الضوابط الشرعية لأعمال المصارف الإسلامية
الضوابط الشرعية لأعمال المصارف الإسلامية
في الوقت الذي يتعرض فيه الإسلام لهجمة شرسة في الداخل والخارج بدعوى أنه دين يحض اتباعه على العنف؛ تنمو الصيرفة الإسلامية باضطراد في كل العالم.
الأمر الذي يشعرنا بوجود ازدواجية في التعامل مع الإسلام.
فمن جهة يتعرض المسلمون في الغرب للاضطهاد بسبب انتمائهم العقدي، ومن الجهة الأخرى تتسابق البنوك العالمية إلى اعتماد صيغة التمويل الإسلامية باعتبارها من أدوات الجذب الاستثماري الجيدة.
فكيف يستقيم رفض الغرب للإسلام والتخطيط لمحاربته بشتى الطرق بينما يقبل على التجربة الإسلامية في المصارف!! وهل التهافت على الصيرفة الإسلامية مبعثه القناعة بأضرار التعاملات الربوية على الافراد والمجتمع أم مجرد تقليعة أو مطية لاستقطاب استثمارات المسلمين؟!
وبلغة الأرقام والإحصاءات تشير أحد التقارير الاقتصادية ([1]) أن 80% من المتعاملين في الصيرفة الإسلامية حول العالم هم من غير المسلمين، ولا بد من التوقف كثيرا عند دلالات هذا الرقم.
وأعتقد أن الصيرفة الإسلامية جاءت لتلبي رغبات المسلمين في تعامل بنكي آمن من الربا وأخذت في الانتشار والتوسع السريع.
وبات من المعروف أن أهم استخدامات الأموال في البنوك التجارية التقليدية هي القروض والسلفيات التي يقدمها البنك لعملائه مقابل فائدة محددة مقدماً.
أما المصارف الإسلامية فيتم استخدام الأموال فيها عن طريق صيغ التمويل المتعددة والمشروعة، والتي تناسب كافة الأنشطة؛ (تجارية، صناعية، زراعية، عقارية، مهنية، حرفية).
والمرء يشعر بالفخر حينما يجد منتجاً إسلامياً يتهافت عليه كل العالم، ولكن للأسف ـ في بعض الأحيان ـ قد لا نحس بقيمة منتجاتنا المصرفية الإسلامية في داخل محيطنا، فيكون حالنا حينئذ مثل الذي يملك مجموعة كهربائية قادرة على إنارة حي بأكمله إن لم نقل العالم بأسره، ومع ذلك يعيش في الظلام؛ لأنه يستنكف أن يضغط على زر التشغيل، أولئك الذين يخجلون من كونهم مسلمين، أما آن لهم أن يرفعوا رؤوسهم؟!.
الأصل الفقهي لأعمال المصارف الإسلامية
الأصل الفقهي في المعاملات: الحِلُّ.
والشريعة لم تحصر التعاقد في موضوعات يُمنَع تجاوزها.
كل ما قيَّدته الشريعة يندرج تحت منع الضرر والإضرار، وكفِّ الظلم، وقطع الاستغلال.
الضوابط الشرعية
للعمل المصرفي الإسلامي
ضابط العقيدة
لما كان الإيمان لا يكون بمجرد نطق باللسان, وإنما هو عقيدة تملأ القلب وتعمره, فتصدر عنها آثارها كما تصدر عن الشمس أشعتها.
ومن أَجَلِّ ثمار العقيدة السليمة والإيمان الكامل: السلوك الخير للإنسان، في مختلف شؤونه الحياتية.
ولعل من آثار الإيمان ما يلي:
1- أنه يحرر النفس من سيطرة الغير؛ أشخاصاً أو ماديات.
2- الاعتقاد بأن الله هو الرازق، وأن الرزق لا يعجل به حرص حريص, ولا يرده كراهية كاره.
3- الإيمان يرفع من قوى الإنسان المعنوية، فيسمو عن الماديات, ويرتفع عن الشهوات, ويستكبر عن لذائذ الدنيا, فيرى أن الخير والسعادة في النـزاهة والشرف, وتحقيق القيم الصالحة, ومِن ثَمَّ يتجه الإنسان تلقائياً لخير نفسه, ولخير أمته, وخير الناس جميعاً.
4- الحياة الطيبة يعجل الله بها للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: ]وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ[ [النحل: آية 30]، وقال تعالى: ]مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ [النحل: 97]، وقال سبحانه: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[ [الأعراف: 96].
5 - إن الخالق سبحانه وتعالى والموجد لكل النعم والطيبات، وهو المالك الأول والأصيل لها ولكل شيء في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: ]وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [المائدة: 17]، وقال تعالى: ]تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[ [الملك: 1ـ 2].
والله سبحانه مالك هذا الكون قد سخره لخدمة الإنسان, ووهبه من الوسائل والأدوات ما يعينه على الانتفاع بما فيه من نعم وطيبات, واكتشاف ما فيه من قوى وطاقات, واستغلال ذلك كله لنفع المخلوقات.
6- لقد خلق الله البشر واستعمرهم في الأرض، وأن الأرض بما فيها مسخرة لهم مذللة بإذن ربهم, بعد الأخذ بالأسباب المخلوقة لهم, ومن ثَمَّ فإن حقوق البشر وواجباتهم حددها الله سبحانه عندما طلب منهم إعمارها, قال تعالى: ]هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[[هود: 61].
ضوابط القواعد الكلية
القاعدة الفقهية: هي الأمر الكلي المنطبق علي جميع جزئياته, بمعنى أن يندرج تحت هذا الأمر الكلي مجموعة من الأحكام المتشابهة, التي يمكن إرجاعها إلى أصل واحد.
