shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

الإيثـار

الإيثـار

11 ذي الحجة 1412 هـ                                                           12 حزيران 1992

العيد في الإسلام اجتماع على الوداد والمحبة، وتناصر في سبيل البر والتقوى، وطمأنينة في النفس تبعث على نبذ الأحقاد ومحو الضغائن، ومشاركة الفقير والمسكين فيما يجد الغني من يسر ونعمة، والعيد نية صالحة في القلب يتمنى معها المؤمن الخير لكل الناس، ويكون ترجمان ذلك قوله لأخيه، كل عام وأنت بخير، فيجيب الملك: ولك مثل ذلك.

ولقد أحسن السلف الصالح بهذه المعاني السامية للعيد، ووجدها في تصرفاتهم، وذاقوا حلاوتها، وهذا ما حصل مع الإمام الواقدي محمد بن عمر بن واقد السهمي (ولد سنة 130 هـ - وتوفي سنة 207 ﻫـ)، يحدثنا عن ذلك فيقول بلفظه وبلسان حاله:

أطبق الظلام على مدينة بغداد، ولم يبق في الشهر القمري إلا يوم أو يومان، وجلس ثلاثة رجال في الغرفة بعد منتصف الليل. وقد علت أصواتهم، واحتدموا في نقاش عقيم، كل منهم ينحي باللائمة على الآخرين، وقد تحلقوا في وسط الغرفة حول كيس صغير ملقى على الأرض فيه دراهم، وتشتد الخصومة.

ويترك الواقدي، - صاحب الدار - صديقيه في الغرفة، ليخرج منها وقد ناء ظهره بثقل الهموم التي يحملها، ويتجه التي يحملها، ويتجه إلى غرفة أخرى، يلتمس فيها شيئاً من الهدوء، يساعده في الاحتيال لمخرج من المأزق، وهناك أسند ظهره واسترخى، ثم راح يستعرض في ذاكرته تسلسل حوادث  المتأزمة.

أجل إن زوجتي هي السبب، فهي التي أذكرتني بالأولاد، وما ستؤول إليه حالهم من التعاسة والبؤس، إن هم مر عليهم العيد، وليس لديهم ما يلبسونه أسوة بأولاد الجيران، ولولا ذلك لما صرت إلى ما أنا عليه اليوم، ولكن الحق معها فالأولاد في حال يرثى لها، ولم يبق للعيد إلا أيام، فنحن في أنفسنا نصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء، فقد قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم سوف يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، لا، إنها المسؤولة، أولييس هي التي حرضتني عندما قالت: فلو اختلف شيء تصرفه في كسوتهم.

ولذلك فإنني استجبت لطلبها، وأرسلت إلى أحد صديقي هذين أحمد الهاشمي، أسأله التوسعة عليَّ، وكان أن وجه إلى صديقي هذا كيساً مختوماً فيه ألف درهم.

وما استقر قراري.. حتى وصلتْ إليّ دمعة من وفاء بن رافع الصديق الثاني يشكو فيها مثل ماشكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بماله.

ثم لم ألبث أن خجلت من زوجتي، وخشيت أن تسألني عما صنعت بكيس الدراهم، فخرجت إلى المسجد فأقمت فيه إلى مابعد منتصف الليل، وما أن عدت إلى البيت حتى وجدت زوجتي بانتظاري، فلم أجد نفسي إلا ملزماً بشرح الأمر لها، على حقيقته بعد أن قدمت لها بمقدمة ممن الأخوة التي بيني وبين صديقي وفاء، أو بينت لها أن مقتضى الأخوة والإيثار أن أدفع له بالكيس.

ولكن موقفها كان على غاية من الروعة، لقد باركت عملي وواست كربي، وخطفت عني الهموم وقالت نستطيع أن نتدبر الأمر بما عندنا من بقايا طعام مدخر، وثياب قديمة نجري عليها بعض التحسينات أما صديقك، فلو لم يكن بأمس الحاجة لما أرسل إليك يطلب المساعدة، وهذه الأيام أيام عيد، وما عبد الله بأحب إليه من جبر الخواطر.

