التجديد توازن بين متطلبات الحياة والنصوص الشرعية
مما لا شك فيه أن الحديث في هذه الأيام كثر عن الخطاب الديني وتجديده، وتجديد الخطاب الديني أمر مطلوب ومنشود؛ فالإسلام يُصْلِح الإنسان والزمان والمكان، وطول الزمان وبعد المكان وتَغَيُّر دنيا الإنسان لا يؤثر في الإسلام، فالإسلام هو المؤثر في الجميع؛ إيجاباً وسلباً، وهو المهيأ للإنسان سبيل التغيير دون التخلي عن الكليات والنصوص العامة، متخذاً القواعد الشرعية ميزان حياة الإنسان وطريق سيره.
تعريفات:
معنى كلمة (التجديد):
التجديد في اللغة العربيَّة من أصل الفعل (تجدَّدَ) أي صار جديدًا، و(جدَّدَه) أي صيَّره جديدًا، وكذلك أجدَّه واستجدَّه.
إنَّ التجديد في الأصل معناه اللغويُّ يبعث في الذهن تصوُّرًا تجتمع فيه ثلاثة معانٍ متَّصلة:
أ- أنَّ الشيء المجدَّد قد كان في أوَّل الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد.
ب- أنَّ هذا الشيء أتت عليه الأيَّام فأصابه البِلَى وصار قديمًا.
ج- أنَّ ذلك الشيء قد أُعيدَ إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلَى ويَخْلَق.
وأشارت السنَّة النبويَّة لمفهوم التجديد من خلال حديث التجديد: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: "إنَّ الله تعالى يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مئة سنةٍ من يجدِّد لها دينها"([1]).
معنى كلمة (الخِطاب):
الخِطَاب هو: مُجمَل ما يصلنا من أفكارٍ أو تصوُّراتٍ بكلِّ أشكال التعبير اللغويّ، مسموعًا أو مكتوبًا، وبكلِّ وسائل التوصيل التقليديَّة أو المستحدثة, سواءً كنَّا نتلقَّاها جماعةً أو فُرادَى.
وهو بذلك ليس كما يتخيَّل البعض من اقتصار معنى (الخطاب) على مجرَّد الخطابة التي نتلقَّاها في المساجد في صورة خطبةٍ، أو موعظةٍ، أو درسٍ، أو ما شابه ذلك.
معنى (الدين):
الدين هو: مجموعةٌ من المفاهيم والمعايير التي يعتنقها الفرد أو الجماعة.
معنى: (تجديد الخطاب الدينيّ):
هو: تجديدٌ وإحياءٌ وإصلاحٌ لعلاقة المسلمين بالدين، والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضاريَّة وتجديد حال المسلمين.
ولا يعني إطلاقًا تبديلاً في الدين أو الشرع ذاته.
في المصطلح:
يتشابك مفهوم (التجديد) مع مفهومَي (الأصالة والتراث)؛ حيث يُقصَد بالأصالة تأكيد الهويَّة والوعي بالتراث دون تقليدٍ جامد، وتلك المقاصد جزءٌ من غايات التجديد.
كما يشتبك (التجديد) مع مفهوم (التغريب)، الذي يعبِّر عن عملية النقل الفكريّ من الغرب، وهو ما قد يحدث تحت دعوى التجديد.
وعلى صعيد المفاهيم الحركيَّة، تُطرَح مفاهيم مثل (التقدُّم) و(التحديث) و(التطوُّر) و(التقنية) و(النهضة) لتعبِّر عن رؤيةٍ غربيَّةٍ لعمليَّة التجديد، نابعةٍ من الخبرات التاريخيَّة الغربيَّة، ومستهدفةٍ لربط عمليَّة التجديد في كلِّ الحضارات بالحضارة الغربيَّة، باعتبارها قمَّة التقدُّم، وهدفاً للدول الساعية نحو التنمية.
