shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

اقتصاديات الغنى في الإسلام

اقتصاديات الغنى في الإسلام 

تسعى الشريعة إلى تحقيق الغنى والكفاية، وتوزيع الثروة وتداولها بين الناس لا أن يكون المال الذي به قوام الحياة الدنيا، منحصراً على فئة الملاك وحدهم، والفقر والحرمان من نصيب الكثرة الساحقة في المجتمع، فليس من غايتها أن يتمول بعض أفراد المجتمع تمولاً فاحشاً ويبقى أغلبهم مفتقرين، لأن ذلك تأباه سنن الاقتصاد السليم، وتعاليم الدين الحنيف، لقوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7].

إذ إن القضاء على الفقر وتضييق الفوارق الاقتصادية القائمة بين أبناء الأمة، أو بعبارة أخرى الحد من طغيان الأغنياء والرفع من مستوى الفقراء، وإخراجهم من دائرة الحاجة إلى دائرة الكفاية، هدف هام من أهداف العدل الإلهي في المجال الاقتصادي، ليتحرر الإنسان من الطغيان المادي، المؤدي إلى الترف والهلاك كما في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} [الإسراء: 16].

ومن مذلة الفقر والحاجة والحرمان، التي تقف دائما شبحا مخيفاً يهدد أمن المجتمع واستقراره، ليعيش جميع أفراده حياة آمنة، متقاربة الجوانب، لا تتسع للترف والثراء الفاحش في جانب والفقر والعوز الشديد في جانب آخر.

وفي سبيل ذلك أوصدت الشريعة كل طرق الظلم، والغش، والإضرار بالمجتمع التي قد تؤدي إلى احتكار الثروة بصورة هائلة، على حساب فقر وحرمان الأغلبية الساحقة، كما شرعت العديد من الوسائل الكفيلة بمقاومة الفقر والحاجة وتحقيق الغنى والرخاء في مجتمع الإسلام، والتي تؤدي حتماً إلى تداول الثروة في ثنايا المجتمع ليعم نفعها الجميع، ولا يقتصر تداولها على الأغنياء دون الفقراء.

يتمثل الهدف من البحث محاولة بيان الوسائل الشرعية الكفيلة بتحقيق اقتصاديات الغنى في الإسلام، أو بمعنى آخر بيان دور المنهج الإسلامي في تحقيق الغنى في  المجتمع المسلم.

دور العمل في تحقيق اقتصاديات الغنى

لقد دعا الإسلام في البداية إلى كسب المال بالجهد والعمل، واعتبر ذلك من أزكى وسائل الكسب والتحصيل، ما لم يكن في محرم أو شبهة، أو ينتج عنه ضرر، فقد قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك: 15].

وتبين السنة النبوية أن أشرف وسائل الكسب العمل، فها هو النبي r يقول: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"([1])،

وعن المقدام بن معد يكرب الزبيدي، عن رسول الله r قال: "ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده. وما أنفق الرجل عـن نفسه وأهله وولده وخادمه فهـو صدقة"([2]).

وفي الحديث: "ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"([3]).

فالأصل في الإسلام أن يشبع الإنسان حاجاته الاقتصادية والمعيشية من ثمار عمله ونتاج سعيه([4])، والاستفادة من إمكاناته الاقتصادية ولو كانت محدودة أو متواضعة.

فعن أنس رضي الله عنه، أن رجلاً من الأنصار أتى النبي r، يسأله، فقال: (أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، قال: آتني بهما، فأخذهما رسول الله r بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل أنا آخذهما بدرهم، فقال: من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً؟ قال رجل أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياها، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً، فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فآتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله r عوداً بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فاشترى ببعضها ثوباً، وبعضها طعاماً، فقال رسول الله r: هذا خيراً لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع"([5]).

فالحديث يرفض بوضوح البطالة والمسألة للرجل، ما دام يملك بعض الأصول المالية، التي يمكن توظيفها توظيفاً أمثل، يخدم أغراضه الاستهلاكية وأغراضه الاستثمارية، فالسؤال من غير حاجة أو ضرورة ملجئة حرام في الإسلام،

وقد قال r: "من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمراً، فليستقل، أو ليستكثر"([6])،

وفي حديث آخر قال r: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي"([7]).

فالإسلام يحث الناس على كسب المال الحلال، الذي يغني صاحبه عن المسألة، مهما كان نوع هذا الكسب، ومهما نظر إليه الناس نظرة استهانة أو احتقار.

فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه"([8])،

إلى غير ذلك من النصوص النبوية الدالة على فضل السعي والعمل عند الله، وذم المسألة وقبحها عنده، فالإسلام يحذر من البطالة والمسألة، ويطاردهما بشتى الوسائل، بل ويغلق الأبواب التي ينفذ منها المال الحرام إلى جيوب الناس،

 

فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29]، فما لم يكن الحصول على المال ناتجاً عن رضاء متبادل أو مقابل عمل أياً كان هذا العمل يكون هذا الحصول أكلاً للمال بالباطل([9]).

ونتيجة لذلك كان الاحتكار حراماً، وكان الغصب حراماً، وكانت السرقة حراماً، وكانت المسألة بدون مبرر حراماً، فلا كسب بلا جهد ولا مال بلا عمل([10])، فقد حارب الإسلام أكل أموال الناس بالباطل، والزحف نحو الثراء غير المشروع.

القسم الثاني

دور الزكاة في تحقيق اقتصاديات الغنى

استطاع الإسلام في ماضيه الطويل الحافل أن يحقق الغنى في المجتمع الإسلامي، ويعالج الضعف المادي، الذي يمكن أن تصاب به بعض الفئات الاجتماعية، من خلال فريضة الزكاة، التي جاء الأمر الإلهي بوجوبها مقرونا بالصلاة، في آيات قرآنية كثيرة،

كقوله تعالى في سورة البقرة: {وأقيمـوا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 110]،

وقوله تعالى في سورة البينة: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة: 5].

