الإخاء الروحي في سورية
يقصد بالإخاء الروحي: تكوين إخاء اجتماعي ووطني منبعه الرسالات السماوية.
وهو ثمرة الحضارة: إذ تمثل ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة مع الآخر المتفق والمختلف.
عملاً بنصوص الكتب السماوية:
ففي القرآن الكريم، يقول تعالى: ]اُدعُ إلى سبيل ربّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ[، ويقول عزَّ وجلَّ: ]إن الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ[.
ويقول السيد المسيح: كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم.
ومن كلمة الإمام علي: الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
إنّ الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، حيث تشغل حيزاً كبيراً في منطلقاته النظرية، وفي تطبيقاته العملية.
والإنسانية في الإسلام ليست مجرد أُمْنية شاعرية تهفو إليها بعضُ النفوس، وليست فكرة مثاليةً تتخيَّلها بعضُ الرؤوس، وليست حِبراً على ورق سطّرته بعضُ الأقلام.
إنها ركنٌ عقدي، وواقع تطبيقي، وثمار يانعة.
ومِن ثمراتها اليانعة:
مبدأُ الإخاء الإنساني، إنه مبدأ قرَّره الإسلامُ بناءً على أنّ البشرَ جميعاً أبناءُ رجُلٍ واحد، وامرأة واحدة، ضمَّتهم هذه البنوّةُ الواحدةُ المشتركة، والرحمُ الواصلة، قال تعالى : ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[[النساء: 1].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرِّر هذا الإخاء ويؤكِّده كل يوم أبلغ تأكيد؛ فقد روى الإمام أبو داود وأحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ "اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ،أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ،اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ،اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُمَّ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ" أبو داود(1508)، وأحمد( 19312).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلن من خلال هذا الدعاء المتكرر الأخوة بين عباد الله جميعاً، لا بين العرب وحدهم، ولا بين المسلمين وحدهم، بل هي أخوة بين بني البشر جميعاً، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وطبقاتهم ومللهم ونحلهم، والبشر جميعاً عند الله جل جلاله نموذجان ؛ رجل عرف الله، وانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فَسَلِمَ وسعِد في الدنيا والآخرة، ورجل غفَل عن الله، وتفلَّت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقيَ في الدنيا والآخرة.
ومن المبادئ التي انطوت عليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :
الإنسانية متساوية القيمة في أي إهاب تبرز، على أية حالة تكون، وفَوْق أيِّ مستوى تتربع عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" رواه أحمد (23536).
والإنسان الذي يعي فكرة الخلق ويخضع لإرادة الخالق: يتمسك بالقيم الروحية والأخلاق الراقية التي على أساسها تبنى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
ومفهوم العيش المشترك والإخاء الديني يبرز في سورية في أعلى درجاته؛ قديماً وحديثاً.
والبداية مع الفتح العربي، حيث كان الأمان سيد الموقف والذي أعطاه الفاتحون لأهل سورية الكبرى (بلاد الشام؛ سورية والأردن ولبنان وفلسطين) فالأمان على حياتهم، وكنائسهم، ومنازلهم.
وتتجلى أروع صفحات التلاحم بين أبناء الشعب على اختلاف أطيافهم، وانتمائهم إلى المسيحية والإسلام، وعاش الجميع تحت كنف هذا المفهوم قروناً طويلة.
والتعددية في الأفكار والمعتقدات من أهم سمات بلادنا والتي رافقت السكان في كل العهود، ولا يمكن تجاهل التاريخ الحضاري الغني بلغات عدّة، وخلفيات تاريخية كثيرة، وشعوب متنوعة، وإدارات سياسية متباينة، وحسن جوار مع الآخرين.
فالتعددية في الإثنيات، واللغات، والثقافات، والمعتقدات ليست إلاّ مصدر ثراء ومحور تفاعل.
والمشترك في التعاليم الدينية يؤكد على وحدانية الله ]قل هو الله أحد[، وتعدد الشعوب للتعارف، ]ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا[[الحجرات: 13].
كما أن التحديات المعاصرة التي نواجهها: واحدة؛ قديماً وحديثاً.
مثل: الإلحاد، ومحاربة القيم، والإباحية، والفساد، والشذوذ الجنسي.
والأوابد والكنائس والمساجد، التي ما زالت قائمة تشهد على الإخاء الروحي لأبناء البلد.
ولم يكن التعدد في المعتقد والمذهب حاجزاً بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولا عائقاً أمام التعاون والتفاعل ووحدة الصف في مواجهة العدو الخارجي.
وعند تعرض البلاد لغزوات الطامعين ومحاولة زعزعة أركان الحوار الثقافي والإخاء الديني كانت آمال العدو تخيب لأن أبناء سورية كانوا يقفون بخندق واحد ويعملون بيد واحدة في سبيل دحر كل أشكال وألوان الاستعمار عن بلادهم.
وبقراءة للأحداث التاريخية تكفي الإشارة إلى حروب الفرنجة، وأيام الانتداب الفرنسي، حيث نرى أسماء لامعة من مسيحيين ومسلمين عملوا جنباً إلى جنب مناضلين ومجاهدين تثبيتاً لأركان الوحدة الوطنية ودعماً لترسيخ فكرة العيش المشترك والإخاء الديني بين المواطنين على اختلاف معتقداتهم.
والحضارة العربية الإسلامية بنيت بسواعد المواطنين مسلمين ومسيحيين.