كما تظهر مفاهيم مثل: (الإصلاح) و(الإحياء)، وهي نابعةٌ من الرؤية الإسلاميَّة لعمليَّة التجديد، حيث التجديد هو إحياءٌ لنموذجٍ حضاريٍّ وُجِد من قبل، ولم تحدث تجاهه عمليَّات التجاوز والخلاص، ويتَّضح ممَّا سبق مدى الارتباط بين "مفهوم التجديد" فكرًا وممارسةً، وبين الخبرة التاريخيَّة والمرجعيَّة الكبرى النهائيَّة للمجتمع".
كما أنَّ التجديد مطلوبٌ؛ لأنَّنا مطالبون أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بأن نسعى بوعيٍ لأن نعمِّر أرضنا ومجتمعنا الذي نصنعه نحن، ونعيشه، ونحدِّد وضعه ومستقبله، بأنشطتنا وعلاقاتنا وسلوكيَّاتنا اليوميَّة في كلِّ مجالٍ من مجالات النشاط الإنسانيّ، خاصَّةً وأنَّنا نرى واقعنا، ونفهم ما حولنا، وندرك كم أصابنا من خسائر من نتاج سلبيَّة خطابنا أو تقليديَّته.
إنَّ تجديد الخطاب الدينيِّ وِفْق معيار تجديد الاجتهاد لا تجديد النصِّ، هو أمرٌ ضروريّ أثبتت الأيَّام حاجتنا إليه.
إن الإسلام يتمتع بخاصية [الجمع والتوافق بين ثبات النصوص والأصول من جهة، ومرونة الفهم والتطبيق من جهة أخرى] وهي خاصية غير موجودة في أي تشريع سماوي آخر، أو حتى التشريعات الوضعية، وذلك بما يُعرف عن امتلاك الإسلام من المرونة والسعة ما يجعل الحلول ميسرة بِشرطِ الاعتصام بحبل الله المتين، واتباع سنة النبي الكريم e.
التجديد في عرض أسلوب القرآن:
فنحن نلاحظ في القرآن الكريم التجدد في العرض حسبما يقتضي المقام.
فنرى خطاب المشركين غير خطاب أهل الكتاب.
ونرى خطاب الله تعالى للمسلمين يختلف أيضا من مرحلة لمرحلة أخرى:
ففي مكة كانت كل نداءات القرآن بـ ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ[ ]يَا بَنِي آدَمَ[ ]يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ[، أما في المدينة بعد أن أصبح للمسلمين دولة، وباتت لهم جماعة، فناداهم بنداء جديد، بـ ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ[، وهذا نداء جديد لم تألفه جزيرة العرب، فقد كانت العرب تتنادى بـ: يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، يا بني فلان؛ ولم تألفه الكتب السماوية من قبل، فلم يعهد في الكتب السماوية السابقة أن نادت المؤمنين بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)، إنما وجد في الكتب المقدسة السابقة: (أيها المساكين) (اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا واحد).
التجديد في أسلوب النبي e:
وكذلك كان النبي e يجدد من خطابه، ويغير من أساليبه، مراعياً بذلك الزمان والمكان والأشخاص.
فقد جاءه رجل وقال له: يا رسول الله عظني؟ فقال: (لا تغضب)، وجاءه آخر فطلب منه نفس الطلب، فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم)، فهو هنا قد راعى تغيُّر الشخص في خطابه الدعوي.
كما كان يراعي البيئة المحيطة به، فلا يأتي بما هو مستغرب عنها، ولا مستهجن، نرى ذلك في خطابه e عند ضربه للأمثلة، فقد روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي e قال: "إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم حدثوني ما هي؟"، فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة، فقالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "النخلة"، فالرسول e هنا شحذ العقول، وطالبهم بإعمالها، في التفكير في نبات أشبه ما يكون بصفات المسلم، فما هو هذا النبات؟ إنه النخلة([2]).
