رائد الاقتصاد الإسلامي الحديث
بحث
الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
رائد الاقتصاد الإسلامي الحديث: الشهيد السيد محمد باقر الصدر
وكتابه (اقتصادنا) أنموذجاً لوحدة الفكر الاقتصادي عند المسلمين
ضمن فعاليات الندوة الإسلامية
في المستشارية الإيرانية بدمشق
خلال الأيام (11-12 أيار 2004م)
بسم الله الرحمن الرحيم
حري بالأمم الحية أن تستذكر عظماءها ورجالاتها الذين عاشوا ظروفها ووعوا حاجاتها، وعملوا ما بوسعهم من أجل أن ينقلوا واقعها إلى المستقبل المشرق الذي تصبوا إليه، تاركين إشعاعات فكرهم النيرة على كل عمل يزاولونه، وبصمات أصابعهم الواضحة كل نشاط يشتركون فيه.
إن تذكر هؤلاء الرجال وتدارس حياتهم وخصائصهم ونشاطاتهم يزيد في عمر ذاكرة الأمة، ويضيف بعداً فكرياً إلى خصائصها ومعرفة ظروفها والواقع الذي تعيشه والمستقبل الذي تنشده وتهفو إليه وسبل تحققه.
وعلى هذا الأساس كانت الدراسة للسيد محمد باقر الصدر وسماته الفكرية بوجه عام والفكر الاقتصادي عنده بوجه خاص.
فمع نهاية القرن الرابع عشر الهجري ومستهل القرن الخامس عشر للهجرة: اتجه العلماء والمفكرون الإِسلاميون ليعطوا الموضوع الاقتصادي اهتماماً مركزاً، وبخاصة مع ازدياد المطالبات بضرورة تحديد نظرية إسلامية في الاقتصاد تتجاوز العموميات بالنسبة إلى مسائل النظام الاقتصادي في الإِسلام، والتي كثرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
فالاقتصاد عصب الحياة في العالم، والموجه الرئيسي للسياسة الداخلية والخارجية، وموضع اهتمام العائلة الإنسانية على وجه الأرض، وهو الذي يضع المنهج الإنمائي في البلاد على الطريق التصاعدي الصحيح، ويدفع بالمجتمع نحو العمل والنشاط والرفاه، ويقضى على ألوان البؤس وأنواع الشقاء.
ومن أبرز العلماء الذين جددوا مسيرة الفكر الإسلامي وحاولوا إنقاذ العالم خلال فترة الستينات والسبعينات من الفكر الشيوعي: السيد محمد باقر الصدر في كتابيه (فلسفتنا) و(اقتصادنا).
حياة السيد محمد باقر الصدر:
ولد السيد محمد باقر الصدر في الخامس والعشرون من شهر ذي القعدة لعام 1353 هـ، (المصادف للثاني من الشهر الثالث من عام 1933م) في مدينة الكاظمية، وينتمي إلى عائلة الصدر المشهورة بالعلم والجهاد والتقوى، وقد هاجرت أسرة آل الصدر العربية العريقة من لبنان إلى العراق.
حرم من فيض الأبوة وهو في طفولته المبكرة، فنشأ وترعرع تحت رعاية أخيه الأكبر السيد إسماعيل، وعناية والدته المكرمة وهي من آل ياسين من الأسر العربية العراقية المعروفة.
في سنه 1378 هـ.ق (1958 م) أنهى السيد الصدر جميع مراحل دراسته الحوزوية، وكان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره.
أهم نشاطاته:
زاول التدريس في أعلى المراحل العلمية في حوزة النجف الأشرف العلمية لمدة تجاوزت العشرين سنة.
أثرى الأمة بالعطاء الفكري والعلمي عبر مجلة (الأضواء) و غيرها.
أثرى كليتى أصول الدين، والفقه بالعطاء الفكري و العلمي.
ترك عشرات المؤلفات القَيِّمَة في حقول: الاقتصاد والفلسفة والمنطق وعلم الأصول وعلم الفقه وأصول العقائد وغيرها.
ومن نتاجاته العلمية المهمة: وقد رتبتها هجائياً
- أحكام الحج؛ وهو بحث فقهي يحدد السلوك العملي للمسلم الذاهب لزيارة بيت الله الحرام.
