shikh-img
رسالة الموقع
أول أيام شهر رمضان للعام 1442 هجري، هو يوم الثلاثاء الواقع فث 13/ 4/ 2021 ميلادي. تقبل الله منا و

ثقافة التعايش مبدأ إسلامي أصيل

 

 

الحمد لله رب العالمين الذي خلق البشر جميعاً من أب واحد وأم واحدة، واختار منهم مبشرين ومنذرين لهدايتهم جميعاً إلى صراط الله المستقيم.

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى إخوانه النبيين والمرسلين.

وعلى آل بيت محمد الكرام، وصحبه العظام، والتابعين لهم بخير وإحسان وإنعام، وبعد:

الإمام علي (كرَّم الله وجهه) آية الحق، وراية الهدى، ومصباح الدجى([1]).

مَن كملت فيه الفضائل، ولم يشك في سابقته الأواخر ولا الأوائل([2]).

وهو قدوة المتقين، وزينة العارفين([3]).

طيب الأخلاق وكريم الأعراق([4]).

سما في القلوب محبة، وعلا في النفوس مهابة.

وفي آل بيت النبوة قال الشافعي([5]):

        يا آل بيت رسول الله حبكمُ           فرض من الله في القرآن أنـزلهُ

يكفيكمُ من عظيم الفخر أنكمُ         مَن لم يُصلِ عليكم لا صلاة لهُ

ونحن في مهرجان الإمام علي كرَّم الله وجهه، وأدرى الناس بالكبار الكبار، وأعلم الناس بالعظام العظام، نستعير كلاماً من حبر الأمة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو يصف الإمام علياً كرَّم الله وجهه:

القمر الزاهر في ضوءه وبهاءه، والأسد الخادر([6]) في شجاعته ومضاءه، والفرات الزاخر في جوده وسخاءه، والربيع الباكر في خصبه وحباءه([7]).

أيها الأخوة والأحبة:

يتزايد الاهتمام في الآونة الأخيرة بضرورة إيجاد السبل لتعايش الهويات الثقافية المختلفة المشارب؛ لجهة خلق مناخ عالمي بالتقارب بين الشعوب، وإنقاذ البشرية من الضياع والانـزلاق في مهاوي الأزمات الاجتماعية، والغرق في دوامة القلق النفسي، وانعدام الأمن، وتفشي الجرائم والتفسخ الأخلاقي، وإذكاء الصراعات العرقية والدينية.

والتعايش بين الناس مبدأ أصيل من منبع القرآن الكريم والسنة النبوية، ويعبر عن حاجة إنسانية ملحَّة تفرضها سنة التدافع الحضاري، وحالة الصراع القائم.

وإذا كان التراث الحضاري الإسلامي يزخر بنماذج من الأفكار والدعوات لبناء حوار الحضارات فإنا نقف اليوم مع أروع المرويات عن سيد آل بيت رسول الله r بخصوص المعاملات الاجتماعية قوله: "صلاح شأن الناس: التعايش والتعاشر".

نص حكيمي يحوز قصب السبق في فكرة التعايش بين الشعوب والأمم، واحترام تنوع الهويات الثقافية، وخلق مناخ من السلام والتفاهم بين مختلف الحضارات الإنسانية.

أثر ورواية تعد أداة للعمل وشعاراً للتطبيق في هذا الزمن العصيب لحل الأزمات النفسية والاجتماعية التي تعصف بالعالم اليوم.

هذا، وإن القراءة التاريخية للأمم والشعوب التي بنت حضارات رائعة تعطي نتيجة واضحة: أن الأمم التي تقدمت وتطورت وارتقت سلم الحضارة هي تلك التي استطاعت أن تعيش حالة التجانس والتعايش والتفاهم بين مختلف الفئات والقوميات والطوائف والأديان وفي مختلف جوانبها النفسية والاجتماعية والسياسية.

والأمة الإسلامية التي أنشأها رسول الله r شاهد حي لا زال يزخر بنماذجه الرائعة.

أما الأمم التي غرقت في صراعاتها وخلافاتها السلبية فقد تحولت إلى فتات مهمش لا يقوى على تجميع أجزائه، وكم سقطت أمم عن عليائها نتيجة للتعصب والتمرد ضد الآخرين بحيث تحولت حياتها إلى جحيم ملتهب لعدم قدرتها على التفاهم والتعايش.

إن قدرة أي أمة في تحقيق قوتها ورقيها هو في قدرتها على استيعاب الآخرين وضمهم في مسيرتها وتحقيق الوفاق الجماعي الشامل.