ثم إن التأثير في الإنسان والزمان والمكان في حد ذاته هو التجديد بعينه، وليس كما يحاول البعض فهمه بأنه الانبهار بالجديد من حيث مادته، أو الانسياق وراء البريق من حيث سحره، فمن الناس من يظنون بأن الدين شيء متجدد بالنظر إلى ما يرون من جديدٍ أمامهم وبحسب نظرهم، دون تعمق في مصدره وغايته، أو أثره على الحياة العامة والأخلاق الفاضلة، على صعيد الفرد ومستوى الجماعة، ويُعْجَبُون بكل ناعق وزاعق بالجديد دون ترو، أو تأمل، ويرون أن الدين الذي بين أيديهم قد عفا عليه الزمن، ومن واجبهم الحديث عن دين جديد يناسب هذا العصر، أو أن يُتْرَك الناس بلا دِين؛ يتقيدون بتعاليمه، ويلتزمون بسلوكياته.
وكلا الرأيين خطيران:
فترك الناس بلا دين عمل يخالف أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إذ التدين فطرة سليمة، وجِِبِِلَة إنسانية.
والعملُ بِدِينٍ حسب فهم السابقين له تبعاً لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ تقليداً وجموداً: مردود بنص القرآن؛ دستور الدين الإسلامي الذي نعى على المشركين التقليد الأعمى، واتباع الآباء والأجداد دون تأمل أو تفكر لمجرد القِدَم التاريخي، والقرب الزماني.
ماذا نريد من الخطاب الديني؟:
في ضوء مستجدات العصر نريد من خطابنا الديني عدة متطلبات حتى يتماشى مع واقعنا، وحتى لا يكون خطابنا في واد والناس في واد آخر، مما يجعل الناس تعطي ظهرها للدين، باحثة عن خطاب آخر يلبي رغباتها، وليس ذلك لعيب في الدين، ولكن العيب فيمن يقدم هذا الدين، وهذه المطالب هي:
1
- الواقعية:
فلا يحلق في أجواء الخيالية، ويبتعد عن واقع الناس المعيش، فالخطاب الديني عندما يبتعد بالناس عن الواقع، يصبح فارغا من قيمته وهدفه، ومن رسالته وغايته، فلا بد أولا أن ننـزل إلى أرض الواقع، ونخاطب الناس بخطاب يناسبهم ويناسب واقعهم المعيش.
2- الانفتاح لا الانغلاق:
منفتحا على الآخرين، سواء أكان ذلك الآخر من داخل المسلمين أم من خارجهم، وأن ينظر إلى مجموع المسلمين على أنهم سواسية.
أما نظرة الاستعلاء التي نراها في خطاب بعض المتدينين، كأنهم وحدهم هم المخولون بالخطاب باسم الله، وأن الدين نزل لهم.
فلا بد من التعامل مع الأمة على أنها أمة واحدة، متدينها وغير متدينها.
3- خطاب وسطي:
لا يميل إلى التطرف ولا إلى الجحود.
وسط بين الإفراط والتفريط، فالإسلام دين يمتاز بأنه دين وسطي، وقد جعل الله أمة الإسلام أمة وسطية، فقال تعالى: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[[البقرة: 142].
ومن لطائف الآية أنها تتحدث عن وسطية الأمة الإسلامية، وقد جاءت في وسط السورة تماما، فسورة البقرة مكونة من 286 آية، والآية التي تحدثت عن الوسطية هي الآية رقم 143 من سورة البقرة.
أما عن الشق الثاني من السؤال: أساليب الخطاب الدعوي التي سلكها القرآن فهي على حسب الموقف.فتارة يستخدم القرآن الترغيب، وتارة يستخدم الترهيب، وتارة يجمع الأسلوب القرآني بين الأمرين بتوازن وتناسق بديع، ومن ذلك قوله تعالى: ]اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[[المائدة: 98]، ]وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ[[الرعد: 6]، ]نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ[[الحجر: 49-50].
وتارة يستخدم أسلوب إثارة العقل وتحريكه، ]قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ[[سبأ: 46].
وتارة يستخدم التدرج مع المدعوين لتحريم شيء، أو نهيهم عن أمر.. كما في أمر الخمر التي نزلت على أربع مراحل، كانت آخرها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ[[المائدة: 90].
