التكييف الفقهي للنقود الورقية
المبحث الأول
الرأي الأول: النقود الورقية سندات دين على الجهة التي أصدرتها
القائلون بهذا الرأي:
لقد قال بهذا الرأي مجموعة من أهل العلم والفضل، وقد كانت فتوى مشيخة الأزهر على هذا الرأي، كما يلاحظ المتتبع لأعداد مجلة الأزهر في سنواتها الأولى.
ففي العدد الثالث من السنة الثالثة من المجلة، يقول طه حبيب([1]): [والذي يظهر هو اعتبار هذه الأوراق سندات بدَين – وهو المبلغ المسمى – بها على الجهة التي أصدرتها تطالب بها]([2]).
ومن القائلين بهذا الرأي اللجنة المصرية التي أشرفت على كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، والتي أصدرت فتاواها بشأن النقود الورقية من حيث وجوب الزكاة فيها وعدمها، وقد قام الدكتور القرضاوي بعرض أقوال المدارس الفقهية الأربعة، نقلاً عن هذا الكتاب، ثم حقق الموقف، فقال: [ومن هذه الأقوال المنسوبة إلى المذاهب، نعلم أن أساسها هو اعتبار هذه الأوراق سندات دَين على بنك الإصدار]([3]).
ومن القائلين بهذا الرأي، الإمام محمد الطاهر بن عاشور([4])، ومحمد الأمين الشنقيطي([5]).
توجيه هذا الرأي:
لقد وجَّه أصحاب هذا الرأي قولهم بعدة توجيهات، كما يلي:
1 – التعهد المسجل على ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه.
2 – تغطية إصدارها بالذهب والفضة، أو بأحدهما.
3 – انتفاء القيمة الذاتية عن النقود الورقية.
4 – ضمان قيمتها وقت إبطالها، وتحريم التعامل بها من قبل السلطات التي أصدرتها.
كل هذه التوجيهات تبرر كون النقود الورقية سندات دَين على خزينة الدولة.
يقول الشيخ أحمد الحسيني – وهو من القائلين بهذا الرأي -: [ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة "بنك نوت"، لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص قاموس لاروس وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن في تعريف أوراق البنك حيث قال: ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عيناً لدى الاطلاع عليها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها]([6]).
مناقشة الأحكام الشرعية التي تبنى على هذا الرأي:
1 – يعتبر التعامل بالنقود الورقية – بموجب أنها سندات دَين – من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة التي أصدرتها.
إذ إن كل من يدفع إلى غيره ورقة نقدية، فإنه لا يدفع إليه مالاً، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر تلك النقود الورقية كوثيقة.
وفي هذا تكليف ومشقة لا حدود لها.
حيث إن من شروط الحوالة: أن تكون على مليء، والمليء من كان مليئاً بماله فيقدر على الوفاء، ومليئاً بقوله لئلا يكون مماطلاً، ومليئاً ببدنه لإمكانه حضور مجلس الحكم.
ولاشك أن مَنَعَة مصرف الإصدار قوته تجعلانه غير مليء بقوله وبدنه لإمكان مماطلته، بل وسهولة ذلك وامتناعه عن حضور مجلس الحكم، وبفقدان شرطين من شروط الحوالة تعتبر باطلة.
2 – تخضع النقود الورقية للخلاف بين أهل العلم في زكاة الدَين، هل تدفع قبل قبض الدَين أم بعده؟. وعلى القول بعدم وجوب الزكاة قبل قبض الدين فإنه تسقط الزكاة عن هذه النقود على اعتبار أنها سندات دَين.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: [والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدَين ما دام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك نظراً لهذه العلة، واستثنى الشافعية دَين الموسر إذا كان حالاً، فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة، نظراً إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء]([7]).
والدَين في حالة النقود الورقية غير مقبوض، فلا زكاة فيه على قول جمهور الفقهاء إلا ما ذكره الدكتور القرضاوي من استثناء الشافعية.
وفي هذا تعطيل لركن مهم من أركان الإسلام، تعطيل لركن الزكاة الذي هو عصب التعامل بين المؤمنين ومؤازرة بعضهم، وتكافلهم وتعاونهم.
3 – ثم إنه وإن فعل الغني ودفع زكاة النقود الورقية، فإن الزكاة لا تتأدى ولا تسقط عنه حتى يقبض الفقير الغطاء الذهبي أو الفضي، مقابل السند الذي استلمه.
وإذا حدث وضاعت هذه النقود قبل أن يتسلم الفقير غطاءها، فإن ذمة الغني لا تفرغ من الزكاة الواجبة عليه([8]).
وفي هذا مشقة وتعسير.
4 – بما أن النقود الورقية سندان دَين، فلا يجوز البيع بها دَيناً، إذ إنها وثائق بديون غائبة، وقد ورد النهي عن بيع الدَين بالدَين، ففي الحديث: "نهى النَّبي عن بيع الكالئ بالكالئ"([9])، والإجماع على أنه لا يجوز بيع الدَين بالدَين([10]).
وفي هذا تعطيل لمصالح الناس وإظهار للحرج في الدين، والمشقة في التشريع، وكل هذا مما لا يقره الإسلام.
5 – لا يجوز صرف النقود الورقية بنقد معدني من ذهب أو فضة، ولو كان يداً بيد([11])، لأنها – أي النقود الورقية – وثيقة بدَين غائب عن مجلس العقد، ومن شروط الصرف([12]): التقابض في مجلس العقد، والتقابض غير متحقق في صرف النقود الورقية بالنقود الذهبية أو الفضية – على هذا الرأي فقط -.
وفي هذا تحجيم لمعاملات الناس.
6 – ثم إنه إذا كان غطاء هذه النقود الورقية ذهباً أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلاً، لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه النقود ليس قبضاً على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، وإذا انعدم الشرط بطلت المعاملة شرعاً.