- الأسس المنطقية للاستقراء؛ وهو محاولة متميزة لإثبات وجود الله عن طريق الاستقراء وحساب الاحتمالات.
- الإسلام يقود الحياة: ألف منه ست حلقات في سنة 1399 هـ، منها: صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، وخطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، والأسس العامة للبنك في المجتمع الإسلامي.
- اقتصادنا: وهو دراسة موضوعية مقارنة، تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام، في أسسها الفكرية وتفاصيلها.
- بحث حول المهدي، بحث حول الولاية؛ يتحدث فيهما عن أهم ناحيتين في العقيدة الإسلامية.
- بحوث في شرح العروة الوثقى، تبحث في الفقه؛ بأسلوب استدلالي عميق، (أربع مجلدات).
- البنك اللاربوي في الإسلام، وهذا الكتاب أطروحة للتعويض عن الربا، ودراسة لنشاطات البنوك على ضوء الفقه الإسلامي.
- خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.
- دروس في علم الأصول؛ يتحدث فيه عن أصول استنباط الحكم الشرعي بأسلوب أكثر عمقاً واستدلالاً من كتاب (غاية الفكر).
- الصورة الكاملة للاقتصاد في المجتمع الإسلامي؛ يتحدث فيه عن التطبيق الاقتصادي في دولة الإسلام.
- غاية الفكر في علم أصول الفقه، يتحدث فيه عن أصول استنباط الحكم الشرعي وقواعده، (خمس أجزاء).
- الفتاوى الواضحة ومنهاج الصالحين، وهما رسالتان علميتان تحددان المجال العلمي والسلوكي للفرد المسلم على ضوء الشريعة الإسلامية.
- فلسفتنا: ألف هذا الكتاب في 29 ربيع الثاني 1379هــ أي سنة 1959م، وهو دراسة دقيقة وموضوعية للأسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية ودياليكتيتها ودحضها علمياً رصينا.
- لمحة فقهية عن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
- مباحث الدليل اللفظي وكتاب تعارض الأدلة الشرعية؛ وهما يبحثان في علم أصول الفقه.
- المدرسة الإسلامية وقد ركز فيه على مبحثين مهمين هما: أ - الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية، ب - ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي.
- المرسل والرسول والرسالة؛ وهو كتاب في العقائد يعبر عن عمق فكرته وسعة اطلاعه وقدرته على إيصال الفكر الإسلامي الصافي إلى المسلمين.
- منابع القدرة في الدولة الإسلامية؛ يتحدث فيه عن الحكومة الإسلامية.
سماته السيد الصدر الفكرية:
لم تكن أفكار السيد الصدر محدودة مقتصرة على الشيعة فقط، بل كانت لعامة المسلمين؛ حيث كان مهتماً بكل شؤون الأمة الإسلامية، مجاهداً من أجل المسلمين عامة؛ متمثلاً أن الإسلام دين عالمي يمتد أثره في أرجاء المعمورة، وفيما يأتي بيان لأهم السمات الفكرية عند السيد الصدر:
1 ـ السعة والشمول: فالمطلع على أعمال السيد الصدر العلمية يجدها في مجمل العلوم الإسلامية ذات العلاقة بالعقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
وعلى نحو الإجمال فقد تناول بالبحث: الفقه، والأصول، والفلسفة، والعقائد، والحديث، والرجال، والتاريخ الإسلامي، وفلسفة التاريخ، والمنطق، والنظام الإسلامي، والاقتصاد السياسي والمجتمع الإسلامي.
وقد كان يتناول الموضوع الواحد من خلال أبعاد متعددة ليعطي للشمول سعة وانطلاقاً.
2 ـ الدقة والتحقيق: لم يكن اهتمام السيد الصدر بالشمول كهدف، وإنما كان العمق في التناول للموضوعات، والدقة في الطروحات.
3 ـ التجديد والحاجة: كما أنه يُلاحظ التجديد والجديد فيما يكتب، دون خيالات بعيدة، فالكتابة حسب حاجة المسلمين.
3 ـ استكشاف النظرية إلى جانب التفصيل: وأضاف السيد الصدر إلى العمق كهدف: هدفاً آخر كان يسعى إليه وهو استكشاف النظريات العامة التي يمكن أن تفسر مجموعة من المفردات، وتكون قاعدة يعتمد عليها في الحالات المشابهة.
