إتقان العمل ثمرة الإحسان
يفترض أن تكون شخصية المسلم إيجابية، مقبلة على الحياة، متفاعلة معها، وذلك لأنه مطالب باستيفاء شروط الخلافة في الأرض والسعي في مناكبها عبادةً لله، وإعماراً للأرض، واستفادة مما فيها من ثروات وخيرات لا يصل إليها إلا بالعمل والعمل الجاد.
قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وجاءت مطالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقن الإنسان عمله، بقوله: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"([1]).
فالإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة، وهي التي تحدث التغيير في السلوك والنشاط، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام].
وتبدأ عملية الإتقان في تعلُّم المسلم للصلاة وأدائها بأركانها وشروطها التي تدرّب المسلم على الإتقان المادي الظاهري، بل على الإتقان الداخلي النفسي المتمثل في مراقبة الله عز وجل والخوف منه، فهل وصلنا إلى ذلك في مجتمعنا ليتم الإتقان في أمور الحياة كلها؟ فردية أو جماعية؟ وهل سبب تخلفنا وتأخرنا يرجع إلى فقدان هذه الخاصية؟ وما قيمة الشعائر والوسائل التعبدية التي لا تغير في سلوك الإنسان ونمط حياته ووسائل إنتاجه؟
إننا نفتقد التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية التي تجعل عمل الإتقان في حياتنا مهارة داخلية تعبر عن قوة الشخصية التي تكسب الإنسان الاتزان والثقة والاطمئنان والتفرد إلى جانب اكتساب المهارة المادية والحركية.
ونحن مطالبون بترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية في واقعنا وسلوكنا؛ لأنها تمثل معيار سلامة الفرد وكمال شخصيته، كما أننا مطالبون ببذل الجهد كله في إتقان كل عمل في الحياة يطلب منا ضمن واجباتنا الحياتية أو التعبدية.
فالإتقان يكسب الأمة الإخلاص في العمل لارتباطه بالمراقبة الداخلية، كما إنه يجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء، فكثير من الناس يتقن عمله ويجوّده إن كان مرَاقباً من رئيس له، أو قصد به تحقيق غايات له أو سعى إلى السمعة والشهرة.
ظاهرة حضارية:
الإتقان هدف تربوي، وظاهرة سلوكية تلازم المسلم في حياته، والمجتمع في تفاعله وإنتاجه، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً بل لا بد أن يكون صحيحاً ومتقناً، حتى يكون الإتقان جزءاً من سلوكه الفعلي.
والإتقان في المفهوم الإسلامي ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة، وتنعشها.
ولعلنا نلحظ أن من أسباب التخلف في المجتمعات الإسلامية افتقادها خاصية الإتقان كظاهرة سلوكية وعملية على صعيد الأفراد والمجتمعات، وانتشار الصفات المناقضة للإتقان كالفوضى والتسيب وعدم المبالاة بقيمة الوقت واختفاء الإحساس الجماعي والإهمال والغش والخديعة.
وقد انعكس هذا في فقدان المسلمين للثقة في كل شيء ينتج في بلادهم مع ثقتهم في ما ينتج في غير بلاد المسلمين.
وصفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلى عباده، قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]
ولقد عُبِّر عن الإتقان بكلمة الإحسان أيضاً، غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان؛ بينما الإحسان قوة داخلية تتربى في النفس، وتترجم إلى مهارة يدوية.
فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلح الذي ركز عليه القرآن الكريم واهتمت به السنة النبوية.
وقد وردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثاً وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
والإحسان ثلث الدين، وهو عمل الحسن أو الأحسن كأننا نرى الله، فإن لم نصل إلى ذلك فعلى الأقل الإيمان بأنه يرانا، وهذا هو تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم للإحسان بأن "تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"([2])، ثم قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"([3]).
يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93].
ورغم أن المسلم مطالب بالإحسان في العمل والحياة، غير أن هناك تفاوتاً في مجالاته، حيث ركز القرآن الكريم، في طلب الإحسان في أمور منها:
الإحسان إلى الوالدين، مع دوام الإحسان مع الإنسان، يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
فالإحسان بنص هذه الآية انفتاح على قطاعات كثيرة في المجتمع، يطالب المسلم بالتعامل والتفاعل معها على أساس من التقوى والحرص على الجماعة حتى يكون الجهد المبذول في سبيل الإحسان إليها ذا قيمة اجتماعية يراعى فيها رضاء المولى عز وجل لقوله تعالى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يربط بين الإتقان والإحسان فيقول: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"([4]).