كما أن السنة النبوية المطهرة لم تغفل وجوبها، بل جاءت مؤكدة لما جاء به القرآن الكريم،

ففي صحيح البخاري، أن النبي r حينما بعث معاذا إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام قال: "فإن أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم([11]).

وفي صحيح مسلم أن النبي r قال "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يُقضى بين الناس"([12]).

إذ أنها حق ثابت مقدر شرعاً في مال الغني، الذي يملي عليه الإسلام أن يشرك غيره فيما آتاه الله من فضله، وأن يجعل في ماله متسعاً يسعف به الفقير الجائع، والمريض الضائع، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، والأرملة التي لا عائل لها، واليتيم الذي لا مورد له، وفق ما تقتضيه تعاليم الإسلام، العادلة والسامية، التي لم تترك هؤلاء وأمثالهم نهباً لذوي الأغراض والاستغلال والضياع، بل حفظت لهم حقوقهم الإنسانية كاملة، ووضعت لهم نظاماً مالياً قويماً، يضمن لهم أدنى مراتب الغنى، ليواصل الفقير والضعيف نشاطه وكدحه، في ميادين العمل والإنتاج، وذلك عن طريق المشاركة الفعلية والمتجددة بين الأغنياء والفقراء، من خلال فريضة تعرف في الإسلام بالزكاة، وبنسب مختلفة، تختلف باختلاف الوعاء المزكى وتنوعه، فقد تصل إلى الخمس (20%) كما في الـركاز والكنوز المدفونة، كما تصـل إلى العشر كاملاً (10%)، كما في الزروع والثمار، التي سقتها السماء والعيون، ولا يتحمل صاحبها في سبيل ريها نفقات ولا يتكبد مشقات، وقـد تنخفض إلى نصف العشر (5%)، إذا تولـى العبد الري بالكلفة والعمل([13])، وقـد تصـل إلى ربـع العشـر (2.5%)، كما في عروض التجارة والذهب والفضة وسائر الأموال النقدية، ولو عطلهما صاحبهما عن التداول.

وقد تكون أقل من ذلك، كما في زكاة السائمة من بهيمة الأنعام، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: ".... وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة"([14]).

والشارع الحكيم بهذا القدر الذي أوجبه من الزكاة راعى جانب الأغنياء ومصلحة الفقراء البائسين، حيث فرض القدر الذي يرفع من مستوى دخول الفقراء([15])، وتندفع به حاجتهم، التي لم تكن لتندفع بطريقة مشروعة لولا فريضة الزكاة ووجوبها([16])، ولا يرهق – في الوقت نفسه – كاهل الأغنياء، أو يشق عليهم، أو يلغي جانباً كبيراً من كدهم وكدحهم([17]).

 

ولا يقال أن هذه المقادير لا تفي بحاجات المحتاجين، ولا تحقق اقتصاديات الغنى، فالتاريخ الإسلامي يشهد بأن مقادير الزكاة حققت الغنى، وقاومت الحاجة عند العاجزين، حتى انتقى الفقر من بينهم، وعاد الناس في رغد من العيش، وبسطة من الهناء.

وسارت القوافل محملة بأموال الزكاة من إقليم اليمن إلى بيت مال المسلمين([18])، في الصدر الأول من تاريخ الإسلام، عندما انعدم الفقر بين المسلمين، وعمتهم الطمأنينة، والرفاهية، والرخاء، في قليل من السنين، حيث أنه في غضون ثلاثة أعوام لم يعد يوجد على مستوى إقليم مثل اليمن فرد يقل دخله عن الكفاية([19])، حتى يقبل الصدقة، لأنها لا تخرج من إقليم إلا بعد كفاية أهله، ويكون فيها فضل عنهم([20])، الأمر الذي يؤكد أن الإسلام جاء بنظام اقتصادي متفرد، لا هو شرقي ولا هو غربي، و أقدر على مكافحة التخلف والفقر والجوع وتخفيف آلام المعوزين والبؤساء، من برامج الضمان، أو التأمين الاجتماعي، الذي تعرفه دول العالم المعاصر، التي تقتضي بأن يدفع كل فرد غني أو فقير مبلغاً من دخله، يؤمنه عند فقره أو عجزه([21])، مما يجعل المساعدات فيها تقدم بناءاً على مساهمات الفرد السابقة، قبل أن يتعطل، أو يعجز عن العمل، لا على أساس الحاجات الفعلية له([22]).

ومن برامج التنمية الوضعية، التي أصبحت ستاراً لزرع نوع جديد من التبعية للدول المتقدمة اقتصادياً، التي تبذل قصارى جهدها في تعميم الرأسمالية والفكر الليبرالي الغربي على سائر المجتمعات البشرية، ليظل النموذج الاقتصادي التقليدي واقتصاد السوق سائداً في كل دول العالم، لاسيما في الدول المتخلفة، من أجل ضمان استنزاف المزيد من موارد وثروات المستضعفين في الأرض، الذين كان الفقر، والبؤس، والتخلف، وبيوت الصفيح، والأكواخ، بل واللجوء إلى أماكن المقابر والأرصفة ومقالب القمامة والكباري كمأوى لبعض الأسر المعدمة فيها، نصيبها من جراء النظام الاقتصادي العالمي، إذ أنه ليس هناك من يرتاب بحق في أن عدداً غفيراً من الناس من الفقراء المدقعين، في ظل ذلك النظام، حيث تذكر التقارير أن نحو 100 مليون نسمة حول العالم بلا مأوى في عام 1980م، بينما بلغ عدد سكان الريف المعدمين في العالم في العام نفسه نحو 938 مليون نسمة([23])، في حين تزايد عدد الفقراء في العالم الذين يعيشون بمتوسط دخل يقل عن دولار واحد في اليوم عام 1998م إلى نحو 1.2 مليار نسمة([24]).