وفي هذا أيضاً تعطيل لمصالح الناس.
7 – وآخر الأحكام المتعلقة بالقول بسندية النقود الورقية، أنه لا يجوز السَلَم بها، إذ من شروط السَلَم([13]): تعجيل رأس المال وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين، سواء أكان رأس المال عيناً أم دَيناً في الذمة – أي نقوداً -.
فإن تفرق المتعاقدان قبل القبض بطل العقد وانفسخ، وعلى القول بسندية النقود الورقية فإن القبض في مجلس العقد متعذر، وبالتالي لا ينعقد السَلَم بها.
وفي هذا حجر على تعامل الناس بشيء، اعتادوا عليه ووجدوا فيه مصلحتهم.
نقد هذا الرأي:
لاشكّ بأن مناقشة الأحكام التي انبنت على هذا الرأي قد أعطت الدليل الكافي على عدم صلاحية الرأي القائل بأن النقود الورقية سندات دَين على الجهة التي أصدرتها؛ إذ إنها أظهرت ألواناً من الكلفة والمشقة التي برئ منها التشريع الإسلامي، يقول الله تعالى: {$tBur @yèy_ ö/ä3øn=tæ Îû ÈûïÏd9$# ô`ÏB 8ltym 4} [الحج: 78]، ومن المعلوم بأن أحد أسس التشريع الإسلامي: عدم الحرج([14]).
هذا بالإضافة إلى تعطيل بعض الأحكام الشرعية، كالزكاة والصرف والسَلَم.
وفي بيان تعطيل الأحكام الشرعية إذا أخذ بهذا الرأي، يقول الشيخ محمد تقي العثماني: [فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع الكالئ بالكالئ – أي بيع الدَين بالدَين -، ومنع اشتراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله: السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام والتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة العملية أثر، ولا يسمع لها خبر]([15]).
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه: [فلو حكم لها - أي للنقود الورقية – بأحكام السندات والديون لتعطلت المعاملات في هذا الوقت الذي تقتضي الأحوال وظروفها أن يخفف فيه غاية التخفيف]([16]).
ومع وضوح عدم صلاحية الرأي القائل بسندية النقود الورقية، لا يمنع من مناقشة التوجيهات التي برر بها:
1 – إن التعهد المسجل على بعض العملات بدفع قيمتها لحاملها عند الطلب، ليس له من حقيقة معناه نصيب، وإنما هو حبر على ورق، يقول كراوذر: [غدا (التعهد بالدفع ذهباً) الذي يطالعنا عليها – أي على النقود الورقية – عبثاً؛ لا مغزى له]([17]).
وهذا هو الواقع، إذ لا يختلف اثنان أن أحداً لو تقدم إلى الجهة التي أصدرت هذه النقود وطالبها بالاستعاضة عنها بما تحتويه من ذهب أو فضة، فإنه لن يجد أذناً مصغية، ولن يرى وفاء بالتعهد المسجل.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: [ونحن نعلم أن القانون أصبح يعفي أوراق النقد المصرفية "البنكنوت" من أن يلتزم البنك صرفها بالذهب أو الفضة]([18]).
2 – إن التغطية الكاملة للإصدار ذهباً وفضة أو أحدهما – على هذا الرأي – أمر خيالي، ليس له من الواقع نصيب، إذ إن الحاجة إلى تغطية الإصدار لم تعد ملحّة، فقد سبق القول([19]) بأن التغطية للنقود الورقية أصبحت نسبية، ولا يشترط كونها ذهبية أو فضية، بل إن قوة الدولة وكفاءتها تلعب دوراً هاماً في عملية الإصدار، مع التذكير بأن التغطية يمكن أن تكون أشياء عينية، كالعقارات أو الثروات الطبيعية، ونحو ذلك.
وهذا ما يؤكد بطلان الاستدلال على سندية النقود الورقية بالتغطية الذهبية أو الفضية الكاملة.
أما القول بانتفاء القيمة الذاتية للنقود الورقية فهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمنع من كون النقود الورقية نقداً مقبولاً لدى الناس، إذ إن عودة إلى تعريف النقود([20]) تظهر عدم اشتراط تماثل القيمة الذاتية للنقود مع القيمة المسجلة عليها، إذ يكفي أن يكون النقد مقبولاً عاماً من أجل أن يؤدي وظائف النقود كاملة.
وقد سبق القول([21]) بأن النقود الورقية متصفة بالقابلية العامة في أداء وظائف النقود، فلا ينافي هذا كون القيمة الاسمية تختلف عن القيمة الحقيقية لتلك النقود.
4 – أما ضمان قيمتها من قبل السلطات التي أصدرتها، عند إبطالها وتحريم التعامل بها، فلا يدل على أنها سندات دَين، بل يؤكد القول بأن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في ضمان السلطات لها، لذلك تدفع قيمتها وقت إبطالها، ودفع السلطات التعويض لا يعني أنها دَين تريد وفاءه، بدليل أنها في الحالة العادية لا تلتزم بهذا الوفاء، كل ما في الأمر أنها تصدر نقوداً جديدة لها قيمتها المستقلة، لذا تعوض الناس قيمة نقودهم السابقة.
وقبل أن أنهي الحديث عن هذا الرأي، وبطلانه وعدم صلاحيته ليكون التكييف الفقهي للنقود الورقية المعاصرة، لابدّ من تسجيل الحقيقة التالية:
إن القول بأن النقود الورقية سندات دَين على خزينة الدولة، كلام صحيح، ولكنه قبل هذا الزمان، أي إن هذا الرأي كان صالحاً في فترة زمنية سابقة تنطبق على إحدى مراحل تطور النقود الورقية، وذلك حين كانت النقود الورقية نائبة عما في المصارف من ذهب أو فضة.
