shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

أبناؤنا وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم

إنَّ تربيةَ الأبناء على حبِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الواجبات الأساسيَّة للآباء والأمهات.

والواقع أنَّ هناك تقصيًرا كبيرًا من الأُسر المسلمة في تربية الأطفال على هذه الفضيلةِ الأساسيَّة في حياة المسلم، فنجد الآباءَ يصحبون أبناءَهم لمشاهدة مباراة كرةِ قَدمٍ، فيهتفون للاعب هذا أو ذاك، فيَشِبُّ الأبناءُ على ذلك، بل ويذهبون إلى اتِّخاذ هؤلاء اللاَّعبين مَثلاً أَعلى وقُدوةً، وقد يعرفون كلَّ المعلومات عن حياتهم الخاصَّةِ، ويعرفون أسماءَ زَوجاتِهم، وعددَ أبنائهم، وأين يسكنون... إلخ.

فهل يعرِف الأطفالُ الآن مع علمهم بأسماءِ المُطربين واللاَّعبين عددَ أبناء الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم وبناتِه وزَوجاتِه، وأسماءَهم؟

الإجابة عادةً بـ"لا"، ومع إهمال التَّربية الدِّينية في المدارس والجامعات، وخصوصًا سيرةَ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أصبحتِ المسؤوليةُ عظيمةً على الأسرة، وأصبح لِزامًا علينا أن نقدِّمَ لأبنائنا شخصيةَ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في الصُّورة التي تليق به، وأن نُعلِّمَهم لماذا يَستحقُّ منَّا الحبَّ أكثرَ مِن أبنائنا وأنفسنا.

إنَّ حبَّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإتباعَ أوامره إنَّما هو طاعةٌ لله؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32].

ولكي نُحقِّقَ طاعةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعلينا بدراسة سِيرته العَطرة وتعليمها لأبنائنا، ليس على أساسِ أنَّها قِصَّةٌ أو ترجمةٌ لشخصية، ولكن كمنهجٍ كاملٍ للحياة.

قرأَ صلَّى الله عليه وسلَّم يومًا قولَ الله تعالى في إبراهيم عليه السَّلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقرأ قولَ اللهِ تعالى في عيسى عليه السَّلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].

فبَكى صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزل اللـهُ إليه جبريلَ - عليه السَّلام - وقال: يا جبريلُ، سلْ محمَّدًا ما الذي يُبكيك - وهو أعلم؟ فنزل جبريلُ وقال: ما يُبكيك يا رَسولَ اللـه؟ قال: أُمَّتي، أُمَّتي يا جبريل، فصعِدَ جبريلُ إلى المَلِك الجليل، وقال: يبكى على أُمَّته - واللـه أعلم - فقال لجبريلَ: انزلْ إلى محمَّدٍ، وقلْ له: إنَّا سَنُرضيكَ في أُمَّتكَ"([1]).

ولَمَّا تعرَّض أهلُ الطَّائف لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وآذَوْه ورمَوْه بالحجارة، عرضَ عليه مَلَكُ الجبال أنْ يُطبقَ عليهم الأخشبين (جبلان بمكَّة)، عندَها قال النبيُّ الرَّؤوف الرَّحيم صلَّى الله عليه وسلَّم: "أرجو أن يُخرجَ اللهُ مِن أصلابهم مَن يُوحِّد الله"، فقمة الرَّحمة أن يحافظَ الإنسان على حياةِ عَدوِّه، ويرجوَ الخير لذُريَّته التي تَخرج مِن صُلبه.

عندما نقرأ هذه الأحاديثَ في دُعائه صلَّى الله عليه وسلَّم لأُمَّته لا يسعنا إلاَّ أن نقولَ: {وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

هذه هي عظمةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحبُّه الكبير لأُمَّته، فكيف نُحبُّه ونُجلُّه ونضعه في مكانه اللاَّئق كما أمرَنا ربُّنا؟

قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8 - 9]، ونهى عن التَّقدُّمِ بين يديه بالقولِ وسُوءِ الأدب بسبقِه بالكلام؛ فقال - عزَّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} في إهمال حقِّه، وتَضييع حُرمتِه {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وقال - جلَّ وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}  [الحجرات:2-4].