الأمر الذي يدل على تفشي ظاهرة الفقر وبصورة مؤلمة في ظل ذلك النظام، بعد أن كان يظن حدوث العكس، وأن الدول الفقيرة في سبيل اللحاق بالدول الغنية، وتقل بالتالي الهوة التي تفصل بينهما في المعيشة، بمجرد اعتناقها هذه الأيديولوجيات الوضعية، حيث أن الواقع كشف أن بريق شعارات التقدم والرخاء والعدالة والكفاية والمساواة والحرية التي ترفعها هذه الأيديولوجيات البغيضة لم تسفر إلا عن مزيد من الفقر والتدهور في الدول النامية، إلى درجة أن أصبح مصطلح دولة نامية تهكمياً، فالكثير منها أصبحت متهالكة أكثر منها نامية.

 في الوقت الذي يحاول فيه ذلك النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي تبرير هذا النصيب، المتردي والمخزي، بدعوى زائفة، تتمثل في  زيادة نسل وسكان الدول النامية([25])، وليس هو الظالم أو المسئول، عن تفاقم الأزمات الاقتصادية المزمنة، وحالة الإملاق الملحوظة والواقعة لمئات الملايين من السكان في الدول النامية، لاسيما عندما تواطأت الدول المتقدمة الغنية ضد الدول النامية الفقيرة، ودفعها نحو مصيدة الفقر الخبيثة، وذلك من خلال إيقاعها في شرك الدين الخارجي، وجور أعبائه المرتفعة، التي أصبحت في الوقت الراهن سبب رئيس لنهب معظم مواردها الهزيلة أصلاً، فقد "كان الفقراء على سبيل المثال في عام 1988م يسددون 50 بليون دولار للأغنياء كل عام، وبات التحول الضخم للموارد صوب الشمال بمثابة عبء ليس فقط على أبناء الدول النامية فحسب، بل أصبح عبئاً على الأرض ذاتها، فالغابات يجري غمرها بالمياه بكل استهتار، والرواسب المعدنية تستخرج بإهمال، والأرض الهشة تحرث، والمصايد تستنزف، ويجري كل ذلك بغية التسديد للممولين الأجانب"([26]).

بالإضافة إلى تدابير الحماية المتشددة التي تحد من إمكانية البلدان النامية للوصول إلى أسواق الدول المتقدمة، وتحول التجارة معها إلى تجارة خاسرة في بعض الأحيان، حيث تقدر الخسارة التي تحيق بالدول النامية من جراء تلك التدابير سنوياً ما بين 50 إلى 100 بليون دولار([27])، وكان من الممكن أن تشكل تلك الأموال قوة كبيرة لدفع عجلة التنمية فيها، ناهيك عن الإصلاحات الاقتصادية التي يشجع عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي أضرت بالفقراء، وبدرجات متفاوتة، إذ أنه لا يمكن لدولة نامية أضيرت بالفقر المدقع أن تصلح اقتصادياً بالقدر الكافي في وقت قصير، حتى يتسنى لها تعويض أعباء ديونها الهائلة والأسعار المنخفضة لبضائعها، فالاقتصاد الذي في أمس الحاجة إلى التعديل هو الاقتصاد العالمي([28])، الذي أصبح يرتكز على الأيديولوجية الرأسمالية وبريق الحرية الفردية، خاصة بعد انهيار الاشتراكية والأفكار الماركسية، وغياب أو تغييب النظام الإسلامي عن التعامل والتطبيق في العلاقات الاقتصادية الدولية.

وكأن الهيمنة والسلب والنهب والاستعمار والاستغلال والظلم واستنزاف الموارد لا يكفي للقضاء على كل الأسس الكفيلة بنهضة الدول النامية، ومنها الدول الإسلامية، وقيامها من عثرتها التي طال أمدها، عندما تمخضت قريحة الرأسمالية عن نمط آخر من أشكال الدمار الاقتصادي، من خلال تلك الدعوة المشبوهة، الرامية إلى تعقيم العالم الثالث، تحت شعار السكان والتنمية([29]).

بشكل لا يستطيع أحد معه أن ينكر أن النظام الاقتصادي الوضعي مسئول إلى حد كبير عن الحياة الإنسانية المضطربة في العالم، وعن بقاء جانب كثير منه في حال من التخلف المعيب.

ولا غرو أن النظام الإسلامي شرع الزكاة، فهو نظام يرمي إلى المشاركة في الغنى والثراء، وليس المشاركة في الفقر والحاجة، وفرض حد الكفاف، مثلما يقول أنصار النظام الاشتراكي([30])، ولهذا لا جرم أن الإسلام لم يترك أصل هذه المشاركة يقوم فقط على فكرة الإحسان الضيق، كما في الرأسمالية، والذي قد يرافقه المن والأذى، وقد لا يكفي لسد حاجات الفقراء، أو يقضي على التفاوت السحيق في الثروات بين فئات المجتمع، وإنما جعله حقاً معلوماً، في الأموال الفائضة عن النفقة، وضرورات المعاش، وذلك بنص القرآن الكريم، قال تعالى: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"([31]).

{والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}([32]).