وقد رصد الفقهاء عدداً كبيراً من القواعد الكلية وفيما يلي بيان أهم تلك القواعد:
- القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها.
- القاعدة الثانية: لا ثواب إلا بالنية.
- القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير.
- القاعدة الرابعة: الضرر يزال.
- القاعدة الخامسة: الغنم بالغرم.
- القاعدة السادسة: العادة محكمة.
- القاعدة السابعة: اليقين لا يزول بالشك.
- القاعدة الثامنة: الخراج بالضمان.
ويلاحظ أن القاعدة الثانية ذات شبه بالقاعدة الأولى, وكلاهما دليلهما قول رسول الله r: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل إمرئ ما نوي ...". الحديث.
1 - قاعدة الأمور بمقاصدها:
وتعني أن كل قول أو عمل إنما هو بالمقصد والهدف الذي يريد صاحبه أن يحققه, أو بالغاية التي يريد الوصول إليها من وراء قوله أو عمله, فإذا تكلم أو تحرك, فالعبرة من كلامه أو حركته بما يقصد أو يريد, وبعبارة أخرى تقاس الأعمال والأقوال بمقياس النوايا الحسنة أو السيئة للفاعل أو القائل.
إن أهمية المقاصد واضحة في حياة الناس, فهي التي تميز أعمالهم وأقوالهم عن غيرهم, ولا شك أن عمل الإنسان إنْ صَاحَبَتْه النية الحسنة والمقصد الحميد كان صاحبه مثاباً عليه.
أما إنْ صَاحَبَتْه النية السيئة والمقصد الخبيث كان معاقباً عليه, مع أن العمل في الحالين واحد.
فالعقود إذا قصد من إبرامها قصداً مشروعاً كان العقد صحيحاً.
أما إذا كان القصد من إبرامها غير مشروع كان العقد باطلاً.
2 - قاعدة التيسير ورفع الحرج :
والمراد من التيسير التسهيل بحيث تكون الأحكام الشرعية في مقدور المكلف, بمعنى أن يقوم بها من غير عسر أو حرج أي بدون مشقة.
والمراد من الحرج الضيق, فإذا صار العبد في حالة لا يستطيع معها القيام بالعبادة على النحو المعتاد فإن الله سبحانه وتعالي يرخص له في أدائها حسب إستطاعته, وفي هذا رفع للحرج عن العباد.
وقد عبر العلماء عن هذه القاعدة بقولهم: (المشقة تجب التيسير).
وكلمة المشقة المقصودة هي تلك التي لا تكون معتادة للفرد, وتخرج عن حدود الاستطاعة, ذلك أنه من المعلوم أن كل تكيف لا يخلو من مشقة عند القيام بتنفيذه, ولكن الفرق كبير بين المشقة التي في وسع الإنسان القيام بها وتلك التي يعجز عن تحملها, والأخيرة هي التي تكون سببا في جلب التيسير من الشارع الحكيم؛ إذ يقول الله عزَّ وجلَّ: ]لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[ [البقرة: 286]، ويقول سبحانه: ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[ [الحج: 78]، وقال رسول الله r: "إن الدين يسر ولن يُشَادَّ الدين أحدٌ إلا غَلَبَه".
ففي مجال المعاملات نجد القاعدة مطردة حيث جعل الله سبحانه باب التعاقد مفتوحاً أمام العباد وجعل الأصل فيها الإباحة, ولم يضع من القيود إلا تلك التي تمنع الظلم أو تحر م أكل أموال الناس بالباطل .
3 - قاعدة الضرر يزال :
ومعناها أن الله عز وجل قد شرع لعباده الأحكام التي تصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة, وتزيل عنهم كل ما يضر به أو يؤذيهم, فإذا وقع الإنسان في حالة من الضرر الشديد, جاز له على سبيل التخلص من الضرر أن يلجأ إلى الوسيلة التي يتفادى بها ما جلبه من ضرر .
فمثلاً:حرم الله التعدي على حقوق الغير, سواء بالاستعمال أو الإتلاف, ولكن إذا توقفت حياة إنسان على أخذ شيء من مال غيره, فإنه يعتبر في حالة ضرورة تبيح له أن يتناول من مال الغير بالقدر اللازم لدفع الهلاك وإزالة الضرر, مع إلتزامه بتعويض صاحب المال عند الميسرة.
وأصل القاعدة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: "لا ضرر ولا ضرار".
ومعنى (لا ضرر) أي: لا يضر الإنسان أخاه فينقص شيئاً من حقه.
ومعنى (لا ضرار) أي: لا يجاريه على إضراره بإدخال الضرر عليه.
ويمكن القول: الضرر هو الابتداء بالفعل, والضرار هو الجزاء عليه.
وقد تفرعت عن هذه القاعدة قواعد كلية أخرى، منها:
(1) الضرورات تبيح المحظورات: وتطبيقاً لها جاز للمضطر أن يأكل الميتة, وجاز رفع العقاب عن المكره, وجاز للمعتدي عليه أن يدافع عن نفسه.
(2) الضرورة تُقَدَّر بقَدْرِها: فلا يجوز للمضطر أن يتناول من المحرمات إلا بالقدر اللازم لإنقاذ نفسه من الهلاك, كما لا يجوز للمعتدي عليه أن يتجاوز القدر اللازم لرد العدوان.
(3) الضرر لا يزال بالضرر: لأن إزالة الضرر بمثله يعتبر إيقاعاً بالضرر على الغير، وهو في الأصل غير جائز.
4 - قاعدة اليقين لا يزول بالشك :
ومعناها: إبقاء الحكم على ما كان عليه حتى يقوم الدليل علي تقييده أو انتفائه, فالحال القائم يقين مبني على دليل، والحال المطلوب الانتقال إليه يحتاج إلى دليل أقوى.