وقد عُلِم أن النقود الورقية قد مرت بتطورات لم تُبقها على حالها الأول، إذ إنها صارت بعد فترة من الزمن([22]):
1 – عملة قانونية، وأُجبرَ الناس بقبولها دون تعهد باسترجاع قيمتها الذهبية أو الفضية، إذ إن التغطية قد تغيرت وصارت نسبية.
2 – إن الناس صاروا يتعاملون بهذه النقود دون أن يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدّين.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا: [إن صفة السندية فيها – أي في النقود الورقية – قد تنوسيت بين الناس في عرفهم العام، وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقوداً مكفولة حلّت محل الذهب في التداول تماماً، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعاً مطلقاً]([23]).
ويقول الشيخ محمد تقي العثماني: [إن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي]([24]).
ويقول الدكتور عبد الرحمن يسرى أحمد: [إننا لا نحتاج إلى مناقشة هذا القول – أي النقود الورقية سندات دَين - حيث افتقد صحته بعد هجران نظام الذهب نهائياً، وتحول التعهد الرسمي المسجل على الأوراق النقدية بدفع قيمتها لحاملها عند الطلب إلى مجرد عبارة تاريخية لا قيمة لها]([25]).
ويقول الشيخ أحمد رضا، في معرض الرد على القول بسندية النقود الورقية: [ومن الظن، بل من أردئ الشكوك، توهم أنه سند من قبيل الصكوك... وكل طفل عاقل يعلم أن هذه المعاني مما لا يخطر ببال أحد من المتعاملين بها، ولا يقصدون بهذا التداول إدانة ولا استدانة ولا حوالة، ولا يذهب خاطرهم إلى شيء من ذلك أصلاً]([26]).
ومما جاء في الدراسة التي أعدتها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالرياض، حول هذا الرأي:
[1 – إن التعهد الذي على هذه الأوراق بتسليم قيمتها عند الطلب لا يتم الوفاء به.
2 – كما أن تغطيتها بالذهب أو الفضة أو بهما معاً، ليست له ضرورة، وأنه يكفي تغطية بعضها، بل إن الغالب أن ليس لها غطاء معدني، بل إن غطاءها التزام السلطة النقدية بضمان قيمتها.
لذا، فإنها ليست سنداً في الحقيقة]([27]).
وبعد هذه النقول وما سبقها من مناقشة، يتضح عدم صلاحية الرأي القائل بأن النقود الورقية سندات دَين على الجهة التي أصدرتها، لما فيه من الحرج والضيق من جهة، وعدم الواقعية من جهة أخرى.
* * *
المبحث الثاني
الرأي الثاني: النقود الورقية عرض من عروض التجارة
القائلون بهذا الرأي:
لقد قال بهذا الرأي مجموعة من أهل العلم والفضل، ومنهم:
- الشيخ محمد عليش([28])، وقد تبعه في فتواه بذلك، كثير من متأخري المالكية([29]).
- الشيخ عبد الرحمن السعدي، إذ يقول في فتاويه: [فالعقد واقع على نفس ذلك الوَرَق، وهو المقصود لفظاً ومعنى، وإن كان قد جعل لروجانه ورغبته أسباب متعددة... فالعقد لم يقع على ذهب ولا فضة... وإنما وقع على أوراق يخالف معدنها الذهب والفضة من كل وجه، وإن وافقه في الثمنية... فتعين أنها سلع يثبت لها ما يثبت لسائر السلع]([30]) أي من أحكام.
- وكذلك أفتى السيد محمد باقر الصدر، بعدم مشروعية النقود الورقية بناء على أنها لا تمثل ذهباً ولا فضة، ولا تدخل في المكيل والموزون([31])، وهذا هو تعريف عروض التجارة([32]).
- ومن القائلين بهذا الرأي كما ذكر ابن منيع([33]) الشيخ يحيى أمان، والشيخ علي هندي، والشيخ سليمان بن حمدان.
توجيه هذا الرأي:
1 – إن هذه النقود الورقية لا تمثل ذهباً ولا فضة، بل هي مال متقوم يخالف ذاته وأصله، فكما أن أنواع الجواهر واللآلئ ونحوها لو وافقت الذهب والفضة في غلائها أو زادت عليه، لا يحكم عليها بأحكام الذهب والفضة، فكذلك هاهنا.
2 – إن هذه النقود لا تدخل ضمن المكيل والموزون، وليست بحيوان ولا عقار، فتعريف عروض التجارة ينطبق عليها.
3 – إن ما كتب عليها من تقدير لقيمتها لا يجعلها أثماناً من جنس الذهب والفضة.
4 – إن هذه النقود إذا سقطت الحكومة التي أصدرتها وانهارت دولتها بقيت لا قيمة لها.
مناقشة ما يترتب على هذا القول من أحكام:
1 – إن القول بأن النقود الورقية عَرَض من عروض التجارة، يجعل من السهل إدخال عنصر الزمن أثناء البيع بها، كما هو الحال في جواز بيع أي سلعة نسيئة بأن يزبد البائع في ثمنها، وذلك لأنه – بناء على هذا الرأي - يدخلها الربا بنوعيه، فهي لا تمثل ذهباً ولا فضة، وليست من الأموال الربوية الأخرى، وبالتالي لا بأس من بيع بعضها ببعض متفاضلاً، ولو كانت من جنس واحد.
وفي هذا عين الحرام، يقول الشيخ ابن منيع: [ففي القول بعرضية الأوراق النقدية تفريط لا حدّ له، وذلك بفتح أبواب الربا على مصراعيها]([34]).
ويقول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود: [إن مَن قال بجواز بيع أوراق العملة بعضها ببعض نسيئة، واعتبرها كعروض، فقد فتح للناس باب الربا على مصراعيه، وأباحه لهم بنوعيه، وقادهم إلى فعل ما نهاهم عنه رسول الله]([35]) .