"وآتوا حقه يوم حصاده"([33]). بشكل يضمن من جهة لقمة العيش لمن لم يتيسر له المشاركة في العملية الإنتاجية، وضاقت موارده لترفع حياته إلى المستوى الإنساني الذي يليق به، أو لمن لم يبلغ نصيبه في عائد التوزيع الوظيفي ما يشبع حاجته ويتم كفايته([34])، ويضمن من جهة أخرى إعادة دائمة لتوزيع الدخل القومي إجباريا وليس اختيارياً بين من زادت دخولهم عن حاجاتهم ومن هم دونهم([35])، وبذلك يحقق الإسلام جانباً من مبدئه العام "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"([36]).

حيث تستهدف الزكاة تفتيت الثروة التي تتكدس في بعض الأيدي، التي ما كانت لها أن تعطي صدقة أو هدية لولا هذا الفريضة الشرعية([37])، فتتسع بذلك دائرة توزيع الثروة، لتشمل ذوي الحاجة، الذين لو لم يخصص لهم جزءاً منها لكانوا حرباً على أصحابها، وخطراً على أمن المجتمع وسلامته، يهدده بين حين وآخر([38]).

ولذلك لا نعجب إذا رأينا أن الإسلام يكره للناس الفقر والفاقة والحاجة، ويحتم أن ينال كل فرد قادر على العمل كفايته أو شيئاً فوق الكفاية من جهده وعرق جبينه([39])، فالإسلام كما أوضحت سابقاً يحث على العمل ويحفز إليه، باعتبار الكسب عن طريق العمل الذي يعتبر عنصراً أساسياً من عناصر الإنتاج في الإسلام هو الأسلوب الأول لمحاربة الفقر وجلب الرزق، أو ما يعرف بالدخل، ذلك أن الإسلام يبث في الناس روح الجد والكفاح "أطيب الكسب عمل الرجل بيده"([40]).

 ويحث الفرد على امتلاك الموارد غير ذات النفع العام([41])، لتكون مصدر رزق له، لا يخضع فيه حتى للجماعة، ليرفع عنه ضغط الحاجة والعوز من ناحية، وسلطان الجهة التي تملك موارد الرزق من ناحية ثانية([42]).

وقد وصل مجتمع الإسلام إلى هذه الصورة المشرقة والمشرفة، في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، حيث تحقق الغنى لكل فرد من أفراد المجتمع، بكسبه وجهده، حيث لم يعثر على فقير تدفع له الزكاة، أو تنطبق عليه شروط استحقاقها، كما شهد بذلك يحيى بن سعد – في كتاب الأموال – حينما قال: كنا نطوف بالصدقات على الناس في عهد عمر بن عبد العزيز فلا نجد من يقبلها، فقد أغنى الناس عمر"([43])، فتعميم الغنى، أو إغناء البشرية جمعاء، هو ما يصبو إليه الإسلام في مجال الاقتصاد.

أما إذا قعدت بالفرد أسباب العجز، من مرض، أو شيخوخة، أو يتم، أو ترمل أو نحوه، فيجب ألا يترك يتضور جوعاً، أو يعبث في الأرض فساداً، بل يفرض له في الشريعة على القادرين وأرباب الثروات حقوقاً مالية تفي بحاجاته ومطالب وجوده، ليعيش الجميع آمنين مطمئنين.

والشريعة في ذلك تتجاوز المنهجية الاقتصادية الضيقة، التي لا تسمح باستحقاق الثروة أو الدخل المتولد في الاقتصاد إلا لعناصر الإنتاج التي ساهمت في إنتاجه، لأنها تؤمن بأن قوى السوق هي المعيار الوحيد للتوزيع بين فئات المجتمع المختلفة، حتى أصبحت الثمرة المُرَّة والنكدة لمثل هذه المنهجية هي تأجيج نار الصراع الطبقي، وإشاعة الكراهية والبغضاء والعداوة في النفوس المعسرة، أو المحرومة من الإنفاق، أو من سعة في المال، التي أقعدتها ظروف الفقر، أو البطالة، أو أي سبب آخر، عن المشاركة في النشاط الاقتصادي، ومن ثم لم تستطع إشباع حاجاتها الضرورية، أو أن تنال شيئاً مما يوزع من خلال آلية السوق، التي لا تلبي إلا الطلب المدعوم بالنقود([44]). أي طلب الأغنياء من ذوي القوة الشرائية الكبيرة، حتى بات الإنسان في ظلها سلعة، كأي سلعة اقتصادية أخرى، تعلو وتهبط بمعيار العرض والطلب، وبمقاييس الرواج والكساد، دون أن تضمن له حد الكفاية، الذي يضمنه له الإسلام، سواء عن طريق تحديد الأجر المقدر بالكفاية([45])، المعتبرة شرعاً، بصرف النظر عن اعتبارات قوى السوق، حيث يقول النبي r: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما يطيق"([46]) وفي حديث آخر يقول "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم"([47]). وهذا المبدأ الإسلامي الذي يحقق المساواة في مظاهر الحياة المعيشية يعد منتهى ما تنشده الإنسانية اليوم، كحق طبيعي لكل إنسان. أو عن طريق الزكاة في حالة فقره، أو عجزه عن اللحاق بمزاحمة الناس في السعي من أجل الرزق والكسب الحلال، حيث لا ينحصر توزيع الزكاة على العناصر التي تقرها قوانين العرض والطلب فحسب، بل يشمل أيضاً العناصر المحتاجة التي تمثل الطبقة الفقيرة في الرعية، التي صرح الله بحقها كما في الآيات السابقة، والتي "تؤكد أن مصدر استحقاق الثروة ليس في عمل الإنتاج فحسب، بل حق الفقراء والمساكين في المال مثل حق أرباب المال"([48])، ولذلك لم تسمح الشريعة الإسلامية بإنفاق هذا الحق (دخل الزكاة) في غير مصارفه الشرعية، كشق الطرق، أو تمويل مرافق الدولة، "لأنها لا تمثل إعادة توزيع من الغني إلى الفقير، بل تمثل استثمارات، ربما يستفيد منها الغني أكثر من الفقير، فإعادة توزيع الدخل والثروة من فئة الأكثر غنى إلى الأكثر فقر هي هدف مهم للزكاة "([49])، وذلك حرصاً من الشارع الحكيم على تحقيق مستوى لائق من المعيشة للجميع، وإن تفاوت الدخل بينهم، وعلى إقامة توازن بين أفراد المجتمع المسلم، يكفل عدم تضخم المال في جانب وانحساره في جانب آخر، ليظل المجتمع كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، خالياً من شوائب الظلم، والاستغلال، والتسلط، والجور، ومن أرجاس البخل والدناءة، والقسوة، والأثرة، والطمع، وبخس حق الفقير والأجير، وغير ذلك مما هو معروف من شرور الرأسمالية الباغية، التي أفرزت مفاسد ومظالم، وولدت الحسد والحقد في نفوس الحفاة العراة والمظلومين والمحرومين([50])، تجاه الذين يعيشون في بذخ وترف وسرف ومجون، وينثرون الذهب على موائد الميسر، وفي ميادين السباق، وأماكن اللهو([51])، ومن بواعث الشكوى والاحتجاج، التي مهدت لظهور الأصوات المنادية بمحو الملكية الفردية، كما في المجتمعات الاشتراكية، بزعم أنها أساس الشرور، أو الظلم الاجتماعي، الذي تعاني منه المجتمعات الرأسمالية المعاصرة([52]).