وفي الحديث عن الإسلام يُلاحَظ أنه هو نفسه مُجَدِّدٌ للأديان السابقة، وأن أهل الأديان السابقة لما حرفوا ما جاءهم، وانحرفوا عن الطريق الصواب جاء الإسلام مصححاً ومجدداً، قال الله تعالى: ]أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [[الحديد: 16]، وفى هذا إشارة واضحة على أن أهل الكتاب قست قلوبهم لما طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم، وفيها الإشارة أن لا تكونوا مثلهم، بفتور الهمة بطول المدة، وبُعْدِ الزمان عن الوحي، أو انفصال التطبيق عن الأصل.
ووسيلة التجديد المشروعة هي الاجتهاد؛ بمعنى بذل الجهد في التوازن بين الحياة المتسارعة نحو التقدم التقني، وبين النصوص الشرعية؛ قرآناً وسنة.
وأوكد على مفهوم التوازن وليس الإلغاء، ليصح التجديد، فلا السعي نحو الماديات والإدبار عن القرآن وجعله وراء الناس ظهرياً ينفع، ولا الإعراض عن الماديات وجعل فهم السابقين للقرآن مطلباً هو الحق.
مستند ضرورة الاجتهاد تجديداً:
لعل أعظم مستند لضرورة الاجتهاد تجديداً توازنياً الحديث الوارد أن رسول الله e لما أراد أن يبعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن سأله: "كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟"، قال: أقضى بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟"، قال: فبسنة رسول الله e، قال: "فإن لم تجد؟"، قال: أجتهد، ولا آلو، فضرب رسول اللهe صدرَه، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله"([3]).
وفى هذا فتح الطريق أمام باب الاجتهاد لاستيعاب الحياة المتجددة، ودعوة للتجديد فيما ليس له نص محكم صريح، فالنص المحتمل للأوجه، وما أكثر النصوص الشرعية الجامعة التي تؤدي المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، حتى وصف القرآن بأنه حمَّال أوجه، ووُصِف رسول الله e بأنه أوتي جوامع الكلم.
ولقد وَلَجَ الأئمةُ الأعلامُ في كل عصر ومكان، وفي كل بقعة وزمان، بَحْرَ الاجتهاد، وغَرَفَوا منه؛ كل على قدر طاقة كلٍ منهم، وبثوا فكرهم واجتهادهم إلى الأمة الإسلامية، وواكبوا الحياة مجددين، محافظين على الهوية القرآنية للمسلمين.
فكان كل مجتهد، وكل مجدد يحمل مصابيح مضيئة تنير الطريق الصحيح ليسترشد المسلمون به، ويسيروا على هدى مستقيم؛ بحيث لا تُصَادف المسلمَ صعوبةٌ أو مشقةٌ إلا ويكون الحل موجوداً متوفراً؛ بحيث يكون البيان الشافي قريباً من المسلم، فدين الإسلام هو دين الله؛ حالق الكون والحياة، وهو أعلم بما يُصْلُحُهم وبما ينفعهم، ولا يليق بهذا الدين أن يكون أتباعه جامدين متحجرين.
وأقوى دليل على كون التجديدِ والاجتهادِ ضرورةً حياتية للمسلمين هو انتشار الإسلام في أصقاع المعمورة، وما ذلك إلا لسهولته ويسره، وتوازنه ومرونته، ونصاعة عقيدته، وظهور أحكامه، وجمال أخلاقه.
ولا زال الإسلام ينتشر، ويعتنقه كثير من الشعوب والأفراد عن دراسة ودراية وقناعة، بالرغم مما أصاب معتنقيه الذين وُلِدوا في بيئة مسلمة من الضعف والتفرق؛ مادياً، وسلوكياً.
فليس لديهم القوة المادية التي ترهب العدو وتسر الصديق، ولا يتمتعون بالسلوك الراقي الذي يدفع الناس إلى اعتناق الإسلام بالنظر إلى أتباعه على أنهم قدوة، كما كان حال المسلمين في العهود الأولى؛ حيث كانوا يدعون إلى الإسلام بحالهم قبل مقالهم، وبسلوكهم قبل ألفاظهم.
