياع الوحدة، وما كانوا فيه من النهضة والتقدم والازدهار.
وأما الأحاديث الواردة في فضل الإصلاح بين الناس والنهي عن التهاجر فكثيرة جدًا، ولنذكر منها ما تيسر، فمنها:
ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: "كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"([7])، فقوله: "تعدل بين اثنين"، أي توفق بينهما وتزيل الوحشة الواقعة بينهما.
ومنها قوله r في حديث أبي الدرداء: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ". قَالُوا بَلَى. قَالَ: "إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ"([8]).
وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ـ بدا: وضح وظهر ـ، ثناياه ـ ثنايا: الأسنان الأربع في مقدم الفم اثنان من أسفل واثنان من أعلى ـ، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: "رجلان من أمتي جثيا ـ الجثو: جلوس المرء على ركبتيه ـ بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري"، قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبكاء، ثم قال: "إن ذاك اليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم"، فقال الله تعالى للطالب: "ارفع بصرك فانظر في الجنان" فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟، أو لأي صديق هذا؟، أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب فإني قد عفوت عنه، قال الله عز وجل: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: {اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}؛ فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين([9])، ومعنى قوله: اتقوا الله أي بطاعته؛ فرَاقِبُوه وأصلحوا الحال بترك المنازعة والمخالفة.
وأما الأحاديث الواردة في النهي عن التهاجر والتقاطع. فمنها:
حديث أبي أيوب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: "لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هذَا، وَيُعْرِضُ هذَا. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ"([10]).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: "لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ"([11]).
لقد نهى رسول الله r المسلمين عن التباغض بينهم في غير ذات الله عز وجل، بل على هوى النفوس، فقد جعل الله المؤمنين إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون.
وفي حديث أبي خراش السلمي، أنه سمع النبي r يقول: "دَبَّ إليكم دَاءُ الأُممِ قَبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، وَهي الْحَالِقةُ أمَا إنَّي لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، ولكن تَحْلِقُ الدَّينَ، والَّذي نَفْسي بِيدِه، لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنُون حتى تَحابُّوا، أَلا أدُّلكم على مَا تَتَحَابُّونَ بِهِ؟ افْشُوا السلامَ بينَكم"([12]).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: "إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ". وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ" إِنَّمَا يَعْنِى الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَوْلُهُ: "الْحَالِقَةُ"، يَقُولُ: إِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ([13]).
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ". أَوْ قَالَ: "الْعُشْبَ"([14]).
وأكثر ما يقع التشاجر والتشاحن وسوء ذا البين بسبب النميمة وسوء الظن بالمسلمين.
أما النميمة فقد قال النبي r: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ"([15])، وهي نقل كلام إنسان إلى آخر على جهة الإفساد.
وفي الأثر يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: "لَمَّا عُرِجَ بِى، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِى أَعْرَاضِهِمْ"([16]).
فلنحذر جميعاً من الوقوع في أعراض الناس، ولنطهر أفواهنا من لحومهم.
وقد وصف نبي الله r المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد، فقال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"([17]).
ومن اتبع هواه ولم يلتفت إلى ما أمره به مولاه، كان الهلاك إليه أقرب من حبل الوريد.
إن هذه أمتكم أمة واحدة
لقد دعا الإسلام إلى وجوب الاجتماع، ونهى عن الفرقة، فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
فلماذا لا يسود التفاهم والتناصح والألفة والمحبة والاجتماع على ضوء الآيات السابقة؟.
الحث على الألفة بين المسلمين والمودة
الأخوة أقوى من كل رابطة وصلة، فيوم القيامة لا أنساب بينكم، ولكن {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
إن الأمة لا تكون واحدة ولا يحصل لها قوة ولا عزة حتى ترتبط بالروابط الدينية حتى تكون كما وصفها نبيها r بقوله: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"([18]).
لقد أرست الشريعة أسس تلك الروابط والأواصر، فشرع الله ورسوله للأمة ما يؤلف بينها ويقوي وحدتها ويحفظ كرامتها وعزتها ويجلب المودة والمحبة.
شرع للأمة أن يسلم بعضهم على بعض عند التلاقي، فالسلام يغرس المحبة، ويقوي الإيمان، ويدخل الجنة، قال r: "لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ"([19]).
وأمر الله تعالى المؤمنين بالإصلاح فيما بينهم وبين الناس، قال عزَّ مِن قائل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وأخبر القرآن أن ذلك هو الخير: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
إن الإصلاح بين الناس رأب للصدع، ولم للشعث، وإصلاح للمجتمع كله، وثواب عظيم لمن ابتغى به وجه الله.
إن الموفَّق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعدًا سعى بينهما في إزالة تلك العداوة والتباعد حتى يكونا صديقين متقاربين.
وأمر الله تبارك وتعالى المؤمنين بالعمل على اجتماع كلمتهم على الحق، والتشاور بينهم في أمورهم حتى تتم الأمور، وتنجح على الوجه الأكمل، فإن الآراء إذا اجتمعت مع الفهم والدراية وحسن النية تحقق الخير وزال الشر بإذن الله تعالى.
إن القاعدة الأصيلة بين المؤمنين أن يسعوا في كل أمر يؤلف بين قلوبهم ويجمع كلمتهم، ويوحد رأيهم، وأن ينابذوا كل ما يضاد ذلك.
([9]) المستدرك على الصحيحين، (8869).
عدد القراء : 1237