الأم
الأم
مخلوق محبوب، قويةٌ في تحمّلها، رقيقة في مشاعرها، مرهفة في حسّها، تتملك الرحمةُ والعطفُ كلَّ تصرفاتها، هي جنديّة حيث لا جندَ ولا قتال، حارسةٌ ساهرةٌ حيث لا ثغورَ، ساهرة تراقب بلا أجر، مخلِصة في عملها، ولا يخلص في البشر مثلُها أحد.
حديثنا اليوم عن البطلَة الصامدة، المخلصة المجاهدة، حديثنا اليوم عن نبع الحنان والشفقة ووعاء الرحمة والرأفة، حديثنا اليوم عن أصدق محب، وأوفى صديق وأنصح رفيق، حديثنا عن التي اهتم الشرع الحنيف بها، وحثّنا على حسن معاملتها، والإخلاص في برها، حديثنا عن الأم.
روى الإمام البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟
أي: مَن مِن الناس يتأكّد علي حقه في التقدير والتوقير والاحترام؟
مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في مراعاة مشاعره وأحاسيسه؟،
مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في رعايته وخدمته والاستجابة لطلباته وتنفيذ رغباته؟،
مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في الشفقة عليه والإحسان له؟
من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك".
حُسن الصحبة بالأم لا يقل مع مرور الزمن بل يزداد، الأخلاق مع الأم لا تتغير مع تغير الأحوال، المعاملة مع الأم لا تتبدل مهما طال بها العمر والزمان، البر بالأم لا يذبل بعد عجزها وضعفها، بل يزداد نضارة.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أَبرُّ؟ قال: "أمك"، قال: من أبرُّ؟ قال: "أمك"، قال: من أبر؟ قال: "أمك"، قال: من أبر؟ قال: "أباك ثم الأقرب فالأقرب".
هذه هي وصية الحبيب في الأم، فهي أحق الناس بالصحبة، وأولى الناس بالبر، وأجدر الناس بالشفقة والإحسان.
هكذا علمنا ديننا، وهذه هي وصية ربنا لنا: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
فهل يجوز للأبناء إذا استوى عودهم واشتدّ ساعدهم أن يقابلوا الإحسان بالإساءة والرحمة بالقسوة والعناية بالإهمال؟!
هل يجوز للأبناء أن ينسوا معروف الأم ولا يذكروا جميل صنعها ولا يكافئوا عظيم إحسانها؟!
هل يجوز للأبناء أن يقلبوا ظهر المجن على أمهاتهم بتأثير من زوجاتهم أو جريًا خلف دنياهم أو سعيًا على شهواتهم وأهوائهم؟!
قالت إحدى الأمهات شاكية: "حملته وهنًا على وهن، لم أنم فيها ولم يغمض لي جفن، نالني من الألم ما لا يصفه قلم ولا يتحدث عنه لسان، رأيت بأمّ عيني الموت مرات عديدة حتى خرج إلى الدنيا، فامتزجت دموع صُراخه بدموع فرحي، مرّت سنوات من عمره، وأنا أحمله في قلبي، أسهرت ليلي لينام، وتعبت نهاري ليسعد،
وبعد أن اشتدّ عوده واستقام شبابه ودخل حياته الزوجية الجديدة تقطع قلبي حزنًا على فراقه، فقد تغيّر ابني وما عاد الذي أعرفه، اختفت ابتسامته، وغاب صوته، وعبس محياه،
لقد أنكرني وتناسى حقي، ولم يعد يأنس حتى بزيارتي، تمر الأيام أراقب طلعته وأنتظر بلهف سماع صوته، ولكن الهجر طال، وها هي الليالي قد أظلمت والأيام تطاولت، فلا أراه ولا أسمع صوته، علما أني لا أطلب منه إلا القليل،
أريد منه أن يجعلني في منزلة أطرف أصدقائه عنده، أريد منه أن يجعلني إحدى محطات حياته الأسبوعية أو الشهرية لأراه فيها ولو لدقائق".
قد جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي : أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها".
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإن الجنة تحت رجليها".
يوحي بضرورة التذلّل والتضرع والتمسكن بين يدي الأم مهما بلغ الواحد منا من منزلة أو منصب أو جاه أو مال في هذه الدنيا.
فهذا محمد بن سيرين التابعي الجليل والفقيه والمحدث كان إذا كلّم أمه كان يتضرع, قال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمّه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها.
هذا البر وأكثر منه لا يساوي فضل الأم ولا يجازي صنيعها، فلا يعجبن أحد ببره بأمه أو يتعاظم ما يسديه لها.
روى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر شهد رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، ويقول:
إني لها بعيرُها المذلّلُ…إن أذعرت ركابُها لم أذعرِ
الله أكبر، ذو الجلال الأكبرِ، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا، ولا بزفرة من زفراتها.
هذه هي الأم، وهذا فضلها، وهذا هو البر ومكانته.
أيها الأخ الحبيب، أيها الأخ المؤمن، إذا كانت والدتك صحيحة نشيطة فعليك باحترامها وتقديرها وطاعتها والاستجابة لأمرها وتنفيذ كلامها قبل أن يرتدّ إليها طرفها، ولا تتهاون أو تتكاسل فتكون عاقًا فتمسك النار.
وإذا كانت والدتك كبيرة مريضة عاجزة ليس أمامك إلا الصبر عليها وخدمتها، والإحسان إليها والتذلّل لها والتضرع بين يديها، ولا تتأفّف أو تضجر من وجودها، واحرص على أن تفارق الدنيا وهي راضية عنك، فإنها أوسع الأبواب المؤدّية إلى الجنة،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة" رواه مسلم.
وإذا كانت أمك ميتة فعليك ببرها؛ وذلك بإنفاذ عهدها والدعاء لها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
عدد القراء : 1041