ومن أهم دواعي التجديد وضرورته:
اتساع الرقعة الجغرافية لِمَن يحملون الإسلام، وهذا يؤدي إلى اتساع في أفكارهم، وأعرافهم، ونُظُمِهُم الحياتية تبعاً للبيئة الاجتماعية وتسارع المكتشفات، وتجدد المخترعات، وفي كل يوم جديد؛ من أنظمة سائدة، وأعراف محلية، قد تكون ضرورية لا غنى لهم عنها، ومصالحهم لا تستقيم بدونها.
فما الحلول؟، حتى يقبل التشريع الإسلامي هذه النظم والأعراف، أم يرفضها؟، كيف يتعامل المسلمون مع هذه النظم قبولاً وعيشاً، أو رفضاً واستنكاراً؟.
إن الإسلام لا يَضيق ذَرْعاً بما فيه مصلحة للإنسان، ما دام لا يصادم أصول الشريعة السمحة، ومقاصد الشرع الحنيف، فما التشريع الإسلامي إلا دستورٌ لجلب المصالح لعموم الناس في المجمل، ومصالح الأفراد إذا لم تتعارض مع المصالح العامة، كما أن التشريع الإسلامي حريص على دفع المضار عن الناس عموماً، وعن الأفراد بوجه خاص، قال الله تعالى: ] يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[[البقرة: 185]، وقال رسول الله e: "لا ضرر ولا ضرار"([4]).
التجديد توافق بين حياة صاعدة وتشريع راقٍ:
ويأتي دور التجديد في عملية التوافق بين حياة صاعدة وتشريع راقٍ، فالفكر الإسلامي هو مجدد الحياة ذاتها من حيث إنها الفطرة السليمة.
والحياةُ بلا إسلامٍ حياةُ جسدٍ؛ كحياة سائر الكائنات الحية لا شرعة لها ولا منهاجاً؛ إلا شرعة الغاب التي لا تصلح لِمَن لبس الثياب.
فمن رحمة الله بعباده، ومن فضله على خلقه أن أنـزل إليهم كتباً وأرسل إليهم رسلاً لدواعي العمل بالمنهج القويم، والسير على الصراط المستقيم، قال الله تعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[[سبأ: 28].
فإذا كانت رسالة الإسلام عامة للناس كافة، فلا شك أن أحكامه وتشريعاته عامة تُصلِح جميع الناس، وليس التشريع الإسلامي خاصاً بفئة دون أخرى، أو بلد دون بلد، بل هو لكل الناس وفي كل مكان، وعبر العصور والأزمان، حتى يحوي التشريع الإسلامي كل الداخلين فيه، ويستوعب كل الراغبين باعتناقه.
ففي ظل السعي لوحدة القوانين التي ينادي بها رجال القانون في العالم، يجد المسلمون الفرصة لإثبات صلاحية التشريع الإسلامي ليكون القانون الْمُحَقِّق رغبة الطامحين لقانون واحد يجمعهم، ويفصل فيما بينهم.
مَن هم حملة لواء التجديد؟.
اقتضت حكمة الله ـ رحمة بالأمة وعناية بها ـ أن يبعث بين فترة وأخرى مَن يجدد لها دينها، يقول رسول الله e: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"([5]).
فالأمة لا تخلو عن مجدد، و(المجدد) اسم جنس؛ بمعنى أنه قد لا يختص بشخص منفرد في العالم، بل قد يكونوا مجموعة أفراد منتشرين في العالم يحملون فكرة التجديد، وتتناغم أفكارهم، وتنسجم آراؤهم، ولا يحصل هذا إلا في ظل منهج واحد، وأكثر المناهج اتفاقاً في العالم: المنهج القرآني؛ الذي يؤمن به أكثر من ربع سكان العالم.