ومعلوم أن إباحة الحرام تحتاج إلى دليل قطعي، إذ إن الربا قد ثبتت حرمته، ولا يعدل عن الحكم بالتحريم إلى إباحة التعامل الربوي لمجرد قول قائل، إذ إن هذه النقود الورقية ينظر الناس إليها على أنها مال متقوم يتعاملون به، يوسِّطونه في تبادلاتهم، ويقدّرون به قيم أشيائهم على اعتبار أنها من الأثمان لا من العروض، إذ لو كانت عروضاً لأمكن للناس استبدالها في أي وقت أو إلغاؤها إذا عرفوا أنها لم تعد تؤدي وظائفها.
2 – إن القول بعرضية النقود الورقية لا يوجب الزكاة فيها إذا لم تعدّ للتجارة وتجهّز للنماء.
وفي هذا إسقاط لركن مهم من أركان الإسلام وهدم له وإلغاء، وفي هذا تفريط ومغالاة لا حدود لها، إذ هل يعقل أن لا تجب الزكاة على جميع النقود الورقية التي بحوزة الناس إذا لم تكن مخصصة للتجارة بها؟ وهل سيَسأل كل شخص نفسه إن كانت النقود الورقية التي يحملها معدّة للتجارة أم لا؟ فإن كانت معدة للتجارة دفع زكاتها وإلا فلا؟ إنَّ هذا لم يثبت به نقل، ولم يقم عليه دليل.
ثم إن هذا القول، يفتح الباب أما الناس للتهرب من دفع الواجب عليهم تجاه الفقراء والمساكين، والناس في زماننا بحاجة إلى مَن يرغبهم في الدفع، لا إلى مَن يرغبهم بعدم الدفع.
3 – إن من شروط عقد السَلَم([36]): أن يكون أحد العوضين ثمناً، والنقود الورقية – بناء على هذا الرأي – ليست أثماناً، وإنما هي عروض وبالتالي لا يوجز بها السَلَم.
وفي هذا تعطيل لمصالح الناس، وإظهار للمشقة عليهم، وإبراز للحرج في التشريع، إذ إن الناس قد اعتادوا على السَلَم وتعاملوا به دون إنكار من أحد عليهم، وإذا مُنِع هذا التعامل عنهم بحجة أن هذه النقود الورقية عَرَض وليست أثماناً، فإن فيه من التضييق والحرج الشيء الكثير.
4 – إن من شروط العقد في شركة الأموال([37]): أن يكون رأس مال الشركة من الأثمان، ولا يجوز أن يكون عَرَضاً من العروض التجارية.
وعلى القول بعرضية النقود الورقية، فإن مصالح الناس ستتقيد، ومنافعهم ستحدّ، بسبب تعطيل العمل بشركة الأموال، مع أن المصلحة العامة تقتضي جواز إقامة الشركات بين الناس.
نقد هذا الرأي:
تبين من مناقشة الأحكام التي انبنت على هذا الرأي بفشل القول بعرضية النقود الورقية لما فيه من تعطيل لبعض الأحكام، وتضييق على الناس.
ولا بأس بإيراد أقوال بعض العلماء في الرد على هذا الرأي.
1 – فقد حرر الشيخ ابن منيع محل النزاع، فقال: [فجنس الوَرَق بغضّ النظر عن أنواعه مال متقوم مدخر مرغوب فيه، يباع ويشترى به...، وهو لاشكّ بهذا الاعتبار عَرَض من أجناس العروض له حكمها، وإنما محل النقاش فيما إذا عمدت الجهات المختصة إلى نوع من جنس الوَرَق فأخرجت للناس منه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والصور والكتابات، وقررت التعامل بهذا النقد، وتلقاها الناس بالقبول، فلاشكّ أن هذا النوع من الوَرَق قد انتقل من جنسه باعتباره، وانتفى عنه حكم جنسه لذلك الاعتبار...، فإذا كان الناس يحرصون على الحصول عليه ويرضونه ثمناً لسلعهم...، فليس لأنه مال متقوم مرغوب فيه بعد تقطيعه ... وإنما لأنه انتقل إلى جنس ثمني، بدليل فَقْدِ قيمته كلياً في حال إبطال السلطان التعامل به]([38]).
2- ويقول الدكتور عبد الرحمن يسرى أحمد: [لذلك لا مبرر أبداً للنظر إلى الأوراق النقدية على أنها أصلاً عروض تجارة، وإهمال وظائفها الأصلية في قياس القيم وسدادها، فالمنطق الذي يسوقه القائلون بعرضية النقود، سقيم]([39]).
3 – ويقول الدكتور محمود الخالدي: [والقول بعرضية الورق النقدي لا يحل المعضلة النقدية، لأن الأحكام الشرعية تبقى معطلة، وإلا فكيف نقدر الدية على أهل النقود؟ وكيف نقدر نصاب حد القطع في جريمة السرقة؟ وهل يبقى الناس في العالم الإسلامي ينتظرون حتى تقوم الدولة الإسلامية التي تتبنى الذهب والفضة كنقد شرعي؟ كل ذلك تحتاج إلى إجابة الآن، وبصورة ملحة عاجلة، لأن التقيد بأوامر الله تعالى لا يحتمل التأجيل عند التكليف، فماذا نصنع؟]([40]).
4 – وفي بيان وجوب حكم الزكاة في النقود الورقية، يرد الشيخ محمد خضر الحسين([41]) على القول بعرضية النقود الورقية، إذ يقول: [والأوراق النقدية المستعملة مكان الذهب والفضة تجب فيها الزكاة كما تجب في النقدين، فإذا اعتبرت من العروض سقطت حقوق الفقراء وما عطف عليهم، فيضيع ركن من أركان الإسلام]([42]).