وإن عجز أي أمة يتبين من نبذها للآخرين وتشتيتها لأفرادها واختيار تقطيع أوصال كيانها عندما ترفض مبدأ التوافق.

لأن التعامل الإيجابي مع الآخر الفكري أو المذهبي أو الديني أو القومي.. هو العنصر الأساسي في حركة التاريخ المتقدمة نحو المستقبل.

فحركة الإنسان لا تتكامل عناصرها بشكل عملي إلا بتكامل الجسم الإنساني العام، والإنسان لوحده لا يشكل إلا وجوداً يمثل وجهاً واحداً والوجه الآخر هو الإنسان الآخر الذي يمثل البعد الآخر المكمل للوجود الإنساني.

 

الاختلاف فطرة إنسانية:

ينبعث جمال الحياة وإعجاز الباري تعالى من ذلك التنوع والاختلاف في كل المخلوقات وفي جميع مفردات الكون، ليبقى سبحانه وتعالى هو المتفرد بالوحدانية، وهذا الاختلاف يدل على آيات الله العظيمة التي تبين قدرته سبحانه وتعالى، حيث يقول تعالى: ]ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين[[الروم: 22].

ويتمثل التنوع الكوني في الإنسان بشكل خاص في اختلافه شكلاً وقالباً وفكراً حتى لا يمكن أن تجد أي تطابق كامل بين أي إنسان وآخر، فكل إنسان هو مخلوق مختلف بحد ذاته عن الآخرين، وقدرته على الاختيار وحريته في التفكير هي قمة انفراده واستقلاليتُه عن الآخرين.

والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تبين الاختلاف التكويني في الكون والإنسان، حيث يقول سبحانه: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم[[هود: 118]، فالاختلاف سنّةٌ ماضية في الحياة البشرية.

ولقد نهى القرآن الكريم عن النـزاع والتفرق الذي يفضي إلى تمزق المجتمع، لكنه اعترف بالاختلاف وقَبِلَ التنوع والتعدد، وجعل الحوار التعايش وسيلة التوازن الحياتي، بدل الصراع والإقصاء.

 

التعايش منهج التعارف القرآني:

إن ثقافة التعايش ثقافة دعا إليها القرآن الكريم، والنبيُ العظيم r، وكذلك آلُه المقربون، وصحبه المصطفون.

وبثقافة التعايش يقيم الإسلام العلاقات الدولية للمجتمع المسلم مع العالم كله من خلال اعتماد مبدأ حوار الحضارات دون مبدأ صراع الحضارات، مع الاعتراف بأن هناك خصوصيات حضارية وثقافية وعقدية، ومُسَلَّمات أخلاقية واجتماعية لكل أمة.

ويؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في المجتمعات البشرية، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها:

قوله تعالى: ]وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[، فالإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتسامح بصرف الناس عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم؛ فالكل من أصل واحد، قال تعالى: ]يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة[[النساء: 1].

وقوله تعالى: ]يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم[[الحجرات:13].

فالآية الكريمة هي الأساس في فقه التعارف، وتؤكد عدة مسائل، منها:

  • تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ التي لا يمكن إلغاؤها.
  • يشجع الإسلام على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، عبر التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات.

بشرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين.

ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) حول العصبية، حيث قال: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"([8]).

 

صيغ التعايش:

لقد كانت صحيفة المدينة بمثابة دستور يجسّد المبدأ الإسلامي العام الذي يفتح الأبواب أمام عَقْد ميثاق مع كلِّ الفئات المخالفة للمسلمين في الدين، وذلك على قاعدة المواطنة القائمة على العقد الاجتماعي.

إن العهد الذي ساوى بين المسلمين وغيرهم من أبناء البلد في الحقوق العامة والواجبات الوطنية، يعطي قاعدة للتعايش بين المسلمين وغيرهم، من خلال روحية الاحترام المتبادل، لتكون النتيجة تلك الصورة الإنسانية الرائعة.

بحيث يتحرك التشريع ليمنح الأقليات حقوقاً إنسانية، لا تعزلهم عن المواطنين في دائرة الأكثرية، عبر المشاركة في حقوق المواطنية العامة، ولا تبعدهم عن هوياتهم الدينية أو الفئوية في حرياتهم الخاصة بما لا يتنافى مع القانون العام.