وأشير إلى أنه في هذا الزمان لابد أن يتعدد (المجدد) بسبب زيادة عدد السكان في الأمة الإسلامية، وترامى أطراف أقطارها، وتنوع المستحدثات والمستجدات فيها، مع الإشارة إلى انه ليس لأحد منفرد أن يدَّعي التجديد بمفرده، أو ينسبه لنفسه.
منهج التجديد:
كما أنه من البدهي القول: أن منهج التجديد لا بد أن يكون مبنياً على منابع التشريع الأصيلة، المتفق عليها منذ زمن الرسالة إلى يومنا إلى يوم الدين، فهي المعيار والميزان، وهي الموجه والضابط؛ إذ إنه في سير المسافات الطويلة يُعد الانحراف الجزئي في البدء بعداً شاسعاً عن الغاية والمقصود.
فأهم ما في التجديد في الإسلام، هو الانطلاق من مركز واحد هو القرآن والسنة، وعدم الخروج عنهما، وإلا فلا يكون تجديداً، بل يكون عن الحق مائلاً، وعن الصراط المستقيم ضالاً، وللمنهج الرباني محرِّفاً، وفي الفكر مخرِّفاً؛ لأنه لا بد من ضوابط لأي عمل؛ فإذا تُرِك الضابط الأشمل (القرآن والسنة)؛ فأي ضابط يَصلح لدعوى التجديد؟!!.
فيسير مدعي التجديد كما سارت الأمم السابقة؛ حيث غَيَّرُوا وبَدَّلُوا بعد أنبيائهم، وحرَّفوا كلام ربهم؛ تبعاً لآراء حكامهم الدنيوين أو الدينيين، وتحقيقاً لمصالح آنية أو ذاتية، وليس لاستراتيجية فكرية تدوم ما دامت السماوات والأرض، ولم يذكر القرآن الكريم ذلك إلا تنبيهاً للمسلمين أن لا يقعوا بما وقع به غيرهم.
فالتجديد المراد ليس نسخاً وإزالة للنصوص الشرعية، وليس تغييراً لأحكام الإسلام الثابتة، ولا في المقاصد العامة الكبرى، فالتجديد لا يكون في الثوابت، بل في فروع الأحكام الجزئية المبنية على الأعراف والعادات المتباينة والنتغيرة عبر العصور، كما يكون التجديد في الوسائل الموصلة لتلك الغايات.
والتجديد ربط الأمور المستجدة والأشياء المستحدثة بالنصوص الشرعية، وليس بالحلول الفقهية، وذلك لإيجاد الحكم الفقهي المناسب لها المستند إلى الدليل الشرعي؛ إذ ليس من الحكمة: الوقوف على الفهم القديم لمجرد قدمه، بل المطلوب النظر إلى مستنده الشرعي، كما أنه ليس من روح الدين عدم الأخذ بما استجد من معاملات، فإن ذلك يجعل المسلمين في عزلة عن العالم الذي يعيشون فيه، بل هو هدم لشرعة الله وتقويض.
ويبقى التوازن هي الفصل لمعنى التجديد، وتبقى الوسيطة هي الحاكم بين الطرفين، أما أخذ أحد الطرفين فهو المشكل:
فمن الناس من يعتقد أن الأحكام الشرعية في المطلق غير قابلة للتغيير أو التبديل، فهي تؤخذ كما هي نصاً، ولا يقاس عليها غيرها، ويُنبذ كل شيء سواها؛ وهذا جميل في ظاهره، خطير في نهايته؛ فجماله يتجلى في التمسك بالنصوص؛ وهو المراد أصلاً، ولكنه خطير من حيث أن النصوص لا يقاس عليها، وأن لا نبحث في أي شيء مما استجد، وننبذه وراءنا ظهرياً، دون نظر إلى مصلحته، أو نفعه، وهذا الرأي ضرره أكثر من نفعه، حيث يزيد عزلةَ المسلمين عما يجرى حولهم، وهو جمود لا يقره الإسلام، ولا يرضى به لمعتنقيه، وخروج عن سنة الحياة المتجددة، بل كل يوم هي في جديد وتجديد: جديد لم يكن، وتجديد لما كان، ولعل الوهم قد دخل على هؤلاء بجعل (النصوص) الأفهام الفقهية مساوية للنصوص الشرعية (القرآن و السنة)، ولا مقارنة أصلاً بين فهم بشري، وتشريع رباني.