وهذه صُورٌ مختلفة مِن حُبِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإجلاله:

لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله المدينة، نزلَ على أبي أَيُّوبَ، فنزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم السُّفل، ونزل أبو أَيُّوب العُلو، فلمَّا أمسى وبات، جعل أبو أَيُّوبَ يَذكُر أنَّه على ظَهر بَيتٍ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَسفل منه، وهو بينَه وبينَ الوَحيِ.

فجعل أَبو أَيُّوبَ لا يَنامُ يُحاذِرُ أن يتناثرَ عليه الغُبار، ويتحرَّك فيؤذيه، فلمَّا أصبحَ غَدَا إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسولَ الله، ما جعلت اللَّيلة فيها غُمضًا أنا ولا أُمُّ أَيُّوبَ، فقال: "ومِمَّ ذاك يا أبا أَيُّوبَ؟"، قال: ذكرتُ أنِّي على ظَهرِ بَيتٍ أنت أَسفل منِّي، فأتحرك فيتناثر عليكَ الغُبار، ويؤذيك تَحرُّكي، وأنا بينَكَ وبينَ الوحيِ([2]).

وعن أبي أَيُّوبَ رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزل عليَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قلتُ: بأبي وأُمِّي، إنِّي أَكره أن أكونَ فَوقَكَ، وتكون أسفلَ منِّي، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ أَرفقَ بنا أن نكونَ في السُّفل؛ لِمَا يغشانا مِنَ النَّاس"، فلقد رأيتُ جرَّة لنا انكسرتْ، فأُهريق ماؤها، فقمتُ أنا وأمُّ أَيُّوبَ بقطيفةٍ (القطيفة: كساء له خمل) لنا، وما لنا لِحافٌ غيرها ننشف بها الماءَ فـَرَقًا([3]) مِن أنْ يَصِلَ إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منَّا شيء يُؤذيه...([4]).

أمَّا "خُبَيب بن عَديٍّ"، فلَمَّا أخرجه أهلُ مكَّةَ مِنَ الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيانَ: أَنشُدكَ الله يا خُبيبُ، أتُحبُّ أنَّ محمَّدًا الآنَ عِندَنا مكانَكَ يُضربُ عُنقُه، وأنَّكَ في أَهلكِ؟ فقال خُبيبٌ: واللهِ ما أُحبُّ أنَّ محمَّدًا الآنَ في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شَوكةٌ، وإنِّي جالسٌ في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيتُ مِنَ النَّاس أَحدًا يُحِبُّ أَحدًا كحُبِّ أصحابِ محمَّدٍ محمَّدًا.

وكذلك كان أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قِممًا في الذوق والأدب، فقدِ استأذن بعضُ الأنصار في فداء العبَّاس عمِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان قد وقع في الأَسْر في غزوة بدر فقالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ائذنْ لنا فلْنتركْ لابن أُختنا العبَّاس فداءَه، قال: "واللهِ لا تَذَرُون منه دِرهمًا"؛ أي: لا تتركوا للعبَّاس مِنَ الفداء شيئًا.

وقد ربَّى الصَّحابةُ رضوان الله عليهم أبناءَهم على حبِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منذُ الصِّغر.

إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم توضَّأ يومًا، فجعل الصَّحابةُ يتمسحون بوَضوئِه؛ وذلك تَبرُّكًا منهم بوَضوئِه صلَّى الله عليه وسلَّم فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما يَحمِلُكم على هذا - أي: لِمَ تفعلون ذلك؟ - قالوا: حبُّ الله ورسوله، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَن سَرَّه أنْ يُحبَّ اللهَ ورسولَه، أو يُحبَّه اللهُ ورسولُه، فلْيصدُقْ حديثَه إذا حدَّث، وليؤدِّ أمانتَه إذا اؤتُمِن، ولْيُحسنْ جِوارَ مَن جاورَه".