وأساس القاعدة ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله r: "إذا شَكَّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلي, ثلاثاً أم أربعاً؟, فليطرح الشك, وليبن علي ما استيقن".
ويتفرع عن هذه القاعدة قواعد فرعية منها:
(1) الأصل بقاء ما كان على ما كان: فمَن تَيَقَّن الحلال وشَكَّ في الحرام فهو في الحلال, ومَن تَيَقَّن الحرام وشكَّ في الحلال فهو في الحرام.
(2) الأصل براءة الذمة: فمَن ادعي أنه دائن لشخص بمبلغ معين, فلا عبرة من الادعاء المجرد، وإنما لا بد من الإثبات, فإذا لم يُقَدِّم الأدلة المثبِتَة للدين, فالأصل براءة ذمة المدعى عليه.
(3) الأصل في الأشياء الإباحة حتى يقوم الدليل على التحريم.
5 - قاعدة العادة مُحْكَمَة :
والعادة: هي ما اعتاده الناس وجرى عليه العرف بينهم في مكان معين وزمان معين لفعل معين.
وتحكيم العادة لا يكون إلا إذا انعدم وجود مصدر أقوى منه من ناحية التشريع حيث لا يوجد نص من قرآن أو من سنة ولا يوجد إجماع.
وقد أخذ الفقهاء دليل تحكيم العرف ما رواه أحمد من قول ابن مسعود: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"، وقد اشترط الفقهاء له شروطاً، منها:
- أ- أن يكون العرف شائعاً معتاداً وغالباً أي ليس نادراً.
- ب- ألا يكون مخالفاً لما اشترطه أحد المتعاقدين عند التعاقد.
- ت- أن يكون العرف سابقاً أو مقارناً لزمن التعاقد.
- ث- ألا يخالف نصاً من الكتاب والسنة، أو حكماً فيه إجماع, فالعرف من المعروف وما جرى على خلاف ما سبق فهو من المنكرات التي يتحتم تغييرها.
ومن أمثلة المنكرات التي شاعت وقد يتصور البعض أنها أصبحت عرفاً مُحَكَّماً (المعاملات الربوية), وخروج النساء بثياب غير محتشمة, وتعاطي المسكرات في محلات خاصة, وانتشار محلات للهو المخالف لحدود الشرع, وغير ذلك من الأفعال والأموال التي حرمها الله وأفرط البعض فيها.
وعلى ذلك فإن العرف قسمان:
القسم الأول: عرف فاسد لا يؤخذ به.
والقسم الثاني: عرف صحيح يؤخذ به، ويعتبر الأخذ به أخذا بأصل من أصول الشرع, وقال العلماء في هذا العرف الصحيح: أن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي.
6 - قاعدة الغُنْم بالغُرْم:
ويقصد بها: أن الحق في الحصول على النفع أو الكسب (العائد أو الربح) يكون بقدر تَحَمُّل المشقة أو التكاليف (المصروفات أو الخسائر أو المخاطر).
وبعبارة أخرى فإن الحق في الربح يكون بقدر الاستعداد لتحمل الخسارة.
وهذه القاعدة تمثل أساساً فكرياً قوياً لكل المعاملات التي تقوم على المشاركات والمعاوضات, حيث يكون لكل طرف فيها حقوقاً تقابل أو تعادل ما عليه من التزامات.
على أن الالتزامات تكون على ثلاثة أنواع هي:
- التزام بمال.
- أو التزام بعمل.
- أو التزام بضمان.
وهذه هي الأسباب الثلاثة التي تسبب لصاحبها الحق في الحصول على الربح أو الغنم علي ما اتفق عليه العلماء.
ومن ثَمَّ فإن لهذه القاعدة أهمية كبيرة في المعاملات المصرفية الإسلامية, حيث تؤثر في أمرين أحدهما:
أن يحصل المصرف على ربح أو عائد أو عوض من حيث الأصل.
وثانيهما: تحديد النسبة أو المقدار أو القيمة التي يحصل عليها.
7 - قاعدة الخراج بالضمان :
ويقصد بها: أن مَن ضَمِن أصلَ شيء جاز له أن يحصل على ما تولد عنه من عائد.
فبضمان أصل المال, يكون الخراج (أي ما خرج منه) المتولد عنه جائز الانتفاع لِمَن ضمن؛ لأنه يكون ملزماً باستكمال النقصان المحتمل الحدوث - إن حدث - وجبر الخسارة إن وقعت.
ولهذه القاعدة علاقة بالقاعدة السابقة, لأنها قد تدخل تحتها من حيث أن الخراج (غُنْم) والضمان (غُرْم).
ولا يخفي أن لهذه القاعدة أثر كبير في الأعمال المالية والمصرفية حيث تؤثر في عملية توزيع النتائج المالية في المصارف الإسلامية.
ضوابط الأحكام الشرعية
يقصد بالأحكام الشرعية: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بأداء فعل ما أو الانتهاء عنه، أو التخيير بين هذا وذاك.
ومن ثَمَّ كانت الأحكام الشرعية التكليفية خمسة أحكام هي: الواجب, والمندوب, والمباح, والمكروه, والحرام.
وفيما يلي تعريف موجز بكل منها:
(1) الواجب:
هو: الأمر الذي طلبه الشارع على وجه اللزوم فعله, بحيث يأثم تاركه.
والواجب والفرض مترادفان عند جمهور الفقهاء.
والأحكام الواجبة نوعان:
أحدهما: واجب عيني يوجه فيه الطلب بالفعل إلي كل إنسان مكلف.
وواجب كفائي: يوجه خطاب التكليف إلى الجماعة كلها, فإذا قام البعض بالفعل سقط عن الباقين مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغيرها.
(2) المندوب:
هو: ما طلب الشارع فعله طلباً غير لازم.