فالإحسان مرادف للإتقان، وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزرع بذلك الرحمة في قبل المسلم ويكسبه عادة الإتقان في العمل حتى ولو لم يكن للعمل آثار اجتماعية كالذبح الذي ينتهي بإتمام العمل كيفما كان.
وقد اختصر القرآن الكريم الصورة الإنسانية المثالية في آية واحدة؛ يقول تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة83]، وللوصول إلى شخصية تتحقق فيها معاني الإحسان فإن الأمر يحتاج إلى مجاهدة شديدة للنفس، منها قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
ولأن الإحسان مجاهدة وجهاد يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت 69].
والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها؛ إذ إن الحياة لا تنمو ولا تزدهر، والحضارات لا تبنى ولا تتقدم إلا بالإحسان، إحسان التخطيط وإحسان التنفيذ وإحسان التقدير.
والمسلم مطالب بأن يكون الإحسان هدفه وغايته؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان قولاً وعملاً، يقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، ويقول تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121].
وكذلك فإن الإسلام توجه في تربيته إلى مجتمع العمل ليكون متقناً، وجعل الإسلام العملَ هو المعيار الأوحد لما يكسبه الإنسان في الحياة، وجعل إتقان العمل عبادة تحبب العامل إلى الله، وتحقق له سر استخلافه في الأرض ووجوده في الحياة، فالمجتمع العامل هو المجتمع المنتج الذي يعتمد أفراده في كسبهم على جهدهم العضلي والفكري، لذلك دعا الإسلام إلى العمل وباركه وجعل له جزاءً في الآخرة مع جزاء الدنيا.
كما أن الإسلام يحرم استغلال الإنسان، وسلب جهده وطاقته، كما أكد الإسلام على حق العامل في ملكية أجره وحمايته والوفاء له والتعجيل بإعطاء الأجير حقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"([5]).
بل جعل الإسلام كل عمل يقوم به المسلم طاعة لله إذا قصد مصلحة البشر وأتقنه وأخلص فيه، وجعل العمل عبادة وقربى يعتبر من أعظم الدوافع لبذل الجهد وكثرة الإنتاج.
وفي المقابل حرم الإسلام البطالة وعابها فجعل اليد العليا خيراً من اليد السفلى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ([6]).
وحض على العمل، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"([7]).
والمشكلة في حياة المسلمين أننا نقر هذه المبادئ نظرياً ونحدث عنها كثيراً، ولكننا مع الأسف لا نترجمها في واقع مجتمعنا الذي يتميز بضعف الإنتاج، والتهرب من العمل، وبعدم الإتقان.
فما أحوجنا إلى تغيير جذري في مفاهيم العمل وأهمية الإنتاج، وذلك بالتوعية والتوجيه المكثف لأهمية الإتقان لكل عمل نقوم به.
ومفاهيم الإنتاج في المستقبل والتعليم العام والجامعي يدلان على أننا لا نسعى لتغيير هذا المجتمع إلى الأفضل والأحسن، وسنظل عالة على غيرنا نستهلك ما يصنعون وينتجون، ونمارس فضيلة المناقشة والجدال والتنظير والتجديد للشعارات والأماني وأحلام اليقظة التي أدمنها مجتمعنا.
والمجتمع المتعلم حقيقة هو المجتمع الذي يبشر بالحضارة والنظام والرفاهية والتخطيط والإنتاج والازدهار، وهو المجتمع الخالي من الفوضى والتسيب، والمبرأ من الأمية والجهل والخرافة، ومن كل مظاهر التخلف الحضاري والعلمي، وهو المجتمع الذي يربط الأسباب بالمسببات، والنتائج بالمقدمات، ويكتشف قوانين الله في الكون، ويحسن التعامل معها والاستفادة منها.
[1]) ( رواه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها في مجمع الزوائد، كتاب الإيمان، 4/98، والجامع الصغير للسيوطي، 1/177.
[2]) ( متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، (48)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، (9).
[3]) ( متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، (48)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، (9).
[4]) ( رواه مسلم، باب الأمر بإحسان الذبح، (3615)، وأبو داود (2432)، والترمذي (1329).
[5]) ( سنن ابن ماجه، (2434).
[6]) ( موطأ الإمام مالك، (1586).
[7])) البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستحقاق في المسألة، (1378).
عدد القراء : 2393