وفريق آخر يرى أن الحياة مادامت كل يوم تأتى بجديد، فهذا الدين لن يكون مع كل جديد، فالدين (ثابت) لا يتغير ولا يتطور، والحياة متجددة متلونة، وعلى الدين أن يأتي كل يوم بجديد جدة الحياة المتجددة، ولا معنى للوقوف مع القديم لا نعدوه، وإلا تخلفنا، والوقوف في مسيرة الحياة تراجع وتخلف.
وهذا الفريق أخطر من الأول، فهو بتوجهه هذا لا يريد الدين أصلاً ولا تجديده، إنما يريد هدم الدين والتخلص منه - إن استطاع-، فهو إما مدسوس في الدين، أو مغتر بما لديه من المعلومات التي لا تتصل بالدين أصلاً.
فالجاهل إن كان كل مرضه هو الجهل يمكن أن يعلم، ويؤخذ بيده، ويبين له ما خفي عليه، ويُعَلَّم ما جهله ويُوَضَّح له ما اشتبه عليه.
وأما المدسوس في الأمة فخطره عظيم، يببع دينه بدنياه، ويتبع هوى الجهة الممولة، والمغذية للمشروع، بتأليف كتب مضللة، أو رد على كتب علمية سليمة، أو القيام بمحاضرات، وترتيب تجمعات، وبناء مؤسسات لهذا الغرض.
وأمثال هؤلاء:
إذا كان غير مسلم فأمره هين، وهدفه بَيِّن، ولسنا في حاجة إلى كبير عناء للرد عليه، وتحذير الناس من كلامه، فحاله دال عليه وظاهره شاهد على هدفه، فهو إنما يريد أن يكيد للإسلام الذي يغيظه انتشاره وظهوره على سائر الأديان قال الله تعالى: ]يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[[التوبة: 32-33].
وأما إذا كان مسلماً ومغتراً بحصيلة مزجاة من العلم، فهو الذي نحتاج إلى بعض الجهد للرد عليه، أو رده عن غيه وضلاله، لأنه لن يتراجع بسهولة، بل قد يشتط في اتجاهه، وقد يغتر به مَن حوله، ويصفونه بأوصاف، ويجعلونه إماماً ومجدداً وما أشبهها من الألقاب الفضفاضة.
تذكير وذكرى:
يرتكز الدين الإسلامي على ثلاث ركائز: العقيدة والعبادة والأخلاق.
فالعقيدة محكمة لا يدخلها تجديد ولا اجتهاد، والفرز والتمييز بناء على الأفعال، لا على الأشخاص؛ فَمَن كان يعتقد بالله واحداً، والله قد أرسل نبياً ورسولاً هو محمد e؛ فهو مسلم.
والأخلاق والقيم لا تحتاج إلى تجديد في أصلها بل في كيفية تنشئة الناس عليها؛ لتصبح سجية فيهم، يقومون بها دون تكلف، أي التجديد في الوسائل.
وأما العبادات، فهي على أقسام:
عبادات محضة خالصة لله، في وسائلها وغاياتها؛ كالصلاة والصيام والحج، وكذا العبادات فيما فيه نص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة.
وعبادات مالية واجتماعية يدخل الاجتهاد والتجديد فيما لا نص فيه أو فيه نص محتمل إلى غير ذلك مما توسع فيه العلماء فيها مع مراعاة مقاصد التشريع وروحه.
باستخدام طرق الاستنباط والاجتهاد، مثل: الاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، مع ملاحظة القواعد الفقهية، مثل: الضرر يزال، والضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين، والضرورات تقدر بقَدْرها، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، والغنم بالغرم، إلى غير ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
([1]) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
([3]) أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.
عدد القراء : 1472