 

وهكذا تظهر لنا عظمة منهج الإسلام ونظامه، الذي استطاع أن يقطع جذور الصراع الاقتصادي، أو الدنيوي، بين الأغنياء والفقراء، بهذه الفريضة المالية، والصدقة المفروضة، التي هي طهارة للغني المزكي من وثنية المال، وغريزة الشح، لقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"([53]).

وفي سورة أخرى قال تعالى: "قد أفلح من تزكى"([54]).

 

وهي طهارة لآخذها، من نار الحقد والكراهية، على أقوام لاهون بملذات الدنيا، وزخارفها، لأن من شأن الإحسان أن يستميل القلوب، فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، ولقد أحسن من قال:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم - فطالما استعبد الإنسان إحسان.

فضلاً عن دورها في حماية آخذها، من ذل الحاجة والفاقة، والانزلاق في مهاوي الرذيلة، من أجل المحافظة على كرامة الإنسان، الذي كرمه الله، وفضله على سائر مخلوقاته، في قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"([55]).

ويبلغ التكريم أقصاه في قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى"([56]).

والإسلام بهذا عالج مشكلة الفقر والقلة، أو بمعنى آخر استطاع أن يحقق الغنى والرخاء، لكافة الفئات الاجتماعية، بوسيلة عملية (الزكاة)، لا يضجر منها الناس، ولا تثير فيهم العناد أو التحدي، وهم يعلمون أنها تسهم في إعادة توزيع ما في أيديهم بطريقة شرعية وإلزامية لصالح الفئات المحدودة الدخل أو الثروة في المجتمع، إلا إذا أراد المرء أن يتمرد على تعاليم دينه وخالقه.

وهو بهذا لم يسلك طريق المذاهب الاقتصادية الهدامة، واتجاهات البشر الفاسدة، التي لم تفلح في تحقيق ولو قسط يسير من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، بل انبثق عنها ظلم صارخ، وتناقض واضح، في توزيع الدخل والثروة([57])، حتى انقسم البشر في ظلها إلى طبقتين متنازعتين، طبقة أرباب الأموال والأعمال، أو ما يسمى بالطبقة البرجوازية، وطبقة الفقراء والعمال، أو ما يعرف بالبروليتاريا([58]). حيث أن الطبقة الأولى تمتلك عوامل الإنتاج، وتتزايد عوائدها ودخولها باستمرار، على حساب الطبقة العاملة، التي لا تملك إلا قوة عملها ، وتتحمل العبء الأكبر في العملية الإنتاجية، ولا تحصل في النهاية إلا على مستويات منخفضة من الأجر([59])، يعرف بأجر الكفاف، إذا وجد الكفاف، عاجزة تلك المذاهب عن التخفيف من حدة انعدام العدالة في التوزيع، ومن ثم كبح أطماع الأولين، أو أن ترفع مستوى المعيشة عند الآخرين، إذ أن نحو اثنان وثلاثون مليوناً من سكان الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً يعيشون تحت خط الفقر، معظمهم من الأقليات والأسر التي تعولها امرأة([60])، وهذا خلل حتمي لا مفر منه في توزيع الثروة بين البشر، طبقاً لقوانين الرأسمالية وقوى السوق، وعلى الرغم من كل ما لجأت إليه النظم الرأسمالية من فرض الضرائب التصاعدية، أو زيادتها، بغية أن تصنع شيئاً للتخفيف من حدة انعدام العدالة التوزيعية في اقتصادياتها([61])، فما زال الاقتصاد الرأسمالي طريقاً للتمييز بين الطبقات(*)، ووسيلة لطغيان فئة من البشر على فئة أخرى، حتى أصبح الجائع والفقير منبوذاً وكماً ضائعاً، يتبرأ منه المجتمع والأغنياء، إلا على سبيل التفضل والإحسان الضيق، الذي تعترف به الفلسفة الرأسمالية، وليس من باب الإلزام([62])، حيث لا تلتزم النظم الوضعية بكفالة العاجزين أو المحتاجين، إلا على سبيل الإحسان العام، الذي قد تقوم به الهيئات الدينية، أو الجمعيات الخيرية، وحتى الدول التي أخذت بالفكر الاشتراكي لم تعترف أيضاً بهذا الالتزام، بل قامت بتوزيع جزء من الإنفاق للاستهلاك تبعاً للقاعدة المشهورة "من كل حسب قدرته ولكل بحسب عمله"، ومقتضى ذلك أن من لا يعمل لا يأكل، ولو كان محتاجاً أو عاجزاً عن العمل([63])، بعكس نظام الإسلام الذي لا يؤمن بمساعدة الفقراء والضعفاء عن طريق أعمال البر والإحسان فحسب، وإنما يعتبر كفالتهم من المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق الدولة والمجتمع على حد سواء، إلى درجة أنه يعطي كفالة هذه الفئة المرتبة الأولى، إذ جاءت آية الزكاة تقدم في الأولوية عند التوزيع الفقراء والمساكين، وهم جميعاً من شرائح المجتمع المحتاجين، فلا يترك الفقير لفقره، أو في صراع مرير مع الحياة، أو للأقوياء يعصفون به أو يستخفونه([64])، بل يظل أمير الركب، حتى يعود الحق إليه كاملاً غير منقوص، وفق ما تقتضيه الشريعة الربانية، التي جاءت لتفرض على القوي احترام حق الضعيف، ولتنقذ المظلوم من براثن الظالم، فالشارع الحكيم لم يحتقر تلك الفئة، أو ينظر إليها بشطر عينه، بل نوه إلى عدم القنوط منها، منوهاً بمكانتها في المجتمع، حينما قال عليه الصلاة والسلام كما في سنن النسائي "أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"([65]). وفي مسند أحمد، أن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله، إن الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه وسهم غيره سواء، قال: "ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟".