وبينما أنا مع زوجتي، نعيش أحلى ساعة من عمرنا، نتزوق حلاوة طعم الإيثار، إذ طرق بابنا، من الطارق في هذا الوقت المتأخر؟ وأسرعت في فتح الباب، فإذا صديقي الهاشمي واقف هناك، وما راعني إلا أنني رأيته واجم الوجه، لاينبث ببنت كلمة، فابتدرته بالتحية، يا الله ماذا حدث؟ ماذا فعلت مع هذا الصديق الحميم الذي من عليّ في هذه الليلة وأعطاني كيس الدراهم، ونظرت إلى يديه فإذا به يحمل كيساً من الدراهم يشبه الكيس الذي مر ببيتي مرور الكرام قبل ساعات.

وطلبن من صديقي أن يتفضل بالدخول، ومن مدخل الغرفة المجاورة ألقى الصديق بكيس الدراهم في وسط الحجرة، قائلاً: اصدقني الخبر عما فعلته فيما وجهت إليك، فحرت في أمري ولم أزد على أن عرفته الخبر على جهته، وما أروع ذلك الموقف عندما رأيت وجه صديقي المتقطب تنفرج أساريره، غير أني لم أفهم من ذلك شيئاً.

ولما سألته عن جلية الأمر أنشأ يقول: "إنك وجهت إليّ - تطلب عوناً - وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وبت ليلتي ماأملك من الدنيا شيئاً أصلح به أمر عيالي وأولادي، ولاسيما أن العيد قد صار على الأبواب، فكتبت إلى صديقنا وفاء أسأله المواساة ، وما راعني إلا أنه وجه إليّ كيسي بخاتمي عليه، ثم قال لي: هل فهمت؟ فقابلت ابتسامته بمثلها، فقلت له:

إذن ما كاد وفاء يتسلم كيسك الذي بعثتُ أنا به إليه، حتى كنت أنت قد أرسلت إليه تطلب المواساة، وقبل أن يفتحه أرسله إليك بكل ما فيه، أليس كذلك؟. أجل.

لقد دار هذا الكيس بيننا نحن الثلاثة، ثم عاد إليَّ، وها أنا ذا أعيده إليك فخذه ولتطب به نفساً، فابتدرته أقول: والآن ماذا عساك تفعل بهذه الدراهم؟ فقال:

- والله لا يدخل كيس الدراهم هذا بيتي مرة أخرى، - قلت: وكذلك أنا.

- بل أنت وعيالك أشد حاجة، وما ينبغي للإمام الواقدي أن يكون في ضيق أبداً.

قلت: بل لا ينبغي لتاجر مرموق مثلك أن يرى الناس عياله أيام العيد في وضع مزرٍ.

فلذنا بالصمت،  المخلص، وكان أن وجدت المبتغى، فقلت لصاحبي: أن لاندعو صديقنا الثالث وفاء، وحضر الرجل وأطلعناه على القضية، فالتفت يقول: وهل     أن آخذ كيس الدراهم؟ وهل يجوز لي أن أتنعم  أنا وعيالي  بهذا  المال، وأترك كلاً منكما صفر اليدين ؟. لا.

وازداد الوضع حرجاً وتعقيداً، وخرجت من دائرة هذا النقاش  العقيم لعلي أجد في انزوائي بهذه الغرفة المجاورة ماأخفف به عن نفسي.

دخلت زوجتي عليّ وسألتني: مالك تجلس هنا وتترك ضيوفك وحدهم؟. قلت لها: دعيني فإنني أفكر في مخرج من المأزق الذي أوقعتينا فيه، ورحت أشرح لها الأمر. وماأسرع أن طرحت أمامي الحل الذي رأيته مناسباً، وخلته مرضياً لجميع الأطراف.