فلم يقتصر في بحثه العلمي على الجزئيات وتعميقها بل كان ينطلق منها إلى الكليات التي تجمعها وتربط بينها مما كان يضفي على العمق والتجديد في آن واحد: بعداً جديداً مُهِمَّاً يساهم في دعم المواجهة الحضارية التي يخوضها الإسلام مع الحضارات الجديدة.
4 ـ الموضوعية في البحث العلمي: كانت الموضوعية طابعاً مميزاً لأعمال السيد الصدر العلمية؛ بحيث كان يتناول القضايا المختلفة بالتحليل العلمي الموضوعي، وينتهي بها إلى نتائج رائعة، كما يدرسها العالم في مختبره.
5 ـ الواقعية والتجربة: والواقعية صفة أخرى يتميز بها البحث العلمي للسيد الصدر في كل بحث علمي قدَّمه في الشريعة أو المجتمع.
والواقعية تعني الانطلاق من الواقع القائم، واستنطاق القرآن والشريعة والقوانين العلمية والتاريخية في تفسيره ومعالجته [للمواضيع المبحوثة] والتمييز بين حالة تفسير النص بالواقع، أو تفسير النص مع الإغماض عن الواقع وفصله عن إطاره وهدفه، وحالة تفسير الواقع بالنص ومعالجته من خلال النص الشرعي والسعي لتحقيق هدف النص الذي ورد لمعالجة هذا الواقع.
وقد أعطى لهذه الواقعية بعداً أعمق حين أدخل عنصر نتائج التجربة البشرية كطرف في البحث والمقارنة، حيث تصبح النظرية التي يراد استنباطها أكثر وضوحاً، كما يُلاحظ ذلك في كتاب فلسفتنا واقتصادنا، حيث اعتمد أسلوب المقارنة مع حصيلة التجارب البشرية المعاصرة أساساً في فهم النظرية الإسلامية.
6 ـ الممارسة الميدانية والاجتماعية: ولم يكن السيد الصدر يكتب عن الواقع من خلال التصور للواقع أو تخيله أو من خلال ما يقرأ عنه بل كان يعايش الواقع في كثير من الأحيان بعقله وروحه من خلال الممارسة والمشاهدة الحسية لأنه كان يتحرك ضمنه ويتفاعل معه يوميا من خلال الصراع السياسي والاجتماعي المستمر.
هذه أهم السمات الفكرية للسيد محمد باقر الصدر، ويمكن اختصارها بالقول: إن السيد الصدر كان صاحب منظومة فكرية متوازنة؛ يعرف ما يريد ويصل إلى هدفه بأسلوب علمي رصين؛ إذ بدأ مؤصلاً بـ (فلسفتنا)، مكتشفاً (اقتصادنا)، مبرمجاً (صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع المسلم)؛ حيث كتبه بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وربط فيه بين الاقتصاد والحياة.
وسأقتصر في هذا البحث على كتاب (اقتصادنا) الذي يحتل موقعاً علمياً مرموقاً، وقد أثبت مؤلفه قدرة عالية في مناقشة النظريات الاقتصادية في الماركسية والرأسمالية.
حيث أظهر المذهب الاقتصادي الإسلامي، وبين أحكامه الاقتصادية المبثوثة في الأحاديث النبوية وتقريرات الفقهاء.
وظهر تواضعه ـ رحمه الله ـ المعهود من الأئمة الكبار والسادة العظام حين قال في مقدمة كتابه (اقتصادنا): [هو محاولة بدائية للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام، وصبها في قالب فكري ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي] ([1]).
ألف السيد الصدر كتابه (اقتصادنا) عام 1392 هـ. ق، 1972م، وقد طبع مرات عديدة وترجم إلى لغات إسلامية عديدة، وأصبح مرجعاً للدراسات الاقتصادية في عدد غير قليل من الجامعات، وعُدَّ ـ بحقٍ ـ أفضل كتاب يحوي المقارنة بين الأنظمة الاقتصادية والإسلام، وأثبت بالبراهين الدامغة تَفَوُّق الإسلام على جميع الأنظمة السائدة؛ الليبرالية والماركسية؛ من جهة في وضع الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية على صعيد الأفراد والمجتمعات والدول والتكتلات الاقتصادية.