سورية مهد الدين التوحيدية مع اختلاف الشرائع الثلاث حيث تحوي مجموعة فسيفسائية لا مثيل لها بل فريدة من الأطياف.
سورية بلد تسامح يشعر فيه الإنسان، بأنه مقبول ومرحّب به، وهي أرض مأمن، لجأ إليها الأرمن، والآشوريون، والكلدانيون، والسريان، وسائر المضطهدين في بعض الدول المجاورة؛ فكان أبناء الشعب يستقبلون اللاجئين بكثير من العطف والمساعدة.
والمنازل في سورية محاطة بجوامع وكنائس، وتلتقي أنغام المؤذنين ونواقيس الكنائس.
وتبنى علاقة أفراد الشعب مع بعضهم في الحياة اليومية على الصداقة والمحبة والعاطفة؛ جيرة حسنة، علاقات طيبة، مساعدة مبادلة، صداقة متينة، والمشاركة بالتقاليد والعادات في مناسبات الأفراح والأتراح.
والبلاد تعيش باستمرار حالة الوحدة الوطنية والحوار الوطني البنَّاء.
الإخاء الروحي دستورياً:
الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية الصادر في 31 كانون الثاني عام 1973 ينصّ على ما يلي:
في المادة الثانية:
أ. الحرية حق مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم".
ب. "المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات".
ج. "تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين".
الإخاء الروحي رسمياً:
لا تألو الحكومة السورية من دعم التوجه الروحي لأبناء الشعب، حيث تسهل تقديم الأراضي الكافية لبناء المساجد والكنائس ولجميع الأطياف وحسب الحاجة.
كما إن دور العبادة معفاة من الضرائب والرسوم (الماء والوقود والكهرباء)، وكذلك المواد والتجهيزات المعدّة لأماكن العبادة.
وأعرض نماذج من الإخاء الروحي عبر:
الشاعر عبد الله يوركي حلاق ـ مؤسس مجلة الضاد في حلب.
حيث كانت مجلته وما زالت تفيض بآلاء المحبة والتقدير والفخر بالعروبة والإسلام.
والشاعر في قصيدته: قبس من الصحراء يشيد بالرسول محمد صلى الله عليه الله عليه وسلم الذي حمل لواء الإسلام ونقل العرب من غياهب الجهل والتخلف إلى فضاء العلم والنهضة، وتكلَّلت أفعاله بالمجد والسمو والرفعة والإباء، وهو يحطِّم أوثان الشر والفساد والكفر، ولا ينسى الشاعر إبراز التضامن والإخاء والألفة:
بعث الشريعة من غياهب رمسها فرعى الحقوق وفتَّح الأذهانا
أمحمد والمجد نسج يمينه مجدَّت في تعليمك الأديانا
ولأنه داس الجهالة وانتضى سيف الجهاد، وحطَّم الأوثانا
فلقد ربينا في ظلال عروبة عرباء تشرق عزة وأمانا
ما نحن إلا أخوة نسعى إلى إسعاد أمتنا وصون حمانا
وشاعر ـ الجزيرة السورية ـ جاك صبري شماس:
الذي تشهد معظم دواوينه الشعرية، ومقالاته على محبته وولائه للعروبة وإشادته بالدين الإسلامي وافتخاره بالقائد العربي العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دانت له الدنيا بأقوامها.
وقال في قصيدته: أوراق اعتمادي:
إني مسيحيٌّ أجلُّ محمداً وأجلُّ ضاداً مهده الإسلام
وأجلُّ أصحاب الرسول وأهله حيث الصحابة صفوة ومقام
كحَّلت شعري بالعروبة والهوى ولأجل (طه) تفخر الأقلام
أودعت روحي في هيام محمد دانت له الأعراب والأعجام
رسالة الإخاء الروحي والتسامح والعيش المشترك أوحى بها الله تعالى للنبي محمد r، وحملها عنه خلفاؤه وآل بيته عنوان أخوّة إنسانية، وديناً يستوعب النشاط الإنساني كله، يكرم الإنسان، ويقبل الآخر.
صنع رسول الله r أمة قوية متماسكة، وحضارة عظيمة.
وعلَّم مبادئ وقيماً سامية تحقق خير الإنسانية؛ قوامها وحدة الجنس البشري، وأن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، والسلام، والعدل، وتحقيق الأمن الشامل والتكافل الاجتماعي، وحسن الجوار، والحفاظ على الأموال والممتلكات، والوفاء بالعهود، وغيرها.
ولقد كرّم الإسلام الإنسان دون النظر إلى لونه أو جنسه أو دينه ]ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البّر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً[[الإسراء :70].
وقرّر مبدأ العدالة في معاملة الآخرين وصيانة حقوقهم، وعدم بخس الناس أشياءهم ]ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى[[المائدة :8]، ]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[[النساء :58]، ]فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها[[الأعراف : 85].
ختاماً أقول: عشنا في هذه البلاد المباركة قروناً طويلة مسلمين ومسيحيين، واقتسمنا خيراتها، وتشاركنا في حلو الحياة ومرها.
وما الواقع الملموس من التآخي والتعاون، وتعانق المساجد والكنائس، إلا برهان ساطع على وحدة إيمانية متميزة، نفتخر بها، وندعو العالم ليقتدي بهذا العيش الإيجابي المشترك.
عدد القراء : 1030