ومن الأمور التي حدثت في عهد النبي r والتي تشير إلى تميّز العدالة الإسلامية في تعامل النبي r معهم: أن بعض المسلمين قام بسرقة بعض الناس، وحاول أهله إلصاق تهمة السرقة بيهودي، كالإتيان ببعض القرائن المزورة أو الشهادات الكاذبة، لتبرئة هذا المسلم، فأنـزل الله قرآناً لتبرئة اليهودي، طالباً من النبي r أن لا يدافع عن الخائنين من المسلمين، وأن لا يحكم ضد اليهودي البريء، على مدى تسعة آيات، بدأت بقوله تعالى: ]إنّا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً[[النساء/105].

 

الإطار القرآني للتعايش:

إن العلاقة الأصيلة بين الناس علاقة سلام من حيث المبدأ ما لم يقم الآخر بالعدوان، وقد أكد الإسلام رفض العدوان على الآخر، وتكرر ذلك في أمثال قوله تعالى: ]ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[.

وقبل الإسلامُ وجود الآخر مع المسلمين، وأكّد التعايش مع أهل الكتاب، ورسم للتعايش خطوطاً تعاقدية من ضمن النظام العام.

واعتبر الإسلام الإنسان الآخر المختلف المسالم إنساناً يملك الحق في التعامل على أساس الإحسان والعدل بعيداً عن هويته العقائدية، قال تعالى: ]لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين...[[الممتحنة:8].

والقسط يكون بالرفق واللطف، واللين والظرف، يقول الإمام علي (كرَّم الله وجهه): "عليك بالرفق؛ فإنه مفتاح الصواب، وسجية أولي الألباب"([9]).

ويقول: "الرفق يسيّر الصعاب، ويسهِّل الأسباب"([10]).

ويقول: "من استعمل الرفق لان له الشديد"([11]).

أما الآخر المحارب أو الظالم والمعتدي؛ فإن الموقف معه يختلف، لأنه يرفض التعايش القائم على احترام حق الآخر المسلم في دينه وفي وطنه، فلا ولاية معه لأنه رفض الولاية الاجتماعية مع المسلم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ]إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون[ [الممتحنة:9].

فالظالم ليس رجلَ حوار، بل هو رجلُ عدوان، وهنا تفرض واقعية العلاقة التعامل معه بأسلوبه الحاد للدفاع عن الموقع والواقع، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ]ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا[[العنكبوت:46].

 

الكلمة السواء قاعدة للتعايش

ولقد طرح الإسلام الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: ]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله[[آل عمران:64].

كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم، قال تعالى: ]ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون[[العنكبوت:46].

ويقول الإمام علي (كرَّم الله وجهه) في وصيته لابن عباس عند استخلافه إياه على البصرة: "سَعِ الناس بوجهك ومجلسك وحكمك"([12]).

 

الكلمة الطيبة أساس للتعايش

الإسلام دين الرحمة للعالمين، في الطبع والسلوك والمعاملة، قال تعالى: ]ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك[[آل عمران:159].

فالعلاقة بين أفراد المجتمع علاقةُ تعاون وتساند، وليس علاقة تصادم وتعاند، علاقة انتقال من حالة التنافر والعداء، إلى مستوى الألفة والأخوة.

 

كسب الأصدقاء منهج للتعايش

وتركِّز الدعوة الإسلامية القرآنية على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، قال تعالى: ]ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم[[فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.

وعن رسول الله r: "خياركم أحسنكم أخلاقاً([13])؛ الذين يألفون ويُؤلفون"([14])، وعنه r: "إن المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يُؤلف ولا يألف"([15])، وقال r:"رأس العقل بعد الإيمان بالله: التودد إلى الناس"([16]).

وفي كلمة للإمام علي(كرَّم الله وجهه) في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: "خذ الحكمة أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدق المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج"([17]).

وقال "الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق"([18]).

ويقول: "مَن عَذُب لسانه كَثُر إخوانه"([19]).

وقال: "بحسن العشرة تأنس الرفاق"([20]).

 

من دستور التعايش:

أن تسلم على مَن عرفت ومَن لم تعرف.

أن تجيب دعوة أخيك فيما يرضي الله.

أن تحب له ما تحب لنفسك.

أن تعوده إذا مرض.

أن تشهد جنازته إذا مات.

أن تنصحه إذا استنصحك.

أن تحفظ غيبته.

أن لا تؤذيه بقول أو عمل.

 

بين اللقاء والحوار:

وتأكيداً على ثقافة التعايش أراد الإسلام أن يكون المسلم في واحد من النطاقين:

اللقاء على واقع الوفاق، وقاعدة الاتفاق .

