shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الإصلاح وصية الأنبياء، ومنهاج المرسلين، وسبيل الأتقياء، ودعوة الأوفياء، ودعاء المؤمنين، ورجاء المصلحين

 

 

الحمد لله جامع القلوب وموحد الأفئدة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أصلح الله به الأمة، وجمع به الكلمة، ولمَّ به الشعث، ووحد به الأمة بعد تفرقها، صلى الله تعالى عليه وعلى أصحابه، ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين، وبعد.

فإنه لا ريب أن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة الَّتي يوغر بها صدور الخلق، لينفصلوا بعد اتحاد، ويتنافروا بعد اتفاق، ويتعادوا بعد أُخوَّة.

وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً.

ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة، ومروراً بالهجر والتباعد، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال.

فالإسلام دين يتشوّف إلى الصلح ويسعى له وينادي إليه، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين، فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة.

إن الله جل وتعالى أوجدنا في هذه الأرض لكي نسلك طريق الإصلاح ونبتعد عن طريق الفساد والإفساد.

بل وأمرنا جل وتعالى أن نكون من المصلحين تبعاً لمنهج الأنبياء والمرسلين وطريقة الأتقياء والمصلحين.

الإصلاح وصية الأنبياء ومنهاج المرسلين

ذكر القرآن الكريم على لسان نبي الله هود عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

وقال تبارك وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}  [الأعراف: 142].

الإصلاح دعاء المؤمنين ورجاء المصلحين

قال الله تعالى في وصيته للإنسان بوالديه: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

الإصلاح يستجلب رحمة الله ومغفرته

قال تعالى: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 129].

الإصلاح، ومحاربة الفساد:

قال سبحانه: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].

وأخبر جل وتعالى أن العاقبة تكون في النهاية لأهل الإصلاح وهم الذين سيتولون زمام الأمور، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

فالأرض لم تخلق لكي يعبث بها المفسدون ولم توجد لكي يحكمها أهل الفساد، وإنما خلقها الله تعالى للصلاح ولأهل الإصلاح، وإن حصل شيء من الفساد فهي لفترة مؤقتة ولحكمة يمكنهم الله منها.

وأخبر سبحانه أنه مع أهل الإصلاح، وأنه يتولاهم وينصرهم ويعينهم على أهل الفساد والإفساد، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].

وقص الله علينا في كتابه قصة أولئك {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر].

الإصلاح بين فئات المؤمنين مطلوب:

يقول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

فالمصلح بين فئات المؤمنين يلتزم العدل في صلحه، لا ليضرّ هذا، وينفع هذا، ولكن ليقرب وجهات النظر، ويزيل الإشكال، ويحل النزاع، ويوفق بين الطائفتين.

إن الإصلاح بين الناس يسعى فيه ذوو الهمم العالية، والنفوس الطيبة التي تحب الخير للمسلمين، تحب لهم الخير، وتكره لهم الشر، أما أولئك الذين يوقدون نار الفتنة، ويفرقون بين الأحبة، ويسعون بالنميمة، ولا يَدَعون فرصة فيها إلحاق الأذى بالناس إلا فعلوه، فأولئك قلوبهم قلوب مريضة، وقلوب مليئة بالحقد والكراهية للإسلام وأهله.

وإن أعمال المسلم وأقواله هي من أصناف العبادة المأمور بها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن العبادة: الإصلاح الذي له سُبُل وطرق كثيرة، وليس محصورًا فيما تعارف عليه الناس بأنه الإصلاح بين متخاصمَيْن أو متخاصِمِين قلّوا أو كثروا، فالإصلاح له سبل كثيرة، ومطلوب من كل مسلم ومسلمة المساهمة بما يستطيعون من ذلك.

فالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإماطة الأذى عن الطريق، والكلمة الطيبة.

والعمل أيًا كان نوعه فيما يعود بالنفع على أفراد المجتمع أو الحيوانات أو الطيور أو غيرها.

وتعليم العلم وتنمية القدرات، والإصلاح بين الناس.

كل ذلك ونحوه من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله، وينال عليها الأجر من المولى عز وجل إذا صاحبها الإخلاص والصواب، وهي من الإصلاح حقيقة، وهي من عمل المصلحين المخلصين الذين يهمهم شأن أمتهم ومجتمعهم.

ذلك شأن المصلحين الساعين بالخير الذين يسعد بهم مجتمعهم مع سعادتهم هم أنفسهم بإذن الله عز وجل.

وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في أمر الإصلاح بين الناس، فيجعله أفضل من نوافل الصدقة، ونوافل الصيام، ونوافل الصلاة؛ لأن هذه أعمال خاصة بك، وذاك ـ الصلح بين الناس ـ مصلحة عامة، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ"، قَالُوا بَلَى، قَالَ: "إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ"([1]).

نعم، إنها تحلق الدين وتذهب به؛ لأن العناد والخصومة قد تؤدي إلى الكفر، وهذا أمر مشاهد وواقع في مجتمعات المسلمين عندما يذهب لبّ الخصم ولا يردعه إيمانه فهو يُجانب الحق والعدل والإنصاف، ولا يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، بل يتكلم في خصمه بما يسوغ له من إلحاق التّهم به والكذب والبهتان وقول الزور والفحش والبذاءة وسلاطة اللسان ونشر قالة السوء بين الناس كذبًا وزورًا، وتحريض العامة والتحرش بالمسلم لتدعيم باطله، ليخرج ذلك الباطل أمام الناس لابسًا ثوب الحق.

ويقول لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمَوْضِعَهَا؟"، فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: "تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتُقَرِّبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا"([2]).

إن الهلاك لا ينزل بقوم فيهم المصلحون، والمصلحون غير الصالحين، فشتّان بين الصالح في نفسه الذي لا يتعدّى نفعه إلى غيره، وبين المصلح الذي هو صالح في نفسه ساعٍ للإصلاح في المجتمع، فهو مصلح كما ذكر الله عز وجل عن المجرمين المفسدين في الأرض وعن المصلحين أيضًا، وبأن الله لا يهلك قرية كان أهلها مصلحين، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116، 117].

فلنتنبّه لقول الله تعالى: مُصْلِحُونَ، ولم يقل: وأهلها صالحون، فالمصلح أعم وأشمل وأنفع من الصالح في نفسه؛ لأن المصلح يسعى ويعمل جاهدًا لإصلاح الناس وصلاحهم حتى تستقيم الأمور كما أمر الله عز وجل بأن يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهمه أمر المسلمين بعامة.

وذكر الله عز وجل من أوصاف المنافقين وأهل الزيغ والفساد بأنهم مفسدون في الأرض مع ادعائهم الإصلاح وهم على النقيض من ذلك.

قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].

وقال عز شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204-206].

وعلى العكس من هذا الصنف ذكر الله عز وجل بعد هذه الآيات المتعددة عن هذا النوع بعدها مباشرة ذكر في آية واحدة المصلحين الذين يبيعون أنفسهم يبتغون ما عند الله عز وجل.

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].

فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، ومنهم من يكون مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، وشتّان بين الفريقين، وسيجازي الله كلاًّ بعمله، ويوفّيه حسابه، وهو يعلم سبحانه المفسدين من المصلحين.

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والذي يتمسك بالكتاب والسنة ويؤدي ما أوجب الله عليه ويقوم به قولاً وعملاً واعتقادًا يُسمّى مصلحًا، ولن يضيع أجره عند الله، وسوف يجزيه الله أحسن الجزاء.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"([3]).

والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ"، حينما قال بأن على كل مفصل في الجسم صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس، وذلك شكرًا لله عز وجل على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، فجعل الله طرق الخير متعددة وكثيرة من أجل كسب الحسنات بالأعمال الصالحة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة.

فتلك من الأشياء التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات التي يُزكّي بها الإنسان عن مفاصله وعظامه وجسمه كله، ويحمد بها ربّه لأداء كل عضو من أعضائه وظيفته، ذلك هو الإصلاح بين الاثنين والحكم بالعدل لا بالجور والظلم، وكان البدء به في أول الصدقات والحسنات وعمل الخيرات لأهميته.

ومِن جهل أو تجاهل الظالم لنفسه وغيره: استطالته في عرض أخيه، وتدبير المكائد، ونصب شباك الباطل في الخفاء، وما يبيّته ويضمره هو وأهل الباطل الذين يدفعونه إلى الشر دفعًا ليكون هو المنتصر، وليظهر أمام الناس بأنه صاحب الحق، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب ما حرم الله، كل ذلك جعله يقدم على هذه الأفعال المشينة لما غاب عنه الخوف من الله ومن أليم عقابه، وما علم أنه وأعوانه الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأن الله لهم بالمرصاد، هذا شأن من يبيّت سوءًا، ويضمر عداوة، ويحمل بين جنبيه قلبًا أسود لاختلال إيمانه وضعف عقيدته وقلة حظه من الفقه في دينه.