5 – وفي الرد على القول بعرضية النقود الورقية، جاء في الدراسة التي أعدتها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الرياض: إن هذا الرأي [غير مبني على فهم لطبيعة النقود، وإن الفقهاء وعلماء الاقتصاد قد قبلوا بأي وسيط للتبادل يلقى قبولاً عاماً بين الناس، نقداً، فلا محل إذاً لإنكار ذلك ومخالفته نظراً لأنه واقع التعامل حالياً وفي كل وقت]([43]).
6 – ثم إن العروض إنما أعدت للانتفاع بها واستهلاكها، لا للمعاملة والتبادل بها، بينما أعدت الأثمان لتكون وسيلة إلى الانتفاع والاستهلاك([44])، فهل النقود الورقية معدة للاستهلاك، أم إنها وسيلة للاستهلاك؟.
ولا يقول قائل بأن هذه النقود معدة للاستهلاك النهائي، كل ما في الأمر أنها معدة للمعاملة والتبادل وقياس القيم، لذلك فهي تختلف عن العروض اختلافاً جذرياً.
لذا لا يمكن اعتبار النقود الورقية من قبيل عروض التجارة لئلا تفوت مصلحة الناس في تعاملهم.
* * *
المبحث الثالث
الرأي الثالث: النقود الورقية لها حكم الفلوس
الفلوس جمع فلس، والفَلْس: [عملة يتعامل بها، مضروبة من غير الذهب والفضة]([45]). وغالباً ما تكون مصنوعة من النحاس أو الحديد أو البرونز.
وأصحاب هذا الرأي يقولون: إن النقود الورقية ليست ذهباً ولا فضة، ولكنها كالفلوس في طروء الثمنية عليها.
القائلون بهذا الرأي:
لقد قال بهذا الرأي مجموعة من أهل العلم والفضل، منهم:
- الشيخ مصطفى الزرقا، إذ يقول: [واكتسبت – أي النقود الورقية – في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق، فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف والاصطلاح]([46]).
- الشيخ محمد تقي العثماني، إذ يقول: [فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثماناً رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة "الفلوس النافقة"، فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة]([47]).
- الدكتور محمود الخالدي، الذي حاول التوفيق بين أقوال العلماء في مشروعية النقود الورقية، ووصل إلى [أن النقود الورقية المعاصرة هي شرعية بالقياس على رأي السلف في مشروعية الفلوس]([48]).
توجيه هذا الرأي:
إن القائلين بأن النقود الورقية لها حكم الفلوس، وجّهوا رأيهم بأن هذه الأوراق النقدية تشبه الفلوس في كونها نقوداً اصطلاحية، وليست أثماناً مطلقة، بل ثمنيتها اصطلاحية بدليل أن قيمتها الاسمية تختلف عن قيمتها الحقيقية.
وكما أن الفلوس كانت عَرَضاً من عروض التجارة ثم طرأ الثمن عليها، فكذلك النقود الورقية فهي عَرَض من عروض التجارة أصلاً – وهو الوَرَق – ثم طرأ الثمن عليها عندما اصطلح الناس على اتخاذها نقوداً.
حكم الفلوس:
إن قبول هذا الرأي أو رفضه متوقف على معرفة حكم الفلوس عند الفقهاء.
إن للفقهاء في بيان حكم الفلوس اعتبارين، وذلك تبعاً لعاملين يتجاذبان الفلوس:
عامل أصلها، وهو العرضية.
وعامل ما صارت إليه، وهو الثمنية.
وبين العرضية والثمنية دار نقاش الفقهاء حول حكم الفلوس.
** فمَن نظر إلى أصلها، واعتبر أنها عَرَض من عروض التجارة، أعطاها حكم العروض، وفرّق بينها وبين النقدين – الذهب والفضة – في الأحكام.
فلا زكاة فيها، إذا لم تعدَّ للتجارة.
ولا ربا فيها، لأن العروض ليست من الأموال الربوية.
وفي الصرف، يجوز التفاضل بين الفلوس، لأنها ليست من الأموال الربوية، ولا يجوز السَلَم في الفلوس، لأن من شروط عقد السَلَم([49]) أن يكون رأس المال ثمناً لا عروض تجارة.
ولا يجوز أن تكون رأس مال في شركة الأموال، لاختلال شرط عقد الشركة وهو كون رأس المال فيها ثمناً([50]).
وقد جاءت هذه الأحكام – الخطيرة – في كتب الفقه الإسلامي، على اختلاف مدارسه، ولا بأس باقتطاف بعض النصوص الدالة على تلك الأحكام.
ففي الفتاوى الهندية: [إذا اشترى فلوساً بدرهم، وليس عند هذا فلوس، ولا عند الآخر دراهم، ثم إن أحدهما دفع، وتفرقا، جاز، وإذا لم ينقد واحد مهما حتى تفرقا، لم يجز، كما في المحيط – أي لأنه دَين بدَين – وإن اشترى خاتم فضة أو ذهب... بكذا فلساً، وليست الفلوس عنده فهو جائز تقابضا قبل التفرق أو يتقابضا، لأن هذا بيع وليس بصرف]([51]).
وفي حاشية ابن عابدين: [يجوز بيع فَلْس بفلسين عندهما – أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف -، وقال محمد: لا يجوز، ومبنى الخلاف على أن الفلوس الرائجة أثمان، والأثمان لا تتعين بالتعيين فصار عنده كبيع درهم بدرهمين، وعندهما: لمّا كانت – أي الفلوس – غير أثمان خلقة، بطلت ثمنتيتها باصطلاح العاقدين، وإذا بطلت تتعين بالتعيين كالعروض]([52]).
وفي حاشية الشرقاوي([53]): [إنما يجري - أي الربا - في نقد خرج به العروض كالفلوس فلا ربا فيها، وإن راجت رواج النقود]([54]).