المنهج الفكري عند السيد الصدر في كتاب (اقتصادنا):
ولقد كتب السيد الصدر كتابه ليطرح من خلاله المذهب الاقتصادي في الإسلام؛ حيث عرض لتحليل واقع الأمة الإسلامية ومدى قابلية المجتمع المسلم لتقبل المذاهب الاقتصادية المستوردة والتفاعل معها، وبرهن أن المذهب الاقتصادي في الإسلام هو العلاج الوحيد للقضاء على التخلف الاقتصادي في البلاد الإسلامية.
ويرى السيد الصدر أن الخطوة الأولى على طريق بناء المجتمع الإسلامي لاستئناف المسيرة الحضارية من الناحية الاقتصادية هو: اكتشافُ المذهب الاقتصادي في الإسلام([2]).
وقد بدأ السيد الصدر كتابه بعرضٍ للاقتصادَين الشيوعي والرأسمالي.
وبعدما أتم عملية التفكيك المعرفي لكليهما مؤكداً أن كلاً منهما لا يصلح كنظام اقتصادي للبشرية بحكم انطلاقه من منطلق خاطئ: عرض الاقتصاد الإسلامي بخطوطه العامة، وعملية اكتشاف المذهب، ثم طبق ذلك على أحكام الاقتصاد الإسلامي من خلال مسألتي الإنتاج والتوزيع.
وقبل أن يشرع بالتطبيقات الفقهية للمذهب الاقتصادي في الإسلام عالج مسألة: خداع الواقع التطبيقي؛ في سعيه وتأصيله لفكرة اكتشاف المذهب الاقتصادي([3]).
وهذه النـزعة المنهجية تلازم أعمال السيد الصدر؛ فالحكم الفقهي عنده ليس مفردة ناشزة عن بقية المفردات، بل لا تجد معناها إلا بوضعها في إطارها الكلي وضمن صلتها مع بقية المفردات، فهو يرى أن الوقائع لا يمكن تكرارها كما هي؛ فما صلح لبلد ليس بالضرورة أن يصلح لبلد آخر، وما كان ناجحاً في زمان لا يشترط بالضرورة أن يُقابل بالحُسن في زمان آخر؛ لأن عوامل الزمان والمكان والشروط الموضوعية التي تحكم أي واقع: متحولة ومتغيرة بالضرورة.
وقد سجل السيد الصدر عدة نقاط متصلة ببحوث كتاب (اقتصادنا) أستعرضها بإيجاز([4]):
- الجوانب الفقهية من الاقتصاد الإسلامي تعرض مجردة عن أساليب الاستدلال وطرق البحث العملي في الدراسات الفقهية الموسعة.
- الآراء الفقهية التي تُعرض في الكتاب لا يجب أن تكون مستنبطة من المؤلف نفسه؛ بل قد يعرض الكتاب لآراء تخالف من الناحية الفقهية اجتهاد الكاتب في المسألة، وإنما الصفة العامة التي لوحظ توفرها في تلك الآراء هي: أن تكون نتيجة لاجتهاد أحد المجتهدين بقطع النظر عن عدد القائلين بالرأي وموقف الأكثرية منه.
- يؤكد الكتاب على الترابط بين أحكام الإسلام، وهذا لا يعني أنها ارتباطية ضمنية بالمعنى الأصولي كارتباط الحكم بالعلة، يدور معها؛ وجوداً وعدماً، بحيث إذا عُطِّل بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى؛ وإنما يقصد بترابط الأحكام الشرعية: أن الحكمة التي تُستهدَف من وراء تلك الأحكام لا تُحَقَّق كاملة دون أن يُطبَّق الإسلام بوصفه كُلاًّ لا يتجزأ؛ وإن وجب في واقع الحال امتثال كل حكم بقطع النظر عن امتثال حكم آخر أو عصيانه.
وتُلاحظ شمولية فكر السيد الصدر دون تعصب أو انحياز إلى آراء فقهية خاصة، بل يتبع الحق أياً كان قائله؛ فالمنبع واحد، والمصدر مشترك: القرآن والسنة.