فقمت متعجلاً إلى رفيقيّ، فقلت: ليس هناك من حل مناسب إلا أن نقسم هذا الكيس بيننا ثلاثاً، وبذلك يمكن كلا منا أن يصلح شأن عياله ريثما يبعث الله لنا رزقاً آخر.

فقال وفاء: حقاً أنه لامناص لنا من القبول لهذا العرض المنطقي.

غير أن صديقنا الهاشمي صاح قائلاً: لا والله لن أقبل بهذا الرأي، لن أوافق على ذلك إلا إذا قبلت أنت أن تخرج قبل ذلك مئة درهم تكون لزوجتك التي كانت خير معين لك على فعل الخير. فثنّى وفاء على كلام الهاشمي، ووجدتني مضطراً للقبول به.

وقام كل منا في اليوم التالي يصرف الدراهم التي أصابها، ويسارع في استدراك حاجيات بيته وأولاده قبل أن يحل العيد. ولم يمس المساء حتى لم يبق معي من  الدراهم شيء.

وبعد صلاة العشاء، طُرق الباب. واستدعيت إلى الخليفة المأمون فخففت مسرعاً للقائه، وأنا أفكر فيما عساه يكون سبب تعجل الخليفة في طلبي، فقلت في نفسي لعل أمراً مهماً من أمور المسلمين يشغل بال الخليفة المأمون، ولم يخطر ببالي أن يبادرني الخليفة بالسؤال عن حقيقة ماجرى بيننا عند الأصدقاء الثلاثة، فعرفت أن  الخبر قد وصله، فسردت عليه القضية كما حدثت.

فسُرّ الخليفة لهذه الأخوة الكريمة التي تربط بيننا وانشرح صدراً لما بدر منا من فضائل الأعمال التي دعت إليها الشريعة الإسلامية الغراء ، وأمر لنا المأمون سبعة آلاف دينار، لكل واحد ألف دينار، وللمرأة ألف دينار، مكافأة منه على مابدر منا من إيثار، وعلى مابدر من زوجي من عون لي على فعل الخير.

وبتنا ليلتنا على تكبيرات العيد.. وقد شعر كل منا أنه يعيش في عيدين اثنين لاعيد واحد، لأننا أتينا على المعنى الحقيقي للعيد، عيد يشاركه فيه جميع إخوانه المسلمين، وعيد يشاركه فيه أخوان اثنان فقط من بين سائر الناس، وفرحتنا بالعيد الثاني أعظم وأشد.

فما العيد إلا فرحة السعادة التي تغمر المسلمين جميعاً في أرجاء الأرض.

وما العيد إلا أن يحس المسلم بسعادة أخيه المسلم.

وأنى للمؤمن أن يعيش فرحة العيد إذا كان أخوه في ضنك وشدة؟.

وكيف يرضى لأولاده أن يرتدوا أجمل الثياب إذا كان أولاد أخيه لايجدون من ذلك شيئاً.

كيف يرضى أن يمتلأ منزله بألوان الحلوى وأطايب الطعام، وجاره لايكاد يجد مايقوم بأود نفسه وعياله في حين أن النبي  يقول: {ماآمن بي ساعة من نهار من أمسى شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم}، وهل يرضى أحدنا أن يتجرد من الإيمان؟.

ليس العيد في الحقيقة إلا سعادة  نفسية، ولن تكون نفس المؤمن سعيدة إلا إذا قامت بما يرضى رربها.

ولابد من التغلب على شهوات النفس الأمارة بالسوء، للوصول إلى مرتبة الإيثار: أن يؤثر الإنسان أخاه على نفسه ولو كان به حاجة ماسة.

اللهم ألهمنا الثبات على درب السداد والرشاد. دررب التقوى والطاعة، درب الإيمان الحقيقي.

عن أنس بن مالك، قال: قدم رسول الله  المدينة وللناس يومان يلعبون فيهما، فسأل عن هذين اليومين، فقالوا: يومان نلعب بهما في الجاهلية، فقال: {إن الله قد أبدلكم خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر}.

عدد القراء : 981