أو هو ما يثاب فاعله, ولا يعاقب تاركه.
أو هو الراجح فعله مع جواز تركه.
ويسمى (النافلة), أو (السنة), أو (التطوع), أو (المستحب).
وينقسم المندوب إلى ثلاثة مستويات، هي:
سنة مؤكدة.
وسنة غير مؤكدة.
وسنة دون المرتبتين (وهي ما ترتبط بالعادات ولا علاقة لها بالتبليغ عن الله وبيان شرعه) .
قال الشاطبي: (المندوب خادم للواجب؛ لأنه مقدمة له أو تذكار به.
والمندوبات بمنـزلة الحمي والحارس للواجبات).
والمندوب غير لازم بالجزء أي على مستوى الإنسان المكلف, ولكنه لازم بالكل (على مستوى الجماعة المسلمة) مثل: الأذان, وصلاة الجماعة, والنكاح (الزواج) فإنها مندوبات على مستوى الفرد الواحد, لكن الجماعة المسلمة تأثم إن تركتها؛ إذ إنها واجبة بالكل.
(3) المباح:
هو: تلك الأمور التي تركها الشارع الحكيم دون أمر أو نهي, فالإنسان فيها مُخَيَّر بين الفعل أو الترك.
وتثبت الإباحة بأحد أمور ثلاثة:
- أ- إما بنفي الإثم.
- ب- أو بعدم النص على التحريم.
- ت- أو بالنص على الحل.
وقد جعل الله عزَّ وجلَّ نطاق الأفعال المباحة متسعاً؛ تيسيراً على البشر.
والأمور المباحة لا ثواب فيها على الفعل, ولا إثم فيها على الترك, ويكون لإعمال النية شأن في تحصيل الثواب في الأعمال المباحة.
(4) المكروه:
هو: تلك الأمور التي طلب الشارع الحكيم الكف عنها طلباً غير لازم؛ بأن كان منهياً عنها, واقترن النهي بما يدل على أنها لم يقصد به التحريم.
ومِن ثَمَّ يكون ترك هذا الأمر مستحباً مثاباً عليه, وإن تم الفعل فلا إثم عليه.
(5) الحرام:
هو: ما طلب الشارع الكف عن فعله على وجه الحتم واللزوم, سواء كان الدليل الذي أوجب اللزوم قطعياً أو ظنياً.
وإن كان فقهاء الحنفية يفرقون بين نوعين, فيعتبرون أن (الحرام) هو ما ثبت بدليل قطعي, أما ما ثبت بدليل ظني فيطلقون عليه (مكروه تحريماً).
والحرام هو أمر يكون ضاراً ضرراً لا شك فيه, وينقسم إلى نوعين:
المحرم لذاته: وهو ما يكون ضرره ذاتياً، مثل: أكل الميتة، وشرب الخمر، وفعل الزنا وارتكاب السرقة وأكل الربا وغيرها مما يمس الضروريات الخمس.
فالمحرم في ذاته يمس الضروري في واحد من الأمور الخمسة: (الدين, العقل, النفس, النسل, المال).
المحرم لغيره: وهو الذي لا يكون النهي عنه لا لذاته، ولكن لأنه يفضي إلى محرم ذاتي؛ كالنظر إلى عورة المرأة, فهو محرم لأنه يفضي إلى الزنا, والاستقراض بفائدة لأنه يؤدي إلي الربا الذي هو محرم لذاته.
الضوابط للمؤسسات كما هي للأفراد:
إن آثار الضوابط المذكورة على أعمال المؤسسات المصرفية كبيرة, حيث تكون كل معاملاتها في نطاق هذه الضوابط, أي في إطار المشروعية الإسلامية ويخضع لها جميع الأنشطة والأعمال كما تخضع لها المقاصد والأهداف والغايات, والسياسات والنظم والإجراءات.
لذلك يمكن أن نحدد أهم تلك الآثار فيما يلي:
(1) تأثير في صياغة الأهداف والمقاصد والأولويات :
حيث تصاغ بالشكل الذي لا يتعارض مع الضوابط الشرعية, ويحقق الفهم الكامل للأولويات الإسلامية للأمة دون التضحية بمصالح الأفراد, وهي موازنة تقوم على فهم مراتب المصلحة المعتبرة شرعاً (من ضروريات وحاجيات وتحسينات).
(2) تأثير في الإدارة الكلية لموارد المؤسسة المصرفية:
بحيث تحقق أفضل النتائج من حيث حسن استغلال للموارد البشرية والمادية (مالية أو غير مالية), فتستخدم من أساليب الإدارة والقيادة ما لا يتعارض مع الضوابط الإسلامية سواء تعلق ذلك بقواعد إجارة الأفراد, وتوظيفهم والتعامل معهم، وتحفزهم وإثابتهم وعقوبتهم وغير ذلك من سياسات الموارد البشرية, فتظهر المشاركة الإدارية, والعدالة, وتكافؤ الفرص, والتنمية المعرفية والمهارية, والمبادرات الذاتية, والرقابة الذاتية, والإنتماء للمجتمع والاعتزاز بالوطن, مما يجعل روح التنظيم مشبعة بجو من التضامن والتكاتف والحرص المشترك علي النجاح وتلافي السلبيات.
(3) تأثير في نظم وإجراءات العمل والعقود والنماذج:
حيث تصاغ جميعها في ضوء الأساس الفقهي والفني المنضبط والخادم للأهداف، وفي إطار من العقود الشرعية التي تحكم المعاملات المصرفية.
وهنا يجدر القول أنه لا يجب أن توجد معاملة في المصرف الإسلامي بغير تكييف شرعي يحكمها, سواء كان ذلك في إطار عقد شرعي ورد في المراجع الفقهية (من العقود المسماة) أو عقد تم تخريجه في إطار القواعد العامة الشرعية للعقود.