وفي مغني المحتاج [الفلوس ليست من النقد]([55]).
وفي شرح الدردير([56]): [أشعر اقتصاره على الوَرِق والذهب أنه لا زكاة في الفلوس من النحاس، وهو المذهب]([57]). أي عند المالكية.
وفي فتح العلي المالك: [إن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها]([58]).
وفي شرح منتهى الإرادات: [ولا ربا في فلوس يتعامل بها عدداً ولو كانت نافقة، لخروجها عن الكيل والوزن، وعدم النص والإجماع]([59]).
وفي كشاف القناع:
في زكاة النقدين: [وهي الأثمان، فلا تدخل فيها الفلوس ولو رائجة]([60]).
وفي زكاة الحلي: [والفلوس كعروض التجارة فيها زكاة القيمة، كباقي العروض ولا يجزئ إخراج زكاتها منها، قال المجد: وإن كانت الفلوس للنفقة فلا زكاة فيها كعروض القنية]([61]).
وفي باب الربا والصرف: [وكذا يجوز بيع فَلْس بفلسين عدداً ولو نافقة، لأنها ليست بمكيل ولا موزون]([62]).
** ومن الفقهاء من نظر إلى واقع الفلوس بعد انتقالها من أصلها كعرض، واعتبارها ثمناً من الأثمان، وأثبتوا لها حكم النقدين.
فأوجبوا فيها الزكاة.
وقالوا بدخول الربا فيها لأنها ثمن.
وأوجبوا التماثل والتقابض في المجلس عند اتحاد الجنس في الصرف، والتقابض دون التماثل عند اختلاف الجنس.
وأجازوا السَلَم بالفلوس.
وأن تكون رأس مال في شركة الأموال، باعتبار أنها ثمن.
وقد جاءت هذه الأحكام ضمن نصوص فقهية، ولا بأس بعرض بعضها:
ففي بدائع الصنائع: [إن الفلوس أثمان]([63]).
وفي مجموعة رسائل ابن عابدين: [الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح، لا بالخلقة]([64]).
وفي كشاف القناع: [ونص أحمد: لا يباع فَلْس بفلسين]([65]).
وفي الروض المربع: [لا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والتقابض]([66]). فقد عوملت الفلوس معاملة الذهب والفضة عند الصرف، فوجب التقابض في مجلس العقد وإن حصل التفاضل.
وفي المدونة: [قال الليث بن سعد([67]) عن يحيى بن سعيد([68]) وربيعة([69]) أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نَظِرة، قالا: إنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم]([70]).
الموازنة والترجيح:
بعد سرد النصوص الفقهية حول حكم الفلوس، وبالنظر إليها نظرة فاحصة يمكن القول: بأن الفريقين متفقان على حكم الفلوس وإن اختلفت أقوالهم فيها، ويمكن الجمع بين تلك الأقوال، كما في كلام ابن عابدين، إن الفلوس إن كانت رائجة فحكمها حكم الفلوس، وإن كانت فاسدة فحكمها حكم العروض([71]).
والجمع بين الأقوال - إن أمكن - أولى من رد أحدهما، غير أن بعض المعاصرين اتضح لهم: أن جمهور العلماء قالوا بأن الفلوس عرض من عروض التجارة، وأن محققي العلماء قالوا: بأن الفلوس ثمن من الأثمان، لا يختلف عن الذهب والفضة([72]).
وهذا هو الأولى والأجدر، ولا التفات إلى القائلين بأن الفلوس لا تعد ثمناً وإن كانت رائجة، ذلك لأن هذا يخالف تعريف الثمن عند الفقهاء ومفهومه عند الاقتصاديين، فالثمن هو كل ما يلقى قبولاً عاماً في قيامه بوظائف النقود، فالفلوس الرائجة – ويفهم من كلمة رائجة قبول الناس لها – ثمن من الأثمان.
وفي ترجيح القول بثمنية الفلوس، يقول الشيخ محمد تقي العثماني: [ثم إن قول الإمام محمد رحمه الله تعالى – إن الفلوس أثمان – يبدو راجحاً من حيث الدليل أيضاً، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور له مقصود صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها فطعات صفر أو حديد، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحا – أي المتبايعان – على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل هذا لا يقبله الشرع، ولاسيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية – أي الورقية – لنفاد النقود الخَلْقية – أي الذهبية والفضية – وفقدانها من العالم كله]([73]).
ويقول الشيخ ابن منيع: [ولاشكّ – في نظري – أن القائلين بثمنيتها في حال رواجها ونفاقها أعمق فهماً وأقوى حجة، والواقع يسندهم، فهي أثمان تلقى قبولاً عاماً بين الناس كوسيلة للتبادل، كما يلقاه النقدان الذهب والفضة]([74]).
قبول الرأي أو رفضه:
بعد بيان حكم الفلوس، يمكن القول أنه:
إن كان المقصود بإلحاق النقود الورقية بالفلوس، إلحاقها بها كعروض – على رأي جمهور العلماء – فإن هذه المسألة تعود إلى المبحث السابق، وقد ناقش البحث المسألة، واتضح عدم صلاحية القول بعرضية النقود الورقية، وهنا أقول: إن النقود الورقية ليست فلوساً على اعتبار الفلوس عروضاً.
أما إن كان المقصود بإلحاق النقود الورقية بالفلوس على اعتبار أنها ثمن - على رأي المحققين من العلماء – فإن هذا ما يتفق مع روح الشريعة، ويتلاءم مع مصالح الناس، ويتوافق مع سبل معاشهم، وبذلك يتفق القائلون بهذا الرأي على هذا الاعتبار مع القائلين بأن النقود الورقية ثمن قائم بذاته، كما أن الفلوس أثمان، ومن قبلهما كانت النقود الذهبية والفضية أثماناً.