وهنا يُبيِّنُ النبيُّ الكريمُ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ حُبَّه لا يكون مجرَّدَ مظاهرَ جوفاءَ، ولكنْ حُبُّه صلَّى الله عليه وسلَّم يكون باتِّباعه والْتزامِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه صلَّى الله عليه وسلَّم.

أمَّا السَّيِّدة عائشةُ رضي الله عنها فكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعرِف متى تكون راضيةً عنه، ومتى تكون غَضْبَى، فقط من خلال حديثها معه وأسلوبها.

فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: "قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنِّي لأَعلمُ إذا كنتِ عنِّي راضيةً، وإذا   كنتِ عليَّ غَضْبَى"، قلتُ: كيف يا رسول الله؟ قال: "إذا كنتِ عنِّي راضيةً، قلتِ: لا، ورَبِّ محمَّدٍ، وإذا كنتِ عليَّ غضْبَى، قلتِ: لا، ورَبِّ إبراهيمَ"، قالت: "أَجلْ، واللهِ ما أهجر إلاَّ اسمَكَ"([5]).

نلاحظ هنا الأدبَ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والرقيَّ في الحوار: "ما أهجر إلاَّ اسمَكَ".

وعندما احْتُضِر بلالٌ رضي الله عنه قالتِ امرأتُه: واحُزناهُ! فقال: بل واطرباه! غدًا نلقَى الأحبَّة؛ محمَّدًا وصحبَه، فمزج مرارةَ الموت بحلاوة الشَّوق إليه صلَّى الله عليه وسلَّم.

وعن أبي رَزين قال: قيل للعبَّاس: أنتَ أكبرُ أوِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: هو أكبرُ، وأنا وُلدتُ قَبلَه([6]).

وقال القاضي عِياضٌ: "ومِن مَحبَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّم: نُصرةُ سُنَّته، والذَّبُّ عن شريعته، وتَمنِّي حضورِ حياته، فيبذل مالَه ونَفْسَه دونَه.

وقال سبحانه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، فإنَّ مولاه لم يُنادِه باسمه مجرَّدًا كسائر الأنبياء والمرسلين؛ كآدمَ ونوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى، ولكنَّه كان يناديه بقوله: {يا أيُّها المُدِّثر}، {يا أيُّها المُزمِّل}، {يا أيُّها النبيُّ}، {يا أيُّها الرَّسول}، وإن كان قد ورد في أكثرَ مِن موضعٍ ذِكرُ اسمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّ وُرودَه لم يكن على سبيل النِّداء.

وقال ابن أبي الزِّناد: كان سعيدُ بن المُسيّب - وهو مريض - يقول: "أَقعدوني؛ فإنِّي أكره أنْ أُحدِّثَ حديثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا مضطجع".

هكذا كان حُبُّ السَّلف الصَّالح لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم حبًّا صادقًا نابعًا مِنَ القلبِ، خاليًا مِنَ السَّطحية والمَظْهرية، وقدِ انتقل هذا الحبُّ مِنَ الآباء إلى الأبناء بالقدوة والعَملِ، قبلَ أن يكونَ بالتَّلقين والقولِ، فما أحوجَنا إلى هذه النَّماذجِ المُشرِقة؛ لِتَكونَ قُدوةً بدلاً مِنَ النَّماذج التَّافهة الفارغة.

 

([1] ) رواه مسلم.

([2] ) الحديث.رواه أحمد (5/415)، ومسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير)) (3986)، والحاكم (3/460-461)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

([3] ) أي: خوفاً.

([4] ) رواه مسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير)) رقم (3855)، واللفظ له.

([5] ) رواه البخاري ومسلم.

([6] ) عزاه الهيثمي في ((المجمع)) (9/270) إلى الطبري، وقال: رجاله رجال الصحيح.

عدد القراء : 1182