أو الحوار في مواقع الخلاف، والانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم.

ومن الحوار بمفهومه العام: الجدال بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيته ]بالتي هي أحسن[.

وإذا كان هذا في إطار العلاقة مع غير المسلم فهو مع المسلم أولى.

 

والمذاهب الإسلامية أصول واحدة، وقواعد مشتركة

وذلك إنه من الحقائق الثابتة في الإسلام، أن هناك جملة من الضوابط التي تدعو جميع المؤمنين للتمسك بها، والتخلق بها منعاً للتمزق والصراع والوهن:

1- التوجيهات الأخلاقية للمؤمنين بضرورة الاعتصام بوحدة الصف، ونبذ الفرقة، والتضحية بالأمور التي تضر بالمصلحة الإسلامية العليا، والحث على الأخوة والابتعاد عن الاختلاف والنـزاع، والتخاصم.

2- اشتراك المسلمين جميعاً بالأسس العامة للإسلام وضوابط القيم الدينية؛ كالتوحيد، والنبوة، والإيمان بالآخرة، من خلال القرآن الكريم الجامع للأمة، والسنة النبوية المطهرة، والروايات الشارحة المفسرة للعقائد، والمبينة للمفاهيم والشارحة للأحكام.

ولو أجرينا إحصاء لموارد الاختلاف، والاتفاق، والاشتراك بين المسلمين لوجدنا أن المشتركات تشكل الأسس، وكثيراً من الفروع والتطبيقات، بينما نجد أن عموم مفردات الاختلاف تقع في الجزئيات والتطبيقات.

وهذا ما يجعلنا في الدائرة الأقرب، بدل ما يشاع عن البعد والافتراق.

والسبيل لتحصين مجتمعاتنا من روح الكراهية، هو تأكيد القيم الأخلاقية التي تنفتح على الإنسان لاستثارة عناصر إنسانيته بالرحمة، بحيث يتوجه الإحساس إلى الجانب المضيء من الصورة بدلاً من الاستغراق في الجانب المظلم منها، فإن أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو قلبه.

فلنربح قلوب الناس تنفتح لنا عقولهم.

ونستوحي ذلك من كلمتين للإمام علي أمير المؤمنين (كرَّم الله وجهه):

الأولى: "احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك".

والثانية: "الناس صنفان، فإمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"([21]).

كما أن الإسلام لم يحدد للإنسان دائرة محدودة ضيقة للانفتاح الثقافي، بل أراد له أن يفتح عقله على كل ما أنتجه الإنسان، شرط أن يتأمله ويتدبره ويناقشه، ليستفيد من التجربة الناجحة ويهمل التجربة الفاشلة.

فقد خلق الله العقل حراً في آفاقه الفكرية، وأراد له أن يتحمل مسؤولية التزاماته الثقافية العلمية، من خلال الخضوع للحجة والبرهان، وفي ضوء ذلك، يحصل الإنسان المسلم على حركية التفاعل الحضاري للتجربة الإسلامية الاجتهادية في العناوين مقارنةً بتجارب الآخرين.

إن إنكار ورفض الاعتراف هو بحد ذاته سلوك صدامي عام يصدر من خلال القنوات النفسية والثقافية والعقائدية للفرد.

وفي الطرف الآخر فإن الفرد المتسامح والايجابي قادر على التواصل مع الآخرين والانفتاح عليهم على كافة المستويات.

والمطلوب: الاعتراف بحرية الآخر والتواصل معه حسب توجيهات الأحاديث والروايات الشريفة الداعية لاحترام حقوق الآخرين وعدم تضييعها؛ يقول الإمام علي (كرَّم الله وجهه): "لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعْتَ حقه".

ويقول (كرَّم الله وجهه) أيضاً: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، وأحب له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، ولا تظلم كما تحب أن لا تُظلم".

 

لماذا لا نعترف بالآخر

كثيرة هي الأسباب ولكن من أهمها:

أولا: الأسباب النفسية

النفس الإنسانية عندما تسرف في تقدير ذاتها وتستعلي على الآخرين وتحس بالتفوق بالمطلق ترفض الاعتراف بغيرها، بالإضافة إلى سيطرة الروح الأنانية والمصلحية في الإنسان التي تحاول أن تحتكر كل شيء لصالح منافعها الخاصة.