(4) تأثير في مجالات التوظيف والخدمات:
إذ يجب ألا تكون أنشطة التوظيف والاستثمار والخدمات من بين المجالات المحرمة أو المكروهة, وإنما تكون في نطاق المجالات المباحة شرعاً أو المندوبة أو الواجبة.
ويكون التنويع بينها التزاماً ينبني على الاستطاعة.
ومن الأمثلة على المجالات والسلع والخدمات المحرمة والمكروهة:
1 - تجارة وصناعة الخمور والمسكرات والمخدرات وكل ما يأخذ حكمها, ويدخل في دائرة نشاطها من خدمات نقل وتوزيع وتقديم.
2 - تربية وتجارة الخنازير والصناعات والخدمات المرتبطة بلحومها أو مكوناتها.
3 - نوادي القمار والميسر وما يشبهها ويأخذ حكمها.
4 - النوادي الليلية والمراقص.
5 - المحلات والنوادي المخصصة للهو غير المباح المرتبط بمحرمات ومفاسد وكلاهما قرين الآخر لا ينفك عنه.
(5) تأثير في الأساليب والوسائل المتبعة في التوظيف والخدمات:
يجب ألا تكون من بين الأساليب والوسائل المحرمة أو المكروهة, والتي نذكر من أمثلتها :
1 - التعامل بالفوائد الثابتة في نشاط الإيداعات والقروض فهو من الربا المحرم.
2 - التعامل بالبيوع المنهي عنها شرعاً.
3 - المعاملات التي يصاحبها الغرر والجهالة.
4 - المعاملات التي تؤدي إلى احتكار السلع وحبسها عن التداول.
5 - المعاملات التي يكتنفها غش وخداع وكذب وتدليس ورشوة.
6 - بخس الأثمان أو التلاعب فيها.
7 - التلاعب في الموازين والمكاييل.
(6) تأثير في كيفية توزيع النتائج:
يتم توزيع نتائج النشاط في المؤسسة المصرفية الإسلامية في إطار العدالة بين الأطراف التي ساهمت في تحقيقها على أساس قاعدتي: (الغُنْم بالغُرم) و(الخراج بالضمان)، وفي إطار العلاقات الشرعية بين البنك والمودعين بغرض الاستثمار, وكذا بينه وبين الحاصلين علي تمويل بصيغ مختلفة.
(7) تأثير في التزام المؤسسة المصرفية الإسلامية بالمسئولية الاجتماعية والأخلاقية:
يلتزم المصرف الإسلامي بأداء الزكاة المفروضة على المال النامي في كل عام مرة، والمستحقة شرعاً على مُلاَّك هذا المال (مساهمين أو مودعين) والذين يُفَوِّضُون البنك أو يأذنون له بأداء ذلك نيابة عنهم.
وتصرف الزكاة في مصارفها الشرعية, وكذلك الصدقات والتبرعات, وما قد يقرره ولي الأمر من إنفاق إضافي لصالح المجتمع المسلم.
ضوابط المقاصد الشرعية
مقاصد الشرع من الخلق خمسة مقاصد, هي أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم, وعقلهم، ونسلهم، ومالهم.
فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة, ودفعها مصلحة.
وهذه هي المصلحة المعتبرة شرعاً التي تعمل في إطار المحافظة على هذه الأصول الخمسة وصيانتها.
وقد قرر العلماء أن الأحكام الشرعية هي وعاء المصالح الحقيقية, وأن المصلحة المقصودة ليست مرتبة واحدة لكنها على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: الضروريات
وهي التي لا تتحقق وجوه المصلحة المذكورة إلا بها.
فالضروري بالنسبة للنفس هو المحافظة على الحياة, والمحافظة على الأطراف, وكل ما لا يمكن أن تقوم الحياة إلا به.
والضروري بالنسبة للمال هو ما لا يمكن المحافظة عليه إلا به.
وكذلك بالنسبة للنسل.
وفي الجملة فإن دفع كل ما يترتب عليه فوات أصل من الأصول الخمسة المذكورة يُعَدُّ ضرورياً, وقد شَدَّد الشارع الإسلامي في حمايته, وأعطاه زيادة من التأكيد, وأنه إذا ترتب حفظ الحياة على فوات أمر محظور أباح الشارع تناول المحظور, بل أوجبه إذا لم يكن فيه اعتداء على أحد, ولذا أوجب على المضطر أن يدفع الفائدة الربوية, تحت قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
المرتبة الثانية : الحاجيات
وهي التي لا يكون الحكم الشرعي فيها لحماية أصل من الأصول الخمسة, بل يقصد منه دفع المشقة أو الحرج أو الاحتياط لهذه الأمور الخمسة, كتحريم بيع الخمر, لكيلا يسهل تناولها, وتحريم رؤية عورة المرأة, وتحريم تلقي الركبان, وتحريم الاحتكار, والاحتيال, ومن ذلك إباحة كثير من العقود التي يحتاج إليها الناس, كالمزارعة والمساقاة, والسَّلَم, والمرابحة والتولية .
المرتبة الثالثة : التحسينيات
وهي الأمور التي لا تحقق أصل هذه المصالح, ولا الاحتياط لها, ولكنها ترفع المهابة, وتحفظ الكرامة, وتحمي الأصول الخمسة.
ومن ذلك بالنسبة للنفس حمايتها من الدعاوى الباطلة والسب, وغير ذلك مما لا يمس أصل الحياة, ولا حاجيات من حاجياتها, ولكن يمس كمالها ويشينها, وذلك يلي المرتبتين السابقتين.