ولا ريب أن من الظلم، بل من أعظم ألوان الظلم، أن تتواطأ فئة من الناس على استغلال فئة أخرى، أو التحكم فيها، والجور على حقوقها، أو أن يستخدم ذو القوة والنفوذ ما يملكون من مال، وجاه، وسلطان، في زيادة رخائهم الاقتصادي، على حساب أعناق الطبقات الأخرى في المجتمع، متناسين هؤلاء أن القرآن الكريم قد ذم مثل هذه العقلية، التي ترى استعلاء الطبقات الثرية، وكبريائها على ما سواها، حينما صورها في حوار بين شخصين جاء فيه: "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا"([66])، إذ أنه لا مجال في شريعة الإسلام لإنكار حق الفقير والضعيف، واحتكار الثروة من طرف أقلية من الناس، يرتعون فيها وحدهم، من دون غالبية المجتمع، أو اتخاذها وسيلة لإيذاء الغير، أو التنكيل بهم، أو التحكم في مصائرهم.

ولا ريب أن مثل هذه العقلية متوقعة في الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية، التي تسمح لأتباعها أن يدخلوا حلبة الصراع الاقتصادي المحموم والمسعور، الذي لا مكان فيه لضعيف أو فقير، بل لمن يستطيع أن يسيطر على أدوات الإنتاج وموارد الثروة، حتى انتهى المطاف بها إلى زرع القوى الاقتصادية الظالمة، التي تمارس أساليب الاحتكار، والقهر، والظلم لطبقات المجتمع الفقيرة، التي طالما قاست وتقاسي من مرارة الرأسمالية وجورها، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، حيث لم يقتصر تسخير أدوات النظرية الاقتصادية الرأسمالية لمصلحة الطرف الأقوى أو الرأسمالي على المستوى المحلي، بل إن تلك الأدوات سخرت لتفريغ القدرات الاقتصادية في العالم الخارجي لتصبّ في مصلحة الدول الرأسمالية المتقدمة([67])، في ظل فلسفتها الرأسمالية، التي لم تكن ترى بأساً بترك أولئك النفر من البشر في العالم الذين لا ينالون من متاع الحياة نصيباً فريسة للبؤس والإملاق، ولقمة سائغة للدهر والمسغبة، محرومة من أدنى مراتب الغنى والرعاية والعناية، مما يجعلها تنحدر في هوة سحيقة، لا قعر لها من الرذيلة وسوء الأخلاق، عاجزة عن أن تكون مدداً للحضارة الإنسانية، في رقيها وتقدمها([68])، ناهيك عن الأنظمة الاشتراكية البائدة، حيث أن بيروقراطية الدولة وملكيتها سحقت طبقات الشعب في المجتمعات التي طبقت فيها، لتعيش هي وحدها في أبراج عالية، من الترف والبذخ والمجون والإسراف، بينما يعاني السواد الأعظم من نقص في الضروريات والحاجيات، فضلاً عن الكماليات([69])، إذ أنها تسعى جاهدة إلى توزيع الفقر والجوع على أغلب المجتمع، وتجمع مصادر الرزق أو الموارد كلها في يد الدولة والحزب الحاكم([70]). حيث أظهرت التقارير أن خمس المواطنين في الاتحاد السوفيتي سابقاً يعيشون تحت خط الفقر إبان الثمانينات([71])، وصدق الحق تبارك وتعالى حينما قال: "ظلمات بعضها فوق بعض"([72]). فالماركسية وإن كانت تتهم الرأسمالية في اغتصاب جهود العمال وضعاف البشر، فإنها هي الأخرى وقعت في ظلم آخر لا يغتفر، حينما منعت الملكية الفردية لعناصر الإنتاج، وتبنَّت الملكية الجماعية وتوزيع الثروة من كل على حسب قدرته إلى كل على حسب حاجته([73])، حتى تزايد بؤس المجتمع الاشتراكي وشقائه، بعد وقوعه ضحية لتجارب مريرة فاشلة، تركت فيه آثار سلبية عميقة، قد تجعله يقبل فقراً مع العولمة الرأسمالية المعاصرة، بدلاً من وقوعه مرة ثانية فريسة دسمة لنظام الاشتراكية ومفاسده([74]).