وأَوْرَدَ مثالاً على ذلك في مسألة حق الدائن في رأس المال الذي أقرضه؛ فالجملة القرآنية لا تسمح له إذا تاب إلا باسترجاع ماله الأصيل، وهي دليل واضح على المنع من القرض بفائدة، وتحريم الفائدة بمختلف ألوانها مهما كانت تافهة أو ضئيلة.
وقال: [فقهاء الإمامية متفقون جميعاً على هذا الحكم كما يظهر من مراجعة جميع مصادرهم الفقهية] ([5])، ثم أورد آراء فقهاء المالكية وفقهاء الشافعية وفقهاء الحنابلة المتوافقة مع قول فقهاء الإمامية والمستندة إلى الأدلة القرآنية، ونقل عن ابن قدامة قول الحنابلة واستدلالهم بما روى الإمام البخاري في المسألة([6]).
وللعلم فإن قول فقهاء الحنفية لا يخرج عن أقوال الفقهاء المذكورين، ولم أدرك الحكمة في إغفال السيد الصدر قولهم في المسألة.
وإن كان قد نقل قولهم في مسألة المضاربة وحصرها في نطاق العمليات التجارية كما هو رأيُ فقهاء الإمامية فيما نقل عن شرائع الإسلام للحلي، ورأيُ فقهاء الحنفية فيما نقل عن السرخسي في المبسوط([7]).
تحديد المفاهيم في المنهج العلمي عند الشهيد الصدر:
لقد كان السيد الصدر دقيقاً وواضحاً في تحديد المفاهيم التي استخدمها.
إذ أشار إلى أن بعض المفاهيم، كالماركسية والرأسمالية حملت شحنة تاريخية من مجتمعات أخرى، وتطبيقها على واقعنا يؤدي إلى مسخ الحقائق وتشويهها.
يقول السيد الصدر في هذا الصدد: [وبودي أن أقول هنا وفي المقدمة شيئاً عن كلمة «اقتصادنا» وما ـ الذي ـ أعنيه بهذه الكلمة حين أطلقها؛ لأن كلمة الاقتصاد ذات تاريخ طويل في التفكير الإنساني، وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرت بها، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي، فحين نريد أن نعرّف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط، يجب أن نميّز علم الاقتصاد عن المذاهب الاقتصادية؛ لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من (الاقتصاد الإسلامي)]([8]).
ويحاول السيد الصدر إزالة الغموض والالتباس بين المفهومين، حيث يُعَرِّف:
علم الاقتصاد بأنه: [العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكم فيها] ([9]).
وأما المذهب الاقتصادي: فهو [عبارة عن الطريقة التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية، وحل مشاكله العملية] ([10]).
ويستمر في تعريف كلمة الاقتصاد الإسلامي فيقول: [نحن حين نطلق كلمة الاقتصاد الإسلامي لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لأن هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأن الإسلام دين دعوة، ومنهج حياة، وليس من وظيفته الآلية ممارسة البحوث العلمية، وإنما نعني بـ (الاقتصاد الإسلامي): المذهب الاقتصادي للإسلام الذي تتجسد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية بما يملك هذا المذهب ويدل عليه من رصيد فكري يتألف من أفكار الإسلام الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التاريخية التي تتصل بمسائل الاقتصاد السياسي، أو بتحليل تاريخ المجتمعات البشرية]([11]).
ولن أعرض لكل المسائل المبثوثة في الكتاب، وإنما أكتفي بعرض أبرز القضايا وأشهرها وأعمها؛ بداية لمزيد من الدراسات العلمية الدقيقة ودعوة إلى الاهتمام بهذه الإمام رحمه الله.
وبمناسبة الحديث عن الوحدة الإسلامية أشار السيد الصدر إلى المسألة من جهة الاقتصادي من خلال الكلام على التآخي والتكافل، إذ يقول([12]):
[والصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية تحتوي على مبدأين عامين، لكل منهما خطوطه وتفصيلاته:
أحدهما: مبدأ التكافل العام.
والآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي.
وفي التكافل والتوازن بمفهومهما الإسلامي: تُحَقَّقُ القيم الاجتماعية العادلة، ويُوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية.