ثانيا: الأسباب الثقافية

فالفرد قد ربي من صغره على احتقار الغير والإحساس بتفوقه عليه والشعور بثقة عمياء بنفسه وصحة فكره المطلقة والإيمان المطلق بجماعته ظالمة كانت أو مظلومة.

ثالثا: سوء الظن بالآخر

إن التجارب السيئة التي يمر بها الإنسان في الحياة تجعله يشك بالآخر ويسيء الظن بالجميع خصوصا عندما لا يستخدم التحليل المنطقي في الاستفادة من تجاربه.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة قدح في إساءة الظن وذم للمسيء ودعوة لحسن الظن.

فقد روي عن أمير المؤمنين علي (كرَّم الله وجهه): "إن المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء الظن به".

وأيضا عنه (كرَّم الله وجهه): "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملاً".

وتنشأ معظم الخلافات التصادمية نتيجة لسوء الفهم وعدم القدرة على التفاهم مع الطرف الآخر والتشكيك بنياته، فعندما تفترس الفرد الشكوك المظنونة الناشئة من دواع واهمة يفقد القدرة على تفهم الآخرين والتفاهم معهم.

رابعا: الخوف من الآخر والشعور بالضعف

إن الخوف وروح الانهزام لا تزيد الفرد أو الجماعة إلا ضعفا واندثارا، لأنه عندما يفتقد الارتباط مع الآخرين يفقد الفرد القدرة على فهم معطيات الصراع والمتغيرات وبذلك يبدأ بفقدان أوراقه وتتساقط أفكاره وينكشف وهنه فيرتمي في أحضان الغير مستسلما استسلاما مطلقا.

وتفقد الجماعات أفرادها عندما لا تستطيع أن تقدم لهم عناصر القوة والبقاء.

يقول الإمام علي بن أبى طالب (كرَّم الله وجهه): أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.

خامسا: العزلة والانعزال

يصعب على الانعزاليين التفاهم مع الآخرين لافتقادهم لغة الحوار والتفاهم.

ويمكن رؤية اغلب الشعوب المتحضرة من خلال زاوية تواصلها مع العالم الخارجي فالبلاد التي تطل على مناطق منفتحة على العالم الخارجي هي أكثر تحضرا من المناطق البعيدة والنائية كالتي منعزلة في الجبال أو الجزر.

 

تبعات إنكار الآخر

قد تنشأ مِن رفض الآخر تبعات أثار تبرز بشكل مميز في حياتنا يمكن قراءتها على هذا الشكل:

أولا: التواصل السلبي مع الآخر

يتقدم الفرد وتنمو المجتمعات بنمو تواصلها الإيجابي، ولكن مع فقدان التواصل الإيجابي والحوار المتفاهم تتحول لغة التبادل إلى لغة سلبية قائمة على التصادم والشك والتلقي الثقافي السيئ.

ثانيا: عدم فهم المتغيرات المحيطة

مع وجود الشك في الآخر وعدم التواصل معه يصبح من العسير التجانس مع التغيرات والتطورات، وهذا يقود لوجود تأثيرات سلبية متزايدة لأننا سنكون تحت قبضة عالم متنام لا نعرف ماذا يجري حوله.

ومع عدم القدرة على استيعاب المتغيرات الحتمية التي تهب علينا نصبح أسرى لمسيرة القدر وقوة سلطان الآخرين.

ثالثا: الانحراف نتيجة تراكم الأفكار السلبية

لقد أثبت الواقع أن أغلب الانحرافات العقائدية والأخلاقية تنشأ في الأجواء المنغلقة والاستبدادية، لأن عدم وجود التواصل المستمر يلغي حركة الحوار والتخاطب البناء في المجتمع مما يساهم في ترسيخ الأفكار السلبية ونمو الأفكار الضالة التي تنشأ في الأذهان لشبهات بسيطة لم تجد جوابا ونقاشا من الآخرين.

رابعا: تسلط الجمود والركود وموت الإبداع والفاعلية

فبالتنافس يحيى الإنسان ويتحرك ويبدع وينمو، وأغلب الحضارات والإبداعات ظهرت عندما واجهت تحديات وتواصلت بشكل إيجابي مع الآخرين لأن إبداع الآخر يستثير ويحرك روح التنافس.

والآية القرآنية أفادت هذا المعنى: ]لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات[[المائدة: 48].

خامسا: فناء الجماعات

إن النتيجة الأساسية لموت الإبداع والتفاعل هو فناء الجماعات المنغلقة، لأنها بانغلاقها تفتقد مقومات البقاء والاستمرارية.