وهنا تكمن الإهانة في عالم وقع ضحية لمذاهب واتجاهات وأفكار فجة عاجزة، قذفت به تارة إلى حمأة المادية البشعة والجشعة، فقتلت فيه حب الفضيلة والأخلاق المثالية، وروح الاقتصاد الطاهر أو السليم، حتى استحال حظ ثلة من البشر إلى جمع المال، بلا مبالاة بوجوه جمعه([75])، حتى أصبح المال نفسه دين الإنسان المعاصر، وأضحى التعاون الإنساني ضرباً من المساومة والمماكسة، وإلى التحاقد والتباغض، اللذان يزدادان يوماً بعد يوم في نفوس أهل البأساء، أو المحكوم عليهم بالفاقة المؤبدة، في ظل الرأسمالية المعاصرة، وتارة أخرى قذفت به إلى جحيم الاشتراكية البائدة، التي جعلت من الناس أحياناً عبيداً مسخرين، مكبلين بالقيود والأغلال، دون حق قائم، ولا كرامة مصونة، فضلاً عن التمتع بنسيم الحرية والاستقلال، وحيناً آخر قطعاناً ضالة، تصنف وتساق وتوجه كالآلة الصماء، لا حرية لها ولا اختيار، ولا تجد في النهاية إلا القليل الرديء والسيئ من المرعى أو الطعام([76])، والواقع الاقتصادي المعاصر الذي أفرزته النظم الاقتصادية الوضعية خير شاهد على ذلك، حيث أضحى البشر في ظلها إما ظالم أو مظلوم، وكأن لسان حاله يقول من لا يظلم الناس يظلم، فكان لابد أن تعاني الغالبية العظمى من فئات المجتمع الكادحة من العوز والفقر وضيق ذات اليد، أو بعبارة أخرى من اضطراب اقتصادي وشقاء اجتماعي، بلا ذنب أو خطأ اقترفوه، بل هم ضحايا مجموعة من القوى الاقتصادية والسياسية الظالمة، والصراع المذهبي العالمي، الذي نجم عنه وجود معسكرين أيديولوجيين دوليين(*)، يتنازعان فيما بينهما العالم، وتعزل معظمه، لاسيما ضعفائه، في زمرة الخاسرين دوماً، دون مجرد الشعور بالذنب أو الجرم، بل أن ذلك نتيجة طبيعية للأنظمة الاقتصادية غير الإسلامية، التي نظرت إلى مصالحها العاجلة، ولم تتورع في استغلال ضعف الضعفاء في العالم، وذلك باسم الحرية تارة وباسم جماعة الكادحين تارة أخرى، في ظل إقصاء النظام الاقتصادي الإسلامي، الذي يحمل بين طياته أسساً كافية لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والكفاية المعيشية، في ظل التكافل والحق والعدل والرحمة والتأسي في المعاش، لاسيما عند الحاجة أو الضرورات العارضة، دون أن يقتل المواهب والجهود الفردية كما في الاشتراكية، أو يسمح لها بالتمرد والطغيان والعدوان كما في الرأسمالية، فقد قال سبحانه وتعالى: "لا تظلمون ولا تظلمون"([77]).

القسم الثالث

دور بيت مال المسلمين في تحقيق اقتصاديات الغنى

فرض الإسلام نفقة الفقير والمعوز الذي لا معيل له على بيت مال المسلمين، والأدلة الشرعية على هذا الفرض كثيرة ومتعددة، نذكر منها ما يلي:

( أ ) الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله r قال: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين، ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته"([78]).

قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "وهل كان ذلك من خصائصه r أو يجب على ولاة الأمر من بعده؟ والراجح – كما قال ابن حجر - الاستمرار، لكن وجوب الوفاء إنما هو من مال المصالح([79]).

(ب) كما روى الإمام البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي r قال "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، إقرأو إن شئتم: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه".

قال الإمام العيني في شرحه لهذا الحديث: قوله "ضياعاً " هم العيال الضائعون الذين لا شيء لهم وقوله: "أنا مولاه" أي ناصره ، لأن المولى هنا يعني الناصر([80]) .

(ج) أخرج أبو داود عن المقدام قال: قال رسول الله r: "من ترك كلا فإليّ، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل له وأرثه".

شرحه: من ترك كلاً أي: ثقلاً وهو يشمل الدين والعيال. والمعنى: إن ترك الأولاد فإلي ملجؤهم وأنا كافلهم، وإن ترك الدين فعلي قضاؤه، (اعقل له) أي أؤدي عنه ما يلزمه بسبب الجنابات التي تتحمله العاقلة، أي عصبته (وأرثه) أي أرث من لاوارث له، قال القاضي عياض: يريد به صرف ماله إلى بيت مال المسلمين([81])، وخلاصة ما تدل عليه تلك الأحاديث النبوية أن الإنفاق على الفقراء والعاجزين إذا لم يكن لهم أصول وفروع تترتب عليهم النفقة واجبة على الدولة، سواء كانت أموال الزكاة كافية أم غير كافية([82])، إذ أنه لا يعقل مع هذا الالتزام تجاه دين الميت وكفالة أولاده من بعده أن يكون الالتزام تجاهه في حياته أقل من هذا([83])، لأن حق العيش والحياة أقوى من حق الدين بعد الوفاة.