وخطوات الإسلام التي خطاها في سبيل إيجاد المجتمع الإنساني الفاضل عبر تجربته التاريخية المشعة: كانت واضحة وصريحة في اهتمامه بهذا الركن الرئيسي من اقتصاده.
وقد انعكس هذا الاهتمام ـ بوضوح ـ في الخطاب الأول الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أول عمل سياسي باشره في دولته الجديدة.
فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دَشَّن بياناته التوجيهية بخطابه هذا:
حيث كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم؛ تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه ـ وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ـ: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأَفضل عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم؛ فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة: فليفعل، ومن لم يجد: فبكلمة طيبة؛ فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"([13]).
وبدأ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عمله السياسي بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتطبيق مبدأ التكافل بينهم؛ بغية تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الإسلام].
وعن مكانة الاقتصَاد الإسلامي يشير السيد الصدر بأن الاقتصاد جُزء مِنْ كُل([14]): وبالتالي يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة، التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع.
والاقتصاد الإسلامي مترابط في خطوطه وتفاصيله، وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة، وهذه الصيغة لها أرضية خاصة بها.
وتتكون التربة أو الأرضية للمجتمع الإسلامي، ومذهبه الاجتماعي من العناصر الآتية([15]):
أولاً: العقيدة، وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسية إلى الكون بصورة عامة.
وثانياً: المفاهيم التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء.
وثالثاً: العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها في نفوس أتباعه.
فهذه العناصر: العقيدة والمفاهيم والعواطف هي التي تشترك في تكوين التربة الصالحة للمجتمع.
ثم تأتي بعد التربة: دور الصيغة الإسلامية العامة للحياة كلاً لا يتجزأ يمتد إلى مختلف شُعَب الحياة([16]).
وعندها تكتمل صورة الاقتصاد على حقيقتها، كما الخريطة لبناء جميل لا تعكس الجمال والروعة إلا إذا طُبقت بكاملها.
وفي هذا البحث المختصر لن أتمكن من إبراز جميع أوجه الارتباط في الاقتصاد الإسلامي من جهة، وأوجه الارتباط والتفاعل بين الاقتصاد الإسلامي وبين سائر ما يتصل به من خصائص وعناصر إسلامية أخرى، وإنما أقتصر على نماذج من ذلك كما يلي([17]):
- ارتباط الاقتصاد بالعقيدة، التي هي مصدر الإمداد الروحي للمذهب، فالعقيدة تدفع المسلم إلى التكيف وفقاً للمذهب، بوصفه نابعاً من تلك العقيدة، وتضفي على المذهب طابعاً إيمانياً وقيمة ذاتية، وتخلق في نفس المسلم شعوراً بالاطمئنان النفسي في ظل المذهب، باعتباره منبثقاً عن تلك العقيدة التي يدين بها؛ فقوة ضمان التنفيذ: الطابع الإيماني والروحي، والاطمئنان النفسي.
- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة، وطريقته الخاصة في تفسير الأشياء، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح على سبيل المثال؛ فالإسلام يرى أن الملكية حقُ رعايةٍ يتضمن المسؤولية، قال رسول الله r: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"([18])، وليست الملكية سلطاناً مطلقاً يُوصل على الطغيان والاستبداد.
- ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثه الإسلام في البيئة الإسلامية من عواطف وأحاسيس قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة، كعاطفة الأخوة العامة، التي تفجر في قلب كل مسلم ينبوعاً من الحب للآخرين، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم.
- الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة إلى درجة تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام.
- الارتباط بين الاقتصاد الاقتصادي والنظام السياسي في الإسلام؛ فللسلطة الحاكمة صلاحيات اقتصادية واسعة، مع الإشارة إلى الضمانات التي وضعها الإسلام لنـزاهة ولي الأمر واستقامته؛ من خلال اتباعه مبدأ: الشورى وتحقيق العدالة.
- الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي وأحكام الإسلام الأخرى البديلة؛ في المضاربة، والتكافل العام والتوازن الاجتماعي؛ فإنه إذا دُرِس تحريم الربا بصورة منفردة كان مثاراً لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية، أما إذا أخذناه بوصفه جزءاً من عملية واحدة مترابطة فسوف نجد أن الإسلام وضع لتلك المشاكل حلولها الواضحة التي تنسجم مع طبيعة التشريع الإسلامي وأهدافه وغاياته.