إن التراث الإيجابي الذي خلفته الحضارة الإسلامية لازال يرفد الأمة بالحيوية والمثل والقيم، أما الصيحات الفارغة للبعض كالخوارج مثلا وغيرهم فقد اندثرت إلا ما بقي منها كأمثولة يستدل بها على جهلهم وسطحيتهم.

سادسا: سلطان العنف

العنف يستخدمه البعض عندما لا يستطيع أن يستجيب لمتطلبات التواصل والحوار.

 

كيف نستطيع أن نتواصل

لكي نتواصل لابد من:

1- التأكيد على القواسم المشتركة التي تقرب النفوس والأفكار وإغفال التقاطعات التي تبعد وتقطع الاتصال.

2- إيجاد روح التعاون والتعايش في النفوس عبر تنمية الروح الجماعية في الفرد وإخراجه من القوقعة التي تحدد فكره وسلوكه.

3- الرأي الآخر ينمي إمكانية الإنسان الفكرية والثقافية؛ فإذا وَسَّعَ الإنسان صدره أعطى مساحات واسعة لعقله في استيعاب الفكر الآخر فإنه يكون قادراً على التواصل الإيجابي المثمر.

وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): "وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم".

والتوجيهات تحضنا على صلة من قاطعنا، فعن الإمام علي (كرَّم الله وجهه): "احمل نفسك من أخيك عند صرمه ـ قطعه ـ على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على العذر".

4- القبول بمبدأ الخطأ وأن كل واحد لا يمتلك الحقيقة لوحده

إن أخطر أخطاء الإنسان انه يلبس أفكاره بالعصمة والحقيقة الكاملة ويلغي أفكار الآخرين ويعتبرها خطأ مهما كانت الاستدلالات وهذا يبعد المسافات ويقطع التواصل ويرسخ الانعزال في الجزر النفسية.

وقد وردت روايات شريفة في هذا توجه الإنسان للاستفادة من رأي الآخر والتقارب معا نحو الحقيقة، فعن أمير المؤمنين علي (كرَّم الله وجهه): "ليكن آثر الناس عندك من أهدى إليك عيبك وأعانك على نفسك".

وعنه (كرَّم الله وجهه): "أفضل الناس رأياً من لا يستغني عن رأي مشير".

وعن رسول الله r: "المؤمن مرآة المؤمن"([22]).

وعن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام): الرجل ثلاثة: "رجلٌ رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا رجل، فالرجل الذي هو رجل من كان ذا عقل واستشار ذوي العقول، والرجل الذي هو نصف رجل من كان ذا عقل واستبد بعقله، والذي هو لا رجل من لم يكن ذا عقل ولم يستشر ذوي العقول".

 

من التوصيات النهائية:

نشر ثقافة التعايش ودعمها وترويجها والدعاية لها؛ لتصل إلى الجميع.

حسن الاستماع للآخرين.

احترام الرأي الآخر.

الاشتراك في أداء العبادات؛ كصلوات الجماعة وزيارة المرضى والاهتمام بالأمور الاجتماعية مثل تشييع الجنائز.

وفي الختام أتقدم بالشكر إدارة المهرجان على جودة الفكرة، وحسن الإدارة، وبراعة الأداء، وجمال التنظيم، وإلى مزيد من اللقاءات التعارفية القائمة على العرفانية.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

([1]) يُنْظَر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (3391 ـ 3394)، 8/124 - 125.

([2]) يُنْظَر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (3905)، 8/373.

([3]) يُنْظَر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (3954)، 8/408.

([4]) يُنْظَر: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (3969)، 8/417.

([5]) إعانة الطالبين، الدمياطي، 1/171.

([6]) أسد خادر: مقيم في عرينه داخل في الخدر (لسان العرب).

([7]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (3828)، 8/326.

([8]) الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7.

([9]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (1614)، 4/238.

([10]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (1615)، 4/238.

([11]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (1616)، 4/238.

([12]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (1617)، 4/238-239.

([13]) أخرجه مسلم. فتح الباري، 6/575.

([14]) تحفة الأحوذي، 6/136.

([15]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم، 1/73.

([16]) كنـز العمال، الهندي، (5173)، 3/9.

([17]) قصار الحكم/79-80.

([18]) قصار الحكم/79-80.

([19]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (5485)، 10/216.

([20]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (5487)، 10/217.

([21]) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب؛ في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري، (1596)، 4/234.

([22]) سنن أبي داود، (4918)، 4/280، والبيهقي (16458)، 8/167.

عدد القراء : 2313