الفارق بين الفلوس والنقود الورقية:
لزيادة إيضاح المسألة وإبرازها، فيما يلي عرض للفروق بين النقود الورقية والفلوس([75]):
1 - إن النقود الورقية موغلة في الثمنية، بعكس الفلوس التي تتردد بين العرضية والثمنية ويتجاذبها هذان العاملان حسب الرواج والكساد، فالفلوس في حالة الرواج أثمان، وفي حالة الكساد عَرَض من عروض التجارة، أما النقود الورقية فإنها أثمان مادام الناس قد قبلوها في تعاملهم وأقرتها الحكومات.
2 – إن في النقود الورقية وثمنيتها قوة اكتسبتها من ثقة الناس، أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها، إذ إنها في تلك الحالة ليس لها أي قيمة ذاتية إلا القيمة الأثرية كتذكار، بخلاف الفلوس، فهي إن كسدت أو أُبطل التعامل بها فإنها تحتفظ بقيمتها كعرض من عروض التجارة.
3 – إن النقود الورقية تستخدم في أداء وظائف النقود الكاملة، بينما تستعمل الفلوس في تقويم المحقرات من السلع دون السلع الممتازة، وتعتبر وسيطاً في التبادل البسيط أو الصغير، أما التبادل الضخم فيستخدم فيه النقود الذهبية أو الفضية.
4 – إن النقود الورقية لها قوة إبراء كاملة، بمعنى أنه لا يحق لأحد أن يعترض على استلام أي مبلغ من النقود الورقية وفاء للدين، في حين أن الفلوس لا تُقبل في حالة الديون الكبيرة. وفي بيان أن الفلوس ليس لها قوة إبراء كاملة وقانونية، يقول الإمام الشافعي: [والفلوس لا تكون ثمناً إلا بشرط، ألا ترى أن رجلاً لو كان له على رجل دانق لم يجبره على أخذه منه فلوساً، وإنما يجبره على أن يأخذ الفضة]([76]). أما النقود الورقية فهي مقبولة مهما كانت قيمة الدين، فهي ذات قوة إبراء قانونية عامة وكاملة.
5 – إن النقود الورقية مدعومة من قبل السلطات، ويمنع غشها، ويعاقب على تزويرها، فهي مقبولة بين كافة الناس ورائجة على نطاق واسع جداً، بخلاف الفلوس فإنها قد ظهرت نتيجة حاجة الناس إلى نقود مساعدة، يقوّمون بها الأشياء التافهة والبسيطة التي يصعب على النقود الذهبية والفضية تقييمها، ولذلك لم تكن – أي الفلوس – مدعومة من قبل السلطات، بل تتبع ثقة الناس بها فقط، وتتراوح بين الرواج والكساد حسب الظروف.
ثم إن نظام النقود الورقية نظام مستمر وليس مؤقتاً، استدام العمل به، وله طبيعة مميزة، بخلاف الفلوس فإنها كانت مؤقتة وليست داخلة ضمن نظام، وليس لها طبيعة مميزة([77]).
القول الأخير:
كل هذه الفوارق بين النقود الورقية والفلوس، تؤكد ضرورة إعطاء مزيد فضل للنقود الورقية، وعدم القول بإلحاقها بالفلوس التي تقل عنها درجة وكفاءة.
وفي ذلك يقول الدكتور شوقي دنيا: [إن الورق النقدي، لا يلحق بالفلوس التي بحثها الشافعي، فهي النقد المعاصر، وإلا فليس هناك نقد حيث لا وجود للنقود الذهبية والفضية، ولاشكّ أن ذلك يفتح باب شر عظيم على المجتمع]([78]).
وفي بيان عدم جواز قياس النقود الورقية على الفلوس يشير الدكتور حسنين حسنين إلى: [أن هذا القياس فاسد، لأن حكم الفلوس غير ثابت بنص، وليس هو حكماً مجمعاً عليه، وشرط القياس أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنفسه إما بنص صريح أو بالإجماع، وحكم الفلوس مختلف فيه فلا يصح القياس عليه]([79]).
وهكذا فإن النقود الورقية لا تلحق بالفلوس، ولا يمكن تكييفها فقهياً على أنها فلوس.
المبحث الرابع
الرأي الرابع: النقود الورقية متفرعة من الذهب والفضة
هذا الرأي يعني: أن النقود الورقية هي بدل لما استعيض بها عنه، وهما النقدان الذهب والفضة، وللبدل حكم المُبْدَل عنه مطلقاً.
ويفترض هذا الرأي أن النقود الورقية مغطاة بالكامل بالذهب أو الفضة.
القائلون بهذا الرأي وتوجيهه:
على رأس القائلين بهذا الرأي الشيخ عبد الرزاق عفيفي([80])، وقد وجّه رأيه بما يلي:
[فلما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها، ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها، وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها، وجعلها مِن سنّ الدولة لها قوة شرائية، وأثماناً للسلع، ومقياساً للقيم، ومستودعاً عاماً للادخار، ولما كان الذي أكسبها ذلك، وجَعَلَها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية، وهو ما استندت إليه من الغطاء ذهباً أو فضة، أو ما يقدّر بهما من ممتلكات الدولة، أو إنتاجها أو احتياطها، أو أوراق مالية، أو أوراق تجارية... لما كان الأمر كذلك كانت تابعة لهما، فما كان منها متفرعاً من ذهب فله حكم الذهب، وما كان متفرعاً من فضة فله حكم الفضة]([81]).
مناقشة الأحكام التي تترتب على القول بهذا الرأي:
يترتب على القول بهذا الرأي عدة أحكام، منها ما هو صحيح متفق عليه لا يحتاج إلى مناقشة، ومنها ما فيه تضييق وحرج على الناس، وهذا ما تجب مناقشته.