- الارتباط بين أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي وأحكام الجهاد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب؛، كمسألة الغنائم وتوزيعها، فـ (كل أرض تُضم إلى دار الإسلام بالجهاد، وهي عامرة على الفتح:تكون ملكاً عاماً) ([19]).
- الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الإسلام؛ كمسألة عقوبة السارق الذي يوفر له الاقتصاد الإسلامي أسباب الحياة الحرة الكريمة، ومحا من حياته كل الدوافع التي تضطره إلى السرقة.
البعد الإنساني في الاقتصاد الإسلامي
وهناك نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها وهي أن الإسلام لا يكتفي بالجانب الموضوعي في تنظيم الحياة الاقتصادية، إنما يهتم بالعنصر الروحي والفكري، أو بتعبير آخر البعد الأخلاقي أو البعد الإنساني.
وكما يقول السيد الصدر [هناك المزاج النفسي العام للمجتمع الإسلامي، وهذا لا يدخل في الحساب العلمي؛ لأن هذا المزاج ليس شيئاً مادياً له درجة محدودة أو صيغة معينة، يمكن أن تفترض مسبقاً وتقام على أساسها النظريات العلمية]([20]).
[فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلا إذا جسّد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة]([21]).
وعن الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي يقول السيد الصدر:
[يتألف الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية ثلاثة يتحدد وفقاً لها محتواه المذهبي، ويتميز بذلك عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطها العريضة. وهذه الأركان هي كما يلي([22]):
1 ـ مبدأ الملكية المزدوجة؛ [فالمذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية (الماركسية) في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأً عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد؛ فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة ذات الأشكال المتنوعة، بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية... فهو يؤمن بالملكية الخاصة، والملكية العامة، وملكية الدولة، ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقاً خاصاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءاً، أو علاجاً موقتاً اقتضته الظروف] ([23]).
2 ـ مبدأ الحرية الاقتصادية في نطاق محدود؛ [فبينما يمارس الأفراد حريات غير محدودة في ظل الاقتصاد الرأسمالي، وبينما يصادر الاقتصاد الاشتراكي (الماركسي) حريات الجميع: يقف الإسلام موقفه الذي يقف مع طبيعته العامة؛ فيسمح للأفراد بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمُثُل التي تُهذِّب الحرية وتصقلها، وتجعل منه أداة خيرٍ للإنسانية كلها] ([24]).
وعن قيود الحرية في الأنشطة الاقتصادية يشير السيد الصدر إلى طريقتين:
[أولاً: كفلت الشريعة في مصادرها العامة: النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية المعيقة عن تحقيق المثل والقيم التي يتبناها الإسلام؛ كالربا والاحتكار وغير ذلك.
ثانياً: وضعت الشريعة مبدأ إشراف ولي الأمر على النشاط العام، وتدخل الدولة لحماية المصالح العامة وحراستها؛ بالتحديد من حريات الأفراد فيما يمارسون من أعمال] ([25]).
3 ـ مبدأ العدالة الاجتماعية، [التي جسدها الإسلام فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات؛ تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية، وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها] ([26]).
[وللمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما: الواقعية والأخلاقية؛ فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد واقعي وأخلاقي معاً: في غاياته التي يرمي إليها، وفي الطريقة التي يتخذها لذلك] ([27]).
([1]) اقتصادنا، الطبعة العشرون، ص 32.
([4]) اقتصادنا، ص 31 وما بعدها.
([13]) البداية والنهاية، ابن كثير، 3/261.
([17]) اقتصادنا، ص 294 وما بعدها.
([18]) يُنْظَر: صحيح البخاري-كتاب الجمعة، صحيح مسلم-كتاب الإمارة، سنن الترمذي-كتاب الجهاد، سنن أبي داود-كتاب الخراج والإمارة والفيء، مسند أحمد-مسند المكثرين من الصحابة.
([19]) يُنْظَر: اقتصادنا، ص 445 وما بعدها.
([20]) يُنْظَر: اقتصادنا، ص 315.
عدد القراء : 1470