وحسبنا أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخشى لو أن جملاً أو عناقاً ضلت على شاطئ الفرات لأخذ بها يوم القيامة([84])، لعلمه رضي الله عنه شمول مسئولية ولي الأمر في الإسلام، إلى درجة أنه يعتبر مسئولاً عن حاجات حيوان يكون في إقليم غير الإقليم الذي يقيم فيه، فكيف تكون حينئذ المسئولية تجاه شخص ممزق الثياب، حافي القدمين، أو يتيم فقد حنان الأبوة، أو جائع قد عضه الجوع بنابه ورده الحرمان، أو أرملة تلاحقها نظرات من في قلوبهم مرض، وهي تسعى جاهدة لتجمع القوت لمن تعول، من كسب حلال طيب، وقد منعها الحياء والعفاف عن طلب السؤال.

ومثال آخر نرويه في هذا المقام، كما أورده ابن عبد الحكم قال: دخلت زوجة عمر بن عبد العزيز عليه عقب تربعه على كرسي الخلافة، فوجدته تسيل دموعه على خديه، فسألته عن سبب دموعه، فقال: "إني نظرت فوجدتني وليت أمر هذه الأمة، أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله تعالى يسألني عنهم، وأن رسول الله  r حجيجي فيهم([85]).

وهكذا كان عمر بن عبد العزيز يبكي، خوفاً من أن يكون في دولته جائع، أو عار، أو شيخ كبير فقير وله عيال كثير.

فأي شعور أعظم من هذا الشعور، وأي مسئولية أعظم من هذه المسئولية، التي تكفل تدبير القوت لمن افتقر، ولمن عجز عن الكسب، وجعل نفقته واجبة على الدولة الإسلامية، بصرف النظر عن دينه أو ملته أو قوميته أو جنسه أو حسبه أو جاهه، لأن ذلك حق من حقوق الإنسان المقررة في الشريعة، ليس بالنسبة للمسلم في المجتمع الإسلامي فحسب، وإنما بالنسبة لغير المسلم، الذي يعيش في كنف الإسلام وأهله.

فالتكافل الاقتصادي الإسلامي لا تختص به طائفة دون أخرى([86])، بل يشمل كل الرعية، مسلماً كان أو غير مسلم، فالجميع يتمتعون على السواء بالرعاية والعناية، متى ما دعت الحاجة، وتاريخ الإسلام المجيد يسجل كثيراً من الوقائع التي تتضمن دلائل واقعة على أن غير المسلمين في دولة الإسلام كانوا يتمتعون بهذه الكفالة الاقتصادية، فقد أورد أبو يوسف في كتابه الخراج، أن خالد بن الوليد صالح أهل الحيرة على أمور منها، كفالة كل عامل ضعف عن العمل، لكبر أو مرض أو آفة، حيث يقول: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام"([87]).

كما أورد أبو عبيد في كتابه الأموال، أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى عدي بن أرطأة، عامله على البصرة " وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته، حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني: أن أمير المؤمنين عمر قد مر بشيخ من أهل الذمة، يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إذ كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه([88]). الأمر الذي يضفي على التكافل الاقتصادي الإسلامي مسحة إنسانية سامية، وطابع اجتماعي كريم، لا يوجد في أي تكافل أو أي نظام اقتصادي آخر.

ولا يفهم أن ذلك الاهتمام بالمحتاجين من غير المسلمين  يدخل في موالاتهم "إذ النهي عن موالاة الكافرين يقصد به النهي عن محالفتهم ومناصرتهم ضد المسلمين، كما يقصد به النهي عن الرضى بما هم فيه من كفر، أما المعاشرة الجميلة والمعاملة الحسنة، وتبادل المصالح والتعاون على البر والتقوى فهذا مما دعا إليه الإسلام([89])"، الذي يقرر أن من حق الجائع أن يطعم، ومن حق العاري أن يكسى، ولو كان هذا الجائع أو العاري غير مسلم([90])، باعتباره آدمياً يعيش في مجتمع لا يهدر قيمة وكرامة الإنسان، بسبب الضعف، أو الحاجة، أو المخالفة في الدين، ما دام لم يظهر العداء للإسلام والمسلمين، فالكل في هذه الحقوق سواء، دون تمييز بين لون ولون، أو دين ودين، حتى ينعم بالعيش الكريم كل من يعيش تحت راية الإسلام ودولته.

إذ أن تكريم الإنسان وتلبية حاجاته الأساسية والرحمة به هدف سامٍ، ترمي إليه الشريعة الإسلامية، فالرحمة بين البشر أساس الإيمان، وعلامة الإسلام، وثمرة من ثمار تأثر المسلم بتعاليم دينه، وتغلغله فيه([91])، وهي أعم من أن تختص بأحد الناس دون الناس كافة، أو تختص بالمسلم دون غيره، أو تختص بالإنسان دون الحيوان، إذ أنها تشمل سائر الأحياء، من إنسان وحيوان([92]).

كيف لا ونبي الرحمة يقرر أن إحسان رجل إلى كلب انتهى بهذا الرجل إلى أن شكره الله، وغفر له ذنوبه، وأن إساءة امرأة إلى هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض انتهت بهذه المرأة إلى غضب الله عليها([93]).

وإذا كان هذا يختص بالحيوان، فمن باب أولى أن ما يختص بالإنسان لن يكون أقل من نصيب الحيوان، كما أنه إذا كان هذا يتقرر لأهل الكتاب ممن يعيشون تحت راية الإسلام، فمن باب أولى أن يتقرر لأهل الإسلام عامة ولفقرائهم خاصة، لأن الفقراء وذوي الحاجات يقدمون في العطاء على غيرهم من بيت مال المسلمين، كما ذكر ذلك ابن تيميه في قوله: "ومن المستحقين ذوي الحاجات، فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيرهم، على قولين في مذهب أحمد وغيره، منهم من قال: يقدمون ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام، في

عدد القراء : 1729