ومن ذلك بالنسبة للأمور المالية تحريم التغرير والخداع والنَّصْب؛ فإنه لا يمس المال ذاته, ولكنه يمس إرادةَ التصرف في المال عن بَيِّنَةٍ ومعرفة, وإدراكٍ صحيح لوجوه الكسب والخسارة, فهو لا اعتداء فيه على أصل المال, ولكن الاعتداء على إرادة المتصرف.
وأركَّز على المحافظة على المال:
ويكون ذلك بمنع الاعتداء عليه بالسرقة والغصب ونحوهما.
وتنظيم التعامل بين الناس على أساس العدل والرضا.
وبالعمل على تنمية المال ووضعه في الأيدي التي تصونه وتحفظه، وتقوم على رعايته, فالمال في أيدي الآحاد قوة للأمة كلها.
ولذا وجبت المحافظة عليه بتوزيعه بالقسطاس المستقيم.
وبالمحافظة على إنتاج المنتجين، وتنمية الموارد العامة.
ومنع أن يؤكل المال بين الناس بالباطل وبغير الحق الذي أحله الله تعالى لعباده.
ويدخل في المحافظة على المال كل ما شرع للتعامل بين الناس من بيوع ومشاركات وإجارات وغيرها من العقود التي يكون موضوعها المال.
الضوابط الشرعية للعمل المصرفي الإسلامي
ضابط العقيدة
إن الإيمان لا يكون مجرد نطق باللسان, وإنما هو عقيدة حية تملأ القلب وتعمره, فتصدر عنها آثارها كما تصدر عن الشمس أشعتها, ومن آثار الإيمان وثماره أن يكون الله ورسوله أحب إلي المرء من كل شئ, وأن يظهر ذلك في أقواله, وتصرفاته, وأخلاقه, فإن كان ثمة شئ أحب إلي المرء من الله ورسوله, فالإيمان مدخول, والعقيدة مهزوزة, فالحياة بما فيها من أهل وعشيرة وأموال وتجارة ومساكن ومناصب وجاه وسلطان لا يجب أن تكون أحب للمؤمن من الله ورسوله والشريعة التي أوحاها إليه, وقد قال الله تعالي :{ قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم, وأموال إقترفتموها, وتجارة تخشون كسادها, ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله, فتربصوا حتي يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين } التوبة (آية 24) وقال r : { لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب إليه من والده وولده, ونفسه التي بين جنبيه والناس أجمعين }.
إن ثمرة هذه العقيدة السليمة والإيمان الكامل بها يكون قوة دافعة لكل سلوك خير للإنسان, بدءا من جهاد النفس ومغالبة الهوي والإنتصار عليهما, ثم الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ومنع الظلم والفساد في الأرض, وإنتهاء بإماطة الأذي عن الطريق وما بينهما من كل أمر بمعروف وكل نهى عن منكر, فإذا عرف الإنسان به وإمتلأت حياته بالإيمان الكامل كانت لذلك آثار عظيمة في حياته ولعل من هذه الثمار والآثار ما يلي :
1 - الإيمان يحرر النفس من سيطرة الغير.. ذلك أن الإيمان يقتضي الإقرار بأن الله هو المحيى المميت, الخافض الرافع, الضار النافع .
2 - الإيمان يوحي بأن واهب العمر هو الله وأنه لا ينقص بالإقدام, ولا يزيد بالأحجام, لذا فإنه يبعث في نفس المؤمن روح الشجاعة والإقدام, فلا يخشي الموت, ولا تثني عزيمته المحن .
3 - والإيمان يقتضي الاعتقاد بأن الله هو الرازق .. وأن الرزق لا يعجل به حرص حريص, ولا يرده كراهية كاره .
4 - والطمأنينة أثر من آثار الإيمان.. أي طمأنينة القلب, وسكينة النفس, فإذا إطمأن القلب - وسكنت النفس - شعر الإنسان ببرد الراحة, وحلاوة اليقين, وإحتمل الأهوال بشجاعة, وثبت إزاء الخطوات مهما إشتدت, ورأي أن يد الله ممدودة إليه, وأنه القادر علي فتح الأبواب المغلقة, فلا يتسرب إليه جزع ولا يعرف اليأس إلي قلبه سبيلاً .
5 - والإيمان يرفع من قوى الإنسان المعنوية .. ويربطه بمثل أعلي من عند الله, مصدر الخير كله, والبر والكمال, وبهذا يسمو الإنسان عن الماديات, ويرتفع عن الشهوات, ويستكبر عن لذائذ الدنيا, ويري أن الخير والسعادة في النزاهة والشرف, وتحقيق القيم الصالحة, ومن ثم يتجه الإنسان تلقائيا لخير نفسه, ولخير أمته, وخير الناس جميعا .
6 - والحياة الطيبة يعج ل الله بها للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة..{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثي فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } النحل (آية 97) وقال تعالي :{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير, ولنعم دار المتقين } النحل (آية 30) وقال سبحانه:{ ولو أن أهل القري آمنوا وإتقوا لفتحنا عليه بركات من السماء والأرض } الأعراف (آية 96) .
7 - الإيمان يجعل الإنسان دائما في معية الله .. الذي خلقه وسو اه, فيكون رقيبا علي نفسه محاسبا لها, يضبط حياته كلها علي مقتضي الشريعة, ويترسم الأخلاق التي إرتضاها الخالق له, وهنا يكون فلاحه في الدارين, أما إذا إبتعد عن منهج الله وخرج عن مقتضي العقيدة والشريعة, فيكون مآله إلي الشقاء في الدارين, فقد قال الله تعالي : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي } طه (آية 124) .
8 - أن الله سبحانه الخالق لهذا الكون .. والخالق لهذه الأرض, والخالق لكل ما هو عليها, ومن عليها من إنس وجان وحيوان ونبات وجماد - وغير ذلك مما لا نعلمه - هو الذي وهب كل موجود وجوده { ذلكم الله رب-كم خالق كل شئ فأعبدوه } الأنعام (آية 102).