فمن الأحكام المُسَلَّم بها، والتي لا تحتاج إلى مناقشة لإثباتها:
1 – أن النقود الورقية باعتبارها فرعاً من الأثمان، فإن الربا يجري عليها تماماً كما يجري على الذهب والفضة.
2 – أن الزكاة تجب في النقود الورقية إذا استكملت شروط وجوب الزكاة في النقدين الذهب والفضة.
3 – أنه لا يجوز السَلَم بها، باعتبارها فرعاً من الأثمان.
4 – أنه لا يجوز أن تكون رأس مال في شركة الأموال، باعتبارها فرعاً من الأثمان.
أما الأحكام التي تبنى على هذا الرأي وتحتاج لمناقشة:
1 – اعتبار النقود الورقية متفرعة من جنسين مختلفين: الذهب والفضة، فيقال على سبيل المثال: الدينار الليبي متفرع من جنس الذهب، والليرة السورية متفرعة من جنس الذهب، والليرة اللبنانية متفرعة من جنس الذهب، والريال القطري متفرع من جنس الفضة، والريال اليمني متفرع من جنس الفضة...
فعلى هذا الرأي، لا يجوز التفاضل بين الليرة اللبنانية والليرة السورية، وكذلك لا يجوز التفاضل بين الريال القطري والريال اليمني، لأن كلاً منهما متفرع من جنس واحد، فإذا احتاج سوري صرف عملته بعملة لبنانية فيشترط في عقد الصرف: التناجز أي أن يكون الصرف يداً بيد، كما يشترط التماثل في عدد الليرات لأن كلاً من الليرة السورية واللبنانية بحسب هذا المثال – متفرع من الذهب.
ولكن هذا التماثل المطلوب في عقد الصرف يتنافى مع الواقع، إذ إن الفارق بين الليرة السورية واللبنانية كبير جداً، ولا يقبل أحد بالتماثل في الصرف أبداً.
وهذا الفارق يمكن تعميمه، إذ لا يوجد في العالم الآن، عملتان متساويتان في القيمة، سواء كان غطاؤهما من جنس واحد أم كان مختلفاً.
ثم إن التفاوت في قيمة النقود المختلفة، لَيؤكد عدم صلاحية القول بأن النقود الورقية متفرعة من الذهب والفضة، إذ لو كان الأمر كذلك لتماثلت قيمة كل من العملتين، كونهما متفرعتين من جنس واحد.
وأمر آخر: إن في إلزام الناس التماثل في العملتين عند الصرف مع اختلاف القيمة بينهما، ضرباً من الخيال، وبعداً عن الواقع.
2 – بما أن النقود الورقية متفرعة من جنسين مختلفين، فإنه إذا اتفق فرع نقود متفرع من جنس، مع فرع متفرع من جنس آخر، فإنه لا يجوز التفاضل بينهما إذا كان يداً بيد، بناء على قول النَّبي : "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"([82]).
فمثلاً: إذا كانت الليرة السورية متفرعة من جنس الذهب، وكان الدينار الليبي متفرعاً من جنس الفضة، وأراد شخص أن يصرف ما لديه من دنانير ليبية بليرات سورية، ففي هذه الحالة بالذات – كل عملة متفرعة من جنس – يحق التفاضل بين العملتين، ويبقى شرط التقابض.
وهذا أمر مقبول ومسلَّم به، غير أن الحرج يكمن في إلزام الناس عند التصارف، ضرورة معرفة رصيد كل عملة يحملونها، أو يودون الحصول عليها، فإن كان رصيد العملتين – المراد التصارف بينهما – من جنس واحد، وجب التقابض والتماثل، وإن اختلف رصيد كل عملة، جاز التفاضل ووجب التقابض في المجلس فقط.
وهذا أمر لا يستطيع القيام به كل أحد، فليس في الإمكان معرفة رصيد كل عملة من عملات الدول اليوم بسهولة، حتى إن الصيارفة المختصين ببيع العملات قد يصعب عليهم حصر كل العملات ومعرفة رصيدها عند الصرف.
لذلك لا داعي لإحراج الناس، ولا مبرر للتضييق عليهم في أمر يومي متكرر، يحتاج معه إلى اليسر والسهولة، لا إلى التعقيد والعسر.
وها هو القرآن الكريم يبين {$tBur @yèy_ ö/ä3øn=tæ Îû ÈûïÏd9$# ô`ÏB 8ltym 4} [الحج: 78]، {ßÌã ª!$# ãNà6Î/ tó¡ãø9$# wur ßÌã ãNà6Î/ uô£ãèø9$#} [البقرة: 185].
وفي بيان يسر الإسلام، وسهولة تعاليمه، وبعدها عن التعقيد والتضييق، يقول ابن القيم: [إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم، ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها]([83]).
الرد الأخير على هذا الرأي:
إن هذا الرأي مخالف للواقع، فهو يفترض وجود غطاء كامل ذهبي أو فضي للعملات الورقية، وهذا الافتراض منقوض بحكم الواقع، إذ إن جهات الإصدار لتلك النقود قد رأت أنها غير ملزمة بتغطية كاملة لكل ما تصدره من النقود الورقية، بل تكفي التغطية النسبية.
فالنقود الورقية لم تعد تعتمد كثيراً في قيمتها على رصيدها الذهبي أو الفضي، بل إنها تعتمد – بقدر كبير – على ثقة الناس بها والاطمئنان لها، وقوة الدولة المصدرة ونفوذ سلطانها.
فالرأي القائل بأن النقود الورقية متفرعة من الذهب أو الفضة، رأي يفتقر إلى دليل ملموس، ويحتاج إلى برهان في دنيا الواقع.
مع أنه يمكن القول: بأن هذا الر
عدد القراء : 4835