وهذه العلاقة والصفة عدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من علامات النفاق حين عدّد صفات المنافق وقال: "وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ"، مع أنه ارتكب كل صفات النفاق التي عدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث وهي: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ"([4]).

أما المؤمن الحق فلا يحمل الغل والحقد والبغضاء لسلامة صدره من ذلك، قلبه أبيض ناصع، منصف فيما يقول ويدلي به، سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سره وعلنه، لا يهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يردعه عن الوقوع فيما حرم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد.

ولنتدبر هذه الآية الكريمة وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

التي تُنال بها الدرجات الرفيعة بالحصول على الأجر العظيم الذي وعد الله به في نهاية الآية {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ولنتأمل فيها وفي غيرها، ونعمل بالإصلاح بين الناس.

مع أن بعض المفسدين يسعون بالوشاية والوقيعة بين الناس والتحريش بينهم، ولا يستريحون ولا يهدأ لهم بال إلا على هذا الحال وأمثاله، فهم مثل الطُّفَيْلِيّات والميكروبات والجراثيم التي لا تعيش ولا تتكاثر إلا في محلات وأماكن العفن والقذارة والأوساخ والفساد، فكيف حالهم إذا وقعت الخصومة؟.

إنها حال مخزية، من الاشتغال بالفتن والإِحَنِ بعضهم مع بعض، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، أي: لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الخفاء إلا إذا تناجوا في صدقة يعطونها سرًا، أو أمرٍ بطاعة الله عمومًا، أو إصلاح بين المتخاصمين في الدماء والأموال والأعراض وكل ما يقع فيه التداعي بين الناس، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، أي: من فعل هذه الخصال الطيبة بعدما أمر بها الناس فجمع بين الأمر بالخير وفعله مخلصًا لله في ذلك فله الأجر العظيم عند الله تعالى.

ومن أهم أنواع الإصلاح بين الناس:

الإصلاح بين الطوائف المقتتلة من المسلمين صغرت أم كبرت في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الدول.

وواجب المؤمنين السعي للإصلاح بين المتقاتلين من أجل القضاء على أسباب الفتنة بالعدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ لكي يستتبّ الأمن، وتُحقن الدماء، ويؤخذ على يد المعتدي، ويكف عن الظلم والتعدي على غيره فيما بعد، ويتم إنصاف المُعْتَدَى عليه، ولئلا تضعف شوكة المسلمين أمام أعدائهم، وعندها يتربصون بهم الدوائر.

قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].

ووردت أحاديث عدة حول الأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم والإصلاح بين المتخاصمين، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَيَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ"([5]).

إن مجتمعات المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى رجال مصلحين في شتى المجالات، وللإصلاح في الخصومات خاصة يحتسبون أجرهم على الله، رغم أنهم مأمورون بذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليعيش أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة في حالة من السعادة والطمأنينة التي يُغبطون عليها بين الأمم.

إن واقع المسلمين إلى الآن محزن ومخجل ويؤسف له، ولو عرف من يريد الدخول في الإسلام واقع التعامل بين المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلاد لما دخل في الإسلام، ولابتعد عنه نتيجة العداوة والبغضاء والمكر والخداع والمراوغة والنفاق والإفساد المنتشر بين المسلمين.

إن واجب المؤمنين عدم التخاذل وعدم التكاسل وعدم التخلي عن الإصلاح.

فما على المصلحين بين الناس على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول إلا أن يحسنوا النية والقصد للإصلاح، ويحكموا بالعدل، ولا يحيفوا كما أمرهم الله عز وجل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً} [النساء: 58].

وكما ورد في نهاية الآية المرغبة في الإصلاح قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

إن أي مصلح كائنًا من كان ينبغي له أن يعرف طرق الإصلاح، ويسعى بكل رَوِيّة وإخلاص، يقول الحق ويصدع به، ويحذر من العواقب الوخيمة عند الاستمرار على الباطل وما ينتج عنها، لا يحابي ولا يجامل ولا يداهن، إخلاص النية ديدنه، وهدفه ابتغاء مرضاة الله.

ومما يندى له الجبينُ حال بعض الناس المفسدين في الخفاء، وهو الفرح بتلك الخصومات والمنازعات، يوقد نار الفتنة، ويسعى للتحريش بين المتنازعين، ويحرّض على النزاع والشقاق، ويلقّن كل طرف ما يتخذه من الباطل والحيل الشيطانية ضد الطرف الآخر، زاعمًا الإشفاق والمحبة والإخلاص، فذلك من حزب الشيطان وجنده الخاسرين.