9 - إن الخالق سبحانه وتعالي والموجد لكل النعم والطيبات .. هو المالك الأول والأصيل لها ولكل شئ في ملكوت السماوات والأرض : { ولله مُلك السموات والأرض وما بينهما, يخلق ما يشاء } المائدة (آية 17).. وقال تعالي :{ تبارك الذي بيده الملك وهو علي كل شئ قدير, الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} الملك (آية1) والله سبحانه مالك هذا الكون قد سخره لخدمة الإنسان, ووهبه من الوسائل والأدوات ما يعينه علي الإنتفاع بما فيه من نعم وطيبات, وإكتشاف ما فيه من قوي وطاقات, وإستغلال ذلك كله لنفع المخلوقات.
10- لقد خلق الله البشر وإستعمرهم في الأرض .. وأن الأرض بما فيها مسخ رة لهم مذللة بإذن ربهم, بعد الأخذ بالأسباب المخلوقة لهم, ومن ثم فإن حقوق البشر وواجباتهم حددها الله سبحانه عندما طلب منهم إعمارها, ولقد جاء القرآن واضحا في أن الله جل شأنه خلق آدم أبا البشر ليكون خليفة في الأرض, فقال تعالي : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء, ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال إني أعلم ما لا تعلمون} البقرة (آية 30) .
11- إن خلافة الإنسان علي الأرض بما فيها من نعم وطيبات مقيدة بتعاليم الله رب العالمين, أنزلها لمصلحة هذا الخليفة..
وهي تعاليم سهلة ميسورة, بل هي ضوابط للسعادة في الدنيا والآخرة, وتتلخص هذه الضوابط في أن يكون إكتساب المال من طريق حلال والتعامل فيه بالطريق المشروع الخالي من الظلم, وأكل أموال الناس بالباطل, وأن ينفق هذا المال حيث أمر الله من وجوه البر والخير وصلة الأرحام والعطف علي الفقراء والمساكين, ويخرج الزكاة عن المال المدخر . إن إستخلاف الله للإنسان في هذه الحياة إنما هو لتعمير الأرض وإسعاد أهلها, حيث ينتفع المجتمع الإنساني بمال الله الذي سخره لأهل الأرض جميعا, مع إحترام ملكية الإنسان وإرادته في تنفيذه لتعاليم الله .
12- إن للاستخلاف آثارا هامة تتعلق بتصرفات الإنسان في ملكه.. فالملكية الفردية في إطارها الشرعي محترمة ومقدرة في ضوء مبدأ الإستخلاف, كما تحترم إرادة الإنسان حيث لا يجوز شرعا إخراج الشئ من يد مالكه إلا بإرادته وإذنه, غير أن هنالك من الحالات التي تتيح ذلك, إذا ما وجدت مصلحة راجحة تدعو إلي إخراج الشئ من ملك صاحبه, ولو جبرا , وهذا يكاد ينحصر في الحالات الأربع التالية :
o إجبار المحتكر علي البيع بثمن المثل .
o إجبار المدين الموسر علي الوفاء بما عليه من دين .
o نزع الملكية للمنعفة العامة بشروطها .
o حق الشفعة .
ضوابط القواعد الكلية
القاعدة الفقهية هي الأمر الكلي المنطبق علي جميع جزئياته, بمعني أن يندرج تحت هذا الأمر الكلي مجموعة من الأحكام المتشابهة, التي يمكن إرجاعها إلي أصل واحد . وقد رصد بعض الفقهاء عددا كبيرا من القواعد الكلية سوف نتناول بعضها بإيجاز من بين تلك القواعد التي إتفقت المذاهب عليها, ومن أهم تلك القواعد ما يلي :
- القاعدة الأولي : الأمور بمقاصدها .
- القاعدة الثانية : لا ثواب إلا بالنية .
- القاعدة الثالثة : المشقة تجلب التيسير .
- القاعدة الرابعة : الضرر يزال .
- القاعدة الخامسة : الغنم بالغرم .
- القاعدة السادسة : العادة محكمة .
- القاعدة السابعة : اليقين لا يزول بالشك .
- القاعدة الثامنة : الخراج بالضمان .
ويلاحظ أن القاعدة الثانية ذات شبه بالقاعدة الأولي, وكلاهما دليلهما قول الرسول r : { إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل إمرئ ما نوي ....} . الحديث, ومن ثم نكتفي ببحث القاعدة الأولي وآثارها .
1 - قاعدة الأمور بمقاصدها :
وهي تعني أن كل قول أو عمل إنما هو بالمقصد الذي يريد صاحبه أن يحققه, أو بالغاية التي يريد الوصول إليها من وراء قوله أو عمله, فإذا تكلم أو تحرك, فالعبرة من كلامه أو حركته بما يقصد أو يريد, وبعبارة أخري تقاس الأعمال والأقوال بمقياس النوايا الحسنة أو السيئة للفاعل أو القائل .
والأصل في القاعدة ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:قال رسول الله r : إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل إمرئ ما نوي ...وهناك أحاديث عديدة إستدل بها العلماء علي هذه القاعدة, إلا أن للحديث السابق مكانة خاصة لدي العلماء, وذكر الإمام الشوكاني رحمه الله بأن كسب العبد قد يكون بقلبه أو بجوارحه أو بلسانه, إلا أن عمل القلب أرجحها, ومعني ذلك أن القلب قد يتجه لفعل الخير دون أن يصاحب النية الكامنة عمل مادي ظاهر, ومع ذلك يكتب الله لصاحبه ثواب الخير الذي إنتوي فعله .