والأسوأ من ذلك الذين يسعون للتحريش والإفساد لإيجاد المشاكل بين الناس أو التحريض وإيقاد نار الفتنة وصب الزيت على النار كما يقال قديمًا، وحديثًا صبّ البنزين على النار، والتمتع بمناظر الصراع والفتن في المجتمع، وقد يفعل أحدهم فعلته الخبيثة بقول أو فعل ويلصقها بفلان من الناس، أي أنه يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وهذا أمر ملموس وواقع في المجتمعات المعاصرة، ولكن الواجب التنبه لأولئك المفسدين.

ثم عن من الواجب الشرعي على من نُقل إليه عن أخيه المسلم أو ألصق به تهمة للإيقاع بينهما أن يتثبت، ويصل إلى حقيقة الأمر بدلاً من الظنون والشكوك التي سعى بها بل عملها المفسد بنفسه للإيقاع بين الجارين أو المتحابيْن المتوادين وإن كانا بعيدين في السكن، فهذه الأعمال الشنيعة الشيطانية منتشرة في المجتمعات، فيجب أخذ الحيطة والحذر من هذه الجراثيم القاتلة في المجتمع، ويكون الخلاص منها صعبًا إذا تركت؛ فسوف يستفحل أمرها ويعظم شرها.

قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

وقال عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

والإصلاح يبدأ من أنفسنا فإذا صلحت استطعنا إصلاح غيرنا فالله الله بتقوى الله عز وجل فإن لن يغير حالنا وينجينا إلا إذا بادرنا بإصلاح أنفسنا قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

إن مكافحة الفساد ومسيرة الإصلاح لا تكتمل إلا إذا تعاون الجميع:

مع من هو أكبر منا حكمة وروية.

ومع من هو أصغر منا فتوة وشباباً.

فإن تكامل التطلعات والآمال مع الخبرة والروية هو الذي يعطي أفضل النتائج، فمسيرة الإصلاح تبدأ وتنتهي عند الشباب، فَهُم القوة الضاغطة لمكافحة الفساد؛ لكونهم أول ضحاياه، والأكثر تضرراً من نتائج الفساد.

فإذاً لن يكون هناك إصلاح بلا محاربة للفساد، ولن تستقيم أمور إلا إذا كانت هناك عملية التكامل والتوازن فيما بين حكمة الشيوخ واندفاع الشباب وحماسهم.

ألا فلندعو جميعاً ولنتعاون على هذا التكامل والتنسيق بين جهود الكبار والشباب والصغار؛ لأن المجتمع بأكمله هو المطلوب منه أن يعيش حياة الرخاء وحياة السعادة وحياة الأخوة وحياة الألفة وحياة الخير والعطاء.

عندما نتحدث عن الإصلاح والفساد، نتحدث عن أولئك الذين يحبون أن يكون المجتمع قوياً بأبنائه، عزيزاً بقوة شبابه؛ فهم المصلحون، ولا نتحدث عن أولئك الذين لا يرغبون بتطوير أنفسهم، ولا يرغبون بتطوير ما هم عليه، وربما كان ما هم عليه فساد وإفساد.

اللهم إنا نسألك أن تصلحنا وتصلح بنا، أن تصلحنا وتصلح أبناءنا ومجتمعنا يا أكرم الأكرمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بخير وإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

 

([1] ) أخرجه أحمد (6/444، رقم 27548)، وأبو داود (4/280، رقم 4919)، والترمذى (4/663، رقم 2509)، وقال: صحيح. وأخرجه ابن حبان (11/489، رقم 5092).

([2] ) أخرجه الطيالسى (ص 81، رقم 598، ص 105، رقم 232)، والطبرانى (4/138، رقم 3922) قال الهيثمى (8/79): فيه ابن عبيدة وهو متروك. وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان (7/490 ، رقم 11094).

([3] ) أخرجه أحمد (2/316، رقم 8168)، والبخارى (3/1090، رقم 2827)، ومسلم (2/699، رقم 1009)، وابن حبان (8/174، رقم 3381).

([4] ) أخرجه أحمد (2/189، رقم 6768)، والبخارى (1/21، رقم 34)، ومسلم (1/78، رقم 58)، وأبو داود (4/221، رقم 4688)، والترمذى (5/19، رقم 2632) وقال: حسن صحيح. والنسائى (8/116، رقم 5020).

([5] ) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.

عدد القراء : 1168