إن أهمية المقاصد واضحة في حياة العباد, فهي التي تميز أعمالهم وأقوالهم عن غيرهم, ولا شك أن عمل الإنسان إن صاحبته النية الحسنة والمقصد الحميد كان صاحبه مثابا عليه, أما إن صاحبته النية السيئة والمقصد الخبيث كان معاقبا عليه, مع أن العمل في الحالين واحد, فالعبادة إذا قصد بها وجه الله تكون سبب في الثواب والجزاء الأوفي, أما إذا قصد بها الرياء والتظاهر (والعياذ بالله) تكون بذاتها ذنبا عظيما وإثما كبيرا , وهكذا سائر الأعمال والأقوال التي تصدر عن الإنسان, فالعقود مثلا إذا قصد من إبرامها قصدا مشروعا كان العقد صحيحا , أما إذا كان القصد من إبرامها غير مشروع كان العقد باطلا .
2 - قاعدة التيسير ورفع الحرج :
والمراد من التيسير التسهيل بحيث تكون الأحكام الشرعية في مقدور المكلف, بمعني أن يقوم بها من غير عسر أو حرج أي بدون مشقة, والمراد من الحرج الضيق, فإذا صار العبد في حالة لا يستطيع معها القيام بالعبادة علي النحو المعتاد فإن الله سبحانه وتعالي يرخص له في أدائها حسب إستطاعته, وفي هذا رفع للحرج عن العباد, وقد عبر العلماء عن هذه القاعدة بقولهم { المشقة تجب التيسير } وكلمة المشقة المقصودة هي تلك التي لا تكون معتادة للفرد, وتخرج عن حدود الإستطاعة, ذلك أنه من المعلوم أن كل تكيف لا يخلو من مشقة عند القيام بتنفيذه, ولكن الفرق كبير بين المشقة التي في وسع الإنسان القيام بها وتلك التي يعجز عن تحملها, والأخيرة هي التي تكون سببا في جلب التيسير من الشارع الحكيم, إذ يقول الله عز وجل :{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } البقرة (آية 286) .. ويقول : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج (آية 78).. وقال النبي r :{ إن الدين ي سر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه}
ويظهر أثر هذه القاعدة واضحا في التكاليف الشرعية, فالله جل وعلا لم يفرض علي المؤمنين من العبادات إلا ما وسعهم, ففي الطهارة مثلا إذا لم يتوفر الماء رخص له التيمم, وفي أداء الصلاة, إذا لم يستطيع أداءها قائما رخص له أن يؤديها جالسا أو علي النحو المستطاع, كما رخص في الصيام للمريض بالإفطار, وكذلك المسافر علي أن يؤديها بعد ذلك, كما ربط الحج بالقدرة .
وفي مجال المعاملات نجد القاعدة مطردة حيث جعل الله سبحانه باب التعاقد مفتوحا أمام العباد وجعل الأصل فيها الإباحة, ولم يضع من القيود إلا تلك التي تمنع الظلم أو تحر م أكل أموال الناس بالباطل .
3 - قاعدة الضرر يزال :
ومعناها أن الله عز وجل قد شرع لعباده الأحكام التي تصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة, وتزيل عنهم كل ما يضر به أو يؤذيهم, فإذا وقع الإنسان في حالة من الضرر الشديد, جاز له علي سبيل التخلص من الضرر أن يلجأ إلي الوسيلة التي يتفادي بها ما جلبه من ضرر .
فمثلا قد حر م الله التعدي علي حقوق الغير, سواء بالإستعمال أو الإتلاف, ولكن إذا توقفت حياة إنسان علي أخذ شئ من مال غيره, فإنه يعتبر في حالة ضرورة تبيح له أن يتناول من مال الغير بالقدر اللازم لدفع الهلاك وإزالة الضرر, مع إلتزامه بتعويض صاحب المال عند الميسرة .
وأصل القاعدة ما روي عن إبن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله r قال : لا ضرر ولا ضرار ... فالشريعة الإسلامية تحرص علي إزالة الضرر عن الأفراد والجماعات, وطبقا لما ورد في هذا الحديث الذي يعتبر أصلا من أصول الشريعة, ومعني لا ضرر.. أي لا يضر الإنسان أخاه فينقص شيئا من حقه, ولا ضرار..أي لا يجاريه علي إضراره بإدخال الضرر عليه, فالضرر فعل الواحد, والضرار فعل الإثنين, والضرر هو الإبتداء بالفعل, والضرار هو الجزاء عليه .
ويظهر أثر هذه القاعدة في معظم أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وعقوبات, ولكونها قاعدة أساسية, فقد تفرعت عنها قواعد كلية أخري منها :
(1) الضرورات تبيح المحظورات .. وتطبيقا لها جاز للمضطر أن يأكل الميتة, وجاز رفع العقاب عن المكره, وجاز للمعتدي عليه أن يدافع عن نفسه .
(2) الضرورة تقدر بقدرها .. فلا يجوز للمضطر أن يتناول من المحرمات إلا بالقدر اللازم لإنقاذ نفسه من الهلاك, كما لا يجوز للمعتدي عليه أن يتجاوز القدر اللازم لرد العدوان .
(3) الضرر لا يزال بالضرر .. لأن إزالة الضرر بمثله يعتبر إيقاعا بالضرر علي الغير وهو في الأصل غير جائز .
4 - قاعدة اليقين لا يزول بالشك :
ومعناها إبقاء الحكم علي ما كان عليه حتي يقوم الدليل علي تقييده أو إنتفائه, فالحال القائم يقين مبني علي دليل والحال المطلوب الإنتقال إليه يحتاج إلي دليل أقوي, وأساس قاعدة { اليقين لا يزول بالشك } ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله r : { إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كما صلي, ثلاثا أم أربعا, فليطرح الشك, وليبن علي ما إستيقن } ..
عدد القراء : 2536